آخر الكتب المضافة

حديث اليوم

  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
  • 6

الاوقات الشرعیة

مستلات

تكوين الحوزة العلمية في كربلاء

ان أرض كربلاء بعدما اصبحت مسرحا لواقعة تاريخية دموية ، أفجعت قلوب المسلمين ، وبثت الحزن وألأسى واللوعة في نفوسهم، وبعدما حوت لقبر أعز شهيد ، وأكرم ثائر ، وأشجع حر أبي ، هو سبط رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ألإمام الحسين بن علي عليه السلام شهدت النماء والعمران وألإزدهار في وقت مبكر جدا ، لما إكتسبت من قدسية متزايدة وروحانية متسامية ، حتى أصبحت في فترة قياسية موئلا وملاذا لكل صاحب عقيدة وكل داعية حق وحقيقة.

لقد اضحت كربلاء تجسيدا لكل معاني السماء وقيم الدين ومفاهيم الدفاع المستميت عن شرعة النبي ألأعظم صلى ألله عليه وآله وسلم فكان طبيعيا أن تصبح بالتدريج محط رحال علماء الدين والفضيلة ، وأن تتحول إلى مسرح يحوي كل ذي علم وادب وإبداع فكري ، وكل صاحب إيمان حقيقي.

وفي الحقيقة أن البيئة التي يدرس فيها العالم والمحقق والباحث أو الشاعر وألأديب لها تأثيرها المباشر على سير تحصيله وجهده الفكري ، فألأجواء والظروف السائدة في هذه البيئة ، تخلق له من الحوافز والدوافع ما تساعده وتسهل له الدراسة والبحث والتفكير.

ذلك أن أجواء البيئة التي يدرس فيها المرء بما ينسجم مع العلم الذي يتلقاه توحي له بكل ما يرتبط بهذا العلم ، وتشجعه على دراسته مثلما تسهل له أمر التدريس والتحقيق ، فالبيئة لها تأثيراتها التلقائية في نفس ألإنسان

ومن هنا نجد ظاهرة إنتشار الحوزات العلمية الدينية في المدن المقدسة مثل النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء وقم ومشهد أن حوزات هذه المدن بقيت محتفظة بإستمراريتها وديمومتها ، وذلك بالرغم من أنها مرت بفترات فتور، لكنها ظلت متمسكة بهويتها وخصوصياتها على مر التاريخ،صحيح أن حوزات أخرى ظهرت في مدن تفتقد لقدسية المدن ألآنفة الذكر غير أنها كانت حوزات وقتية لم تدم طويلا مثل حوزة حلب في سوريا أو مثل الحوزة العلمية في مدينة الحلة أو مثل حوزة أصفهان

لكن هذه الحوزات إما إندثرت وإما إنحسرت وإنكمشت على نفسها ، نظرا لأن كيانها إرتبط بشخصيات علماء عظام برزوا في صدفهم ، فكانت حلقات دروسهم وأبحاثهم وتقريراتهم تستلفت ألأنظار ، فتجذب النفوس إليها، ولكن ما ان رحلوا وتوفوا حتى فقدت الحوزة التي أقاموها أهميتها رويدا رويدا فإندثرت وإنمحت .

من كل ذلك ، نتوصل إلى نتيجة أن الحوزات العلمية الدينية تنشط وتستمر وتزدهر وتتطور في ألأماكن الدينية المقدسة أكثر بكثير جدا من ألأماكن العادية ، ففي ألأماكن الدينية المقدسة جاذب وحافز لا يوجدان في خلافها، وإن من أكثر ألأماكن قدسية وتبركا لدى الشيعة ، هي أرض كربلاء ومدينة الحسين المشرفة.

لقد اخذت مدينة كربلاء ، بعدما إنحسرت عنها إجراءات الردع والقمع وألأعمال القسرية والزجرية التي كان يواجهها جموع زوار قبر الحسين عليه السلام، على يد زبانية الخلفاء ألأمويين والعباسيين، تعج بالعلماء والفقهاء ، وذلك مذ أواخر القرن الثالث الهجري، حينما بدأت أعداد كبيرة من العلويين تفد إلى كربلاء للسكنى بجوار قبر الحسين عليه السلام، ثم تضاعفت نسبة الوافدين من السادة العلويين وخاصة من ذرية ألإمام موسى الكاظم عليه السلام، المعروفين بالسادة الموسويين، في عهد الدولة البويهية ، مثلما رحل إليها طلاب العلم والفضيلة من ألأقطار والمدن القريبة والنائية ، فنشطت في ارجاءها الحركة العلمية وباتت حلقات الدرس والبحث تقعد في جنبات صحن الروضة الحسينية الشريفة ، وفي بيوت الشعر وألأكواخ التي كانت تحيط حول الروضة الشريفة ، وذلك نظرا لأن أرض كربلاء لم تتخذ شكل مدينة متكاملة متمصرة بمعنى الكلمة ، إلا على عهد البويهين في مطلع القرن الرابع الهجري ، فالبويهيين هم أول من أهتم بتشييد وتعمير أرض كربلاء المقدسة إلى جانب إهتمامهم الكبير بخلق حركة علمية فيها.

ومما زاد من تطور حركة العلم والمعرفة والفضيلة بمدينة كربلاء ومهد السبيل أمام ظهور أعرق وأقدم حوزة علمية للشيعة ألإمامية على ارضها الطاهرة، هو بزوغ نجم عالم كبير وفقيه فحل فهوم، كان له دوره التاريخي في دفع مسيرة العلم أشواطا بعيدة إلى ألأمام . وهذا العالم الكبير هو «حميد بن زياد بن حماد بن هواز الدهقان أبو القاسم النينوى» الذي إشتهر بغزارة علمه وكثرة تصانيفه وباعه الطويل في البحث والدرس والتحقيق والمناظرة ألإستدلالية وسعيه وجهده الدؤوب في تربية جيل من العلماء والفقهاء.

وقد ذكره الشيخ الطوسي في كتابه المسمى بـ «الفهرست» فقال: حميد بن زياد من أهل نينوى قرية إلى جانب الحائر على سكنه السلام ، ثقة كثر التصانيف ، روى ألأصول أكثرها ، له كتب كثيرة على عدد كتب ألأصول، أخبرني برواياته وكتبه أحمد بن عبدون عن أبي طالب ألأنباري عن حميد، واخبرني بها ايضا احمد بن عبدون عن أبي القاسم علي الكاتب عن حميد . وذكره في رجاله فيمن لم يرو عنهم (عليهم السلام) فقال: إبن حبشي بن قوني بن محمد حميد بن زياد من أهل نينوى قرية إلى جانب الحائر على ساكنه السلام، عالم جليل واسع العلم ، كثير التصانيف ، قد ذكرنا طرفا من كتبه في الفهرست.

وقال عنه «النجاشي» في رجاله ما يلي: حميد بن زياد بن حماد بن زياد الدهقان أبو القاسم ، سكن «سورا» ,إنتقل إلى نينوى ، قرية على العلقمي إلى جانب الحائر على ساكنه السلام، كان ثقة واقفا وجها فيهم ، سمع الكتب وصنع وصنف: 1 ـ الجامع في أنواع الشرائع ، 2 ـ الخمس، 3 ـ الدعاء، 4 ـ الرجال ، 5 ـ من روى عن ألإمام الصادق عليه السلام، 6 ـ الفرائض ، 7 ـ الدلائل، 8 ـ ذم من خالف الحق وأهله، 9 ـ فضل العلم والعلماء، 10 ـ الثلاث وألأربع، 11 ـ النوادر وهو كتاب كبير، اخبرنا أحمد بن علي بن نوح : حدثنا الحسين بن علي بن سفيان، قرأت على حميد بن زياد كتاب الدعاء، وأخبرنا الحسين بن عبدالله : حدثنا أحمد بن جعفر بن سفيان عن حميد بكتبه، قال أبو المفضل الشيباني / أجازنا سنة 310 هـ ، وقال أبو الحسن علي بن حاتم: لقيته سنة 306 هـ وسمعت منه كتابه «الرجال» وأجاز لنا ، ومات حميد سنة 310 هـ .

وجاء في كتاب «إيضاح ألإشتباه» : حُمَيد مصغرا إبن زياد بن حماد بن حماد (مرتين) إبن زياد هواز بفتح الهاء والواو بكسر الزاي المهملة (بمعنى رئيس القرية) .

كما ترجمته الوافية والتفضيلية ، وردت في كتاب الرجال للمامقاني، ذكر فيها تعداد آثاره المصنفة وتلامذته، وممن أخذوا إجازتهم عنه.

وفي ضوء النشاطات العلمية والفقهية والتدريسية المكثفة التي قام بها حميد بن زياد النينوى من موقعه بمدينة كربلاء ، يمكن القول أنه كان مؤسسا ومنشأ لنواة أولى حوزة علمية عريقة في كربلاء ، لأن في زمانه ظهرت وبرزت نهضة علمية وحركة تدريسية تطورتا وتوسعتا وتواصلتا على مر القرون في ساحة كربلاء المقدسة.

ومن مؤشرات تواصل وإستمرار هذه النهضة العلمية جيلا بعد جيل ، في أعقاب وفاة هذا العالم والفقيه المؤسس هو ظهور عالم عظيم وفقيه متبحر وأستاذ بارع فهّام هو عماد الدين محمد بن علي بن حمزة الطوسي المكنى بابن حمزة، والذي لعب دورا فاعلا ومؤثرا في تربية جيل من الفقهاء والعلماء مثلما خلف تركة علمية وفقهية غنية ، فمن تصانيفه : الوسيلة ، الواسطة ، الرايع في الشرايع، مسائل في الفقه ومنتخب الدين.

تتلمذ إبن حمزة في بغداد على يد شيخ الطائفة ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، فعندما أنهى دراسته في حوزته قفل راجعا إلى كربلاء ، لما على ساحتها العلمية من جاذب شده إليها ، بسبب أن عالم الدين لا جرم ينجذب لبيئة تناسب علمه ، ولم تكن في هذا الوقت بعد بغداد والكاظمية على مقربة منها ، بيئة علمية أخرى سوى مدينة كربلاء.

وفي هذا الوقت لم تكن مدينة النجف قد نشأت بعد ، ولم تكن قد رأت النور، إذ لم يكن على أرضها الطاهرة المقدسة سوى قبر ألإمام علي إبن أبي طالب عليه السلام ومبنى غير كبير مخصص لإستراحة زواره يقع على مقربة من القبر الشريف.

وعلى ضوء ما تقدم ، نتوصل إلى حقيقة أن مدينة كربلاء كانت مؤهلة تماما لأن تضم في رحابها وبين ظهرانيها أولى وأعرق حوزة علمية للشيعة ، فلها من آيات القدسية والبركة والكرامة والشرف ، القسط ألأوفر والنصيب ألأكبر ، خاصة أن تشكيلة الناس الذين سكنوها هي تشكيلة إجتماعية ذات إتجاه علمي وأدبي وديني قوي وإن نسبة كبيرة ممن قطنوها خلال القرون ألأولى من نشأتها وتمصرها ، هي من العلويين والسادة الموسويين الذين ينتسبون للأئمة ألأطهار، والذين من المفترض فيهم أن ينهضوا لترسيخ دين وشرعة جدهم ألأكبر النبي محمد صلى ألله عليه وآله وسلم ، ولتدعيم أسس ألإمامة والولاية ، ألأمر الذي وفر جوا دينيا وروحيا متساميا في كربلاء ، كان لا بد أن ينشأ ويترعرع في وسطه دعاة الدين والفضيلة ، ومبلغو القيم الروحية.

وإلى جانب كل ذلك ، كان الجاذب الحسيني يقوى ويشتد عقدا بعد عقد وجيلا بعد جيل، نظرا لأن العقليات والعراقيل والصعوبات التي كانت تقف في وجه حركة الهجرة المتزايدة بإتجاه مدينة كربلاء أو في وجه وفود الزائرين لمرقد الحسين عليه السلام أخذت تزول بالتدريج وذلك بسبب زوال الحكام الطغاة ، الذين إتخذوا موقف العداء والحقد والكراهية أزاء حماة الحسين عليه السلام ، وأنصاره وتبعيه وزائري قبره ، وعشاق ملحمته التاريخية ، بل وعلى العكس من ذلك بدأ بعض الملوك وألأمراء والحكام يتبارون في التقرب لهذه ألأرض الطاهرة ، والتسارع لتشييد الروضة الحسينية وتوسيعها وتطويرها ، وألإسهام الفاعل في دفع عجلة العمران والنماء وألإزدهار في مدينة كربلاء، إضافة لتسابقهم في تنشيط الحركة العلمية في ربوعها.

فمنذ مطلع القرن الرابع الهجري وبالتحديد منذ عهد البويهيين بدأت كربلاء تشهد مرحلة متميزة من حركة العمران وألإزدهار ، فيما تجدد بناء الروضة الحسينية كما جرت أعمال التعمير والتشييد للحائر الحسيني في عهد السلاجقة خلال النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وجرت تعميرات وترميمات إضافة للروضة الشريفة في عهد الجلائريين ، أما النقلة النوعية في عمران وتنمية كربلاء والمشهد الحسيني الشريف ، فقد بدأت منذ عهد ملوك ألأسرة الصفوية وإستمرت في فترات متعاقبة حتى العصر الحديث.

ومن منطلق ما جاء ذكره آنفا، فقد أخذت مدينة كربلاء تسير وفق منطق التاريخ ، والمعطيات العلمية والمؤشرات الدينية، التي برزت على ساحتها بإتجاه أن تأخذ قصب السبق في أن تكون الحوزة الرائدة وأن تحظى بالمرتبة ألأولى بين الحوزات العلمية الرئيسة لعلماء الشيعة ، ولم يكن حتى هذا الوقت قد ظهر ما يشير إلى مصطلح الحوزة ، بل كانت هناك حلقات درس وبحث تعقد هنا وهناك ، لكن ظهور هذا المصطلح وتبلوره ورواجه بين علماء ألإمامية لم يتحقق إلا بظهور المؤسسة العلمية الدينية في النجف.

بيد أن مهد العلم والمعرفة في هذه الحقبة الزمنية ، كان في بغداد بوصفها عاصمة للخلفاء العباسيين ومركزا متألقا للعلم ، لتوفرها على المدارس الكبيرة والمعاهد العلمية المتقدمة مثل : مدرسة المستنصرية التي كانت تقف في قمة المعاهد العلمية في ذاك الوقت.

ومن جملة العوامل الرئيسية التي دفعت لعلماء الشيعة لكي يتوجهوا إلى بغداد للدراسة وتحصيل العلم فيها، إضافة إلى جاذبيتها العلمية القوية ، هو أن النواب ألأربعة للإمام المهدي المنتظر آخر أئمة الشيعة عليه السلام ، كانوا يقطنون فيها أو يترددون عليها من مدينة سامراء ، حيث مقر ألإمام الحسن العسكري وموقع إنطلاق المهدي المنتظر عليه السلام نحو غيبته الصغرى ، ومن ثم إلى غيبته الكبرى التي إستمرت حتى يومنا هذا.

ولكن عندما توفى آخر نائب للإمام المهدي المنتظر، وحلت غيبته لكبرى كان لا بد من ظهور علماء مجتهدين يتولون مهمة تسيير وتوضيح شؤون الناس الدينية والروحية ، من منطلق إنهم نواب للإمام الغائب وبصورة غير مباشرة ، وذلك تطبيقا لمقولة ألإمام المهدي نفسه عليه السلام و «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة ألله» .

ومن هنا وكما اشرنا من قبل ، لزم رجوع الناس إلى العلماء المجتهدين حتى يحين موعد ظهور ألإمام الغائب عليه السلام بإذن ألله . فكان أن برز طلائع الفقهاء المجتهدين والمحدثين منهم رئيس المحدثين الشيخ (الصدوق) صاحب المؤلفات الكثيرة والمتوفى سنة 381 هـ ، ورئيس الملة أبو عبدالله محمد بن النعمان (الشيخ المفيد) المتوفى سنة 413 هـ ، وذو المجدين علم الهدى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى (الشريف المرتضى) صاحب كتاب«الشافي في ألإمامة» المتوفى سنة 436 هـ ، والعلامة الجليل أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان (الكراجكي) صاحب كتاب «كنز الفوائد» المتوفى سنة 449 هـ ، وشيخ الطائفة عماد الشيعة أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين (الطوسي) المتوفى سنة 460 هـ .

كان مقر زعامة وحلقات دروس وأبحاث هؤلاء في بغداد أو على مقربة منها في الكاظمية ، نظرا لأن التركة الدينية للنواب ألأربعة للإمام المهدي الغائب عليه السلام كانت لا تزال تتفاعل في بغداد ، فكان طبيعيا أن يكون ألأخلفُ قريبين من موقع هذه التركة.

بيد أن مدينة بغداد تعرضت فيما بعد لسلسلة من حوادث الفوضى وألإضطرابات والقلاقل والشغب من جانب الغزاة المغوليين والتتاريين مما سلب ألأمن والطمأنينة من أهليها، وحينما يصبح زمام ألأمن في بلد ما فلتانا وسائبا تنعدم معه ألأرضية المناسبة لظهور وبروز القدرات الذاتية وألإبداعات الفكرية ، ذلك أن الجو المتوتر والمشبع بالهواجس والتوترات والتشنجات النفسية يفقد العقول هدوءها والنفوس طمأنينتها وألأفكار نقاءها وبذلك تصبح الحالة غير مناسبة بالمرة، لأن تسير ألأمور وفق مجراها الطبيعي والعادي، خاصة إذا كانت هذه ألأمور ترتبط بالعلم ، حيث أن العلماء وطلاب العلم هم أحوج الناس لجو ألأمن وألإستقرار.

وبفعل الحوادث الدامية وألأجواء المتشنجة والمتوترة على الساحة السياسية في مدينة بغداد، كان طبيعيا يهاجرها العلماء والفقهاء إلى مكان آمن يحظى في نفس الوقت بمظاهر القدسية وآيات التبرك والروحانية، بدليل أن علماء الدين في مسيرتهم العلمية والدراسية ينجذبون عادة إلى ألأماكن المقدسة حيث البيئة وألأجواء تناسب طبيعة العلم الذي يتلقونه كما ذكرت سابقا.

وكان منطقيا جدا أن يتوجه هؤلاء المهاجرون من بغداد إلى مدينة كربلاء، إذ ليس هناك من مدينة مقدسة أخرى تضاهيها في إزدهار العلم والفضيلة ، ثم بفعل تكاثر هؤلاء العلماء وكثرة نشاطاتهم العلمية وتجمع التلامذة حولهم، كان لابد أن تبرز للوجود تلك الحوزة التي كان الشيعة وعلى رأسهم علماؤهم ألأفاضل ، يتطلعون إليها منذ وقت طويل.

هكذا كان منطق التاريخ يقضي بأن تصبح كربلاء مقرا ومسرحا لأولى حوزة علمية على أوسع نطاق ، وكانت قد وجدت فيها من قبل أي منذ حوالي قرن قبل هذا التاريخ ، لكن منطق التاريخ شيء ومشيئة ألله شيء آخر.

فالتاريخ عادة يأخذ مساره الطبيعي بمقتضى الظروف السائدة والمؤثرات الجانبية ، لكن هذا المسار العادي يتقطع في فواصل معينة فيصبح مساره عندئذ ذا منعطفات لوقوع حادث مفاجيء وغير مرصود وغير منظور بالمرة ، وهنا تفرض المشيئة ألإلهية نفسها ، فتتجلى في حادث أو قرار شخص فيتغير مجرى التاريخ.

إذ أن مشيئة ألله سبحانه وتعالى تبرز وتتجلى دائما في إطار حوادث ووقائع ومفاجئات خارجة عن الحساب والتخطيط، كما تبرز في إندفاعات ألأشخاص وقراراتهم الحاسمة والملهمة لهم بوحي باطني، فعندئذ تكون هذه ألإندفاعات أو القرارات عاملا من عوامل صنع التاريخ . حيث تصبح للأشخاص أدوارهم في هذا الصنع، تبعا لذلك يصبحون اشخاصا تاريخيين بسبب انهم غيروا من مسار التاريخ في فاصلة معينة منه ، فاوجدوا له منعطفا تناسب أهميته مع مدى أهمية الحدث أو الدور الذي أدوه.

وعلى كل حال ، كانت بغداد مسرحا لقلاقل وإضطرابات دموية حينما أغار عليها السلاجقة بقيادة ملكهم ألأول طغرل بيك ، وفي هذا الوقت كان العالم الجليل والفقيه الكبير الشيخ أبو جعفر محمد الطوسي يعقد حلقات درسه الزاخرة بالعلوم العقلية والنقلية في منطقة الكرخ على الجانب ألآخر لضفاف نهر دجلة المار من وسط مدينة يغداد ، وكان يجهد في تربية جيل متميز من الفقهاء الربانيين، وكان هو قد تتلمذ من قبل لدى زعيم المذهب الشيعي يومذاك شيخ ألأمة وعلم الشيعة أبي عبدالله محمد بن النعمان الشهير بالشيخ المفيد البغدادي، فكن يلازمه الظل، وعكف على ألإستفادة منه وادرك شيخه (أستاذ ألشيخ المفيد) الحسين بن عبدالله إبن الغضائري المتوفى سنة 411 هـ ، وشارك النجاشي في جملة من مشايخه وبقي على إتصال بشيخه حتى إختار ألله أستاذه لدار بقاءه في سنة 413 هـ ، فانتقلت زعامة الدين ورئاسة المذهب إلى تلميذه المبرز علم الهدى السيد المرتضى ، فانحاز إليه الشيخ الطوسي ولازم الحضور تحت منبره ، وعنى به السيد المرتضى وبالغ في توجيهه وتلقينه ، وبقي ملازما له طيلة ثلاث وعشرين سنة حتى توفى السيد المعظم علم الهدى سنة 436 هـ ، فإستقل الشيخ الطوسي بألإمامة وتولى الرئاسة .

وقد نال الشيخ الطوسي مرتبة أعلم علماء دهره، وحاز على كرسي الكلام أو بالمصطلح الحديث «منصة المحاضرة» ، والذي كان يجوز به من أثبت جدارته وأهليته لمرتبة أعلم العلماء على ألإطلاق ، وكانت له في ذات الوقت مكتبة عامرة تحتوي على أكثر من عشرة آلاف كتاب قيم جدا، والتي كانت قد أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة البويهي، كما كانت تحت تصرفه مكتبة أستاذه السيد المرتضى التي كانت تضم ثمانين الف كتاب.

ومن هنا ، توفرت له مستلزمات زعيم ديني ، وعالم كبير متتبع يشد إنتباه الجميع لشخصيته التاريخية ، وينال محبة وتقدير جموع المسلمين ، ويحظى بطاعتهم وإنقيادهم له ، وكان لابد والحالة هذه أن لا يسلم من بطش وتنكيل السلاجقة ، الذين إتخذوا من بغداد مسرحا سهلا لصولاتهم وجولاتهم، ويقتلون ويعتقلون ، يهدمون ويحرقون، وقد أمر ملكهم طغرل بيك بهدم بيت الشيخ الطوسي وإحراق كرسي كلامه ومكتبته العامرة ، ولكن قبل أن يصبح الشيخ نفسه عرضة لتنكيل هؤلاء الغزاة ، قرر الهجرة من بغداد واللجوء إلى أرض النجف، وإلتماس الحماية والوقاية من ألإمام علي عليه السلام حيث مرقده الطاهر الشريف يقع في زاوية من هذه الأرض ، وكان لهذا القرار تأثيره المباشر في تغيير مجرى التاريخ ، إذ تحول ألإهتمام ألأول وألأكبر من كربلاء إلى النجف.