معجم  أنصار الحسين  (النساء)     (الجزء الأول)

اسم الکتاب : معجم أنصار الحسين (النساء) (الجزء الأول)

المؤلف : للعلامة المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي
المطبعة : المركز الحسيني للدراسات لندن ـ المملكة المتحدة

 

 

 

أربعمائة وثمانين درهما(1)، ورغم بساطة المتاع والجهاز إلا أن حياتها، الزوجية كانت دافئة بدفء الإيمان والتفاهم، وكان يسودها روح المودة والمحبة والإخلاص والتفاني في سبيل الله جل وعلا، ويذكر أنها عندما زفت إلى بيت عبد الله الطيار بارك الله لعبد الله فدر عليه الرزق من الأموال والأولاد وامتلاك الضياع، وفاقت أرضه بالثمار بعد أن كانت فلاة، فأمه الفقراء والمساكين(2).

وكان الزوجان شديدي الصلة بالإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» فلم يبتعدا عنه، وكانت السيدة زينب على  اتصال بشقيقيها وأبيها كما كان زوجها عبد الله كذلك، ومما يذكر من حياتها العلمية وهي في المدينة على ما يظهر من تلك المناقشة التي دارت بينها وبين شقيقيها الحسن والحسين «عليه السلام»، فذات يوم من أيام المدينة جلس الحسنان يتذاكران ما سمعاه من جدهما (صلى الله عليه وآله وسلم): «الحلال بين والحرام بين، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب.

فلما سمعت زينب حوارهما تدخلت قائلة: اسمعا يا حسن وحسين إن جدكما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤدب بأدب الإله، فإن الله أدبه فأحسن تأديبه، فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أدبني ربي فأحسن تأديبي» كما هيئ كذلك من رب العالمين لحمل رسالة الدين، والدعوة إلى عباد الله العظيم الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

ومن كجدي النبي العربي الهاشمي القرشي الذي اصطفاه الله تعالى، واختاره ليبين للناس طريق الحياة من خير وشرٍ في أسلوبه العذب الجميل، وبعبارته العالية الممتعة، التي تفيض رقة وحناناً، وإشفاقاً.

____________
(1) زينب وليدة النبوة والإمامة: 51 عن زينب الكبرى للنقدي: 76 وفيه أن علياً «عليه السلام» دعا بابن أخيه عبد الله بن جعفر وشرفه بتزويجها إياه على صداق أمها ووهبها إياه من خالص ماله «عليه السلام».

(2) زينب وليدة النبوة والإمامة: 15.

(341)

 

ثم استرسلت قائلة: الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات، فهناك ثلاث درجات في الدين حلال، وحرام، ومشتبه، أما الحلال فهو ما أحله الله تعالى، بأن جاء القرآن الكريم بحله، وبينه الرسول في سنته، كحل الشراء والبيع، وكإقامة الصلاة في أوقاتها، أو الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، وترك الكذب والنفاق والخيانة.

وأما الحرام فهو ما حرمه القرآن وهو على النقيض من الحلال، وأما المشتبه فهو الشيء الذي ليس بالحلال ولا بالحرام.

والمؤمن الذي يريد لنفسه السعادة في الدنيا والنعيم في الآخرة ما عليه إلا أن يؤدي ما أوجب الله تعالى عليه، ويسير في طريق القرآن الحكيم، ويقتدي بجدي النبي ويتأسى به(1)، ويبتعد عن طريق الشبهات ما استطاع، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، وأصبح دينه صحيحاً وعرضه صحيحاً وعرضه(2) نقياً(3) صافياً، يعبد ربه عبادة خالصة، ألا لله الدين الخالص.

أما من سار في طريق الشبهات فلا يأمن أن تزل قدمه فيقع فيما حرمه الله، فإن لكل ملك حمى بجوار ملكه، أما حمى ملك الملوك خالق السماوات والأرض وما فيهن، فإنه محارمه، لهذا يقول عليه الصلوات: اتق المحارم تكن أعبد الناس.

ولقد أودع الله الإنسان مضغة وجوهرة لطيفة، إذا صلحت كان الجسد كله صالحاً نقياً من الأدران والعلل وعصيان الخالق الأعظم رب العالمين- ذلك هو القلب- فإذا كان القلب سليماً كان صاحبه يقظاً لأمور دينه ومبادىء شريعته، يرى السعادة كلها في الاستقامة على هدى القرآن والسنة، وكان يوم الدين من الفائزين.

_____________
(1) وفي مجلة لواء الإسلام: «ويقتدي بالنبي الكريم ويبتعد».

(2) العرض: المتاع، ويوم الدين، والعرض: الحسب الشرف، وأيضاً النفس، فأرادت بأحدهما المتاع وبالآخر النفس أو أراد بأحدهما يوم الدين وبالآخر الشرف.

(3) إلى هنا في كتاب السيدة زينب لجلهوم وحماد: 78 عن المنتخب من مسند حميد، ومرآة اليافعي.

(342)

 

إن حياتنا الدنيا مرحلة توصل الإنسان إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وليس بعد الموت عتاب ولا بعد الدنيا دار، إلا الجنة أو النار.

وما إن انتهت رضوان الله عليها من حديثها حتى قال لها الحسن «عليه السلام»: أنعم الله بك يا طاهرة، حقاً إنك فرع فتيان من شجرة النبوة المباركة، ومن معدن الرسالة الكريمة(1).

والتحق الزوجان عبد الله وزينب رضوان الله عليهما بالإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» حين جاهر إلى الكوفة عام 36هـ واستقروا بها إلى أن كانت منيته بها سنة الأربعين، وكانت السيدة زينب «عليه السلام» تقوم هناك بدور حافل في تثقيف النساء حيث يذكر المؤرخون: كان لها مجلس علمي حافل تقصده جماعة من النساء يردن التفقه في الدين(2) ، ومجلس آخر خاص بتفسير القرآن الكريم تحضره النساء(3) أيضاً، حيث يروى أن جمعاً من رجال الكوفة طلبوا من الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» أن تقوم السيدة زينب «عليه السلام» بتعليم نسائهم معالم الدين وتفسير القرآن، فلبى الإمام طلبهم(4)، ودخل علي «عليه السلام» ذات يوم داره بالكوفة فسمع ابنته زينب «عليه السلام» تتحدث للنساء عن الحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية، وكانت تشرح لهم: (كهيعص)(5) فقال لها علي «عليه السلام» يا نور عيني أتعلمين أن هذه ترمز إلى ما سيجري على أخيك الحسين بأرض كربلاء(6).

_____________

(1) مجلة لواء الإسلام القاهرية، العدد 7/ السنة: 31/ الصفحة: 25/ التاريخ: جمادى الأولى والثانية/ 1397هـ؛ الحلقة: 25 من مقال تحت عنوان «السيدة زينب بنت الإمام» لعبد المغني المنشاوي.

(2) زينب بنت الإمام أمير المؤمنين: 11 عن مع بطلة كربلاء: 41.

(3) زينب بنت الإمام أمير المؤمنين: 13 عن سفينة البحار.

(4) الخصائص الزينبية: 68 وعنه زينب الكبرى للنقدي: 36.

(5) سورة مريم، الآية: 1.

(6) رياحين الشريعة: 3/57، وقد روى البحراني في تفسيره البرهان: 3/3 بإسناده عن الإمام العسكري «عليه السلام» في حديث طويل يقول: «كهيعص فالكاف اسم كربلاء، والهاء هلاك العترة، والياء يزيد لعنه الله، وهو ظالم الحسين والعين عطشه، والصاد صبره».

  

(343)

 

وأما عبد الله بن جعفر فكان يقف مع علي «عليه السلام» في مقاومته الظلم والطغيان، وكان أميراً من أمراء جيشه في صفين(1) والجمل، والنهروان(2).

ويروى أن بعض النساء تلقت كتاباً من أختها أثناء وقعة الجمل وفيه «ما الخبر ما الخبر إن علياً كالأشقر إن تقدم عقر، وإن تأخر نحر» فجمعت هذه المرأة نساء قومها وصرن يضربن بالدفوف ويرددن ذلك الكلام، فأخبرت زينب «عليه السلام» بذلك فعمدت إلى توبيخهن، فقالت لها أم سلمة: أنت ابنة أمير المؤمنين وعقيلة آل أبي طالب قري في مكانك ودعيني أخرج إليهن وأوبخهن، فأبت إلا أن تخرج بنفسها إليهن وتزيت بزي الجواري وخرجت تحف بها الإمام ومعها أم سلمة وأم أيمن حتى دخلت على النسوة، فلما رأتها استحيت وفرقت النساء وقالت لها: إنهن فعلن ذلك بجهل، فقالت لها زينب: إن تظاهرتما على أبي فلقد تظاهرتما على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل وعادت إلى بيتها(3).

وكان علي «عليه السلام» في رمضان عام الأربعين يفكر ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبدالله بن جعفر زوج بنت ابنته لأجلها، ولا يزيد في أكله على ثلاث لقم، فقيل له في ذلك، فقال: يأتيني أمر الله وأنا خميص(4)، إنما هي ليلة أو ليلتان، فأصيب من الليل(5).

وروى المفيد بإسناده أن علياً «عليه السلام» قال لابنته أم كلثوم(6): يا بنية إني أراني قل ما أصحبكم.

____________
(1) سيدات بيت النبوة: 683.

(2) الخصائص الزينبية: 274.

(3) زينب الكبرى للنقدي: 25، ويظهر من هذه الرواية أنها كانت في المدينة والتحقت بأبيها وبعلها بعد أن استقر بالكوفة- كما أن الرواية تنقل بنص آخر- راجع المصدر.

(4) الخميص: الضامر البطن.

(5) يظهر من مجموع الروايات أن المراد بها زينب الكبرى زوجة عبد الله بن جعفر، ولكن ليس ما يؤكد ذلك بحيث يكون الأمر مقطوعاً به، وذلك لأن المفيد في إرشاده: 1/354 يعبر عن أولاد فاطمة «عليه السلام»، بالتالي: «الحسن والحسين وزينب =

(344)

 

قالت: وكيف ذلك، يا أبتاه؟

قال: إني رأيت نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في منامي وهو يمسح الغبار عن وجهي ويقول: يا علي، لا عليك قد قضيت ما عليك.

قالت: فما مكثنا إلا ثلاثاً حتى ضرت تلك الضربة.

ولما ضرت صاحت.
فقال «عليه السلام» يا بنية لا تفعلي، فإني أرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشير إلي بكفه: يا علي، هلم إلينا، فإن ما عندها هو خير لك(1).

ويضيف المفيد: إن أمير المؤمنين علياً «عليه السلام» سهر في الليلة التي ضرب في صبيحتها، ولم يخرج إلى المسجد لصلاة الليل على عادته، فقالت له ابنته أم كلثوم (زينب) ما هذا الذي قد أسهرك؟

فقال: إني مقتول لوقد أصبحت.

وأتاه ابن النباح(2) فآذنه بالصلاة، فمشى غير بعيد ثم رجع «عليه السلام»، فقالت له ابنته أم كلثوم (زينب): مر جعدة(3) فليصل بالناس.

قال «عليه السلام»: نعم، مروا جعدة فليصل.

ثم قال «عليه السلام»: لا مفر من الأجل.

__________
= الكبرى وزينب الصغرى المكناة أم كلثوم، أمهم فاطمة البتول.. » مما يدل أنه كلما ذكر أم كلثوم أراد بها شقيقة العقيلة زينب الكبرى، والله العالم، وعلى أي حال فلا فرق بينهما.

(1) الإرشاد: 1/15، ومناقب أمير المؤمنين للخوارزمي: 378 و402، ومناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 3/311، وكشف الغمة: 1/433.

(2) ابن النباح: هو عامر بن النباح الكوفي، وكان مؤذن الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» في الكوفة، وكان يقول في أذانه: حي على خير العمل مرتين فإذا رآه أمير المؤمنين «عليه السلام» قال له: مرحباً بالقائلين عدلاً وبالصلاة مرحباً وأهلاً.

(3) جعدة: هو ابن هبيرة المخزومي، ابن أم هاني فاطمة بنت أبي طالب أخت الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» كان من قواد الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» ومساعديه، وكان صهره على ابنته أم الحسن بنت علي «عليه السلام» وقد سبقت ترجمته في معجم الأنصار- قسم الهاشميين-.

(345)

 

فخرج إلى المسجد وإذا هو بالرجل قد سهر ليلته كلها يرصده، فلما برد السحر نام، فحركه أمير المؤمنين «عليه السلام» برجله، وقال له: الصلاة.

فقام إليه فضربه(1).

ونترك هنا أم كلثوم (زينب) تروي لنا عن أحداث هذه الأيام الثلاثة التي ألمت بأبيها أمير المؤمنين «عليه السلام».

لما كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قدمت إليه عند إفطاره طبقاً فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح جريش(2)، فلما فرغ من صلاته أقبل على فطوره.

فلما نظر إليه وتأمله حرك رأسه وبكى بكاءً شديداً عالياً، وقال: يا بنية ما ظننت أن بنتاً تسوء أباها كما قد أسأت أنت إلي.

قالت: وما ذا يا أباه؟

قال: يا بنية أتقدمين إلى أبيك إدامين في فرد طبق واحد؟ أتريدين أن يطول وقوفي غداً بين يدي الله عز وجل يوم القيامة أنا أريد أن أتبع أخي وابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قدم إليه إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله، يا بنية ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه إلا طال وقوفه بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، يا بنية إن الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب، وقد أخبرني حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن جبرئيل «عليه السلام» نزل إليه ومعه مفاتيح كنوز الأرض وقال: يا محمد السلام يقرئك السلام ويقول لك: إن شئت صيرت معك جبال تهامة(3) ذهباً وفضة، وخذ هذه مفاتيح كنوز الأرض، ولا ينقص ذلك من حظك يوم القيامة.

قال: يا جبرئيل وما يكون بعد ذلك؟

قال: الموت.

___________
(1) الإرشاد: 1/16.
(2) الجريش: ما قطعاً صغاراً دون أن يسحق تماماً.

(3) جبل تهامة: جبل يقع في أراضي تهامة الممتدة من شبه جزيرة سيناء شمالاً إلى أطراف اليمن جنوباً وفيها مدن كبيرة كنجران ومكة وجدة وصنعاء.

(346)

 

فقال: إذاً لا حاجة لي في الدنيا، دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً، فاليوم الذي أجوع فيه أتضرع إلى ربي وأسأله، واليوم الذي أشبع فيه أشكر ربي وأحمده.

فقال له جبرئيل: وفقت لكل خير يا محمد.

ثم قال «عليه السلام»: يا بنية الدنيا دار غرور ودار هوان، فمن قدم شيئاً وجده، يا بنية الله لا آكل شيئاً حتى ترفعين أحد الإدامين، فلما رفعته تقدم إلى الطعام فأكل قرصاً واحداً بالملح الجريش، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قام إلى صلاته فصلى ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرعاً إلى الله سبحانه، ويكثر الدخول والخروج وهو ينظر إلى السماء وهو قلق يتململ، ثم قرأ سورة «يس» حتى ختمها، ثم رقد هنيئة وانتبه مرعوباً، وجعل يمسح وجهه بثوبه، ونهض قائماً على قدميه وهو يقول: « اللهم بارك لنا في لقائك» ويكثر من قول: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» ثم صلى حتى ذهب بعض الليل، ثم جلس للتعقيب، ثم نامت عيناه وهو جالس، ثم انتبه من نومته مرعوباً.

وتضيف قائلة: كأني به وقد جمع أولاده وأهله وقال لهم: في هذا الشهر تفقدوني، إني رأيت في هذه الليلة رؤيا هالتني وأريد أن أقصها عليكم.

قالوا: وما هي؟

قال: إني رأيت الساعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامي وهو يقول لي: يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك، وأنا والله مشتاق إليك، وإنك عندنا ف العشر الآخر من شهر رمضان، فهلم إلينا فما عندنا خير لك وأبقى.

فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب وأبدوا العويل، فأقسم عليهم بالسكوت فسكتوا.

ثم أقبل يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كذبت ولا كذبت، وإنها

(347)

 

الليلة التي وعدت بها، ثم يعود مصلاه ويقول: اللهم بارك لي في الموت، ويكثر من قول: ( إنا لله وإنا إليه راجعون)(1) «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» ويصلي على النبي وآله، ويستغفر الله كثيراً.

وتستمر ابنة علي «عليه السلام» في الحديث قائلة: فلما رأيته في تلك الليلة قلقاً متململاً كثير الذكر والاستغفار أرقت معه ليلتي وقلت: يا أبتاه مالي أراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟

قال: يا بنية إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوعاً(2) وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة.

ثم قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون).

فقلت: يا أباه مالك تنعى نفسك منذ الليلة؟

قال: يا بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل، فبكيت.

فقال لي: يا بنية لا تبكين فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم إنه نعس وطوى ساعة، ثم استيقظ من نومه وقال: يا بنية إذا قرب وقت الأذان فأعلميني.

ثم رجع إلى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.

فجعلت أرقب وقت الأذان، فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء، ثم أيقظته، فأسبغ الوضوء وقام ولبس ثيابه وفتح بابه، ثم نزل إلى الدار وكان في الدار إوز(3) قد أهدي إلى أخي الحسين «عليه السلام»، فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه، وكن قبل تلك الليلة لم يصحن.

_________
(1) سورة البقرة، الآية: 156.

(2) إن خوفه لم يكن إلا من لقاء الله، ومن المعروف أن أئمة أهل البيت «عليه السلام» عندما كانوا يقفون للصلاة ترتعد فرائصهم خوفاً من الله جل وعلا ورهبة منه.

(3) الأوز: من فصيل البط إلا أنه أكبر منه حجماً وأطول منه عنقاً.

(348)

 

فقال «عليه السلام»: لا إله إلا الله صوارخ تتبعها نوائح، وفي غداة غدٍ يظهر انقضاء.

فقلت له: يا أباه هكذا تتطير(1)؟

فقال: يا بنية ما منا أهل البيت من يتطير ولا يتطير به، ولكن قول جرى على لساني(2).

ثم قال: يا بنية بحقي عليك إلا ما أطلقتيه، فقد حسبت ما ليس له لسان ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو العطش، فأطعميه واسقيه وإلا خلي سبيله ياكل من حشائش الأرض.

فلما وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه فتعلق الباب بمئزره فانحل مئزره حتى سقط، فأخذه وشده وهو يقول: من الهزج:

أشدد حيازيمك للموت             فإن الموت لاقيكــا

ولا تجزع من الموت             إذا حل بناديكمــــا

ولا تغتر بالــدهـــــر             وإن كان يواتيكـــا

كما أضحكت الدهـر       كذاك الدهر يبكيكا

ثم قال «عليه السلام»: اللهم بارك لنا في الموت، اللهم بارك لي في لقائك.

تقول ابنة علي: وكنت أمشي خلفه، فلما سمعته يقول ذلك قلت: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعى نفسك منذ الليلة.

قال: يا بنية ما هو بنعاء، ولكنها دلالات وعلامات الموت تتبع بعضها بعضاً فأمسكي عن الجواب.

ثم فتح الباب وخرج.

وتضيف قائلة: فجئت إلى أخي الحسن «عليه السلام» فقلت يا أخي: قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا، وهو قد خرج في هذا الليل الغلس فالحقه.

فقام الحسن بن علي «عليه السلام» وتبعه، فلحق به قبل أن يدخل الجامع فقال يا أباه: ما أخرجك في هذه الساعة وقد بقي من الليل ثله؟

__________
(1) التطير: خلاف التفاؤل فالأول يستخدم للشر والثاني للخير عادة.

(2) لم يكن كلامه من التطير بل من علم علمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك.

(349)

 

فقال: يا حبيبي ويا قرة عيني خرجت لرؤيا رأيتها في هذه الليلة أهالتني وأزعجتني وأقلقتني.

فقال له: خيراً رأيت وخيراً يكون فقصها علي.

فقال «عليه السلام»: يا بني رأيت كأن جبرئيل «عليه السلام» قد نزل من الماء على جبل أبي قبيس(1) فتناول منه حجرين ومضى بهما إلى الكعبة وتركهما على ظهرها، وضرب إحدهما على الآخر فصارت كالرميم، ثم ذرهما في الريح، فما بقي بمكة ولا بالمدينة بيت إلا ودخله من ذلك الرماد.

فقال له: يا أبت وما تأويلها؟ فقال: يا نبي إن صدقت رؤياي فإن أباك مقتول، ولا يبقى بمكة حينئذٍ ولا بالمدينة بيت إلا ويدخله من ذلك غم ومصبية من أجلي.

فقال الحسن «عليه السلام»: وهل تدري متى يكون ذلك يا أبت؟

قال: يا بني إن الله يقول: (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت)(2) ولكن عهد إلى حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يكون في العشر الأواخر من شهر رمضان، يقتلني ابن ملجم المرادي.

فقلت له: يا أبتاه، إذا علمت منه ذلك فاقتله.

قال: يا بني لا يجوز القصاص إلا بعد الجناية، والجناية لم تحصل منه، يا بني لو اجتمع الثقلان الإنس والجن على أن يدفعوا ذلك لما قدروا، يا بني ارجع إلى فراشك.

فقال الحسن «عليه السلام»: يا أبتاه أريد أمضي معك إلى موضع صلاتك.

فقال له: أقسمت بحقي عليك إلا ما رجعت إلى فراشك لئلا يتنغص عليك نومك، ولا تعصني في ذلك.

_______
(1) جبل أبي قبيس: يقع شرقي مكة وهو أقرب الجبال إلى المسجد الحرام وجهه إلى جبل قعيقان، وتقع مكة بين هذين الجبلين، ومن عليها نصب الحصين بن نمير قائد الجيش الأموي عام 64هـ المنجنيق لقصف الكعبة الشريفة، حيث كان عبد الله بن الزبير متحصناً فيها.

(2) سورة لقمان، الآية: 34.

(350)

 

فرجع الحسن «عليه السلام» فوجد أخته أم كلثوم (زينب) قائمة خلف الباب تنتظره، فدخل فأخبرها بذلك، وجلسا يتحادثان وهما محزونان حتى غلب عليهما النعاس، فقاما ودخلا إلى فراشهما وناما(1).

ويروي المجلسي لما ضرب ابن ملجم أمير المؤمنين «عليه السلام» نادى جبرئيل «عليه السلام» بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ: «تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قتل ابن عم محمد المصطفى قتل الوصي المجتبى، قتل علي المرتضى، قتل والله سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء.

فلما سمعت أم كلثوم (زينب) نعي جبرئيل لطمت على وجهها وخدها وشقت جبينها وصاحت: وا أبتاه واعلياه وامحمداه واسيداه، ثم أقبلت إلى الحسن والحسين فأيقظتهما وقالت لهما: لقد قتل أبوكما، فقاما يبكيان وخرجا إلى المسجد»(2).

ويروي المفيد أنه لما أدخل ابن ملجم على أمير المؤمنين «عليه السلام»- بعد ما ضرب علياً- قالت له أم كلثوم (زينب): يا عدو الله، قتلت أمير المؤمنين «عليه السلام».

قال: إنما قتلت أباك.

قالت: يا عدو الله إني لأرجو أن لا يكون عليه بأس.

قال لها: فأراك إنما تبكين علي إذاً، والله لقد ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الأرض لأهلكتهم(3).

ولما دنا رحيل الإمام «عليه السلام» أقبلت زينب وأم كلثوم حتى جلستا معه على فراشه، وأقبلتا تندبانه وتقولان: يا أبتاه من للصغير حتى يكبر؟ ومن

____________
(1) بحار الأنوار: 42/ 276- 278.

(2) بحار الأنوار: 42/282.

(3) الإرشاد: 1/21، وقد سبق مثل هذا الكلام عن أم كلثوم ابنة الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام».

(351)

 

للكبير بن الملأ؟ يا أبتاه حزننا عليك طويل، وعبرتنا لا ترقأ(1).

ويذكر بأن الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» عرق جبينه قبيل وفاته فجعل يمسح العرق بيده، فقالت له زينب: يا أبه أراك تسمع جبينك؟

قال «عليه السلام»: يا بنية سمعت جدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب وسكن أنينه(2).

فقال «عليه السلام»: يا بنية، الحديث كما حدثتك أم أيمن، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد، خاشعين تخافون أن يخطفكم الناس، فصبراً صبراً(4).

ولما قضى نحبه صرخت زينب «عليه السلام» وأم كلثوم وجميع نسائه، وقد شقوا الجيوب ولطموا الخدود وارتفعت الصيحة في القصر(5)، ولما أخذوا بتجهيزه نادى الحسن «عليه السلام» بأخته زينب وأم كلثوم وقال: يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبادرت زينب مسرعة حتى أتته به «عليه السلام» فخط به.

وبما أن السيدة زينب «عليه السلام» كإمرأة كان عليها أن تقوم بدور الزوجة المثالية وهي في بيت عبد الله بن جعفر من جهة وتقوم برعاية أطفالها

__________
(1) بحار الأنوار: 42/289.
(2) ورد هذا الحوار في بحار الأنوار: 42/291 بين الإمام علي «عليه السلام» وابنه محمد ابن الحنفية.

(3) أم أيمن: هي بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن المدنية، كانت ملكاً لعبد الله والد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فورثها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فتولت حضانته فأعتقها وزوجها لزيد بن الحارثة الكلبي فأنجبت له أسامة توفيت على أقرب التقادير عام 11هـ، وعلى أبعدها سنة 24هـ.

(4) هذا مقطع ورد في كتاب زينب الكبرى من المهد إلى اللحد: 65 المطبوع أخيراً ويظهر منه أنه نقله عن البحار إلا أنه حسب التسلسل الذي ذكره لم يرد في البحار.

(5) بحار الأنوار: 42/293.

(352)

 

وتربيتهم كأم حيث أنجبت لعبد الله، جعفر الأكبر (21-....هـ) وعلياً الأصغر (ن23- ....هـ)، وعوناً الأكبر(1) (25- 61هـ)، والعباس (ب26- 000هـ) وأم كلثوم (ن40- ب61هـ) وإبراهيم(2) (... -...هـ)، وأم عبدالله(3) (... -...)(4).

هذا غاية ما ذكر من الأولاد التي أنجبتها السيدة زينب «عليه السلام»، وسلالتها الشريفة انحصرت في أولاد علي الزينبي وأم كلثوم، ورغم أنهم ينتسبون إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرف أمهم زينب «عليه السلام» إلا أنهم يصنفون من الأشراف وهذه خصوصية ورثتها السيدة زينب «عليه السلام» من أمها السيدة الزهراء «عليه السلام» حيث انحصرت سلالة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من نسلها.

وهناك من نسب محمد بن عبد الله الطيار المستشهد في كربلاء إلى السيدة زينب «عليه السلام»(5) ولكن التحقيق أوصلنا إلى أن أمه الخوصاء، وقد سبقت ترجمته(6)، كما قيل إن أم أبيها هي ابنة زينب(7) ولكن سبق وتوصلنا إلى أن أمها هي النهشلية، وأضاف على أبنائها عياضاً(8) ولكن لم بثبت.

__________
(1) عون الأكبر: وإنما وصفناه بالأكبر في قبال أخيه من أبيه دون أمه (عون الأصغر)، وكذلك الحال في جعفر الأكبر، ومن الجدير ذكره أنهم وصفوه بالأصغر أيضاً، إلا أننا لم نجد له أخاً بهذا الاسم ليوصف هذا بالأصغر وذاك بالأكبر وربما درج الأكبر فلم يذكروه والله العالم، هذا ويعرف علي بالزينبي.

(2) إبراهيم درج صغيراً كما سبق وأشرنا إلى ذلك في ترجمة أخته أم كلثوم.

(3) راجع السيدة زينب لجلهوم وحماد: 86.

(4) راجع ترجمة أم كلثوم من هذا المعجم وترجمة عون الأكبر من معجم الأنصار قسم الهاشميين.

(5) عقيلة بني هاشم للهاشمي: 36، أسد الغابة: 7/133.

(6) راجع معجم الأنصار الهاشميين من هذه الموسوعة.

(7) الذرية الطاهرة: 164 وقد نقل فيه ثلاث روايات إحداها تقول: إنها أنجبت لعبد الله ابن جعفر علياً وعوناً، والثانية تقول: إنها أنجبت له علياً وأم أبيها وقد تزوجها عبد الملك بن مروان فطلقها ثم تزوجها عبد الله بن عباس، والثالثة تقول: إنها أنجبت له علياً وجعفراً وعوناً وعباساً وأم كلثوم.

(8) تاريخ قم: 193.

(353)

 

ويذكر أن الإمام الحسن «عليه السلام» لم سرى السم في جسمه أخذ يقذف الدم في الطست، وكان «عليه السلام» عندما يعرف بأن أخته زينب تريد الدخول عليه يأمر – وهو في تلك الحال- برفع الطشت إشفاقاً عليها(1).

وقد استمرت في النياحة على أخيها السحن «عليه السلام» شهراً كاملاً، وأظهرت الحداد كسائر بني هاشم ولبسن السواد سنة كاملة(2).

في حدود عام 56هـ زارت السيدة زينب «عليه السلام» قبر جدها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كعادتها فسمعت عمرو بن سعيد الأشدق(3) يقول، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس.. ».

فقالت له: أو أنت النعمان بن بشير(4).

فقال لها: لا.

فقالت له: اسكت ولا تتلكم، وإن أردت فقل: عن النعمان بن بشير قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الحلال بين... »(5).

ويروي عبد الله بن عباس أن زينب «عليه السلام» قرأت قوله تعالى: (يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلاً * نصفه أو أنقص منه قليلاً * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً * - إلى قوله تعالى: - وطائفةٌ من الذين معك)(6) فقالت «عليه السلام»: نحن نشترك مع جدنا في قوله تعالى: (وطائفةٌ من الذين معك) فنحن بفضل الله من هذه الطائفة(7).

_____
(1) وفاة زينب الكبرى: 9.

(2) حياة الإمام الحسن: 2/34 وعنه المرأة العظيمة: 127.

(3) عمرو بن سعيد الأشدق: حفيد العامر الأموي (3- 70هـ) تولى ولاية المدينة من قبل الأمويين مرتين الأولى كنائب عن أبيه سنة (49- 56هـ) والثانية بالأصالة سنة (60- 61هـ) كما تولى ولاية مكة أيضاً لمعاوية وابنه يزيد، قتله عبد الملك بن مروان بعد أن أعلن الخلافة لنفسه في دمشق حين خرج عبد الملك إلى رحبة.

(4) وذلك لأنها كانت على علم بأن الأشدق سمع الحديث من النعمان بن بشير.

(5) عقيلة الطهر والكرم: 76.

(6) سورة المزمل، الآيات: 1-20.

(7) عقيلة الطهر والكرم: 77.

(354)

 

ومن كلماتها في مصر على القول بأنها مدفونة هناك حين طلب منها أن يقدم إليها الطبيب عندما ألمت بها وعكة: يا قوم لسنا من هؤلاء الذين ينظرون إلى الدنيا وإلى البقاء فيها، لأننا أهل بيت النبوة، وأحب اللقاء إلينا لقاء ربنا، والطبيب لا يقدم الأجل ولا يؤخره(1).

وكانت السيدة زينب «عليه السلام» من أزهد وأعبد أهل زمانها فقد روى الإمام السجاد «عليه السلام»: إن عمتي مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا إلى الشام ما تركت نوافلها الليلية(2).

وفي رواية أخرى قال «عليه السلام»: إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها من قيام من الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس فسألتها عن سبب ذلك فقالت: أصلي من جلوس لشدة الوجع والضعف منذ ثلاث ليال لأنها كانت تقسم ما يصيبها من الطعام على الأطفال لأن القوم كانوا يدفعون لكل واحد منا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة(3).

ومن مواظبتها على النوافل جاءت وصية الإمام الحسين «عليه السلام» لها في وداعه الأخير: يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل(4) ولم تترك نافلة الليل حتى ليلة عاشوراء حيث تقول فاطمة بنت الحسين «عليه السلام»: «وأما عمتي زينب فإنها لم تزل قائمة في تلك الليلة في محرابها تستغيث إلى ربها فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رنة»(5).

ويذكر أنها كانت تناجي ربها في الليل وعقب صلواتها ومما كانت تناجيه مناجاة أبيها أمير المؤمنين «عليه السلام» والتي أولها- من الطويل-:

لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلى            تباركت تعطي من تشاء وتمنع(6)

_______
(1) عقيلة الطهر والكرم: 75.

(2) زينب الكبرى للنقدي: 62.

(3) زينب الكبرى للنقدي: 63.

(4) زينب الكبرى للنقدي: 62.

(5) زينب الكبرى للنقدي: 62.

(6) عقيلة بني هاشم للهاشمي: 16. وهي ثلاثون بيتاً.

(355)

 

ومن الأدعية التي كانت تدعو بها في آناء الليل وسكونه ما يلي:

«يا من لبس العز وتردى به، سبحان من تعطف بالمجد وتكرم، سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له جل جلاله، سبحان من أحصى كل شيء عدداً بعلمه وخلقه وقدرته، سبحان ذي العزة والنعم، سبحان ذي القدرة والكرم، اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم وجدك الأعلى(1)، وكلماتك التامات التي تمت صدقاً وعدلاً، أن تصلي على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، وأن تجمع لي خيري الدنيا والآخرة، اللهم أنت الحي القيوم أنت هديتني وأنت تطعمني وتسقيني، وأنت تميتني وتحييني، فارحمني برحمتك يا أرحم الراحمين»(2).

كما كانت تناجي ربها بهذه الكلمات على ما رواه الرواة والمؤرخين:    

«يا عماد من لا عماد له، ويا ذخر من لا ذخر له، ويا سند من لا سند له، ويا حرز الضعفاء، ويا كنز الفقراء، ويا سميع الرجاء، ويا منجي الغرقى، ويا منقذ الهلكى، ويا محسن يا مجمل، يا منعم يا متفضل، أنت الذي سجد له سواد الليل وضوء النهار وشعاع الشمس وحفيف الشجر ودوي الماء.

يا الله الذي لم يكن قبله قبل، ولا بعده بعد، ولا نهاية له ولا حد، ولا كفء ولا ند(3)، وبحرمة اسمك الذي في الآدميين معناه، المرتدي بالكبرياء والنور والعظمة محقق الحقائق ومبطل الشرك والبوائق(4)، وبالاسم الذي تدوم به الحياة الدائمة الأزلية التي لا موت معها ولا فناء، وبالروح المقدسة، وبالسمع الحاضر والبصر النافذ وتاج الوقار، وخاتم النبوة وتوثيق العهد يا الله لا شريك له»(5).

________
(1) الجد: بالفتح، الحظ، الحظوة، الرزق، والمراد به الحظوة وهي المكانة.

(2) السيدة زينب لجلهوم وحماد: 82 ومجلة لواء الإسلام 31/70/25 بتاريخ جمادى الأولى والثانية من عام 1397هـ.

(3) الند: المثل والنظير.

(4) البوائق: مفرده البائقة وهي الشر.

(5) زينب الكبرى للنقدي: 61.

(356)

 

ويذكر بأن هذا الدعاء كان من روايتها عن أبيها أمير المؤمنين «عليه السلام»(1).

وكان من زهدها أنها لم تدخر شيئاً من متاع الدنيا لغدها حيث يروى عن الإمام زين العابدين «عليه السلام»: «إنها ما ادخرت شيئاً من يومها لغدها  أبداً»(2).

وكان لها محبة خاصة في قلب أخيها الحسين «عليه السلام» كما كان هو كذلك بالنسبة إليها، وكان الإمام الحسين «عليه السلام» يجلها، ويذكر الرواة أنها دخلت يوماً على أخيها الحسين «عليه السلام» وكان يقرأ القرآن فوضع الحسين القرآن على الأرض وقام لها إجلالاً(3)، وأضاف بعضهم أنها إذا زارت أخاها الحسين «عليه السلام» قام إجلالاً لها ويجلسها بمكانه(4).

يقول المامقاني(5) عن جلالة قدرها: حملها الحسين «عليه السلام» مقداراً من ثقل الإمامة أيام مرض السجاد «عليه السلام» وأوصى إليها بجملة من وصاياه، وأنابها السجاد «عليه السلام» نيابة خاصة في بيان الأحكام وجملة أخرى من آثار الولاية(6).

وأما ابن الأثير فقد عدها من الصحابة وقال: «إنها أدركت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وولدت في حياته، ولم تلد فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته شيئاً وكانت زينب امرأة عاقلة لبيبة جزلة»(7).

وجاء في رواية حكيمة(8) بنت الإمام الجواد «عليه السلام» أن الحسين بن

_________
(1) عقيلة الطهر والكرم: 70.

(2) السيدة زينب لجلهوم وحماد: 83 ومجلة لواء الإسلام: 31/70/25 بتاريخ الجمادين من عام 1397هـ.

(3) زينب بنت الإمام أمير المؤمنين: 67 عن تحفة العالم: 1/231.

(4) عقيلة بني هاشم للهاشمي: 12 عن زينب الكبرى للنقدي: 22.

(5) المامقاني: هو الشيخ عبد الله وقد مضت ترجمته.

(6) تنقيح المقال: 3/79.

(7) أسد الغابة: 7/132.

(8) حكيمة بنت محمد الجواد: لم يذكرها جملة من المؤرخين، ولكن الطبرسي ذكرها في تاج المواليد: 130. وقد ولدت بعد سنة 212هـ وظلت على قيد الحياة عام 255هـ حيث شهدت ولادة الإمام المهدي «عليه السلام»، وكانت امرأة من ذوات العقل والحجى، وكانت عالمة بالأحكام، فقيهة في الشريعة، تقوم بإرشاد النساء وتستقبل =

(357)

 

علي «عليه السلام» أوصى إلى أخته زينب بنت علي بن أبي طالب «عليه السلام» في الظاهر، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين من علم ينسب إلى زينب بنت على تستراً على علي بن الحسين «عليه السلام»(1). وروى الصدوق(2) كانت لها نيابة خاصة عن الحسين «عليه السلام» وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتى برئ زين العابدين(3) من مرضه(4).

ومن كلماتها الحكيمة قولها: إن جدي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) شرع لنا حقوقاً لأزواجنا كما جعل على الرجال حقوقاً مفروضة، فالقرآن الكريم يقول: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة)(5).

ويروى عنها أنها قالت: يقول جدي الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: «إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت»(6).

ويروي أحمد بن جعفر بن سليمان الهاشمي(7) أنها كانت تقول: من أراد أن يكون الخلق شفعاءه إلى الله فليحمده، ألم تسمع إلى قولهم سمع الله لمن حمده، فخف الله لقدرته عليك، واستح منه لقربه منك(8).

__________
= بعض الخواص من الرجال، وكانت زاهدة ورعة روت عن ابن أخيها الإمام الحسن العسكري «عليه السلام».

(1) كمال الدين وتمام النعمة: 501، والغيبة للطوسي: 230.

(2) الصدوق: هو محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي سبقت ترجمته.

(3) وفاة زينب الكبرى: 14.

(4) وفاة زينب الكبرى: 14.

(5) سورة البقرة، الآية: 228 ورد الحديث في كتاب عقيلة الطهر والكرم: 75 عن ابن الأنباري.

(6) عقيلة الطهر والكرم: 70.

(7) أحمد بن جعفر بن سليمان الهاشمي: لعله حفيد سليمان بن عبد الله الهاشمي الذي كان شيخ الكوفة والذي سمع الإمام الجواد محمد بن علي «عليه السلام»، ولم نتعرف عليه من خلال بحثنا عنه في معاجم الرواة والأعلام.

(8) أعيان الشيعة: 7/140 عن مجلة العرفان: 1/76 عن بلاغات النساء ولكنا لم نعثر عليه في ترجمة زينب ولا في ترجمة أم كلثوم.

(358)

 

ومما روته السيدة زينب «عليه السلام» عن أمها فاطمة قالت قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إلا من مات على حب آل محمد مات شهيداً»(1)، ويذكر المجلسي بأنها روت عن أمها أخباراً(2) كما روت عن أبيها علي «عليه السلام» وعن أخويها والحسين «عليه السلام»، وكذلك عن أسماء بنت عميس، وأم سلمة وأم هاني(3) وذكوان مولى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(4).

هذا وقد روى عنها عبد الله بن العباس، وعبد الله جعفر، وفاطمة بنت الحسين «عليه السلام»(5)، كما روى عنها محمد بن عمرو الهاشمي، وعطاء ابن السائب(6) وأحمد بن محمد بن جابر، وزيد بن علي بن أبي طالب(7) وغيرهم(8)، وروى ابن عساكر بإسناده عنها عن ذكوان(9)- مولى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)-

____________
(1) اللؤلؤة الثمينة في الآثار المعنعنة المروية للشيخ محمد بن محمد الجشتي الداغستاني: 217 وآثار الحجة: 1/8 ورواه الشيخ محمد شريف رازي في كتابه گنجينه دانشمندان: الجزء الأول الصفحة 16 عن آية الله السيد شهاب الدين المرعشي النجفي، عن السيد محمد الغماري الشافعي في كتابه، عن فاطمة بنت الحسين الرضوي، عن فاطمة بنت محمد الرضوي، عن فاطمة بنت إبراهيم الرضوي، عن فاطمة بنت الحسن الرضوي، عن فاطمة بنت محمد الموسوي، عن فاطمة بنت عبد الله العلوي، عن فاطمة بنت الحسن الحسيني، عن فاطمة بنت أبي أحمد بن موسى المبرقع، عن فاطمة بنت الإمام بنت الحسن الرضا «عليه السلام»، عن فاطمة بنت موسى بن جعفر، عن فاطمة بنت الصادق ابن الحسين زين العابدين، عن فاطمة بنت أبي عبد الله الحسين، عن زينب بنت أمير المؤمنين، على فاطمة بنت رسول الله «عليه السلام» قالت قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألا من مات على حب آل محمد مات شهيداً».

(2) بحار الأنوار: 42/93 عن إعلام الورى: 1/396.

(3) عقيلة الطهر والكرم: 69- 70.

(4) تاريخ مدينة دمشق: 69/174، راجع أيضاً كتاب زينب الكبرى للنقدي: 69/174.

(5) السيدة زينب لجلهوم وحماد.

(6) عقيلة الطهر والكرم: 70، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 69/174.

(7) زينب الكبرى للنقدي: 37 عن علل الشرائع.

(8) سنترجمها في باب: (الراوون عن الحسين) إن شاء الله تعالى.

(9) في رواية طهمان بدل ذكوان.

(359)

 

أنه «عليه السلام» قال: «إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، وأن مولى القوم منهم»(1).

وروى محمد بن عمر الهاشمي عنها عن فاطمة الزهراء «عليه السلام» أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر إلى علي فقال: «هذا في الجنة»(2).

وقد روى عنها ابن عباس حديث فدك، وعبر منها بكلمة «عقيلتنا»(3)، وقد خاطبها الإمام السجاد «عليه السلام» بقوله: «أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة»(4).

فكانت السيدة زينب «عليه السلام» تنظر بعين الله وتتنفس برئة الإسلام وتخطو بخطى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) تنطق بمنطق علي «عليه السلام»، وتعمل بزهد فاطمة «عليه السلام».

وقد حضرت الطف وواست أخاها الحسين «عليه السلام» بكل ما تملك من طاقات وواكبت كل ظروفه الصعبة ومحنه الجمة إلى أن استشهد «عليه السلام» فأكملت بقية مراحل نهضته المباركة، وبادرت إلى تحمل جميع المسؤوليات التي ألقيت على عاتقها من حين أفول نجم الحسين «عليه السلام» من حياة الدنيا وحتى غياب نجمها، وذلك في الخامس عشر من شهر رجب المرجب عام 62هـ، على ما هو المشهور بين المؤرخين، وذلك مساء يوم الأحد(5) ليلة الاثنين، وهناك من ذكر بأن وفاتها كانت عام 74هـ(6)، إلا أنه لم يدعم بدليل، ولم يعرف عنها طيلة فترة رجوعها إلى المدينة وحتى هذا العام ما يثبت وجودها، ومثله ما قيل إن وفاتها كانت عام 65هـ(7).

وننهي حديثنا عن السيدة زينب الكبرى أولى بنات فاطمة الزهراء وعلي «عليه السلام» لنكمل الحديث عنها في معجم الشعراء حيث رثت أخاها

___________
(1) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 69/174.

(2) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 69/175.

(3) زينب الكبرى للنقدي: 27.

(4) زينب الكبرى للنقدي: 34.

(5) عقيلة الطهر والكرم: 64، زينب وليدة النبوة والإمامة: 192.

(6) عقيلة بني هاشم للهاشمي: 69 عن لواقح الأنوار.

(7) راجع هامش نهضة الحسين للشهرستاني: 109.

(360)

 

الحسين «عليه السلام» وأهل بيته، كما أعرضنا هنا عن ذكر مواقفها من خلال النهضة الحسينية المباركة، وذلك لأننا أوردناها في السيرة الحسينية فلتراجع، مضافاً إلى أننا عرضنا جانباً آخر من حياتها في معجم الرواة حيث يذكر المؤرخون بأنها روت عن أخيها الحسين «عليه السلام».

وأما عن مرقدها فقد بحثناه في تاريخ المراقد وذكرنا تفاصيل عن المراقد التي تنسب إليها، سواء تلك تقع في رواية دمشق، أو الحمراء (القصوى)(1) بالقاهرة أو في سنجار الموصل أو في بقيع المدينة، وإن كانت المعطيات لحد الآن تجعلنا نرجح كون مرقدها في القاهرة، وأن الذي بالشم هو مرقد شقيقتها أم كلثوم أو أخرى والله العالم- كما عليه الكثيرون.

وإنما رحلت من المدينة بإكراه من قبل السلطات الأموية حيث كانت تؤلب الناس عليهم برثائها للحسين «عليه السلام» وأهل بيته وأنصاره، وعلى فرض صحة رحلتها إلى مصر فإنها وصلتها في غرة شعبان من عام 61هـ(2) وبالمناسبة نود أن ننقل ما رواه العبدلي (214- 277هـ). في مسألة وفاتها وسفرها إلى مصر والذي هو من أعلام القرن الثالث الهجري ومن أحفاد الإمام السجاد «عليه السلام»، ولعل أهل البيت أدرى بأحوال شخصياتهم، ننقل هنا مروياته بأسانيدها لعل القارئ ينتفع بها إلى أن نتحول إلى تاريخ مرقدها في فصل آخر من فصول هذه الموسوعة:

1- روى العبدلي(3) قال: حدثنا زهران بن مالك(4)، قال سمعت

__________
(1) ويقال لها قناطر السباع.

(2) السيدة زينب لجلهوم وحماد: 99، عقيلة الطهر والكرم: 141، سيدات بيت النبوة: 876.

(3) العبدلي: هو يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله الأعرج ابن الحسين الأصغر ابن الإمام زين العابدين «عليه السلام» المولود سنة 214هـ، والمتوفى سنة 277هـ، وقد سبقت ترجمته.

(4) زهران بن مالك: بفتح الزاي وسكون الهاء اسم جاهلي قليل الاستخدام وفي الأساس اسم أبي قبيلة وهو ابن كعب بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأزد، وأما زهران بن مالك يبدو أنه كان مدنياً وعهده يعرف ممن روى هو عنه، أو روي عنه وإلا فإن كتب التراجم لم تذكره، فقد روى العبدلي المولود عام 214هـ منه كما =

(261)