معجم أنصار الحسين  (الهاشميون)(الجزء الثالث)

اسم الکتاب : معجم أنصار الحسين (الهاشميون)(الجزء الثالث)

المؤلف : محمد صادق محمد (الكرباسي)
المطبعة : المركز الحسيني للدراسات لندن – المملكة المتحدة

 

 

 

      43- عام  99هـ: لما تولى الحكم عمر بن عبد العزيز الأموي(1) كتب في السنة ذاتها إلى واليه(2) على المدينة أبي بكر بن محمد بن حزم(3) ليرد فدك لأصحابها، وقد تباطأ في ذلك، فلما زار عمر بن عبد العزيز المدينة المنورة أمر مناديه أن ينادي من كانت له مظلمة أو ظلامة فليحضر.

      فقصده الإمام أبو جعفر «عليه السلام» فقام إليه عمر تكريماً واحتفى به.

      فقال الإمام «عليه السلام» له: «إنما الدنيا سوق من الأسواق يبتاع فيها الناس ما ينفعهم وما يضرهم، وكم قوم ابتاعوا ما ضرهم، فلم يصبحوا حتى أتاهم الموت فخرجوا من الدنيا ملومين، لما لم يأخذوا ما ينفعهم في الآخرة، فقسم ما جمعوا لمن لم يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم، فنحن والله حقيقيون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوف عليهم منها، فنكف عنها، واتق الله، واجعل في نفسط اثنتين، انظر إلى ما تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فقدمه بين يديك، وانظر إلى ما تكره معك إذا قدمت على ربك  فارمه وراءك، ولا ترغبن في سلعة بادرت على من كان قبلك، فترجو أن يجوز عنك، وافتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصف المظلوم، ورد الظالم، ثلاثة من كن فيه استكمل الإيمان بالله، من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له..» وقد وعظه الإمام بهذه الكلمات القيمة، وأوصاه بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، إلا أنه «عليه السلام» لم يذكر فيها ظلامة أهل البيت في فدك وغيرها.

      ولما سمع عمر كلام الإمام «عليه السلام» أمر بدواة وبياض، وكتب بعد البسملة: «هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب بفدك». ثم سلمها إلى الإمام الباقر «عليه السلام»(4).

______________
(1) تولى الحكم بتاريخ (10/2/99- 24/ 24/7/101هـ).

(2) راجع فدك للقزويني: 7.

(3) أبو بكر بن محمد بن حزم: هو عبد الرحمان بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي، ولي المدينة عام 96هـ وانتهت ولايته عام 99هـ حيث وليها عبد العزيز ابن أرطأة الفزاري.

(4) حياة الإمام محمد الباقر: 2/48- 50.

 (186)

 

      وكان قد رفع سب الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» من على المنابر وفي الصلوات.

      وكان قد دخل على عمر بن عبد العزيز أخوه فقال له: إن بني أمية لا ترضى منك بأن تفضل بني فاطمة عليهم.

      فقال عمر بن عبد العزيز: أفضلهم لأني سمعت- حتى لا أبالي الا أو لا أسمع- أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول: إنما فاطمة شجنة(1) مني يسرني ما أسرها، ويسوؤني ما أساءها، فأنا ابتغي سرور الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتقي مساءته(2).

      44- عام 100هـ: أرسل عمر بن عبد العزيز الأموي خاصته عون بن عبد الله(3) إلى الإمام الباقر «عليه السلام» يدعوه إلى دمشق، فاستجاب الإمام دعوته وسافر إلى دمشق، فاستقبله عمر استقبالاً رائعاً، واحتفى به، وجرت بينهما أحاديث، وبقي الإمام أياماً في ضيافته ولما أراد الإمام الانصراف إلى يثرب خف إلى توديعه فجاء إلى البلاط الاموي وعرف الحاجب بأمره فأخبر عمر بذلك، فخرج رسوله فنادى أين أبو جعفر ليدخل فأشفق الإمام فأخبر عمر بذلك، فخرج رسوله فنادى أين جعفر ليدخل فأشفق الإمام أن يدخل خشية أن لا يكون هو، فقفل الحاجب إلى عمر وأخبره بعدم حضور الإمام، فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت: أين أبو جعفر؟ فقال له: اخرج وقل أين محمد بن علي؟  ففعل ذلك، فقام الإمام، ودخل عليه وحدثه ثم قال له: إني أريد الوداع، فقال له عمر: أوصني.

      قال «عليه السلام»: «أوصيك بتقوى الله، وأن تتخذ الكبير أباً، والصغير ولداً والرجل أخاً..».

      وبهر عمر من وصية الإمام وراح يقول بإعجاب:

_____________

(1) الشجن: الشعبة من كل شيء.

(2) بحار الأنوار: 46/320 عن قرب الإسناد: 172.

(3) عون بن عبد الله: هو حفيد عتبة بن مسعود الهذلي المتوفى سنة 115هـ، كان من عباد أهل الكوفة وفقهائهم، وخطيبهم، سكن الكوفة وكان من المرجئة، ثم رجع عنها، وخرج مع ابن الأشعث السابق الذكر، ثم هرب، وصحب عمر بن عبد العزيز أيام توليه الحكم.

(187)

 

      «جمعت والله لنا، ما إن أخذنا به، وأعاننا الله عليه استقام لنا الخير إن شاء الله..».

      وخرج الإمام من عنده، ولما أراد الرحيل بادره رسول عمر فقال له: إن عمر يريد أن يأتيك، فانتظره الإمام حتى أقبل فجلس بين يدي الإمام مبالغة في تكريمه وتعظيمه، ثم انصرف عنه(1).

      45- عام 101هـ: وشى بعض المغرضين إلى عمر بن عبد العزيز الأموي بأن أبا جعفر هو بقية أهله العظماء الذين رفعوا راية الحق والعدل في الأرض، وقد أراد عمر أن يختبره فكتب إليه فأجابه الإمام برسالة فيها موعظة ونصيحة له، فقال عمر: أخرجوا كتابه إلى سليمان، فأخرج له: فإذا فيه تقريظ ومدح له، فأنفذه إلى عامله على يثرب(2)، وأمره أن يعرضه عليه مع كتابه إلى عمر، ويسجل ما يقوله الإمام «عليه السلام»: وعرضه العامل على الإمام فقال «عليه السلام»: إن سليمان كان جباراً كتبت إليه ما يكتب إلى الجبارين، وإن صاحبك أظهر أمراً، وكتبت إليه بما شاكله، وكتب العامل هذه الكلمات إلى عمر فلما قرأها أبدى أعجابه بالإمام، وراح يقول:

      «إن أهل هذا البيت لا يخليهم الله من فضل...»(3).

      46- عام 102هـ(4): كان قتادة بن دعامة السدوسي(5) المتوفى عام 117هـ من أعلام البصرة ومفسريها وحفاظها، فقصد المدينة في مثل هذا الوقت ووفد على الإمام أبي جعفر «عليه السلام» فسأله: يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟

_____________

(1) الرواية من تاريخ مدينة دمشق: 54/270، والإضافات التجميلية من القرشي في حياة الإمام محمد الباقر: 2/51.

(2) عامله آنذاك كان خالد بن أبي الصلت.

(3) الرواية لليعقوبي في تاريخه: 2/305، والتجميل من القرشي في حياة الإمام محمد الباقر: 2/52.

(4) إنما اخترنا هذه السنة ولأنه بعد أن حكم عمر بن عبد العزيز تنفس الناس الصعداء وتمكنوا من الحوار والنقاش وأن يفدوا إلى أئمة أهل البيت «عليهم السلام».

(5) قتادة بن دعامة السدوسي: هو حفيد قتادة بن عزيز البصري المولود سنة 61هـ، يكنى بأبي الخطاب، كان ضريراً أكمه، ورغم ذلك كان مفسراً حافظاً، وضليعاً بالعربية واللغة وبأخبار العرب وأنسابهم وكان قدرياً، مات في واسط بمرض الطاعون.

(188)

 

      فقال: هكذا يزعمون.

      فقال أبو جعفر «عليه السلام»: بلغني أنك تفسر القرآن؟

      قال له قتادة: نعم.

      قال له أبو جعفر «عليه السلام»: بعلم تفسره أم بجهل.

      قال: لا، بعلم.

      فقال له أبو جعفر «عليه السلام»: فإن كنت تفسره بعلم فانت أنت. وأنا أسالك؟

      قال قتادة: سل.

      قال: أخبرني عن قول الله عز وجل في سبأ: (وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين)(1).

      فقال قتادة: ذاك من خرج من بيته بزاد حلال وراحلة حلال وكرى حلال، يريد هذا البيت كان آمناً حتى يرجع إلى أهله.

      فقال أبو جعفر «عليه السلام»: نشدتك الله يا قتادة هل تعلم أنه قد يخرج الرجل من بيته بزاد حلال وكرى حلال يريد هذا البيت، فيقطع عليه الطريق فتذهب نفقته، ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه؟

      قال قتادة: اللهم نعم.

      فقال أبو جعفر «عليه السلام»: ويحك يا قتادة إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك، فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد أخذته من الرجال، فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكرى حلال، يروم هذا البيت عارفاً بحقنا يهوانا قلبه، كما قال الله عز وجل: ( فاجعل أفئدةٍ من الناس تهوي إليهم)(2) ولم يعن البيت، فيقول «إليهم» فنحن والله دعوة إبراهيم صلى الله عليه، التي من هوانا قلبه، قبلت حجته، وإلا فلا، يا قتادة فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنم يوم القيامة.

_______________

(1) سورة سبأ، الآية: 18.

(2) سورة إبراهيم: 37.

(189)

 

      قال قتادة: لا جرم والله لا فسرتها إلا هكذا.

      فقال أبو جعفر «عليه السلام»: ويحك يا قتادة، إنما يعرف القرآن من خوطب به(1).

      ولما تعرف على أبي جعفر «عليه السلام» جاءه بعد أيام، وقد هيأ له أربعين مسألة أراد أن يستغل الفرصة ليسألها للإمام أبي جعفر «عليه السلام» فقدم مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فالتقى بأبي حمزة ثابت بن دينار الثماني(2) المتوفى عام 150هـ، فسأله عن أبي جعفر «عليه السلام»، وهل يعرفه، فقال أبو حمزة: نعم، فما حاجتك إليه؟

      قال: هيأت له أربعين مسألة أسأله عنها فما كان من حق أخذته، وما كان من باطل تركته.

      قال له أبو حمزة: هل تعرف ما بين حق والباطل؟

      فقال: نعم.

      فقال أبو حمزة: فما حاجتك إليه إذا كنت تعرف ما بين الحق والباطل؟

      فقال له: يا أهل الكوفة أنتم قوم ما تطاقون، إذا رأيت أبا جعفر «عليه السلام» فأخبرني.

      فما انقطع كلامه، حتى أقبل أبو جعفر «عليه السلام» وحوله أهل خراسان وغيرهم يسألونه عن مناسك الحج، فمضى حتى جلس مجلسه، وجلس قتادة قريباً منه، فجلس أبو حمزة حيث يسمع الكلام، وحوله عالم من الناس، فلما قضى حوائجهم وانصرفوا التفت إلى قتادة بن دعامة البصري وقال له: أنت فقيه أهل البصرة، ويحك يا قتادة إن الله عز وجل خلق

____________
(1) الكافي: 8/258، حلية الأبرار: 3/388.

(2) أبو حمزة الثمالي: هو ثابت بن دينار الكوفي الأزدي بالولاء (ب50- 150هـ)، كان من أعلام الرواة، ومن خلص الأئمة السجاد والباقر والصادق والكاظم «عليهم السلام» والراوين عنهم، من آثاره: كتاب الزهد، وتفسير القرآن، وعرف عنه روايته لدعاء السحر عن الإمام السجاد «عليه السلام» باسم دعاء أبي حمزة.

 

(190)

 

خلقاً جعلهم حججاً على خلقه، فهم أوتاد في أرضه، قوام بأمره، نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه، أظلة عن يمين عرشه.

      فسكت قتادة طويلاً ثم قال: أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدام أحد منهم ما اضطرب قدامك.

      فقال له أبو جعفر «عليه السلام»: أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي بيوم أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأنت ثم ونحن أولئك.

      فقال له قتادة: صدقت والله، جعلني الله فداك، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين.

      قال قتادة: فأخبرني عن الجبن.

      فتبسم أبو جعفر «عليه السلام» وقال: رجعت مسائلك إلى هذا؟

      قال: ضلت عني.

      فقال: لا بأس به.

      فقال قتادة: إنه ربما جعلت فيه أنفحة الميت.

      قال «عليه السلام» ليس بها بأس، إن الأنفحة ليس لها عروق، ولا فيها دم، ولا لها عظم إنما تخرج من بين فرث ودم.

      ثم قال «عليه السلام»: وإنما الأنفخة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة، فهل تأكل تلك البيضة؟

      قال قتادة: لا ولا آمر بأكلها.

      فقال له أبو جعفر «عليه السلام»: ولم؟

      قال: لأنها من الميتة.

      قال له: فإن حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة أتأكلها؟

      قال: نعم.

(191)

 

      قال: فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة؟

      ثم قال «عليه السلام»: فكذلك الأنفحة مثل البيضة، فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه، إلا أن يأتيك من بخبرك عنه(1).

      ثم أخذ يسأله بقية المسائل التي هيأها.

      47- عام 103هـ(2): كان محمد بن المنكدر(3) المتوفى عام 130هـ قد تعرف على الإمام زين العابدين «عليه السلام» وأنشد إليه، فكان يقول: ما كنت أرى أن مثله يدع خلفاً لفضل زين العابدين، حتى رأيت ابنه محمد بن علي، فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟

      قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد ابن علي وكان رجلاً بديناً وهو متك على غلامين له أسودين أو موليين، فقلت في نفسي شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أشهد لأعظنه فدنون منه فسلمته عليه فسلم علي ببهر(4) وقد تصبب عرقاً، فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب  الدنيا لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال.

      فخلى عن الغلامين من يده، ثم تساند، وقال: لو جاءني والله الموت وأنا في هذا الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله تعالى أكف بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله.

______________
(1) بحار الأنوار: 46/357 عن الكافي.

(2) إنما وضع في هذه السنة لأنه ورد في الرواية وصف الإمام الباقر «عليه السلام» بالشيخ، والشيخ كما في مجمع البحرين: 2/436 «من جاوز ستاً وأربعين سنة، والشاب من تجاوز البلوغ ثلاثين سنة، وما بينهما كهل»، ويمكن أن يراد بالشيخ هنا كبير القوم.

(3) محمد بن المنكدر: هو حفيد عبد الله بن الهدير بن عبد العزى القرشي التيمي المدين المولود عام 54هـ، أدرك بعض الصحابة، وكان من رجال الحديث، وعرف بالزهد، وهو من أهل المدينة.

(4) البهر: بالضم هو انقطاع النفس من الإعياء.

(192)

 

      فقلت: يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني(1).

      48- عام 104هـ(2): كان أبو جعفر الباقر «عليه السلام» مثالاً للفضيلة وكرم الأخلاق ويمتك روح التسامح، والخير للغير، وذات يوم من أيام هذا العام كان جالساً بين جمع من أصحابه فيهم حمران(3) إذ دخل عليه مولى له يحمل إليه خبراً فقال: جعلت فداك هذا عكرمة بن عبد الله البربري المدني(4) في حال الموت، وكان عكرمة يرى رأي الخوارج إلا أنه كان منقطعاً إلى أبي جعفر الباقر «عليه السلام».

      فقال أبو جعفر «عليه السلام»: انظروني حتى أرجع إليكم.

      فقالوا: نعم.

      فما لبث أن رجع أبو جعفر فقال: أما إني لو أدركت عكرمة قبل أن تقع النفس موقعها لعلمته كلمات ينتفع بها، ولكني أدركته وقد وقعت النفس موقعها.

      فقال أبو بصير: جعلت فداك وما ذلك الكلام؟

      قال «عليه السلام»: هو والله ما أنتم عليه، فلقنوا موتاكم عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله- وأن محمداً رسول الله- والولاية(5).

      وقد أشفق عليه أبو جعفر «عليه السلام» وأسرع حتى يلقنه ذلك كي يلقى ربه وهو على يقين، وكان منه ذلك وفاءً لما بينهما من صلة.

____________
(1) بحار الأنوار: 46/287 عن الإرشاد.

(2) ورد في تهذيب التهذيب: 4/171 أن عكرمة توفي في المدينة سنة 104هـ.

(3) حمران: هو ابن أعين الشيباني وهو أخو زرارة بن أعين، كان من أصحاب الإمامين الباقر والصادق «عليهما السلام»، وقد عده الإمام الكاظم «عليه السلام» من حواري أبيه وجده، ويذكر أنه سأله الإمام الباقر «عليه السلام»: أمن شيعتكم أنا؟ قال: نعم في الدنيا والآخرة- مستدركات علم رجال الحديث: 3/267.

(4) عكرمة: كان مولى لحصين بن أبي الحر العنبري، فوهبه لابن عباس أيام ولايته البصرة من قبل علي «عليه السلام»- عام 36هـ-، ولد عام 24هـ، وتوفي عام 104هـ، أصله من البربر، وكان من المفسرين والمؤرخين، طاف البلاد كثيراً، وتوفي في المدينة.

(5) بحار الأنوار: 46/333 عن الكافي: 3/122.

(193)

 

      وكان عكرمة قد شاهد أن الناس ينثالون على الإمام الباقر «عليه السلام»، فقال من هذا عليه سيماء زهرة العلم؟ لأجربنه، فلما مثل بين يديه، ارتعدت فرائصه وأسقط في يد أبي جعفر، وقال: يابن رسول الله لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره، فما أدركني ما أدركني آنفاً.

      فقال له أبو جعفر الباقر «عليه السلام»: ويلك يا عبيد أهل الشام إنك بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه(1).

      49- عام 105هـ: توفيت عزة بنت حُميل الضمرية(2) في المدينة وحضر كثير بن عبد الرحمان جنازتها، ولم يعلم بموتها فلما أخبر بذلك وقع مغشياً عليه ثم أفاق فأنشأ فيها بعض الأبيات ثم مات في مكانه، فشيع جثمانه بتشييع حافل، وكان الإمام الباقر «عليه السلام» ممن حضر جنازته(3) جثمانه بتشييع حافل، وكان الإمام الباقر «عليه السلام» ممن حضر جنازته(3) ورفعها(4) تقديراً لمواقفه الشجاعة ضد آل أمية وانتصاراً لأهل البيت «عليهم السلام» ونظمه فيهم، وترك موت كثير وعزة في يوم بسبب عدم إمكانية وصول بعضهما إلى الآخر-  أثراً كبيراً في نفوس الناس، وقد كان سبباً لحضور الكثير من النساء جنازته وهن يبكين فلما شاهد الباقر «عليه السلام» ذلك قال لهن: تنحين يا صويحبات يوسف.

      وأقبلت إحداهن(5) على الإمام فقالت له: يا بن رسول الله لقد صدقت إنا لصويحبات يوسف، وقد كنا خيراً منكم- أي من الرجال- له.

      فقال أبو جعفر لبعض مواليه: احتفظ بها حتى نجيء.

      فلما فرغوا من دفن جنازة كثير جيء له بالمرأة، فقال لها: أنت القائلة إنكن خير منا؟

_____________
(1) بحار الأنوار: 46/258.

(2) عزة بنت حُميل الضمرية: هي حفيدة حفص بن اياس الحاجبية الغفارية، وقيل انها توفيت عام 85هـ كما في الأعلام للزركلي: 4/229، كانت غزيرة الأدب، رقيقة الحديث، من أهل المدينة، انتقلت إلى مصر أيام عبد الملك بن مروان، فأمر بإدخالها على حرمه ليتعلمن من أدبها، ويقول خير الدين الزركلي إنها توفيت في مصر.

(3) راجع حياة الإمام محمد الباقر: 1/321.

(4) روضات الجنات: 6/49.

(5) قيل إنها كانت بنت معيقب الأنصارية.

(194)

 

      قالت: نعم، تؤمنني غضبك يا بن رسول الله؟

      قال «عليه السلام»: أنت آمنة من غضبي فأبيني.

      قالت:  نحن يا بن رسول الله دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والتمتع، وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجب، وبعتموه بأبخس الأثمان، وحبستموه في السجن(1)، فأينا كان به أمن، وعليه أرأف؟

      فقال «عليه السلام»: لله درك لن تغالب امرأة إلا غلبت(2).

      وكان كثير من ذدة ولائه وإطاعته للإمام أن رجلاً نظر إلى كثير وهو راكب أبو جعفر «عليه السلام» يمشي، فقال له: أتركب وأبو جعفر يمشي.

      قال كثير: هو أمرني بذلك، وأنا بطاعته في الركوب أفضل من عصياني إياه بالمشي(3).

      50- عام 106هـ(4): حج هشام بن عبد الملك الأموي في هذه السنة ومعه أخوه مسلمة بن عبد الملك(5)، وصادف أن حج الإمام محمد الباقر «عليه السلام» ومعه نجله جعفر الصادق «عليه السلام»، فدخل هشام المسجد الحرام متكئاً على يد مولاه سالم، ومحمد بن علي بن الحسين جالس في المسجد، فنظر إليه هشام وقد أحدق الناس به حتى خلا الطواف فقال هشام: من هذا؟

      فقال له سالم: هذا محمد بن علي بن الحسين.

      قال هشام: المفتون به أهل العراق؟

____________
(1) تريد ما لاقاه يوسف من العذاب والاضطهاد بسبب الأمراء.

(2) الدرجات الرفيعة: 590، حياة الإمام محمد الباقر: 1/321، أراد «عليه السلام» أنها لم تغالب هذه امرأة إلا غلبت عليها لقوة كلامها.

(3) الدرجات الرفيعة: 589.

(4) كما ورد في تاريخ حياة هشام بن عبد الملك الأموي.

(5) مسلمة بن عبد الملك: هو حفيد مروان بن الحكم الأموي، توفي عام 120هـ، من أمراء الأمويين، يلقب بالجرادة الصفراء، كان قائد جيش الأمويين في فتح القسطنطينية أيام أخيه سليمان بن عبد الملك، تولى إمارة البصرة والكوفة ثم أرمينية أيام أخيه يزيد وغزا الترك والسند عام 109هـ.

(195)

 

      فقال سالم: نعم.

      قال هشام: فاذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟

      فقال محمد بن علي: يحشر الناس على مثل قرصة النقي فيها الأنهار مفجرة.

      فأبلغ ذلك هشاماً، فرأى هشام أنه قد ظفر به.

      فقال هشام: الله أكبر، إذهب إليه فقل له: ما أشغلهم يومئذ عن الأكل والشرب؟

      فقال له محمد بن علي: قل له: هم والله في النار أشغل، وما شغلهم عن أن قالوا: (أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله)(1) فظهر عليه محمد بن علي «عليه السلام».

      وتحدث الصادق «عليه السلام» أما حشد من الموالين، فكان مسلمة بن عبد الملك حاضراً، فقال الصادق فيما قاله لهم: «الحمد الله الذي بعث محمداً بالحق نبياً، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله على خلقه، وخيرته من عباده، فالسعيد من تبعنا، والشقي من عادانا وخالفنا، ومن الناس من يقول: إنه يتولانا وهو يتولى أعداءنا، ومن يليهم من جلسائهم، وأصحابهم، فهو لم يسمع كلام ربنا، ولم يعمل به..»(2).

      وما أن سمع مسلمة بن عبد الملك حتى بادر إلى أخيه هشام بن عبد الملك فأخبره بمقالة الإمام الصادق «عليه السلام»، فأسرها هشام في نفسه، ولم يتعرض للإمام الباقر ونجله الصادق «عليه السلام» بسوء وهو في الحجاز.

      ولما قفل إلى الحجاز أمر عامله على المدينة إبراهيم بن هشام

____________
(1) سورة الأعراف، الآية: 50.

(2) راجع دلائل الإمامة: 104 وعن بحار الأنوار: 46/306، حياة الإمام محمد الباقر للقرشي: 4/60.

(196)

 

المخزومي(1) باشخاصهما إليه(2).

      وفي هذا العام أتى عبد الله بن المبارك(3) أبا جعفر الباقر «عليه السلام» وقال له: إني رويت عن آبائك «عليه السلام» أن كل فتح بضلال فهو الإمام.

      فقال: نعم.

      قال: جعلت فداك فإنهم أتوا بي من بعض فتوح الضلال، وقد تخلصت ممن ملكوني بسبب وقد أتيتك مسترفاً مستعبداً.

      قال «عليه السلام»: قد قبلت.

      فلما كان وقت خروجه إلى مكة قال ابن المبارك: إني مذ حججت فتزوجت ومكسبي مما يعطف علي إخواني، لا شيء لي غيره، فمرني بأمرك.

      فقال «عليه السلام»: انصرف إلى بلادك، وأنت من حجك وتزويجك وكسبك في حل.

      ثم أتاه بعد ست سنين، وذكر له العبودية اليت ألزمها نفسه.

      فقال: أنت حر لوجه الله تعالى.

      فقال: اكتب لي به عهداً.

      فخرج كتابه بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب محمد بن علي الهاشمي العلوي لعبد الله بن المبارك فتاه، إني أعتقتك لوجه الله، والدار الآخرة، لا رب لك إلا الله، وليس عليك سيد وأنت مولاي ومولى عقبي

____________

(1) تاريخ أمراء المدينة المنورة: 496، إن إبراهيم هو حفيد إسماعيل المخزومي القرشي، وقد توفي بعد عام 115هـ وهو خال هشام بن عبد الملك، اشتهر بشدته وعتوه. ولي مكة والطائف سنة 107هـ، عزله هشام عام 115هـ بعد أن ازدادت شكاوى الناس فانقطع بعدها خبره.

(2) تاريخ مدينة دمشق: 54/ 278- 279، الاحتجاج: 2/174.

(3) عبد الله بن المبارك: الكوفي، كان من أصحاب الأئمة السجاد والباقر والصادق «عليه السلام»، وكان أديباً شاعراً، ومحدثاً حافظاً، وكان موالياً لأهل البيت «عليه السلام» مدح الصادق «عليه السلام» بأشعاره. داوم على الحج خمسين سنة.

(197)

 

من بعدي، وكتب في المحرم سنة ثلاث عشرة ومائة، ووقع فيه محمد بن علي بخط يده وختمه بخاتمه(1).

      51- عام 107هـ: في بداية هذا العام أشخص هشام بن عبد الملك الأموي الإمام الباقر «عليه السلام» بصحبة إبنه الإمام الصادق «عليه السلام» إلى الشام(2)، ولما انتهيا إلى دمشق خجبهما ثلاثة أيام، ولم يسمح لهما بمقابلته استهانة بهما، وفي اليوم الرابع أذن لهما في مقابلته، وكان مجلسه مكتظاً بالأمويين وسائر حاشيته، وقد نصب ندماؤه برجاساً(3) وأشياخ بني أمية يرمونه، يقول الإمام الصادق «عليه السلام»: فلما دخلنا، كان أبي أمامي وأنا خلفه فنادى هشام:

      «يا محمد ارم مع أشياخ قومك..».

      فقال أبي: «قد كبرت عن الرمي، فإن رأيت أن تعفيني..». فصاح هشام: «وحق من أعزنا بدينه، ونبيه محمد «عليه السلام» لا أعفيك..» وظن الطاغية أن الإمام سوق يخفق في رمايته فيتخذ ذلك وسيلة للحط من شأنه أمام الغوغاء من أهل الشام، وأومأ إلى شيخ من بني أمية أن يناول الإمام «عليه السلام» قوسه، فناوله، وتناول معه سهماً فوضعه في كبد القوس، ورمى به الغرض فأصاب وسطه، ثم تناول سهماً فرمى به فشق السهم الأول إلى نصله، وتابع الإمام الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض، ولم يحصل بعض ذلك لأعظم رام في العالم، وجعل هشام، يضطرب من الغيظ وورم أنفه، فلم يتمالك أن صاح:

      «يا أبا جعفر أنت أرمى العرب والعجم!! وزعمت أنك قد كبرت!!» ثم أدركته الندامة  على تقريظه للإمام، فأطرق برأسه إلى الأرض والإمام واقف، ولما طال وقوفه غضب «عليه السلام» وبان ذلك على سحنات وجهه الشريف وكان إذا غضب نظر إلى السماء، ولما بصر هشام غضب الإمام قام إليه واعتنقه، وأجلسه عن يمينه، وأقبل عليه بوجهه قائلاً:

      «يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش، ما دام فيها مثلك،

__________
(1) بحار الأنوار: 46/ 339 عن مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب.

(2) النص الروائي للبحار، والإضافات للقرشي.

(3) البرجاس: بكسر أوله، نوع من السرج المحشوة، توضع على ظهور الدواب.

(198)

 

لله درك!! من علمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلمته؟ أيرمي جعفر مثل رميك؟..».

      فقال أبو جعفر «عليه السلام»: «إنا نحن نتوارث الكمال».

      وثار الطاغية، واحمر وجهه، وهو يتميز من الغيظ، وأطراق برأسه إلى الأرض، ثم رفع رأسه، وراح يقول:

      «ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟..».

      ورد عليه الإمام مزاعمه قائلاً:

      «نحن كذلك، ولكن الله اختصنا من مكنون سره، وخالص علمه بما لم يخلص به أحداً غيرنا..».

      وطفق هشام قائلاً:

      «أليس الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة، وذلك قول الله عز وجل: (والله ميراث السموات والأرض)(1) فمن أين ورثتم هذا العلم؟ وليس بعد محمد نبي، ولا أنتم أنبياء..».

      ورد عليه الإمام ببالغ الحجة قائلاً:

      «من قوله تعالى لنبيه: (لا تحرك به لسانك لتعجل به)(2) فالذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره الله تعالى أن يخصنا به من دون غيرنا، فلذلك كان يناجي أخاه علياً من دون أصحابه، وأنزل الله به قرآناً في قوله: (وتعيها أذن واعية)(3) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي: علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب، خصه به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكنون سره، كما خص الله نبيه، وعلمه ما لم يخص به أحداً من قومه، حتى صار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا..».

__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 180.

(2) سورة القيامة، الآية: 16.

(3) سورة الحاقة، الآية: 12.

(199)

 

      والتاع هشام، فالتفت إلى الإمام وهو غضبان قائلاً:

      «إن علياً كان يدري علم الغيب؟ والله لم يطلع على غيبه أحداً، فمن أين ادعى ذلك؟..».

      وأجابه الإمام «عليه السلام» بالواقع المشرق من جوانب حياة الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» قائلاً:

      «إن الله أنزل على نبيه كتاباً بين دفتيه فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)(1) وفي قوله تعالى: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)(2) وفي قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)(3) وفي قوله: (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين)(4) وأوحى الله إلى نبيه أن لا يبقي في عيبة سره، ومكنون علمه شيئاً إلا يناجي به علياً، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده، ويتولى غسله وتحنيطه من دون قومه، وقال لأصحابه: حرام على أصحابي وقومي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي، فإنه مني، وأنا منه، له ما لي، وعليه ما علي، وهو قاضي ديني، ومنجز موعدي، ثم قال لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وعامه إلا عند علي، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أقضاكم علي» أي هو قاضيكم، وقال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر ويجحده غيره..».

      وأطرق هشام برأسه إلى الأرض، ولم يجد منفذاً يسلك فيه للرد على الإمام، فقال  له:

      «سل حاجتك..».

      قال الإمام «عليه السلام»: «خلفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي..».

_________
(1) سورة النحل، الآية: 89.

(2) سورة يس، الآية: 12.

(3) سورة الأنعام، الآية: 38.

(4) سورة النمل، الآية: 75.

(200)

 

      قال هشام: «آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم، فلا تقم وسر من يومك..»(1).

      ولما خرج الإمامان من عند هشام مرا بميدان كبير ينتهي إلى بهر كبير وإذا بجماعة من القسيسين والرهبان وجمع كبير من النصارى، ينتظرون كبيرهم وهو يخرج عليهم كل سنة مرة ليجيبهم على أسئلتهم.

      يقول الإمام الصادق «عليه السلام»: فلف أبي رأسه بفاضل ردائه وفعلت أنا مثل فعل أبي فأقبل نحوهم حتى قعد نحوهم، وقعدت وراء أبي، ورفع ذلك الخير إلى هشام، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي، فأقبل عدد من المسلمين فأحاطوا بنا، وأقبل عالم النصارى وقد شد حاجبيه بحريرة، صفراء حتى توسطنا، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلمين عليه، فجاؤوا به إلى صدر المجلس فقعد فيه وأحاط به أصحابه، وأبي وأنا بينهم، فأدار نظره، ثم قال لأبي: أمنا أنت وأم من الأمة المرحومة؟

      قال «عليه السلام»: من الأمة المرحومة.

      فقال: أمن علمائها أم من جهالها؟

      قال «عليه السلام»: لست من جهالها.

      فقال: أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون إلى الجنة فتأكلون وتشربون ولا تحدثون؟!!

      قال «عليه السلام»: نعم.

      فقال: هات على هذا برهاناً.

      قال «عليه السلام»: نعم، الجنين يأكل في بطن أمه من طعامها، ويشرب من شرابها، ولا يحدث.

      فقال: ألست زعمت أنك لست من علمائها؟

____________
(1) راجع بحار الأنوار: 46/46 عن دلائل الإمامة: 104، حياة الإمام محمد الباقر: 2/60- 64 عن البحار، عن الجزء الثاني من ضياء العالمين.

(201)

 

      قال «عليه السلام»: قلت: لسن من جهالها!

      فقال: أخبرني عن ساعة ليست من النهار، ولا من الليل؟

      قال «عليه السلام»: هذه ساعة من طلوع الشمس، لا نعدها من ليلنا، ولا من نهارنا، وفيها تفيق المرضى.

      وبهر القسيس، وراح يقول للإمام:

      فقال: ألست زعمتا أنك من علمائها!

      قال «عليه السلام»: إنما قلت: لست من جهالها.

      فقال: والله لأسألنك عن مسألة ترتطم فيها.

      قال «عليه السلام»: هات ما عندك.

      فقال: أخبرني عن رجلين ولدا في ساعة واحدة، وماتا في ساعة واحدة؟ عاش أحدهما مائة وخمسين سنة، وعاش الآخر خمسين سنة؟

      قال «عليه السلام»: ذاك عزيز وعزيزة، عاش أحدهما خمسين عاماً، ثم أماته الله مائة عام، فقيل له كم لبثت؟ قال: يوما ً أو بعض يوم، وعاش الآخر مائة وخمسين عاماً، ثم ماتا جميعاً.

      وصاح القسيس بأصحابه، والله لا أكلمكم، ولا تروم لي وجهاً اثني عشر شهراً(1)، حيث توهم أنهم عمدوا إلى إدخال الإمام أبي جعفر «عليه السلام» عليه لإفحامه وفضيحته، ونهض الإمام أبو جعفر «عليه السلام» وأخذت أندية الشام تتحدث عن وفور فضله وقدراته العلمية.

      يقول الإمام الصادق «عليه السلام»: وانصرفنا إلى المدينة الذي كنا فيه، فوافانا رسول هشام بالجائزة، وأمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا ولا نجلس، لأن الناس ماجوا وحاضوا فيما دار بين أبي وبين عالم النصارى(2).

__________
(1) النص الروائي من بحار الأنوار: 46/307، والتجميل من حياة الإمام محمد الباقر: 2/65 عن الدر النظين: 190، وجميعهم عن دلائل الإمامة: 106، نقلناه باختزال.

(2) بحار الأنوار: 46/311.

(202)

 

      52- عام 108هـ(1): كان جابر بن يزيد الجعفي(2) قد قصد ليلة الإمام محمد الباقر «عليه السلام» يشكو إليه حاجته، فقال الباقر «عليه السلام»: ما عندنا درهم، وبينما هو جالس عنده إذ دخل الشاعر كميت بن زيد الأسدي ومعه مولاه صاعد(3) فقال الكميت: جعلت فداك أنشدك؟

      فقال «عليه السلام» أنشد(4).

      فأنشده قصيدته الميمية من الرمل والتي يقول في مطلعها:

من لقلب متيم مستهما        غير ما صبوة ولا أحلام(5)

      فلما بلغ إلى قوله:

أخلص الله لي هواي فما أغـ       رق نزعاً ولا تطيش سهامي

      قال الباقر «عليه السلام»: قل: «فقد أغ....رق نزعاً وما تطيش سهامي».

      فقال الكميت: يا مولاي أنت أشعر مني في هذا المعنى(6).

      فتوجه الباقر «عليه السلام» نحو القبلة وقال: اللهم ارحم الكميت واغفر له،

_____________
(1) يؤكد الأمين في أعيان الشيعة: 9/35 على أن الكميت أغلب شعره السياسي «أو الهاشميات» كما سمى ديوانه، نظمه بين 105هـ حتى آخر سنة 120هـ، وبما أن جابر الجعفي ترك المدينة عام 110هـ فمن المفروض أن يكون الحدث وقع في هذا العام.

(2) جابر بن يزيد الجعفي: هو حفيد الحارث بن عبد يغوث الكوفي، المكنى بأبي عبد الله، كان من أصحاب الإمامين الباقر والصادق «عليه السلام»، له كتاب.

(3) صاعد: لم نعثر على ترجمته في مظانها.

(4) الغدير: 2/186 عن الأغاني: 15/123، حياة الإمام محمد الباقر: 1/343.

(6) أعيان الشيعة: 1/655، وجاء في بحار الأنوار: إن رجلاً ورد على أبي جعفر الباقر بقصيدة مطلعها «عليك السلام أبا جعفر» فلم يمنحه شيئاً فسأله عن ذلك، وقال: لم لا تمنحني، وقد مدحتك.

فقال: حييتني تحية الأموات، أما سمعت قول الشاعر:

إلا طرقتنا آخر الليل زينــب       عليك سلام هل لما فات مطلــب

فقلت لها حييت زينب خذنكم             تحية ميت وهو في الحي يشرب

مع أنه كان يكفيك أن تقول: «سلام عليك أبا جعفر».

(203)

 

اللهم ارحم الكميت واغفر له، اللهم ارحم الكميت واغفر له(1).

      ثم قال «عليه السلام»: يا غلام، اخرج من ذلك البيت بدرة فادفعها إلى الكميت.

      قال الكميت: جعلت فداك أنشدك أخرى؟

      فقال «عليه السلام»: أنشد.

      فأنشده قصيدته اللامية من الطويل والتي يقول في مطلعها:

ألا هل عم في رأيه متأمل         وهل مدبر بعد الإساءة مقبل(2).

      فلما وصل إلى قوله:

نصيب به الرامين عن قوس غيرهم            فيا آخر أسدى له ألفي أول

      فرفع أبو جعفر يديه إلى السماء وقال اللهم اغفر للكميت.

      ثم قال «عليه السلام»: يا غلام أخرج بدرة فادفعها إليه.

      فقال الكميت: جعلت فداك أنشدك أخرى؟

      قال «عليه السلام»: أنشد:

      فأنشده ربما القصيدة البائية من الطويل والتي مطلعها:

طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب           ولا لعباً مني وذو الشيب تلعب

      ولربما دعا الإمام له كما فعل في كل مرة(3).

      ثم قال «عليه السلام»: يا غلام أخرج بدرة فادفعها إليه.

      فقال الكميت: جعلت فداك، والله ما أحبكم لعرض الدنيا، وما

_________
(1) راجع الغدير: 2/186؛ أخبار شعراء الشيعة: 73، حياة الإمام محمد الباقر: 1/33، أعيان الشيعة: 1/655..

(2) وهذه القصيدة أضاف إليها بعد وفاة الإمام الباقر «عليه السلام» وهو في عهد الإمام الصادق «عليه السلام»- راجع حياة الإمام محمد الباقر «عليه السلام»: 1/347، وقد أنشدها الإمام الصادق «عليه السلام» في منى أيام التشريق- راجع الغدير: 2/192.

(3) راجع الغدير: 2/189 واحتملنا أن تكون القصيدة هذه رغم عدم الإشارة إلى أنه أنشد الإمام الباقر «عليه السلام» هذه القصيدة بالذات.

(204)

 

أردت بذلك إلا صلة رسول الله، وما أوجب الله علي من حق.

      فدعا له الإمام الباقر «عليه السلام» وقال: فلك ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحسان(1): لا زلت مؤيداً بروح القدس ما ذبيت عنا أهل البيت.

      فقال الكميت: جعلني الله فداك(2)، لا والله لا يعلم أحد أني آخذ منها حتى يكون الله عز وجل يكافيني، ولكن تكرمني بقميص من قمصك، فأعطاه(3).

      فقال «عليه السلام»: يا غلام ردها إلى مكانها.

      فقال جابر للباقر «عليه السلام»: جعلت فداك قتل لي: ليس عندي درهم، وأمرت للكميت بثلاثين ألفاً.

      فقال «عليه السلام»: أدخل ذلك البيت.

      فدخل جابر البيت فلم يجد شيئاً.

      فقال «عليه السلام»: ما سترنا عنكم أكثر مما أظهرنا(4).

      ثم إن الكميت خرج من عند أبي جعفر فقصد عبد الله بن الحسن المثنى فأنشده الميمية، وربما غيرها أيضاً، فأعطاه ضيعة له، فرفضها، ثم نهض عبد الله بن معاوية الطيار مع أربعة من غلمانه وجعل يدخل دور بني هاشم ويقول: يا بني هاشم هذا الكميت قال فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم وعرض دمه لبني أمية فأثيبوه بما قدرتم، فجمع من المال فيمته مائة ألف درهم، فرفضها الكميت قائلاً: بأبي أنتم وأمي قد

__________
(1) حسان: هو ابن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري (66ق.هـ- 54هـ) من الشعراء المخضرمين، صحابي جليل، سكن المدينة وتوفي فيها، جمع شعره في ديوان حمل اسمه.

(2) أخبار شعراء الشيعة: 720.

(3) أعيان الشيعة: 1/655، وجاء في الدرجات الرفيعة: 571 «أنشده فأعطاه الباقر ألف دينار وكسوة فقال الكميت: والله ما أحببتكم للدنيا ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكنني أجبتتكم للآخرة فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركتها وأما المال فلا أقبله».

(4) الغدير: 2/198 عن بصائر الدرجات.

(205)

 

أكثرتم وأطيبتم، وما أردت بمدحي إياكم إلا الله ورسوله، ولم أك لآخذ ثمناً من الدينا فأردده إلى أهله(1).

      53- عام 109هـ(2): جاء الكميت بن زيد الأسدي إلى أبي جعفر الباقر «عليه السلام» خائفاً، وقال له: إني قد قلت شعراً إن أظهرته خفت القتل، وإن كتمته خفت الله تعالى: فأنشده قصيدته العينية من الرمل والتي مطلعها:

نفى عن عينيك الأرق الهجوعا          وهم يمتري منها منوعا

      حيث تعرض فيها لنبي أمية، فأدار أبو جعفر وجهه إلى القبلة وقال: اللهم اكف الكميت، اللهم اكف الكميت، اللهم اكف الكميت، اللهم اكف الكميت(3).

      وكان قد وشى عليه خالد بن عبد الله القسري(4) عند هشام بن عبد الملك الأموي وأوصل قصائده في هجو الأمويين ومدح الأئمة «عليهم السلام»، وذلك انتقاماً له على ما نظمه في هجو اليمنيين ونعني بذلك القصيدة النونية من الرمل والتي يقول في مطلعها:

ألا حييت عنا يا مدينا        وهل ناس تقول مسلمينا(5)

      وكان عبد الله بن الحسن المثنى(6) قد طلب من الكميت أن ينشئ شعراً يثير به حفائظ النفوس بين العرب لعل فتنة تحدث فتكون سبباً إلى زوال دولة الأمويين.

__________
(1) حياة الإمام محمد الباقر: 1/345 عن مروج الذهب: 2/195.

(2) هكذا يستشف من أخبار هشام وخالد، والكميت والإمام الباقر «عليه السلام».

(3) أخبار شعراء الشيعة: 77.

(4) خالد بن عبد الله بن يزيد القسري (66- 126هـ) كان من الخطباء البلغاء، والولاة عرف بأمير العراقين (الكوفة والبصرة)، إلا أنه كان من الموالين والعاملين لبني أمية، وكان من الزنادقة وقد هداه الفرزدق، قضى آخر أيامه في السجن وعذب فيه ثم أخرج وقتل.

(5) الغدير: 2/204.

(6) عبد الله بن الحسن المثنى: هو حفيد الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (70- 145هـ)، من أهل المدينة، كان ذا عارضة وهيبة ولسان وشرف، حبسه المنصور عدة سنوات ونقله إلى الكوفة ومات سجيناً.

(206)