ديوان الوائلي

اسم الکتاب : ديوان الوائلي

المؤلف : ديوان شعر الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (قدس سره) عميد المنبر الحسيني
المطبعة : المكتبة الحيدرية

 

 

 

 

 

 

ديوان الوائلي

 

(1)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

(2)

 

ديوان الوائلي

ديوان شعر الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (قدس سره)

عميد المنبر الحسيني

 

شرح وتدقيق

سمير شيخ للأرض

 

المكتبة الحيدرية

 

(3)

 

(4)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة هذه الطبعة

 

       والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل المرسلين، وعلى آله وأصحابه المنتجبين، وبعد:

       نقدم لقارئنا العزيز طبعة جديدة من هذا الديوان الذي أبدعه المرحوم الدكتور الشيخ احمد الوائلي، انطلاقاً من رغبتنا في وضع شعره في إطاره المتكامل، بعد أن اكتملت المسيرة، بإذن ربها، ووضحت المعالم، وصار بإمكان الأجيال المتطلعة إلى ثقافة متحضرة أو حضارة مثقفة ان تنظر إلى تجربة هذا الشاعر الكبير نظرة اكثر شمولية من الأجيال التي سبق لها أن اطلعت على شعره في طبعتيه السابقتين، إذ من المعروف أن المبدع- سواء اكان شاعراً أم غير شاعر- لا تتحدد معالم إبداعه منذ صدور نتاجه الأول، فهو وإبداعه رهن بالتطور الذي هو سنة هذه الحياة، ومن سار اليوم على نهج قد يطوره غداً، أو يتخلى عنه ويتخذ غيره، وإن تكن سيرته الذاتية تبقى محتفظة بالنهجين في سجلها التاريخي، لأن الكلام في وثاقك- كما يقال- مادمت لم تنطق به، فإذا نطقت به، خرج من وثاقك، وبات في وثاق الجماعة.

       ومن الواضح أن هذا الأمر كان واضحاً لدى الدكتور الشيخ أحمد الوائلي- رحمه الله- منذ أصدر شعره في طبعته الأولى، فقد بدا- من مقدمته لتلك الطبعة- حرصهُ على تقديم هذا المفهوم بين يدي القارئ، إذ كان يدركه إدراكاً عميقاً، ويحسه إحساساً واعياً، ونكتفي باقتطاف هذه الفكرة من مقدمة طبعته الأخيرة، دليلاً على ذلك، عندما قال:

(5)

 

       «أعتقد أن التجربة هنا أكثر نضجاً منها في الديوان الأول، نتيجة الانصهار في مستوى بعض الأحداث التي فرضت نفسها بدرجات حرارة عالية».

       وإذا كنا، في هذه الطبعة نهدف، من ضمن ما نهدف، إلى استرجاع ذكراه العطرة، فإننا، في الوقت نفسه، نهدف إلى تحقيق رغبته التي أشار إلى عزمه على تحقيقها قبل وفاته ولم يسعفه العمر لتحقيقها عندما قال:

       «بقيت قصائد كان ينبغي أن الحقها بالقسم الديني، ولكنها بعيدة عن متناول يدي، وارجو إن شاء الله أن تطبع في القسم الديني بالديوان الثالث».

       وقد رأينا، أن نعمد في هذه الطبعة الجديدة، إلى شرح بعض المفردات والتعبيرات التي قد تخفى معانيها ومقاصدها على بعض القراء، لما كان للمرحوم من ثقافة عالية وفكر عميق، فطلبنا من الباحث والكاتب سمير شيخ الأرض، وهو المعروف بمكانته الثقافية والأدبية والفكرية في سورية، أن يقوم بهذه المهمة، في اثناء تدقيقه الكتاب وإشرافه على إخراجه وطبعه، فتفضل بقبولها، واحسن صنعاً فيما قام به من جهد، فاستوجب شكرنا وتقديرنا. والحمد لله رب العالمين.

       15/1/2005                         الناشر

(6)

 

شاعرية الوائلي

 

       إلى جانب ما كان للوائلي من أثر في الخطابة الحسينية فقد عالج قرض الشعر، على طراز وأسلوب شعراء (النجف) الأقوياء لذا اشتهرت أشعاره بين طبقات الشعب، وتتابعت روائعه تروى بين طلاب الأدب وعشاق الشعر ولنبدأ بحكايته مع الشعر منذ البداية، فالنجف مدينة شاعرة، والشعر لدى أبنائها سهل يسير، والوائلي أحد هؤلاء الذين نشؤوا في بيئتها الشعرية الخصبة، وتأثروا بمحيطها الشعري العام وتربوا في ظل نهضتها العلمية والأدبية المتزنة. فأخذ يعب الشعر من مجالس النجف ومنتدياتها منذ صغره، ثم طفق يقرأ شعر مجموعة من الشعراء المتقدمين مثل شعراء العصر الجاهلي جميعاً، وشعر بعض شعراء العصور اللاحقة وحفظ (لكل من)(1):

       المتنبي، والبحتري، وأبي تمام، ومهيار الديلمي، وابن حيوس، والوأواء الدمشقي، والفرزدق، وجرير، والكميت، ودعبل الخزاعي، والعرجي، والشريف الرضي، كما قرأ الترجمات المتوفرة لأشعار عمر الخيام وسعدي الشيرازي.

       ومن المعاصرين قرأ لـ: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومعروف الرصافي، وجميل صدقي الزهاوي، ومحمد مهدي الجواهري، ومحمد سليمان الأحمد- بدوي الجبل- وتأثر بشعراء النجف وبالجواهري والشيخ محمد جواد الشبيبي، ومحمد رضا الشبيبي، وعبد الرزاق محيي

__________
(1) مجلة الموسم: ملف عن الدكتور الشيخ أحمد الوائلي العدد 2-3 سنة 1989.

(7)

 

الدين، وكان لتفاعله مع الوسط الأدبي والنجفي الأثر البارز في الفكرة والعاطفة المتدفقة في شعره، حيث عاش الوائلي أحداث عصره الاجتماعية والسياسية برهافة في الحس، وعمق في الوعي ساير التطورات الفكرية وتابع أساليبها ومادتها ومناهجها، وقد تركت الأحداث العاصفة التي مرت بتاريخ العراق المعاصر بصماتها واضحة في شعره أبتداءً من ثورة العشرين حتى الوضع الراهن إذ ولد الوائلي بعد ثماني سنوات تلت الثورة العراقية الكبرى سنة 1920، ومع أنه لم يعاصر الموجة الغاضبة من اليأس التي أعقبت الثورة وتلبدت بها قلوب العراقيين حيث ربح ثمار الثورة غير أهلها وكست خيراتها الأعداء من النفعيين والمتفرجين، بينما نرى الفراتي المقاتل والمضحي قد خاب أمله المنشود حيث انتقم الإنجليز من رجالات الثورة وجنودها وأهلها:

ففــــــــــــي (الرميثة) من هاماتنا سمــــة            وفي (الشعيبة) من أسلافنا نصــــــــب(1)

و(العارضيــــــــــــات) أمجاد مخـــــــلدة            أضحى يحدث عنها الدهــــــــــر والكتب

فالجــــــو طائرة والأرض قـــــــنبــــــــلة           وبالجهات الـــــــــــــــبواقي مدفع حـرب

وخضـــــــت بــــــحراً دماء الصيد ترقـده           ومــــــــــــــا السفائن إلا الضمر الـعرب

ثم انـــــــجلت وحشـــــــود من أحبتنـــــــا           صرعى على القاع تسفي فوقها الترب(2)

فـــــــذا قـــــــوام وكان الغصن منـــــكسر           وذاك وجه وكان البدر محتجــــــــــــــب

وتلـــــــك أم يلـــــــف الوجه أضـــــــلعها           على جنين أبوه في العرا تـــــــــــــــرب

قد أفلـــــــت الأمـــــــل المنشود فهي على           جمر من الألم المكبوت تضـــــــــــطرب

حتـــــــى احتـــــــضنا أمانينا وصار لـــنا           بين الممالك من جارتنا لقـــــــــــــــــــب

__________

(1) الرميثة والشعيبة موضعان في جنوب العراق حصلت فيهما معارك بين الشعب العراقي وقوات الإحتلال الإنجليزي.

(2) سفت الريح التراب: ذرته او حملته.

(8)

 

جــــــاء الزعانف من حلف الفضول ومن           أذنـــــــــــابه فأرانــــــــا أننا الذنــــــــب

انحــنى بـــــــمنجله حصداً وخلفــــــــــــنا           لا سلة يجتــــــــنى فيها ولا عنــــــــب(1)

       ولم تبرح الصورة القاتمة التي خلفها الإنجليز في العراق، عالقة في ذهنه، مصورة في ذاكرته، وعندما يزور لندن، يقف على نهر التايمس المشمخر المتكبر، يسترجع الشاعر ذكريات الأسى ومشاهد الفقر والحرمان الذي سببه الإحتلال الإنجليزي للعراق، فاسمعه قائلاً:

أتـــــــذكر يا شـــــــاطــــئ التيمـــــــــس           شواطــــــــئ مــــن دمــــــــنا تكتــــسي؟

لنا فـــــــي مـــــناكبهـــــــا جنـــــــــــــــة           بــــــــغــــير الأضــــــــالع لم تــــــغرس

ولوعـــــــة أم بجـــــنب الـــــــقتــــــــــيل           ودمــــع أبٍ صــــــــابر مؤتــــــــســي(2)

فنـــــــحـــــــن من الــــحزن في مجـــلس           وأنت مــــن الــــــــورد فــــــــي مجــلس

وإذ ليـــــــل أكـــــــواخنا تـــــستـــــــحيل           كواكب فــــي ليــــــــلة كرســــــــمـس(3)

وإذ عـــــــرق الضـــــمر الكـــــــادحـــين           وذوب الحـــــــشاشـــــة والأنفــــــــس(4)

يعود هـــــــوى في عيون الحـــــــســـــان           وأشــــــــذاء في أعـــــــين النــــرجس(5)

وإذ تحـــــضن التـــــــرب أكـــواخـــــــنا            ليــــــــفــــرش دربــــــــك الســـــندس(6)

***

أتذـــــــكر يا شـــــــاطئ التـــــــيمــــــس           ملاعــــب سوطــــــــك فــــــــي الأرؤس

____________

(1) من قصيدة للوائلي في رثاء السيد عيسى ال كمال الدين من رجالات ثورة العشرين (ولد عام 1288هـ) وتوفي ببغداد في 21 رمضان 1372هـ.

(2) المؤتسي: الذي ملأ جوانحه الأسى، او المتأسي المتصبر.

(3) ليلة كرسمس: ليلة عيد الميلاد.

(4) الضمر الكادحون: العمال والفلاحون وصغار الكسبة الذين تجعلهم مواردهم القليلة واعمالهم سيئي التغذية ضامري البطون هزيلي الأجسام. والحشاشة: رمق الحياة او بقية الروح في المريض والجريح.

(4) الأشذاء: الروائح الذكية القوية، والنرجس: نبت من الرياحين، ورقه شبيه بورق الكراث وله زهر مستدير تشب به الأعين والواحدة «نرجسة».

(6) السندس: الحرير المنسوج المتلون ألواناً زاهية.

(9)

 

وأنـــــــت بأجـــــــسادنـــا مخـــــــــــــلب           سوى الـــــــــعنق الحر لم يـــــــــفرس(1)

غرســـــــتم بهـــــــا الحقد عند الشـــعوب           ويا بئـــــــــس ذلـــــــــك من مغـــــرس!

ومـــــــا زال يا منـــــــطق الإبتــــــــزاز           لسانك لـــــــــلآن لـــــــــم يــــــــــخرس

       وعلى الرغم من قضاء الانجليز على ثورة العشرين قضاءً عسكرياً، إلا أن أهدافها المثلى كانت ماثلة في ضمير كل عراقي حر غيور على أمته وشعبه، ولم يعكر ذلك صفو العقيدة الإسلامية في نفوس أبناء هذا البلد الثوري الخلاق، ولما رأى المستعمرون ذلك عمدوا إلى إشاعة الأفكار الإلحادية، ونشروا الدعوات العلمانية، وحاولوا إعادة العصبيات الشعوبية والقومية، بل أمدوها بأسباب الدعم والتأييد، ووضعوا الفكر الإسلامي وسط دوامة الشبهات والشكوك مما هو كذب على التاريخ والمثل والأخلاق:

والأرض يحكمها رهط وإن نزلــــــــــــوا           لا ينسبون إلى ما جــــــــد من نـــــــــظم

لو ساوموني حصى من تحت أرجـــــــلهم          بأنجم الإشـــــــــــتراكيـــــــــين لم أسم(2)

الكاذبين على التاريخ والمــــــــــــــثل الــ           ـغــــــــراء والعلم والأخـــــــــلاق والقيم

والحاملين شعار الكادحين وهـــــــــــــــــم           محــض افتراء على العـــــــــمال متهم(3)

والمدعين التساوي والسماء لهــــــــــــــــم           والأرض والناس أصـــــــــناف من الخدم

الناب والظفر فحواهم فما نبضـــــــــــــت           من رحمةٍ بهم يومـــــــــاً ولا رحــــــــــم

عقماً لأرحام دنيا الناس إن نســـــــلـــــت           أمثال أولاء مـــــــــن عربٍ ومن عجــــم

       ويصب الوائلي غضبه على مدعي الاشتراكية من الحاكمين المستبدين الذين يضللون الشعب الكادح بالشعارات البراقة ويعيشون هم في نعيم الحياة في ظل قصورهم الفارهة الفاخرة بينما يذوق الشعب الأمرين من الجوع والخوف:

__________

(1) المخلب: ظفر السبع الماشي او الطائر. ويفرس: يفترس ويقتل ويصيد.

(2) لم اسم: لم ارغب في الشراء او معرفة الثمن.

(3) محض الشيء: خالصه، ومحض الافتراء، خالص الكذب الذي لا صدق فيه.

(10)

 

إشـــــــتراكية لهـــــــم مـــــــن جــــــناها           كل صــفو وللـــــــــشعوب الـــــــــقديد(1)

في شـــــعــــارات كــــــادحــــيــــن ولكن           كل فــــــردٍ لديـــــــــه در نضـــــــــيد(2)

فـــــارهـــــات مــــن الــمـــراكــــب تختا           ل وبيض من الأوانـــــــــس غيـــــــــد(3)

ولـــــيــــال حـــمـــر وأصـــباح خضــــر           وصـــــــدور مجـــــــــلوة ونهـــــــــود(4)

واكدحي يا منـاكــــب الـــعـــري حـــتـــى           تـــــــــتهادى للـــــــــحاكمين قـــــــدود(5)

أيــــهــــا الـــحـــاكــمـــون جدوا ولو يوماً          فـــــــــضرب الـــــــــعدو فينــــــــا شديد

جـــــربـــــوا طــــعـــنـــــكــم به لا بصدر   هـــــــــو أصـــــــــل له الفــــــروع تعود

اقــــنــــعـــوا هــــذه النـياشين(6) في الأكـ           ـتاف أن المـــــــــيدان فيـــــــــه جنـــــود

لا تــــحـــيـــدوا عـــن دربـــه فـــهو الجذ           ر الـــــــــذي رب عودكـــــم والرصيد(7)

       ويساهم الوائلي في قصائد كثيرة تلتقي كلها في الدعوة إلى حكم الله، ومواجهة التيارات المنحرفة وإعادة الفكر الإسلامي إلى موقعه السليم والطبيعي في نفوس المسلمين:

رب رحــمـــاك ذوبــتــنــا الــــرزايــــا(8)           واللـــــــــظى قـــــــد يذوب منه الحديد(9)

_________________
(1) الجنى: المردود والإنتاج، واصله: ما يجنى من الثمر وغيره، والقديد: ما قطع من خبر أو طعام أو لباس، ويقصد هنا «القديد» الثوب الخلق الرديء.

(2) الدر النضيد: لآلئ عظيمة وكثيرة مضموم بعضها إلى بعض.

(3) المراكب الفارهة: الجميلة الحسنة الفخمة والغيد: جمع مفرده (غيداء) التي تتمايل وتتثنى في لين ونعومة.

(4) الأصباح: جمع مفرده صباح، ومجلوة: مكشوفة.

(5) المناكب: جمع منكب، وهو: ما بين الكتف والعنق من الإنسان، وتهادى: تتمايل في مشيتها، القدود: الأجساد.

(6) النياشين: الأوسمة.

(7) حاد عن الشيء: ما عنه وزاغ عنه.

(8) الرزايا: جمع رزيئة وتخفف إلى رزية وهي المصيبة.

(9) اللظى: النار.

(11)

 

كــــف نـــعـــمـــى الـــحـــكام عنـــــا فإنا           نحو هذي النعماء فيـــــــــنا جــــــحود(1)

وأعـــنـــا عـــلـــى الـــوصـــول لــحـــكم           مـــــــــن مـــــــــعانيك ظـــــــــله ممدود

       ودافع الوائلي عن أفكاره المستمدة من روحية الإسلام، دفاعاً مستميتاً، لا بالقول فحسب، بل في معترك السياسة التي برز فيها أول ما برز بانتمائه إلى (حركة جماعة العلماء) في النجف الأشرف إذ كان من الأعضاء الأوائل الذين شاركوا في إنشاء هذه الجماعة مع نخبة من أعلام النجف، وفيهم جيل من الفقهاء والأساتذة، من أمثال الشيخ مرتضى آل ياسين، والسيد باقر الشخص، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد موسى السيد جعفر بحر العلوم، وكان من مهام الجماعة السعي إلى نشر كلمة الله تعالى. والتنبيه على مظالم الشعب العراقي، والوقوف أمام المد الأحمر العارم الذي هز العراق من أقصاه إلى أقصاه أواخر الخمسينات، فكان الوائلي محاججاً لدوداً، ومخاصماً عنيداً للشيوعية في فترة شهدت عنفوان المد الشيوعي في العراق، وليس من المستغرب أن يتعرض لمحاولة اغتيال إبان تلك الفترة، عندما كان ضيفاً على الحاج عبد الحسين جيته كوكل بالبصرة، لأنه كان يعرض بالحكم القائم ويؤلب عليه الجمهور، ويثير العامة، للتمرد والثورة، وفي قصيدة له عام 1959 ألقاها في حفل حاشد عقد في النجف، وجه انتقاداً قاسياً للزعيم عبد الكريم قاسم الذي أظهر مودة للشيوعيين في حينه فقال:

وعــــاد يــــزأر فـــي الــنادي الوديع فتى    مفيـــــــــهق صــــوته كالصخر ينحدر(2)

يـــحـــكـي البطولات كالصبيان إن ركبوا           عصـــــــــيهم حســـــــــبوها الخيل تبتدر

وحــــوله نـــفــر يــــروون مـــــن خــدع           لـــــــــه الهـــــــــدير ليـروي أنهم هدروا

_____________

(1) في البيت تعريض لظلم الحكام مستخدماً «التورية» غطاء فتعمى الحكام يقصد ظلمتهم لا نعمتهم، الجحود: الرفض.

(2) يزار: يصيح، وزأر فلان: صات من صدره، والزئير: صوت الأسد، المفيهق: المتشدق في أقواله وخطبه.

(12)

 

وهــــــو الــــذي كــان لا يسطيع من هلعٍ           أن تـــــــــستقر علـــــى أعطافه الأزر(1)

أيــــــــــام لا نحن في سلم فــيــمــنــعــنــا           ولا بحـــــــــرب فنـــدري كيف نعتجر(2)

أغــــراب لا نـــحـــن مـــــن قيس فتمنعنا           ولا قـــــــــريش فيحــــــمي رحلنا مضر

مــــشــى لــــنـــا غـــــرماء، لو بساعدهم           لهان، لكنــــــــهم ظـــــــــل لمن أمروا(3)

تــــقـــســمــونــا فـــإغــــراء لمن رقصوا           رقـــــــــص القرود وضغط للذي صبروا

       ويتفاءل خيراً بفتوى الإمام السيد محسن الحكيم وبقية العلماء الأعلام بتحريم الانتماء للحزب الشيوعي، فيقول:

حتى تـــــــداركنا كالرعد مــــنـــطـــلــقــاً           صـــــــوت الفتاوى على أفواه من زأروا

دوى بــــهـــا نــفــر مـــن خيــر قادتنـــــا           عـــــــــند الخـــطوب، فمرحى أيها النفر

فـــانــجــاب لــيــل وولـــــت ظلمة ومشى           ضوء ورفـــــــــرف فتــــح أبلج نضر(4)

       ثم نرى أنه يقف موقف الريبة من انحسار المد الأحمر، حيث كان أكثر الشعب يفتقر للوعي والثقافة، وحيث أن الاستعمار ما زال متربصاً لشعبنا يحيك المؤامرات:

لــــكـــنني، وبــــــــــقايا الكأس ما برحب           تغـــــــري النشاوى أرى أن يؤخذ الحذر

فــإن ذبـــــــذبة (الأنوار) مــــا بـــرحــت           والــــــــبوق للنـــــــــفخ ما ينفك ينـــتظر

وشـــــــــــيــــمة الــــنفر المسعور تخبرنا           بـــــــــأنهم يهـــلكون الحرث لو قدروا(5)

فأجــــــــــــــــجوا الدم عزماً في ترائبنا(6)          بـــــــــاسم الـــحسين ليوم الهول يدخر(7)

____________

(1) الهلع: الخوف الشديد- الأزر: جمع مفرده إزار: وهو الكساء الذي يغطي النصف الأسفل من البدن.

(2) يمنعنا: يجعلنا منيعين محميين. ونعتجر: نستتر ونبعد أنفسنا عن الخطر.

(3) الغرماء: مفردها (الغريم): الخصم أو العدو.

(4) انجاب ليل: زار وظهر نقيضه الفجر، الأبلج: المشرق البين.

(5) المسعور: المحروق، يقال «سعر فلان النار» أشعلها، وقيل المسعور: الذي لا يستقر قلقاً.

(6) ترائبنا: صدرونا وقيل: أعاليها.

(7) نشرت هذه القصيدة في مجلة الأضواء عام 1959 بعد حذف المقاطع المتضمنة لنقد الحكومة وعلقت المجلة على ذلك بما يأتي: «هذه القصيدة هي قصيدة الحفل، ولكن حالت دونها بعض الموانع التي لا تعترف بها الأضواء فأثبتتها دون التي ألقيت.. ».

(13)

 

       ويصور الواقع المر الذي مر به العراق خلال تلك الفترة في قصيدة نظمها عام 1960:

بـــــــغــــــداد! لا مـــــــرت عليك بشرها           دهـــــــــماء تــــــعقد في سماك سحابا(1)

مطرت عليكِ شراذماً مـــمـــســوخــــــــة           حـــــــــشدت على أرواحــنا الأوصابا(2)

وغـــريـــبـــة عــن فــــكرنا ودمـــائــنـــا           فـــــــــيما أَتتـــــــــه وتدعَّي الأَنــــــسابا

درســــت عـــلـــى ابـن الغاب تأخذ دوره           حـــــــــتى تخـــــــــيلت الحـــياة الغابا(3)

وأدت تــــطــلــعــنـــا وداســــت عـــــزنا           وتـــــــــغرزت بجـــــــــسومنا أنيـــابا(4)

وتــــفـــاخــــرت فـــــــــي قتلنا وتوزعت           منـــــــــا جســـــــــوماً بضــــة ورقابا(5)

مـــنـــحـــت صــــــــدور النابغين لفضلها           بـــــــــدل الوســـــــــام أسنـــــــة وحرابا

ووراءهــــــــــــــــــــا من بعد ذلك معشر           يبكـــــــــي القــتيل وينهـــــــــب الأسلابا

ولقد وقــفــنــا خــاشـــعـــــــــــــين حيالها           لـــــــــنحط فـــــــــي عــــسلٍ رمته ذبابا

وأذل مـــــــــــــــــــــن سكن البسيطة أمة           عاشـــــــــت تـــــــــهادن مسرفاً كذابا(6)

أو بــــعـــد أن قـــفـــز الــــــــزمان بأهله           عـــــــــدنا نعـــــــــايش أكـــــلباً وذئابا؟!

يا رب عــــطـــفـــك أن تــــــعود ضوابط           مسخـــــــــاً وينـــــــــقلب الــــنعيم عذابا!

يا رب عــــفـــوك أن تـــجـــــــــف منابع           ويـــــــــعود مخــــــضل الخميل ترابا(7)!

 

____________

(1) الدهماء: السوداء، ويرمز بها إلى الجوائح والمصائب التي تجتاح البلاد والممتلكات.

(2) الشراذم: جمع شرذمة وهي الجماعة القليلة من الناس. وأكثر ما يطلق اللفظ على المتجمعين على هوى سرعان ما يفشل لقلتهم وعدم ائتلاف قلوبهم حول الهدف. والأوصاب: جمع وصب، وهو المرض والوجع. وحشدت على أرواحنا الأوصاب: عقدتنا.

(3) درست على ابن الغاب: تعلمت شريعة الغاب معتقدة أن الدنيا تؤخذ غلاباً، فتعاملت مع الأمور والبشر بوحشية. وابن الغاب: الوحش الكاسر أو المستعمر الغربي الذي يصدر إلينا ما يسميه ديمقراطية بالحديد والنار.

(4) وأدت تطلعنا: دفنته. وداست عزنا: هدمت مجدنا التليد. وتغرزت بجسومنا أنياباً: نهشتنا بأنيابها ناهبة مقدراتنا.

(5) بضة: رقيقة ولينة.

(6) البسيطة: الأرض.

(7) المخضل: الكثير وقيل: الندي الناعم، الخميل: الشجر الكثيف الملتف.

(14)

 

يــــــــــا رب لـــطـــفـــــك أن نمجد تافهاً           أو نـــــــــعبد الأزلام والأنصـــــــــابا!(1)

       ولم تختلف هذه الصورة التي رسمها الوائلي هنا عن الوضع الخطير في العراق، بل تفاقم شراً وازداد سوءاً على عهد (عبد السلام عارف) وكان مما تميز به عهده للنعرات الجاهلية والطائفية لتيسير سيطرته على أبناء الشعب، مما دعا الوائلي إلى مهاجمة الوضع القائم:

فـــيــــا بـــاعثيها نــعـــرةً جــــاهـــلـــيــة           (محــمد) واراها التــــــــــراب تورعوا(2)

عــــذرتـــكــم لـــو أن مــــــــــــا تنبشونه           عظـــــــــام ولكن جيفة(3) وهــي أبشــــــع

ولــــو أن مــــا تـــبغـــــــــونه من ورائها           خفي لقلنا عابــث ســـــــــــوف يـــــــــقلع

ولــــكـــنــــه الـــكـــرســــــي مهما برعتم          الخـــــــــداع يغـــــــــطي رأســـه ثم يطلع

       وفي القصيدة نفسها يعرض الوائلي بالرئيس عارف ويحمله مسؤولية الحالة المتأزمة التي وصل إليها العراق، ويصب عليه انتقاده الشديد دون مواربة أو وازع من خوف، مع أنه ألقاها بنفسه في حفلة كبرى عقدت في النجف عام 1964 في ظل التوتر وانعدام الثقة بين المواطنين والحكومة آنذاك، وكان مما قاله:

(مــحـــمد) هـــــــــل يرضي جهادك تافه           تســـــــــتر بالإســـــــــلام وهو مضيع؟َ!

يـــهـــمـــلـــج(4) فـــــي أعقاب كل مضلل           فلا النصـــــــــح يثنيه ولا هو يــــسمع(5)

____________

(1) الأزلام: جمع زلم، وهو قطع من الخشب مسواة تصلح أن تكون سهاماً، وكان العرب يقترعون بالأزلام، يكتب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، ويكون الثالث غفلا لا كتابة عليه. وقصد الشاعر بالأزلام والأنصاب: الأشخاص. والأنصاب: كل ماعبد من دون الله تعالى وهي في الأصل حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل عليها ويذبح لغير الله تعالى، مفردها: نصب.

(2) تورعوا: اتعظوا أو جدوا حرجاً من أفعالكم وكفوا عن آثامكم ومعاصيكم.

(3) الجيفة: جثة الميت إذا انتنت.

(4) يهملج: يمشي مشية سريعة.

(5) يثنيه: يصرفه عن حاجته.

(15)

 

يــــخـــــــــــرف فـــــي خلط تنافر نسجه           يؤد ويؤذي السمع حــين يجـــــــــعجع(1)

فــطـــوراً إلـــــــــى غربٍ يمت بـــقـــوله           وطوراً إلى شـــــــــرقٍ يمـــــــت وينزع

وطـــــوراً يـــؤاخــــــــي من نسيج خياله           نقائض فاعجـــــــــب للنقــــــائض تجمع

مــــفــــاهـــيـــم لـــيـــنــيــــة في جذورها           علـــــــــيها من اســـم الله ثوب وبرقع(2)

       وإذا كان للوائلي ثمة حصانة لأنه ابن مدينة النجف كونها بلد المرجعية الدينية القوية التي ينتمي إليها الوائلي، ويمثل بعض طلائع نهضتها، ولاعتبارات عائلية واجتماعية تتميز بها مدينة النجف التي حملت سمة المعارضة لجميع الحكومات السابقة واللاحقة، ربما يكون لهذا كله أثره في إقدامه وعدم تورعه في مهاجمة السلطة، لكن الوائلي الذكي استغل هذه الظروف مع الضعف البين في الحكومة، فوقف في بغداد وقفة مشهودة امتازت بالجرأة والاستبسال السلطة في مركزها وأمام أركانها وأزلامها، وفي وسط أدبي وفكري رفيع المستوى من البلاد العربية، في مؤتمر الأدباء العرب الخامس عام 1965:

بــــغــداد يــــــومك لا يزال كـــأمـــســــه           صـــــــــور على طرفي نقيضٍ تجــمع(3)

يــــــطــــــــــــــغى النعيم بجانب وبجانبٍ           يطـــــــــغى الشقا فمرفه ومضـــــــــيع(4)

فــــــي الـــقـــصر أغنية على شفة الهوى           والكوخ دمع في المـــحاجر يـــــــــلذع(5)

ومــــن الـــطـــوى جــــنب البيادر صرع           وبجـــــنب زق أبي نواس صـــــــــرع(6)

______________

(1) يجعجع: يصدر صوتاً والجعجعة: أصوات الجمال إذا اجتمعت.

(2) لينينة: نسبة إلى «لينين».

(3) على طرفي نقيض: متناقضة.

(4) المرف: الميسور الحال المتنعم. والمضيع: الذي لم يقدر حق قدره فاقتدر.

(5) المحاجر: جمع محجر وهو ما أحاط بالعين. يلذع: يوجع أو يحرق.

(6) الطوى: الجوع. والبيادر: جمع بيدر، وهو الموضع الذي يداس فيه القمح ونحوه لإخراج الحب من سنابله. والصرع: الصرعى أو المصروعون: المطروحون على الأرض بين الموت والحياة. أما صرع الثانية فقصد بها الثملين المخمورين الذي أفقدهم الشراب الوعي. الزق: جلد يجز ويحمل فيه الماء او الخمرة، وفي البيت بمعنى الكأس وفيه إشارة إلى تمثال ابو نواس الذي يجتمع المخمورون خوله في بغداد.

(16)

ويـــــد تــكــبــل وهـــي مــمــا يــفــــتدى           ويـــــــــد تقبل وهي مـــما يقطـــــــــع(1)

وبــــراءة بــــيـــد الـــطــغـــاة مـــهــــانة           ودنـــــــــاءة بيد المبرر تـــصنـــــــــع(2)

ويــــصــــان ذاك لأنــــه مـــن مـعـشــــر           ويضـــــــــام ذاك لأنــه لا يركـــــــــع(3)

كــــبرت مــــفـــارقـــة يـــــــــمثل دورها           باســـــــــم العروبة والعروبة أرفــــــع(4)

فـتـبـيـنـي هـــــذي الــمــــــهازل واحذري           مـــــــــن مثلها فوراء ذلك إصـــــــــبع(5)

شــــــــدي وهـــــــــزي الليل في جبروته           وبـــــــــعهدتي أن الكواكب تـــــــــطلع(6)

       والوائلي حين يستنهض أنباء العروبة لصيانة مفهوم العروبة من الانحراف، فهي عنده مبدأ أسمى وأرفع من أن تشوهه الطغاة، ورابطة خيرة تدعو للألفة والمحبة بعيداً عن التشاحن والتلاعن، عروبة ذابت في الإسلام وذاب فيها، عروبة صهرها الإسلام من جديد، فعادت تهز العالم من اقصاه إلى أقصاه بالمغاوير الذين أدركوا هديهم ووعيهم الرسالي، فمضوا يدكون حصون الشرك، ويتسنمون ذرا المجد في الأعالي، ويسطرون ملاحم النصر والفداء والأصالة:

يـــا ضــفــاف الــفــرات كــم فـيـك غـيـل           مـــــــــارد ينشئ الـــــــــمواليـــد أسدا(7)

والــمــغــاويــر الــحــمــر يــومــاً وسـيـفاً           والمصاليت الـــــــــسمر وجهاً وزنـــدا(8)

_____________

(1) تكبل: تقيد.

(2) أهان البراءة: ألحق بها الذل والهوان واستخف بها واحتقرها. ومبرر الدناءة: مزكيها ومدعي الأسباب التي تبيحها.

(3) يصان: يترك المذنب بدون عقاب. لأنه من معشر: من جماعة معينة. ويضام: يظلم ويقهر. لأنه لا يركع: لا ينافق.

(4) المفارقة: التباين والتباعد بين أمرين. ويمثل دورها: تستغل. والعروبة: ما يجمع خصائص الجنس العربي ومزاياه من لفظ يتسمون به أو ينتسبون به.

(5) وراء ذلك إصبع: وراء ذلك مدبر ومخطط.

(6) الجبروت: التجبر والكبر والعتو والقهر.
(7) الغبل: الأجمة وموضع الأسد.

(8) المصاليت: جمع مفرده مصلت: وهو السيف إذا جرد من غمده، أو الرمح.

(17)

 

عــرفــتــهــم مــلاحــم الــمــجــد ســيــفــاً           يعربياً يأبى مـــــدى الدهـــــــــر غمدا(1)

يــعــلــكــون الــرصـاص في الحرب قوتاً           ويعبون مـــــــــن دم النحـــــــــر ورداً(2)

أدركـــوا بــالإســـلام هــديــاً فــإن صــــا           لوا رأيـــــــــت المـــــــــيدان بدراً وأحدا

وإذا اســـتــنــســبــوا دعــا الــبـعض شيبا           ن وبعض بكـــــــــراً وبعض معـــــــداً(3)

ومــشــوا فــي الــوغى من السيف أمضى           وبـــــــــدرب الــــهدى من النور أهدى(4)

       ويقول في أخرى مستنهضاً ومذكراً بفلسطين:

فـــانـــهـــدوا إن لــلــعــروبــة جــــــــذراً           مـــــــــن ســـــــــرايا (محمد) يـــمتاح(5)

إذ عـــلــي يـــدك خــيـــبــر فـــي عــــزم           روته عـــنه القـــــــــنا والصـــــــــفاح(6)

نــــحــن بــيــن الــحــيــاة فـــي حكم إسوا           ئـــــــــيل شـــــــــعباً يدوسه الذبـــــــــاح

أو كــرامـــاً نــعــطــي الـــدمـــــــاء لتحيا          أمـــــــــة من عطـــــــــائهـــــــا الأرواح

       وفخره بالعروبة سجله في العديد من قصائده، وذلك قوله:

فـــــإنـــــي لــلــــعــــربــــي الـــصــــمـيم           جـــــــــذوري بيـــــــــضاء لم تدنـــــــس

       وقوله:

عــــــربـــي مـــلء الـــــزمـــــــان وعزم           يتلـــــــــظى وصـــــــــاهل نـــــــــفاح(7)

وهـــــو الــــيـــوم مـثـلـمـا كـــان بـــالأمـ           ـس هدير مزمــــــــــجز وطـــــــــماح(8)

________________

(1) يأبى: يرفض.
(2) عب الماء: شريه أو كرعه لا تنفس.

(3) شيبان: وبكر ومعد قبائل عربية معروفة.

(4) الوغى: المعركة وقيل: أشد موضع فيها، أمضى: أكثر قتلاً.
(5) يمتاح: يستخرج أو ينتزع.

(6) على يدك خبير: إشارة إلى فتح خيبر، إذ كان كسر باب حصنها على يديه عليه السلام. روته القنا والصفاح: تحدثت عنه رماح المعارك وسيوفها.

(7) يتلظى: يشتعل، الصاهل: الحصان الذي يصدر صهيلاً. النفاح: السريع وفي الأصل نفح الريح: هبوبها وقيل الحصان النفاح: الذي يضرب الأرض بحافره.

(8) زمجر: أكثر الصياح والصخب أو أصدر زئيراً شديد الوقع في نفوس السامعين.

(18)

       ويظهر بوضوح تأثره بالدعوة للوحدة العربية التي حمل لواءها طائفة من شباب العرب وأحرار الأمة، وفي النجف نفر منهم، ومن بينهم المرحوم أحمد الجزائري الذي عمل من أجل تلك القضية وأبلى بلاءً حسناً وصبر على النفي والاعتقال والترهيب حتى قضى شهيداً  في سبيلها فاسمعه مخاطباً أياه:

أيـــــــــــــــــــها اليعربي حين غزا الأجـ            ـيال زيـــــــــف الـدخـــــــــيل والتغريب

حمل العرب بيــــــــــــــــــن جنبيه روحاً           ورجـــــــــاءً بــقلـــــــــبه لا يخـــــــــيب

ودعـــــــــــــــــــا الغافلين للوحدة الكــــبـ           ـرى يـــــــــنادي بــــرهـــــــــطه ويهيب

وتــــــــغـــــنى بمــــــــــــجد سورية العر           بِ سواء شـــــمالـــــــــها والجـــــــــنوب

ذاب فــــــــــي أهـلــهـا جـمـيـعـاً، هـــلال           من وراء انتـــــــــمائهم أم صلــــــــيب(1)

قـــــارع الإســتــعــمـــار شـخـصـاً وفكراً           فهو في ذلك القـــــــــوي الــحـــــــــسيب

وتـــــلـــظــــى عــــزمــــــــاً وما نال منه           النفي والإعـــــــــتقــــال والترهـــــــــيب

       وتأخذه العزة بقومه والفخر بهم مأخذاً عظيماً، ويذكر دائماً ذلك الماضي الخالد من تأريخها العريق يوم فتحت طلائع الأمة آفاق الدنيا وسادات أركان الأرض حاملة رسالة التوحيد والحضارة والإنسانية، وحملت مشعل الحرية الذي لا ينطفئ فأنارت الطريق للأجيال من مختلف الأجناس والأعراق، بهمة وإباء وشمم، ينطوي على التواضع والأدب الكبيرين، تلك الشمائل الأصلية التي ما زالت شعوب الأرض تتحدث عنها، وتستاف من عبيرها، وتستجلي من روائعها أساساً للحضارة، ومنطلقاً للكرامة:

أمـــــــــــــــــــــتي واسألي النجوم أما كنا           غزاة عـــــبر النـــــــــجوم نـــــــــرود؟!

وزرعنا الــفــتـــــــــــوح فــــي كــــل فجٍّ           فـــــــــلنا فـــــــــوق كــل أرض شهود(2)

____________
(1) الهلال: رمز المسلمين، الصليب: رمز النصارى وفي البيت إشارة إلى الوحدة العربية.

(2) الفج: الطريق.

(19)

 

الــــخــــدود الـــمــــصــــعـــــرات وسمنا           فا فخرت على ربـــــــانا الـــــــــخدود(1)

وافـــتـــرعـــنـا الـصـعـاب بـالـسيف فانها           رت لـــــــــدينا حـــــــــواجز وســدود(2)

إن نـــهـــدنــــا لــلـــفــــــتح تسبقنا الأصـ           ـداء حتـــــــــى تفر منـــــــــها الجنـود(3)

أو مـــــشــــت خــــيــــــــلنا تبرجن يلثمـ            ـن خطـــــــــاهـــا أباطح ونـــــــــجود(4)

فــــي مــــحــــاريــبــنـــــــا التقى والهدى           واـــــــــلذكر لله لا ســواه ســـــــــجود(5)

ولأقـــــــلامــنــا الــحــضــارات مـــــا زا           ل إلـــــــــى الآن جذرهــــا مـــــــــشدود

ولأمــــــجـــــادنــــــا بــــــــــــــكل رباع            الأرض صرح إلى الـــــــــسما ممدود(6)

       ولقد كان فهم الوائلي للعروبة عميقاً صريحاً مقروناً بعاطفة الصدق والإيمان، وقد عمقت هذا الفهم جولاته في العالم العربي وللجاليات العربية في الخارج بهدف التوجيه:

لســــــــــــــــــــــــــنا بمعهود على أبعادنا           يبس فدنيـــــــــانا الربيع المـــــــــمرع(7)

أي الكرائم ليس فــــــــــــــــــــــي أعناقها           مـــــــــما نسجناه الـــــــــعقود اللمــــــع؟

أم أي وضــــاء ولــيـــــــــــــــــس بجذره           قبـــــــــس لنا يجلو الظلام مشــــــعشع(8)

ســــــــــــــــدنا فما ساد الشعوب حضارة           أســـــــــمى ولا خلق أعــــــف وأورع(9)

قدنا الفتوح فما تشكى وطأنـــــــــــــــــــــا           فكـــــــــر ولا دين ولا من يتـــــــــبـــــع

___________

(1) الخدود المصعرات: التمايلة كبراً وعجباً. وسمناها: أثرنا فيها. وخرت: سقطت.

(2) افترعنا: صعدنا.

(3) لا يخفى ما في هذا البيت من لفتة ذكية إلى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «نصت على الرعب على مسافة شهر.. ».

(4) تبرجن: تزين. والأباطح: جمع أبطح وهو المسيل الواسع فيه دقاق الحصى والتراب. والنجود: جمع نجد، وهو التل أو الجبل الصلب.

(5) محاريب: جمع «محراب» أي: مساجد ذكر الجزء وأراد الكل.

(6) صرح: بناء عال.

(7) الممرع: الخصب.

(8) القبس: ما يستضاء به من الشعل وغيرها.

(9) أورع: اتقى.

(20)

 

حتى الرقيق تواضـــعت أحــــــــــــــسابنا           كـــرماً فأوليـــــــــناه مالا يطـــــــــمع(1)

       وحديث العروبة يجرنا إلى حديث الوطن الذي يأسر لب شاعرنا الوائلي إلى حد يفوق الوصف، ولا عجب فالوائلي وطني أصيل ونجفي صميم عاش حياة النجف في أصولها وتقاليدها، ومارس صور هذه الحياة ممارسة متصلة بأعماق نفسه وأحب هذه المدينة حباً يصل إلى حد الفتنة بها:

حـــــــنيني إلى وادي الغـــــــري وقـــــبة           يـــــــــغازلها نجــــــــم السما ويلاعب(2)

عليها لـــــــــعاب الشمس تبر وتحـــــــتها           أئمة عرفان وحـــــــــبر وراهـــــــــب(3)

تـــــــقاة أصــــــابوا من علــــي أخا هدى           وحبر تقى، والصالحات نســـــــــــائب(4)

وتـــــــاقوا إلــــــــى المثوى الأخير يجنبه    ونعم علي في الـــــــــشدائد صــــاحب(5)

فلا زلـــــــت يا وادي الغـــــــري خــميلة           تمر عليـــــــــها الغاديات الـــــسواكب(6)

       ويلجأ الشاعر إلى (راوية) حيث مرقد السيدة زينب بنت علي (ع) وفيها يجد بعض ما يسليه ويعوضه عن العتباب المقدسة التي دأب على زيارتها كل عام:

دأبــــت أزورك فـــــــي كـــــــل عـــــــام           وألثم تربـــــــــك يا بـــــــــن النـــــــــبي

ومـــــــرت سنـــــــين ولـــــــم أجتـــلي(7)           ســـــــــماتك في روضـــــــــك الأطــيب

____________

(1) الرقيق: المملوكون.

(2) وادي الغري: النجف الأشرف.

(3) تبر: ذهب خالص، الحبر: العالم. والراهب: المتعبد في صومعته يتخلى عن أشغال الدنيا وملاذها.

(4) أصابوا منه: أخذوا عنه. ونسائب: جمع نسيبة: وهي القريبة ذات الصلة.

(5) تاق إلى الشيء: حن إليه.

(6) الخميلة: الأرض السهلة المنخفضة التي يشبه نبتها خمل القطيفة، أو الشجر المجتمع الكثير امللتف. والغاديات السواكب: من صفات السحب لغدوها وسكبها المطر أو الأمطار نفسها.

(7) أجتلي: هذا الفعل مجزوم بـ«لم» التي سبقته، وأبقى الشاعر ياءه إشباعاً للوزن الشعري.

(21)