معجم أنصار الحسين  (الهاشميون)(الجزء الثالث)

اسم الکتاب : معجم أنصار الحسين (الهاشميون)(الجزء الثالث)

المؤلف : محمد صادق محمد (الكرباسي)
المطبعة : المركز الحسيني للدراسات لندن – المملكة المتحدة

 

 

 

 

الهاشميات بتأليب الناس على بني أمية مما اضطروا إلى نفيهم إلى مصر والشام، ومات عدد من نساء آل أبي طالب «عليه السلام» في عام 62هـ كمداً وحسرة وحزناً على قتلاهن كالسيدات زينب وأم كلثوم وأم البنين وليلى وغيرهن انقلبت المدينة على بكرة أبيها، وماجت وهاجت واضطربت، ولم يعرف أهلها إلا اللعن على آل أمية وأتباعهم، فما أطل فجر جديد من عام 63هـ إلا وانقلبت الآية على بني أمية وأعوانهم وولاتهم وبدأ الناس يطاردونهم فهرب منهم من هرب واختفى منهم من اختفى وحوصر منهم من حوصر، وكتب الأمويون بالأمر إلى يزيد، فامر بجيش عرمرم بقيادة المسرف المجرم(1) مسلمة بن عقبة المري ليستحلها فكان هذا الوضع المأساوي يطرق مسامع الباقر «عليه السلام» وتراقبه عيناه. وتسجله ذاكرته المليئة بالأحداث الدموية التي عايشها أيام محنة العراق منذ أن وطأت أقدامهم كربلاء وحتى وصولهم المدينة، وهو آنذاك لم يتجاوز السابعة من عمره(2).

      8- عام 64هـ: بعد أن قتل الإمام الحسين بن علي «عليه السلام» على يد الأمويين عام 61 امتعض أهل المدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومهبط الوحي الإلهي، فنقضوا بيعتهم من يزيد بن معاوية الأموي واعتبروه خارجاً عن ملتهم منتهكاً لحرمات الإسلام والمسلمين، وقد قال أحد زعماء الثائرين ألا وهو عبد الله ابن حنظلة الأنصاري: «والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء.. إن رجلاً ينكح الأمهات والبنات ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً»(3) وقد أجمع أهل المدينة على خلع يزيد وطرد واليه ومطاردة الأمويين، وقد غضب يزيد من ذلك فما كان منه إلا أن أمر مسلم بن عقبة المري (المسرف)(4) على فيلق من أهل الشام وأوصاه باحتلال المدينة وإباحتها لعسكره مدة ثلاثة أيام يفعلون ما يشاؤون في الأموال والأنفس

___________
(1) وقد ذكر ذلك المسعودي في مروج الذهب بأن مسلمة بن عقبة الذي لقب بالمسرف، وبالمجرم بعد وقعة الحرة فراجع.

(2) راجع تاريخ الطبري: 3/352.

(3) راجع حياة الإمام محمد الباقر للقرشي: 171 عن الطبقات الكبرى لابن سعد.

(4) حيث لقب بذلك بعدما أسرف في سفك الأرواح وهتك الأعراض ونهب الأموال.

(147)

 

والأعراض فتعهد مسلمة له ذلك وقال: «والله لأدعن المدينة أسفلها أعلاها» وقد وفى بوعده وزيادة حيث أباح المدينة للعسكر فقتلوا الأبرياء والأطفال والعجزة واغتصبوا البنات والنساء، فافتضت ألف بكر، وولد أكثر من ألف ولد بالسفاح، وقتل أكثر من ثمانين من الصحابة، وبلغ عدد القتلى من الرجال 1700 نفر من المهاجرين والأنصار، وعشرة آلاف من سائر الناس ما عدا الأطفال والنساء، ولم يكتفوا بذلك بل أخذوا البيعة منهم على أنهم عبيد ليزيد ولأسرته لا يملكون من أمرهم شيئاً(1).

      ويذكر: «أن الإمام السجاد «عليه السلام» قد التجأ إلى قبر جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما أرسل الإمام الباقر «عليه السلام» وسائر أهله إلى ينبع، فألقي القبض عليه وهو في جوار قبر جده، ولما جيء به إلى السفاح عقبة ارتعدت فرائضه من هيبة الإمام، وقام له تكريماً وقال: سلني حوائجك، فأخذ الإمام يستشفع لمن حكم عليهم بالموت فاستجاب لطلب الإمام، ولما سئل عقبة عن سبب تكريمه للإمام، قال: ما كان ذلك لرأي مني، ولكن قد ملئ قلبي منه رعباً»(2) وكان قد استثى من البيعة الإمام السجاد «عليه السلام»(3).

      وقد تركت هذه المعركة في نفس الإمام الباقر اللوعة والأسى وهو لا زال في العقد الأول من حياته(4).

      9- عام 65هـ: بعدما توفي يزيد بن معاوية عام 64هـ واستقال ابنه معاوية الثاني ابن يزيد بن معاوية من الحكم، وتضعضت سيطرة الأمويين على البلاد بسبب انتهاكات السلطة وكان من أهمها مقتل ريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  الإمام الحسين «عليه السلام» وثلة من أهل بيته وخيار أصحابه، تجمع جمع من الموالين لأهل البيت من أهل الكوفة وأخذوا يتلاومون فيما بينهم على عدم نصرة ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرروا أن ينهضوا للانتقام من الأمويين قتلة

___________
(1) في ظلال التشيع: 367 عن الإمامة والسياسة.

(2) حياة الإمام محمد الباقر للقرشي: 1/173 عن مروج الذهب، والحسين حركة تلد أخرى من هذه الموسوعة.

(3) راجع حياة الإمام زين العابدين للقرشي: 2/383.

(4) راجع حياة الإمام محمد الباقر للقرشي: 2/173.

(148)

 

سبط الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته، فصمموا على قتالهم لعل الله يغفر لهم زلتهم فتزعم سليمان بن صرد الخزاعي(1) مع جماعة من أشراف الكوفة وعقدوا تجمعاً كبيراً في أول شهر ربيع الثاني من عام 65هـ وتعاهدوا فيما بينهم على الخروج على آل أية، ولما عرف الأمويين ذلك جهزوا جيشاً كبيراً مهمته القضاء على هذه الانتفاضة وتحرك الجيشان هذا من الكوفة وذاك من دمشق فالتقيا في منطقة عين الوردة(2) في العراق، وبدأ القتال في 22/5/65هـ وبعد ثلاثة أيام من التحام الفريقين كادت المعركة تنتهي لصالح التوابين القادمين من الكوفة لولا أن الشاميين استخدموا النبال بكثرة حين شاهدوا النكسة فعادت الكفة إلى جانبهم، وتمكنوا من قلب الموازين فأصيب الكثير من الكوفيين حتى بان الانكسار فيهم، وتراجعوا بعد أن قتل منهم جمع كبير(3).

      ورغم أن الإمامين السجاد «عليه السلام» البالغ من العمر 32 عاماً، ونجله الإمام الباقر «عليه السلام» البالغ من العمر تسع سنوات لم يكن لهما دور ظاهر في هذه الانتفاضة إلا أنهما كانا يراقبان أحداثهما عن كثب لأنها قامت للأخذ بثأر سيدهم الإمام الحسين «عليه السلام» من أعدائهم التقليديين والمباشرين والمغتصبين لحقوقهم المضطهدين لشيعتهم، وقد كان المنتفضون من أتباعهم، وربما نسب العدو الانتفاضة إليهم، ولكن بعد الإمامين عن عاصمة ملك الأمويين، واضطراب الأمر في كل من الحجاز والكوفة بل وغيرهما من الأقطار الإسلامية خفف بعض الشيء من ملاحقة الهاشميين في ديارهم، ولا شك فإن هذه الأحداث تركت انطباعاتها في ذاكرة الإمام الباقر «عليه السلام» الذي كان على مقربة من أبيه الإمام زين العابدين «عليه السلام» والذي كان تعنيه هذه الأحداث من قريب أو بعيد.

_________
(1) سليمان بن صرد الخزاعي: هو حفيد الجون بن عبد العزى بن منقذ السلولي (28ق.هـ- 65هـ) صحابي جليل من الزعماء القادة، ومن أصحاب الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» ومرافقيه، شهد معه حروبه، سكن الكوفة، وكاتب الإمام الحسين «عليه السلام»، ومنع من الالتحاق بالإمام الحسين «عليه السلام».

(2) قريبة من هيت.

(3) راجع في ظلال التشيع: 348، أصدق الأخبار: 26، الحسين حركة تلد أخرى من هذه الموسوعة.

(149)

 

      10- عام 66هـ: كان المختار الثقفي(1) من أتباع مدرسة أهل البيت «عليهم السلام» الذين اضطهدوا على يد ولاة الأمويين، وكان من الأعيان الذين له مكانة بين بني قومه، فلما وجد فرصة مؤاتية للثورة على النظام الدموي التعسفي والأموي الظالم قرر مقاومة هذا النظام ومعارضته، وقد التقى بزعماء الشيعة في كل من الحجاز والعراق، وجلس إلى عدد من زعماء الهاشميين، ولما مهد وخلط لثورته، أعلنها من الكوفة في عام 66هـ وذلك انتصاراً للإمام الحسين «عليه السلام» وأهل بيته الأطهار وأنصاره الكرام ممن قتلوا على أرض الطف في مأساة عام 61هـ، ولم يكن يطمح بالحكم كما أراد البعض إثارته، ولكن كان هاجسه الأول والأخير الأخذ بثأر المظلومين من الظالمين، وكان ينوي تسليم زمام الأمور إلى أهلها وأصهابها الشرعيين. وقد بارك أهل البيت «عليهم السلام» جميعهم بثورته إلا أن بعضاً من أهل البيت لم يعلن عن ذلك لعلمه بأنه سيغدر وستنقلب الأمور عليه، وذلك حفاظاً على كيان المجتمع الشيعي، وكان الإمام زين العابدين «عليه السلام» في مقدمتهم ولكنه كان يدعمه من الخفاء، ويدعو له، وقد بعث المختار إليه بعشرين ألف دينار فقبلها الإمام زين العابدين «عليه السلام» وبنى بها دور بني عقيل التي هدمها بنو أمية(2)، كما أن الإمام محمد الباقر «عليه السلام» لما التقى بإبنه الحكم ابن المختار ترحم عليه قائلاً: «رحم الله أباك ترك لنا حقاً عند أحد»، فكان المختار يتتبع الذين شاركوا في مقتل الإمام الحسين، والكوكبة الطاهرة التي استشهدوا على أرض الكرامة كربلاء، يقول بعض المؤرخين إن عبد الملك بن الحجاج التغلبي هرب من العراق والتجأ إلى عبد الملك بن مروان قائلاً له: إني هربت إليك من العراق.

      فصاح به عبد الملك: كذبت ليس لنا هربت، ولكن هربت من دم الحسين وخفت على دمك فلجأت إلينا(3).

_____________
(1) المختار الثقفي: هو ابن أبي عبيدة بن مسعود (1- 67هـ) من أهل الطائف سكن المدينة مع أبيه، ثم هاجر إلى الكوفة وبقي فيها، وكان منقطعاً إلى الهاشميين وأهل البيت «عليه السلام»، قاد حركة الثأر ضد الأمويين انتقاماً لمقتل أبي عبد الله الحسين «عليه السلام»، حكم على مجمل البلاد في العراق منذ عام 66هـ وحتى وفاته.

(2) حياة الإمام محمد الباقر للقرشي: 2/177، عن سفينة البحار.

(3) حياة الإمام محمد الباقر للقرشي: 2/176 عن عيون الأخبار لابن قتيبة.

 

(150)

 

      كما وهرب بعضهم إلى آل الزبير وانضم إلى جيشه وقاتل معه خوفاً من المختار، حيث كان يتتبعهم، ولم يبق من قتلة الحسين على قيد الحياة إلا القليل ممن فر من العراق، وقتل المختار في النهاية عام 67هـ على يد مصعب بن الزبير(1) وقد عايش الإمام الباقر «عليه السلام» كل أخباره وتابعها وسمع انتصاراته إحداها تلو الأخرى إلى أن غدروا به.

      11- عام 67هـ(2): قبل سنة من هذا التاريخ دخلت جارية مهداة من قبل المختار إلى بيت الإمام السجاد «عليه السلام» كان في موسم الحج، وكان الإمام قد رأى رؤيا توسم منها الخير، وغبرت بوصول هذه الجارية، وكان المختار قد اشتراها بمائة ألف درهم وبعث بها إلى الإمام «عليه السلام» كدليل على ولائه له، وكانت تسمى ريحانة، وربما سماها الإمام بذلك، وقامت تخذدم في بيت الإمام «عليه السلام» وربما تولت خدمة نجله أبي جعفر الباقر «عليه السلام» والذي كان له آنذاك عشرة أعوام، وتمضي الأيام ليجد الباقر «عليه السلام» أنها أنجبت أخاً له سماه أبوه عمر ولقبه الناس بالأشرف، فسر الباقر بأخيه الأشرف وظل قريباً منه فأولاه اهتمامه، حتى أًصبح ساعده الأيمن، ولم يأل جهداً في تعليمه وتربيته حتى أصبح من كبار الفقهاء ومن خيرة أصحابه، وقد تولى صدقات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك صدقات أمير المؤمنين «عليه السلام» وقام بها أحسن قيام، فكان مقرباً من أخيه الباقر «عليه السلام» حتى قال عنه حينما سئل عنه: «وأما عمر فبصري الذي أبصر به»(3)، وظل ملازماً لأخيه إلى آخر حياته. وقد توفاه الله عام 132هـ حيث عاش خمسة وستين عاماً(4).

_____________
(1) راجع سفينة البحار: 2/7535، الحسين حركة تلد أخرى من هذه الموسوعة.

(2) إنما وقع اختيارنا لهذا العام لأن عمدة الطالب: 305 ذكر بأن عمر الأشرف أسن من زيد، وبما أن زيداً وعمر شقيقان، وأن أمهما هي الجارية التي أهداها المختار الثقفي فلا مجال إلا القول بأن الإهداء كان قبل مقتله بسنة حسب المعطيات اليت لدينا ولقاء الراوي للإمام السجاد «عليه السلام» أيام موسم الحج ووصل الجارية ثم في العام القابل رؤية للإمام السجاد «عليه السلام» وتحديد الروايات الأخرى بتاريخ ولادة زيد، وما ورد في مراقد المعارف: 2/114 أن عمر الأشرف أسن من أخيه زيد بكثر، لا دليل عليه، وما في المصادر لم يرد كلمة «بكثير».

(3) سفينة البحار: 6/498.

(4) حياة الإمام محمد الباقر للقرشي: 1/88.

(151)

12-  عام 68هـ(1): كان الباقر غلاماً يجول بين يدي والدع ويراقب كل حركاته وسكناته، وإذا به يشاهد أباه صباح يوم يتهيأ على غير عادته لاستقبال وليد جديد له من حليلته ريحانة التي أهداها له المختار الثقفي حيث وجده يتردد إلى دارها والفرحة بادية عليه، عرف الباقر بأنها على وشك أن تلد وليداً له شان عظيم، وهو بدوره كان فرحاً مسروراً بقدوم ذلك الذي طالما سمع أباه يتحدث عنه، إنه زيد الموعود، إنه زيد الموعود، إنه زيد الشهيد، وبينما هو يستعرض كلمات أبيه في حقه إذ بشر الإمام زين العابدين «عليه السلام» بولادته فأسرع إلى كتاب الله وأخذ يتفاءل به فجاءت الآية الكريمة: (إن الله اشتؤى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)(2) إنه لم يستقر فعاد ثانية إلى القرآن الكريم فخرجت الآية الشريفة: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)(3)، ولكنه لا زال يبحث عن نهاية المطاف فأخذ المصحف المجيد للمرة الثالثة وفتحه فإذا به الآية المباركة: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين)(4).

      وبهر الإمام وراح يقول: «غريب عن هذا المولود وانه لمن الشهداء»(5).

      ومن هنا تعلق الإمام الباقر «عليه السلام» بأخيه زيد تعلقاً شديداً حيث شاهد بأن عينه اهتمام أبيه به فحرص على رعايته فكان له أباً معلماً وأخاً رفيقاً،

____________

(1) في تاريخ ولادة زيد خلاف، ولكن حسب ما لدينا من المعطيات أن المختار أهدى أمه ريحانة إلى أبيه زين العابدين «عليه السلام» ولما كان المختار قد قتل في 14 رمضان 67هـ، وكان الرواي للرؤيا ووصول الجارية إلى بيت الإمام زين العابدين «عليه السلام» في موسم الحج، ويذكر بأنه عندما جاء في العام القابل للحج وزار الإمام زين العابدين «عليه السلام» كعادته وجد عنده زيد وله من العمر ثلاثة أشهر فهذا يعني أن زيداً ولد في رمضان عام 68هـ أي بعد سنتين من مقتل المختار- راجع زيد الشهيد للمقرم: 5- مع ملاحظة أن عمر الأشرف أسن من زيد كما في عمدة الطالب: 305- وهو شقيقه فتكون ولادة عمر سنة 67هـ وزيد 68هـ.

(2) سورة التوبة، الآية: 111.

(3) سورة آل عمران، الآية: 169.

(4) سورة النساء، الآية: 95.

(5) راجع حياة الإمام محمد الباقر: 1/62 عن الروض النضير: 1/53.

(152)

فاشتدت علاقة زيد بأخيه الباقر «عليه السلام» فلازمه ملازمة الظل وكان لا يتخطى على نهجه ولا يتجاوز تعليماته قيد أنملة، ولما وعى زيد قال له الباقر «عليه السلام»: لقد أنجبت أم ولدتك يا زيد، اللهم اشدد أزري بزيد(1)، ولما سئل الباقر «عليه السلام» عن إخوته أيهم أحب إليه قال: «وأما زيد فلساني الذي أنطلق به»(2)، وقام كل من الأخوين بدروه في الحياة فخرج زيد على الطاغية وقتل، والتزم الإمام الباقر «عليه السلام» نهج توعية الأمة فاغيل بالسم، فمضيا شهيدين كريمين في سبيل الله عز وجل.

      ولما سئل الباقر عن أخيه زيد فأجابه: «سألتني عن رجل ملىء إيماناً وعلماً من أطراف شعره إلى قدمه»(3).

      13- عام 69هـ(4): وجد الإمام الباقر نفسه بين عدد من الإخوة وقد من الله عليه في أعوام متتالية بعدد من الإخوة الذين أصبحوا فيما بعد من أجلة أصحابه وخيرة معاونيه، ولكن هذا المولود لم يكن محظوظاً كشقيقيه زيد وعمر حيث لم يصاحب أخاه الباقر «عليه السلام» أكثر من ثلاثين سنة منذ ولادته وحتى وفاته عام 99هـ، ومع هذا فقد أدبه الباقر «عليه السلام» في ظل رعاية أبيه السجاد «عليه السلام» خير تأديب، فكان صاحب فضل وفضيلة، ولم تكن وفاته بالسهلة على أخيه الباقر «عليه السلام» حيث كان أول عهده بموت أخ له حيث توفي بقية أخوانه بعده، وكانت وفاته في بينبع ودفن فيها(5).

      14- عام 70هـ: ومن المآسي التي عصرت قلب الإمام زين العابدين «عليه السلام» ونجله الإمام أبي جعفر الباقر «عليه السلام»، أن في هذه السنة ثارت الروم على بلاد الإسلام، واستجاشوا(6) على من بالشام من المسلمين،

______________
(1) حياة الإمام محمد الباقر: 1/67 عن عمدة الطالب: 2/127.

(2) حياة الإمام محمد الباقر: 1/61 عن سفينة البحار: 6/498.

(3) حياة الإمام محمد الباقر: 1/64 عن مقدمة مسند الإمام زيد: 8.

(4) إنما اختير هذا العام لأن صاحب المجدي: 148 وغيره ذكر بأن زيداً وعمر الأشرف وعلياً وخديجة أشقاء وأمهم هي الجارية التي أهداها المختار الثقفي، فولادة علي بن علي بن الحسين لا بد أن تكون في حدود هذا العام.

(5) راجع حياة الإمام محمد الباقر للقرشي: 1/90.

(6) استجاش الجيش: جمعه.

(153)

فصالح عبد الملك بن مروان الأموي ملك الروم على أن يؤدي له كل جمعة ألف دينار(1)، وهي أول جزية فرضت على بلاد المسلمين من قبل الأجانب، وعرف عبد الملك بعدم الحنكة والحكمة فكان متهوراً جباراً على أمته وشعبه، ضعيفاً متهاوناً مع الآخرين، ولا حنكة الإمام أبي جعفر «عليه السلام» لكان ملك الروم قد استدرجته في مسألة العملة التي أنقذه الإمام منها في عام 76هـ، فإن موبقات عبد الملك لم تكن واحدة(2)، فمنها أنه نقل الحج إلى بيت المقدس أيام كان ابن الزبير مستولياً على مكة مخافة أن يلتقي الحجاج به فيفسدهم عليه(3) واختياره الحجاج بن يوسف الثقفي لمنصب الوالي، وإعطاؤه الضوء الأخضر للقمع والإبادة، فكان الحجاج سفاكاً سفاحاً، مجرماً ظالماً لا يحب الخير ولا يعرفه، ولا يوصف إلا بالصفات الكريهة والشريرة، فأنزل نقمته على أهل الكوفة وبالأخص الموالين لأهل البيت «عليه السلام»، ومن موبقات عبد الملك والحجاج رمي الكعبة بالمنجنيق لمدة سبعة أشهر تقريباً(4).

      15- عام 71هـ(5): كان عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي جالساً في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، فأتاه رجل وسأله عن مسألة، فلم يدر بما يجيبه، فقال للرجل: إذهب إلى ذلك الغلام- وأشار إلى محمد بن علي الباقر- فسله، وأعلمني بما يجيبك.

      فأتاه الرجل فسأله، فأجابه، فرجع إلى ابن عمر فأخبره.

      فقال ابن عمر: إنهم أهل بيت مفهموم(6).

______________
(1) راجع حياة الطبري: 3/516.

(2) حياة الإمام محمد الباقر للقرشي: 2/30 عن تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر.

(3) حياة الإمام محمد الباقر للقرشي: 2/40 عن تاريخ اليعقوبي.

(4) حياة الإمام محمد الباقر للقرشي: 2/27- 29 عن تاريخ اليعقوبي ومروج الذهب والطبقات الكبرى.

(5) إنما وضعناه هنا لأن عبد الله بن عمر توفي عام 73هـ، مضافاً إلى أن ابن عمر يصف الباقر «عليه السلام» بالغلام.

(6) بحار الأنوار: 46/289 عن مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب.

(154)

      16- عام 72هـ(1): كان النزاع محتدماً بين عبد الله بن الزبير والأمويين، والناس في حيرة من أمرهم أيبايعونه أم يبايعون ملوك بني أمية، وافتتن الناس بانتفاضته، فخرج أبو جعفر الباقر «عليه السلام» يوماً من المدينة فتصحر واتكأ على جدارنها، مفكراً، إذ أقبل إلى النبي الخضر «عليه السلام» فقال: يا أبا جعفر علام حزنك؟ أعلى الدنيا؟ فرزق الله حاضر يشترك فيه البر والفاجر، أم على الآخرة؟ فوعد صادق، يحكم فيه ملك قادر.

      قال أبو جعفر «عليه السلام»: ما على أحزن، أما حزني على قتنة ابن الزبير.

      قال النبي الخضر: فهل رأيت أحداً حاف الله فلم ينجه؟ أم هل رأيت أحداً يتوكل على الله فلم يكفه؟ وهل رأيت أحداً استخار الله فلم يخر له؟

      فلما اختفى الخضر، قال الباقر «عليه السلام» هذا هو الخضر(2).

      فكان الباقر «عليه السلام» منذ نعومة أظفاره شغله الشاغل هداية الناس وسعادتهم فلا يروق له موت صاحبه وهو ناقض الإيمان فلذلك سيأتي أنه خف إلى أحدهم محاولاً أن يصل إليه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ليلقنه ما يكون فيه سعادة الآخرة(3).

      17- عام 73هـ: طمع عبد الله بن الزبير بالخلافة منذ أن هجر المدينة إلى مكة عام 60هـ ولم يبايع يزيد بن معاوية، ولما وصلها الحسين «عليه السلام» حاول تشجيعه بالرحيل إلى العراق ليخلو له الجو، ولما قتل الحسين «عليه السلام» عام 61هـ، فرح في قرارة نفسه إلا أنه أعلن المطالبة بثأره وأخذ البيعة من جماعات المسلمين، وما استقر له أمر الحجاز وقسم من العراق وولي أمر المسلمين، ظهرت نواياه، وذلك عندما يابعه أهل مكة باستثناء العلويين وفي مقدمتهم محمد ابن الحنفية، فكان ينال من علي «عليه السلام»

__________
(1) إنما اخترناه هذا العام لأن عبد الله بن الزبير توفي عام 73هـ، وكانت انتفاضته في هذا العام قد وصلت أوجها فافتتن الناس وخرقت وحدة الأمة الإسلامية.

(2) بحار الأنوار: 46/361.

(3) راجع عام 104هـ من هذه الترجمة.

(155)

من على المنابر، وترك الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبه، وصرح لابن عباس: إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة، ولما خضعت له بعض الأقاليم الأخرى غير الحجاز والعراق وأرسل الولاة واستحكم نوعاً ما حكمه حين توحه إليه الحصين بن نمير السكوني خلفاً لمسلمة بن عقبة المري بعد الانتهاء من أمر المدينة المنورة، وكان الحصين قد حاصر ابن الزبير وهو في الكعبة ورمى الكعبة بالمنجنيق فأحرقها، ولكن وفاة يزيد فيتلك الفترة جعلته يهادن ابن الزبير فرجع إلى الشام وبذلك استقوى ابن الزبير وأخذ يضطهد العلويين في مكة فتوعدهم بالحبس والحرق، وبالفعل فقد حسبهم في زمزم وكاد أن يحرقهم لولا قوات وردت من قبل المختار فأنقذتهم.

      وظلت الحالة هكذا، فكان العلوي مضطهداً فترة حكومة ابن الزبير ففي العراق يلاحقهم أخوه مصعب قائد جنده، وفي مكة يلاحقهم جنوده، إلى أن تولى الأمر عبد الملك بن مروان فعقد لواء للحجاج بن يوسف الثقفي وأمره على كتيبة من الجيشض وتوجها إلى مكة فحاصروا ابن الزبير وأخذ يضربهم بالمنجنيق وفيه النار والنفط وقطع عنهم الماء والأكل حتى تفرق عنه الناس، وكان الحجاج يعطي الأمان لكل من تفرق عنه، فلم يبق مع ابن الزبير إلا ثلة قليلة فاستمر بالحصار والضرب إلى أن قتل ابن الزبير وتغلب الحجاج فأخذ البيعة لعبد الملك بن مروان(1).

      وفي ظل هذه الظروف والفتن نشأ الإمام الباقر «عليه السلام» وهو على مقربة منها حيث كان في المدينة، وربما اعتمر أو حج مع أبيه خلال تلك الفترة العصيبة، وسمع الكثير من مجريات الأحداث فعاش الأمرين اضطهاد الأمويين لهم واضطهاد الزبيريين لآل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

      18- عام 74هـ: الإمام أبو جعفر الباقر «عليه السلام» كان يعيش في ظل والده الإمام زين العابدين «عليه السلام» والذي كان مكتوف اليدين من قبل طاغية

__________
(1) راجع تاريخ الأمم والملوك: 3/538، ومروج الذهب: 3/80 وحياة الإمام زين العابدين للقرشي: 2/404 وغيرها.

(156)

زمانه، فكان يقاوم بأسلوبه الخاص، ويوعي الناس بطريقته الخاصة، وكان منها الدعاء ليس فقط كحل إلهي بل كحل توعوي بالإضافة إلى الحل السياسي إذ كان يعبر عن ذلك بالاستنكار، حيث وجد نفسه في هذا العام أمام مأساة كبرى ألا وان صناع القرار في الدولة الأموية قرروا إذلال الناس أكثر من ذي قبل وعمدوا إلى العاصمة الإسلام المدينة المنورة مهبط الوحي وروضة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومسكن الأصحاب والعلماء، ومهوى المسلمين ليذلوا أهلها فقام الحجاج الثقفي والي عبد الملك الأموي باستخفاف واستذلال أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فختم في أعناقهم، وقد ختم على يد جابر بن عبد الله الأنصاري(1)، وختم على عنق أنس بن مالك الخزرجي(2)، بينما حتم في عنق سهل بن سعد الساعدي(3) بالرصاص يزيد بذلك إذلالهم(4) فكانت هذه المشاهدات التي تجري أمام عين الإمامين «عليه السلام» وتترك في نفوسهم الحسرة وأشد الألم، وليس بوسعهم أن يفعلوا شيئاً.

      19- عام 75هـ: لقد كان أهل المدينة قد ذاقوا مرارة ولاية الحجاج ابن يوسف الثقفي عليهم عام 74هـ ومن بينهم الإمامان زين العابدين والباقر «عليه السلام» فلما ولي الحجاج الكوفة في رمضان عام 75هـ علم أهل المدينة بأن مأساة أهل العراق بدأت وبالفعل فما إن حط قدمه أرض الكوفة ملثماً إلا وبدأت شرارة معاناة أهل الكوفة الذين جلهم من شيعة أهل البيت «عليه السلام»، وما انتهت معاناتهم ومأساتهم إلا بانتهاء الحجاج الذي لم

__________

(1) جابر بن عبد الله الأنصار: هو حفيد عمرو بن حرام الخزرجي السلمي (16ق.هـ- 78هـ) من أعلام الصحابة، وقد غزا تسع عشرة غزوة، وكانت له حلقة درس في المسجد يحضر فيها طلاب العلم.

(2) أنس بن مالك الخزرجي: هو حفيد النضر بن ضمضم من بني النجار الأنصاري (10ق.هـ- 93هـ) ولد في المدينة وتوفي في البصرة وكان آخر من مات من الصحابة فيها، خدم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

(3) سهل بن سعد الساعدي: كان من الخزرج الذين آمنوا بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو من الأنصار (4ق.هـ- 91هـ) كان من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» وهو من شهد لعلي «عليه السلام» بحديث الغدير، وهو الذي التقى الإمام السجاد «عليه السلام» في دمشق أيام الأسر.

(4) تاريخ الطبري: 3/543.

(157)

يتخل من إمارة العراق طيلة عشرين سنة إلى أن هلك في واسط عام 95هـ(1)، وقد أطلق عبد الملك له أمر تلك البلاد فكان مبسوط اليدين في التنكيل والتعذيب والاضطهاد، وقد بلغت مآسيه أكثر من أن تحصى، وقد أخرج الترمذي(2) عن طريق هشام بن حسان(3) ما نصه: «أحصينا من قتله الحجاج صبراً فبلغ مائة ألف وعشرين ألفاً»، وبلغ من استهجانه بالشريعة وانتهاكه للحرمات أن كفره جماعة من الفقهاء منهم: سعيد بن جبير(4)، والنخعي(5)، ومجاهد(6)، وعاصم بن أبي النجود(7)، والشعبي(8)

__________
(1) راجع تاريخ الطبري: 3/549، الاعلام للزركلي: 2/168.

(2) الترمذي: هو محمد بن عيسى بن سورة بن موسى البوغي السلمي (209- 279هـ) ولد في بوغ، وتوفي في ترمز (إيران) رحل إلى خراسان والعراق والحجاز، محدث مشهور، من آثاره: الجامع الصحيح والمعروف بسنن الترمذي.

(3) هشام بن حسان: هو المكنى بأبي بعد الله والملقب بالقردوس المتوفى سنة 147هـ، محدث من أهل البصرة، كان يعتمد في حفظ الحديث على الكتابة، وقد كثرت رواياته عن الحسن البصري.

(4) سعد بن جبير: الأسدي بالولاء، الكوفي بالولادة، الحبشي المتحد، (45- 95هـ) ولما خرج عبد الرحمان بن الأشعث على عبد الملك بن مروان الأموي، كان سعيد مع ابن الشعث فلما قتل ابن الأشعث ذهب سعيد إلى مكة، فقبض عليه خال القسري- والي مكة- وأرسله الحجاج فقتله في واسط.

(5) النخعي: هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود المذحجي (46- 96هـ) كان من أئمة الفقهاء وله مذهب في الفقه، وحافظ محدث، من أهل الكوفة، ويقال عنه فقيه العراق، كان مختفياً من بطش الحجاج.

(6) مجاهد: هو ابن جبر المكي، مولى بني مخزوم (21- 104هـ) تابعي مفسر من أهل مكة، رحل إلى حضرموت وبابل، واستقر في الكوفة واختص بتفسير القرآن وبعض علومه.

(7) عاصم: هو ابن بهدلة الكوفي، وقد عرف أبوه بكنيته أبي النجود، قيل إن بهدلة اسم أمه، وأما أبوه فاسمه عبيد، كان مولى بني أسد، توفي عام 127هـ، وهو أحد القراء السبعة، من الكوفة، وثم وفاته فيها.

(8) الشعبي: هو عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار الحميري (19- 103هـ) ولد وتوفي في الكوفة، كما أن نشأته كانت فيها، نادم عبد الملك بن مروان الأموي، وقد استخدمه رسولاً إلى ملك الروم.

(158)

وغيرهم، وقال عنه عمر بن عبد العزيز الأموي(1): لو جاءت كل أمة بخبثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم(2).

      وقد نكل الطاغية الفاجر بشيعة آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فأذاع فيهم القتل وأشاع في بيوتهم الثكل والحزن والحداد، وكان قد كتب إليه عبد الملك: جنبني دماء بني عبد المطلب فليس فيها شفاء من الحرب، وإني رأيت آل بني حرب قد سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين بن علي(3)، وذلك رداً على كتاب رفعه إليه يحثه على الفتك بأهل البيت «عليه السلام»، ولكنه أطلق يده في شيعتهم والفتك بأتباعهم ومواليهم حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر كان أحب إليه من أن يقال له من شيعة علي(4) وكان خير وسيلة للتقرب من الحجاج هو الانتقاص من الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام»، ويذكر أن رجلأً قال له: «أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني علياً، وإني فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج» فسره ذلك فقال له: «للطف ما توسلت به، فقد وليتك موضع كذا»(5)، وقد امتلأت سجونه من شيعة أهل البيت «عليه السلام»، ورويت سيوفه من دمائهم، ولم تشهد الكوفة أبشع مما شهدته في عهده، وكان الإمامان زين العابدين والباقر «عليه السلام» يعيشان حالة الحزن والغم على شيعتهم، ويترقبان ذلك اليوم الذي ينجلي عنهم كابوس هذا الطاغية من صدورهم، ومن هنا نجد الإمام الباقر «عليه السلام» عندما تولى أعباء الإمامة بعد أبيه طلب من شيعته العمل بالتقية وأكد عليهم ذلك، مخافة أن يبيدوا، عملاً بقوله تعالى: (أن تتقوا منهم تقاة)(6).

      20- عام 76هـ(7): كانت القراطيس للروم، وكان أكثر من في مصر

__________
(1) عمر بن عبد العزيز الأموي: ثامن ملوك الأمويين حكم بعد ابن عمه سليمان بن عبد الملك، وذلك عام 99هـ، وتوفي عام 101هـ وحكم بعده يزيد بن عبد الملك.

(2) تاريخ الكوفة للبراقي: 249.

(3) حياة الإمام محمد الباقر للقرشي: 2/27 عن العقد الفريد.

(4) حياة الإمام محمد الباقر للقرشي: 2/28 عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

(5) حياة الإمام الحسن بن علي للقرشي: 2/336.

(6) سورة آل عمران، الآية: 28.

(7) كذا ورد في النقود الإسلامية للمقريزي: 10، وتاريخ الأمم والملوك للطبري: 3/576، البداية والنهاية: 9/13 وهناك من يرى أن تغيير القراطيس كان =

(159)

 

نصرانياً على دين ملك الروم، وكانت تطرز بالرومية، وكان طرازها أباً وابناً وروحاً، فلم يزل كذلك صدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك بن مروان، فبينما هو ذات يوم إذ مر به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم بالعربية ففعل ذلك، فأنكره، وقال: ما أغلط هذا في أمر الدين والإسلام أن يكون طراز القراطيس وهي تحمل من الأواني والثياب، وهما يعملان بمصر وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد على سعته وكثرة ماله، والبلد تخرج منه هذه القراطيس تدرو في الآفاق والبلاد، وقد طرزت في سطر مثبت عليها، فأمر بالكتابة إلى عبد العزيز بن مروان وكان عامله في مصر: بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأم يأمر صناع القراطيس أن يطرزوها بصورة التوحيد «شهد الله أنه لا إله إلا هو» وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت لم ينقص ولم يزد ولم يتغير وكتب إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل.    

      فلما ثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحملت إلى بلاد الروم منها انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم، وترجم له ذلك الطراز فأنكره وغلط عليه واستشاط غيظاً، فكتب إلى عبد الملك أن عمل القراطيس في مصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته، فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك، وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق حاجة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية، وكانت عظيمة القدر.

      فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أنه لا جواب له ورد

 

________

= عام 74هـ، وفكرة صك الدراهم والنقود كانت عام 75هـ، والتنقيذ والتعامل معها كان عام 76هـ- راجع البداية والنهاية، والمحاسن والأضداد للبيهقي وغيرهما.

(160)

الهدية، فانصرف بها إلى صاحبه فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك وقال: إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها، ولم تجبني عن كتابي، فأضعفت الهدية وإني أرغب إليك إلى مثل ما رغبت فيه من رد الطراز إلى ما كان عليه أولاً، فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية، فكتب إليه ملك الروم كتاباً يقتضي أجوبة كتبه ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم؛ فإنك تعلم أنه لا نقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام فينقش عليها شتم نبيك، فإذا قرأته ارفض جبينك عرقاً، فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلى ما كان عليه، ويكون فعل ذلك هدية تودني بها ونبقى على الحال الأولى بيني وبينك.

      فلما قرأ عبد الملك الكتاب صعب عليه الأمر وغلط وضاقت به الأرض وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من شتم هذا الكافر ما يبقى غابر الدهر ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب إذا كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد  منهم رأياً يعمل به، فقال له روح بن زنباع(1): إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر، ولكنك تتعمد تركه.

      فقال: ويحك من.

________

(1) روح بن زنباع: هو حفيد روح بن سلامة الجذامي (ق11- 84هـ) يكنى بأبي زرعة، كان أميراً على فلسطين كما كان سيد اليمانية في الشام وقائدها وخطيبها وشجاعها، وكان من أهل الرأي والحكمة.

(2) في الأصل: «عليك بالباقر» ولكن الأمر لا يعقل مع وجود الإمام زين العابدين «عليه السلام» وقد ذكر القرشي في كتابه حياة الإمام محمد الباقر: 2/39 أن ابن كثير ذكر في البداية والنهاية أن عبد الملك توجه إلى الإمام زين العابدين «عليه السلام» مما يدلنا على أن الأمر كان متوجهاً إلى الإمام زين العابدين «عليه السلام» ولكن الإمام «عليه السلام» فوض الأمر إلى ابنه الإمام محمد الباقر «عليه السلام».

(161)

فقال: عليك بزين العابدين(1) من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال: صدقت ولكنه ارتج على الرأي فيه، فكتب إلى عامله في المدينة أن أشخص إلى علي بن الحسين(2) مكرماً ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه، وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته، وأرح عليه في جهازه وجهاز من يخرج معه من أصحابه، وجه إليه ابنه محمد بن عقيل فقال له: لا يعظم هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما أن الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأخرى وجود الحيلة فيه.

      قال وما هي؟ قال: تدعو في هذه الساعة بصناع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النفش عليها صورة التوحيد وذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أحدهما في وجه الدرهم والدينار، والآخر في الوجة الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدنيار ذكر البلد الذي يضرب فيه والنسة التي تضرب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عدداً من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً فتجزئها من الثلاثين، فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان فتضرب الدراهم على وزن عشرة، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل.

      وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسورية التي يقال لها اليوم البغلية، لأن رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب سكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك، وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية (نوش خور)، أي كل هنيئاً وكان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالاً، والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل، والعشرة وزن خمسة مثاقيل هي السمرية الخفاف والثقال، ونقشها نقش فارس ففعل ذلك عبد الملك، وأمره محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها،

____________
(1) في الأصل: «محمد بن علي بن الحسين».

(162)

وأن يتهدد بفتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكك الإسلامية، ففعل عبد الملك ذلك ورد رسول ملك لروم إليه بذلك يقول: إن الله عز وجل مانعك مما قد أردت أن تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا وبإبطال السكك والطروز الرومية.

      فقيل لملك الروم: افعل ما كنت تهددت به ملك العرب.

      فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام، وامتنع من الذي قال.

      وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه(1).

      21- عام 77هـ: كان مطرف بن المغيرة الثقفي(2) تقليدياً من المحسوبين على بني أمية لمواقف أبيه المغيرة بن شعبة، ولكنه مع ذلك انحرف عنهم سبب ما أسر إليه أبوه بما جرى بينه وبين معاوية بن أبي سفيان من إبراز الأخير حقده على الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال فيما قال: «وإن أخا بني هاشم- يقصد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)- يصاح به في كل يوم خمس مرات أشهد أن محمداً رسول الله، فأي عمل يبقى بعد هذا، لا أم لك، والله إلا دفنا دفنا»(3) فقد امتعض الابن من بني أمية وعرفهم على حقيقتهم، فلما ولاه الحجاج بن يوسف الثقفي على المدائن حين كان الأخير والياً على الكوفة، قام ابن المغيرة هذا يخطب في الناس، وطلب منهم أن يرفعوا إليه

________
(1) راجع حياة الحيوان للدميري: 1/90- 92 وفيه أن هذا الحديث كان قد نوقش بمحضر هارون الرشيد، والكسائي حاضر في مجسله، فأخبره الكسائي بالقصة، ولذلك في نهاية القصة يذكر بأن الدنانير والدراهم التي صنعها عبد الملك بأمر الإمام الباقر «عليه السلام» بقيت إلى عهد الرشيد.

راجع أيضاً التعليق على النقود الإسلامية للمقريزي: 68.

(2) مطرف بن المغيرة الثقفي: هو حفيد شعبة والمتوفى عام 77هـ، كان من أهل الكوفة، ولاه الحجاج المدائن الواقعة في شمال بغداد.

(3) بحار الأنوار: 33/170.

(163)

حوائجهم، فأخذت تنهال عليه الشكاوى من الجور الذي أصابهم بسبب حكم بني أمية فلم يتحمل تلك الآلآم التي عرضت عليه وأنين الناس الذين اشتكوا إليه، فلم يعبأ بما حبا ب الأمويون من المال والجاه، فدعا رجالاً من ثقاته وتواطأوا ليثوروا على الحجاج والي الكوفة وعلى خلع عبد الملك ابن مروان الأموي، فخلعوه، وخطب في الناس، وقال فيما قاله: إني أشهد الله أني قد خلعت عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف، فمن أحب منكم صحبتي، وكان على مثل رأيي فليتابعني، فإن له الأسوة وحسن الصحبة، ومن أبى فليذهب حيث شاء فإني لست أحب أن يتعبني من ليست له نية في جهاد أهل الجور.   

      وأخذ يجد ويعمل بكل ما أوتي من قوة في جمع الرجال والسلاح حتى كتب أهل أهل الري فتقدم إليه جماعة من المقاتلين، وخرج على الحجاج وكان قد استعد هو الآخر لمواجهته فوقعت بينهما معركة قتل فيها الثائر مطرف بن المغيرة.

      ومثل هذه المعركة وقعت والإمام الباقر «عليه السلام» يسمع من بعد أخبارها وهو في عنفوان شبابه ليحد أن الأمة أخذت تنبذ آل أمية وتلفظهم، لولا القوة التي وقعت في أيديهم.

      22- عام 87هـ(1): حج الوليد بن عبد الملك الأموي(2) في هذه السنة أيام أبيه عبد الملك ولما كان في المدينة خطب الناس من على منبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ حانت منه التفاتة فإذا بالحسن المثنى في بيت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودخل في نفسه شيء وصمم على هدم هذه المنازل(3)، وبالفعل تم هدمها بعدما ولي الأمر فأمر عامله عمر بن عبد العزيز بأن يهديها ويضمها إلى المسجد، وذك لأن الهاشميين لم يستقبلوه بحفاوة لدى زيارته المدينة، ولم يعتن به الإمام زين العابدين «عليه السلام» ولا نجله الباقر «عليه السلام» ما زاد

_________

(1) كذا ورد في تاريخ الطبري: 3/613 أنه حج في هذه السنة.

(2) عبد الملك الأموي: هو ابن مروان بن الحكم، خامس ملوك الأمويين، تولى الأمر بعد أبيه مروان عام 65هـ، وتولى الأمر بعد ابنه الوليد عام 86هـ، وكان لكثرة بخله لقب بـ«رشح الحجر»، وكني بأبي ذبان لبخرةٍ في فمه.

(3) وفاء الوفا: 2/513.

(164)

في امتعاضه من الهاشميين.

      23- عام 79هـ(1): وكان أبوه جعفر «عليه السلام» زاهداً عابداً طول حياته يصف لنا مولاه «أفلح» جانباً من عباداته فيقول: خرجت مع محمد بن علي حاجاً، فلما دخل المسجد نظر إلى البيت فبكى حتى علا صوته، فقلت بأبي أنت وأمي إن الناس ينظرون إليك فلو رفعت بصوتك قليلاً.

      فقال لي: «ويحك يا أفلح ولم لا أبكي(2) لعل الله تعالى أن ينظر إلي منه برحمة فأفوز بها عنده غداً».

      ثم إنه طاف بالبيت ثم جاء حتى ركع عند المقام فوفع رأسه من سجوده، فإذا موضع سجوده مبتل من كثرة دموع عينيه، وكان إذا ضحك قال: «اللهم لا تمقتني»(3).

      24- عام 80هـ(4): في مثل هذا العام زار أبو جعفر الباقر «عليه السلام» خاله القاسم بن محمد بن أبي بكر(5) خاطباً منه ابنته أم فروة بنت القاسم، فقال له القاسم: إنما كان ينبغي لك أن تذهب إلى أبيك حتى يزوجك(6)، ثم إنه زوجها له.

      25- عام 81هـ: رغم أن عبد الرحمان الكندي(7) لم يكن من سلالة استقرت على رأي واحد، حيث كان جد أبيه الأشعث الكندي من أصحاب علي «عليه السلام»، ثم انحرف عن علي «عليه السلام» وتوفي عام 40هـ، وانضم ابنه محمد

____________
(1) لا وجه لوضعه هنا إلا لأن هذه السنة إحدى موارد عبادته.

(2) وفي الفصول المهمة ومطالب السؤل: «لم لا أرفع صوتي بالبكاء».

(3) بحار الأنوار: 46/290 عن كشف الغمة: 2/319.

(4) إنما وضع في هذا التاريخ لأن أم فروة علقت بنطفة الإمام الصادق «عليه السلام» عام 82هـ.

(5) القاسم بن محمد بن أبي بكر: ابن أبي قحافة التيمي (37- 107هـ) كان أحد الفقهاء السبعة في المدينة، وكانت ولادته بها ووفاته بالقديد (الواقعة بين مكة والمدينة)، وكان من العلماء الصلحاء.

(6) بحار الأنوار: 46/366 عن قرب الإسناد: 210.

(7) هناك من ذكره عبد الرحمان بن محمد بن الأشغث الكندي، وهناك من ذكره عبد الرحمان بن قيس بن محمد بن الأشعث الكندي.

(165)