ديوان الوائلي

اسم الکتاب : ديوان الوائلي

المؤلف : ديوان شعر الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (قدس سره) عميد المنبر الحسيني
المطبعة : المكتبة الحيدرية

 

 

 

 

الشعر السياسي

 

       1- رسالة شعر                  8- سناء محيدلي

       2- من وحي النكسة                   9- الذبابة المسافرة

       3- حديث فلسطين              10- عاشق الظلام

       4- بغداد                         11- كواذب الأحلام

       5- العمل الفدائي                12- جيل الحجارة

       6- مع التايمس                 13- عتاب الجراح

       7- محنة الدهر                  14- قانا وفتح الدم

 

(325)

 

(326)

 

(رسالة الشعر)

       ألقيت في مؤتمر الأدباء العرب ببغداد عام 1965م

لغدٍ سخي الفتح ما نتجمع        ومدى كريم العيش ما نتوقع

يا مهرجان الشعر عبئك مجهد          فإذا نهضت به فإنك أروع

إنا نريدك والأماني جسدت             بك رائداً يبني وفكراً يبدع

أنا إن شدا بك مزهري فلأنك           اللحن المحبب والنشيد الأروع(1)

ولأن أهدافاً توحد أو دماً         غمر العروق قرابة لا تقطع

بالأمس والحقد اللئيم يسومنا            فيجف في يده الأغض الأينع(2)

فابعث بروح منك في تلعاتنا            لترف مجدبة ويورق بلقع(3)

لسنا بمعهود على أبعادنا         يبس فدنيانا الربيع الممرع

أي الكرائم ليس في أعناقها             مما نسجناه العقود اللمع؟

أم أي وضاء وليس بجذره              قبس لنا يجلو الظلام مشعشع(4)

سدنا فما ساد الشعوب حضارة         أسمى ولا خلق أعف وأورع(5)

قدنا الفتوح فما تشكى وطأنا            فكر ولا دين ولا من يتبع

حتى الرقيق تواضعت أحسابنا         كرماً فأوليناه مالا يطمع(6)

عفواً إذا جمح الخيال فلم أجئ          للأمس أمري الضرع أو أسترضع

 

_______________
(1) المزهر: العود الذي يضرب به أو يعزف عليه.

(2) يسومنا: يذلنا.

(3) التلعات: جمع  تلعة وهي الأرض المرتفعة أو المنخفضة.

(4) القبس: ما يستضاء به من الشعل وغيرها.

(5) أورع: أقتى.

(6) الرقيق: المملوكون.

(327)

 

لكنها صور جلوت ليرسم الـــ          فجر المشرف والأصيل المفجع(1)

وليستبين الشعر أي رسالة              يدعى لها وبأي أمر يصدع(2)

يدعى إلى وطن يشظي خصمه         أوصاله بيد الهباة، ويقطع(3)

والمبتلى بينيه في نزواتها       تعطيه مزرعة لمن لا يزرع

يدعى ليهدم ما بنوه حواجزاً            ويلم ما قد مزقوه ووزعوا

***

يا مهرجان الشعر حسب جراحنا       أن الهوى مما تعتق يكرع(4)

ولقد نغص لما نقول بأنها        يلهو بها الآسي ويسخر مبضع

غنى بها نفر فألم حزننا          إن التغني بالجراح تنطع(5)

ولشد ما يؤذي الكرامة أن نرى        صوت المساوم بالكرامة يرفع

هذي رحاب القدس منذ ترنحت        صرعى إلى زعقاتنا تتسمع

تصحو على نوءٍ فتتلع جيدها           وتراه من خدع السحاب فتهطع(6)

عشرون كفاً حرة ما أوقفت             مهوى يدٍ مغلولة إذ تصفع

الشوط تغرقه السروج وإنه             دون السروج لفارس يتطلع(7)

كنا نهب على الزعيق ومذ طغى       صرنا ننام على الزعيق ونهجع

فأثر منومة الجراح وقل لها            ثوري فمن مثل الجراح يلعلع

_______________
(1) جلوت: أوضحت.

(2) صدع بالأمر: أصاب به موضعه وجاهر به دون خوف من أحد.

(3) الهباة: جمع الهابي أي الناهب المحتاج، وقد جمعهم الشاعر جمع تكسير بدل جمع المذكر السالم.

(4) يكرع: يشرب بفيه دون أن يستعمل يديه.

(5) التنطع: التكبر والمغالاة.

(6) تتلع: ترفع. تهطع: تديم النظر إليه في مذلة.

(7) الشوط: ساح السباق أو العدو مرة واحدة إلى غاية محدودة.

(328)

 

لا تشتمن الخطب أو تبكي له           فالخطب ليس بمثل ذلك يدفع

فلقد شتمنا الرزءً حتى أتخمت          آذانه والرزء باقٍ مزمع(1)

لكن تصد له فإن أخضعته       تحيا وإن خفت الممات ستخضع

فالمجد يحتقر الجبان لأنه        شرب الصدى وعلى يديه المنبع(2)

***

قالوا بأن الشعر لهو مرفه       وسبيل مرتزق به يتذرع

وإذا تسامينا به فهو الصدى             للنفس يلبس ما تريد ويخلع(3)

إن تطرب الأرواح فهو غناؤها        وإذا شجاها الحزن فهو الأدمع

فذروه حيث يعي غريداً على           فننٍ وملتاعاً يئن فيوجع

لا تطلبوا منه فما هو بالذي             يبني ويهدم أو يضر وينفع

أكبرت دور الشعر عما صوروا        وعرفت رزء الفكر في من لم يعوا(4)

فالشعر أجج ألف نار وانبرى           يلوي أنوف الظالمين ويجدع(5)

لو شاء صاغ النجم عقداً ناصعاً        يزهو به عنق أرق وأنصع

أو شاء رد الرمل من نفحاته           خضلاً بأنفاس الشذا يتضوع

أو شاء رد الليل في أسماره            واحات نور تستشف وتلمع

أو شاء قاد من الشعوب كتائباً          يعنو لها من كل أفق مطلع(6)

أنا لا أريد الشعر إن جدت بنا          نوب يخلي ما عناه ويقبع(7)

_______________
(1) الرزء: المصيبة.

(2) الصدى: العطش الشديد.

(3) الصدى للنفس: ترجيعها وارتدادها.

(4) من لم يعوا: الجهلة وضيقوا الأفق.

(5) يجدع الأنوف: يقطعها.

(6) يعنو: يخضع وينصاع.

(7) يقبع: يتقوقع على ذاته.

(329)

 

أو أن يوشي الكأس في سمر الهوى           ليضاء ليل المترفين فيسطع

أو أن يباع فيشتري إكليله        تاج من المدح الكذوب مرصع

لكن أريد الشعر وهو بدربنا            مجد وسيف في الكفاح وأدرع(1)

***

بغداد يا زهو الربيع على الربى        بالعطر تعبق والسنا تتلفع(2)

يا ألف ليلة ما تزال طيوفها             سمراً على شطآن دجلة يمتع

يا لحن (معبد) والقيان عيونها          وصل كما شاء الهوى وتمنع(3)

***

بغداد يومك لا يزال كأمسه             صور على طرفي نقيض تجمع(4)

يطغى النعيم بجانب وبجانبٍ           يطغى الشق فمرفه ومضيع(5)

في القصر أغنية على شفة الهوى             والكوخ دمع في المحاجر يلذع(6)

ومن الطوى جنب البيادر صرع       وبجنب زق أبي نؤاس صرع(7)

ويد تكبل وهي مما يفتدى        ويد تقبل وهي مما يقطع

وبراءة بيد الطغاة مهانة         ودناءة بيد المبرر تصنع(8)

_______________
(1) الأدرع: الدروع، جمع درع وهو ما يلبس في الحرب وقاية للجسم من الإصابات.

(2) تتلفع بالسنا: تشتمل به وتتغطى.

(3) معبد: مطرب وملحن قديم. والقيان: جمع قنية: الأمة، وغلب على المغنيات.

(4) على طرفي نقيض: متناقضة.

(5) المرفه: الميسور المتنعم. والمضيع: الذي لم يقدر حق قدره فافتقر.

(6) المحاجر: جمع محجر وهو ما أحاط بالعين.

(7) الطوى: الجوع. والبيادر: جمع بيدر، وهو الموضع الذي يداس فيه القمح ونحوه لإخراج الحب من سنابله. والصرع: الصرعى أو المصروعون: المطروحون على الأرض بين الموت والحياة. أما صرع الثانية فقصد بها الثملين المخمورين الذين أفقدهم الشراب الوعي.

(8) أهان البراءة: ألحق بها الذل والهوان واستخف بها واحترقها. ومبرر الدناءة: مزكيها ومدعي الأسباب التي تبيحها.

(330)

 

ويصان ذاك لأنه من معشر            ويضام ذاك لأنه لا يركع(1)

كبرت مفراقة يمثل دورها              باسم العروبة والعروبة أرفع(2)

فتبيني هذي المهازل واحذري          من مثلها فوراء ذلك إصبع

واستلهمي روح الوفود فإنها            شمل يلم وأسرة تتجمع

وترسمي الركب المغذ ولاتني          فالركب أتفه ما به من يظلع(3)

وإذا لحت على طريقك عتمة           وستلمحين لأن دربك أسفع(4)

شدي وهزي الليل في جبروته   وبعهدتي أن الكواكب تطلع(5)

***

يا مهرجان الشعر مر بأفقنا            وهج يفح من السموم ويفزع

بالحقد تسقى ما علمت جذوره          وبثوب إنسانية يتبرقع

يمشي غلى الهدف الخدوع ولو على          برك الدما وغليله لا ينقع(6)

أغرى الخطايا بالنعوت رفيعة          ومشى على القيم الكريمة يقذع(7)

فالله وهم والفضيلة كلها          ترف وما رسمت وما تستتبع

ما الفرد إلا معدة وغريزة       وسواهما أكذوبة وتصنع

ومشى بمعصوب العيون يقوده         يبكي إذا أوحى له ويرجع

_______________
(1) يصان: يترك المذنب بدون عقاب. لأنه من معشر: من جماعة معينة. ويضام: يظلم ويقهر. لأنه لايركع: لا ينافق.

(2) المفارقة: التباين والتباعد بين أمرين. ويمثل دورها: تستغل. والعروبة: مايجمع خصائص الجنس العربي ومزاياه من لفظ يتسمون به أو ينتسبون به.

(3) ترسمي: اتبعي واقتدي. ولاتني: لا تضعفي أو تفتري أو تتعبي. ويظلع: يميل عن الحق.

(4) الأسفع: الأسود في حمرة، والمظلم.

(5) الجبروت: التجبر الكبير والعتو والقهر.

(6) غليله لا ينقع: لا تهدأ ثائرة حقده ولايرتوي تعطشه للإيذاء.

(7) يقذع: يشتم بالكلام السيء ويفحش.

(331)

 

سواه من دنس فماتت عنده             فطر سليمات ولوث منزع(1)

وأسف فاحتضن المسوخ يربها         حتى تعملق في ذراه الضفدع

حتى إذا الطغيان طاح بأهله            وكبا به بغي وأوشك يصرع

ألقى لنا صوراً تعدد نعتها       لكنها تنمى إليه وترجع

فأنهد له بالفكر يخضد جذره            فالفكر ليس بغير فكر يقرع(2)

وأغث جياع عقيدة فهم إلى             فكر يسدد من طعام أجوع(3)

قدهم إلى نبع السماء نطافه             عذب وسائغ ورده لايمنع(4)

واسلك بهم درباً أضاء محمد           أبعاده وجلاه فهو المهيع(5)

وأنا الضمين بأنه سيعيدهم              ألقاً يمت إلى السمو وينزع

وسيعرفون بأن ما شرع السما          بيني الكريم الرغد لا ما شرعوا

***

يا مهرجان الشعر إن ثمالة             من كأس غيرك عافها المترفع(6)

ما آمنت بك غير أن ظروفها           تملي ولاء بالرياء يقنع

ولجت حماك وفي الرؤوس مخطط           وأعيذ قومي من لظاه مروع

وهي التي إن أوترت أقواسها           في غفلة فأنا وأنت المصرع(7)

فتوق أرقمها فلست بواحدٍ        صلاً على طول المدى لا يلسع(8)

_______________
(1) الفطر: جمع الفطرة، وهي الخلقة التي خلق عليه المولود ي أول خلقه، أو الطبيعة السليمة التي لم تشب بعيب. والمنزع: الاشتياق والطموح.

(2) فانهد له بالفكر: تصد له به. ويخضد الجذر: يكسره او يقطعه أو ينزع شوكه.

(3) الفكر الذي يسدد: الذي يوجه إلى جادة الحق.

(4) نطافه عذب: ماؤه الصافي سانغ. وسانغ ورده: الإقبال عليه للنهل من نبعه الصافي.

(5) المهيع: الطريق الواسع البين.

(6) الثمالة: البقية الباقية في الكأس بعد شرب معظم محتواه. وعافها: كرهها فتركها.

(7) أوترت أقواسها: سددت رمايتها إلى مراميها. والمصرع: الهدف والمرمى.

(8) توق: احذر واحترس. والأرقم: أخبث الحيات أو ذكرها. والصل: الحية الخبيثة أو الدقيقة الصفراء.

(332)

 

لا تطربن لطبلها فطبولها        كانت لغيرك قبل ذلك تقرع

ما زلت أعرف في يديها من دمي             علقاً وهل تنسى ضناها المرضع

أيام نقتسم اللظى وصدورنا             تضرى فيمنحها الوسام المدفع

ودماؤنا امتزجت سواه فلم تكن         فرقاً يصنفها الهوى وينوع

وتعانقت فوق الحراب أضالع          منا فما ميزت هنالك أضلع

حتى إذا أرسى السفين وعافه           نوء زحمنا منكبيه زعزع(1)

عدنا وبعض للسفين حباله       والبعض حصته السفينة أجمع

ومشت تصنفنا يد مسمومة              متسنن هذا وذا متشيع

يا قاصدي قتل الأخوة غيلة             لموا الشباك فطيرنا لا يخدع

غرس الإخاء كتابنا ونبينا       فامتد واشتبكت عليه الأذرع

***

_______________
(1) الزعزع: الشديد الذي يزعزع الأشياء كالريح وما شابهها.

(333)

 

من وحي النكسة

       نظمت عام 1967م

أمتي أرست الخطوب السود            فاقرعيها ولا يلن لك عود

وانتشي باللظى فما برح الكأ           س خلياً من اللظى يستزيد

أجحيه كيلا يبوخ فإن النار             أن يتبع الوقود الوقود

وانشقي من دخانه فدخان        النار في زحمة المعامع عود(1)

إنه الإثمد المحبب لن تكــ        ــحل من مثله العيون السود(2)

واستزيدي من الهدير لذيذ الــ          ــوقع حتى من وقعه لا مزيد

إنه، والخطي ينتهل الطعـــ             ـــن خضيب من الدما، تغريد(3)

والجباه السمراء تستشرف النا          ر كما استشرف الهوى معمود(4)

أنت بين اثنتين إما وجود        يتحدى الفنا وإما لحود(5)

فأبوك ابن بجدة ما احتواه        غير بردٍ محبرٍ أو صعيد(6)

***

أمتي واسألي النجوم أما كنا            غزاةً عبر النجوم نرود

وزرعنا الفتوح في كل فج       فلنا فوق كل أرضٍ شهود

الخدود المصعرات وسمنا       ها فخرت على ربانا الخدود(7)

_______________
(1) المعامع: الحروب والفتن.

(2) الإثمد: الكحل الأسود الذي تكتحل به النساء.

(2) الخطي: الرمح.

(4) تستشرف النار: ترفع بصرها ناظرة إليه. والمعمود: الذي هده العشق.

(5) الفناء: الانتهاء من الوجود، ضد البقاء. واللحود: جمع لحد، وهو المكان الذي يوضع فيه الميت من القبر.

(6) ابن بجدة: العالم بالأمور. والبرد المحير: الثوب المزركش المحسن. والصعيد: المرتفع من الأرض.

(7) الخدود المصعرات: المتمايلة كبرا وعجباً. وسمناها: أثرنا فيها. وخرت: سقطت.

(334)

 

وافترعنا الصعاب بالسيف فانها        رت لدينا حواجز وسدود

إن نهدنا للفتح تسبقنا الأصــ            ــداء حتى تفر منها الجنود

أو قرعنا الزحوف فلت ولو أن         سرحاً على يدينا جريد(1)

أو مشت خلينا تبرجن يلثمـــ            ـــن خطاها أباطح ونجود(2)

في محاربينا التقى والهدى              والذكر لله لا سواه سجود

ولأقلامنا الحضارات ما زا             ل إلى الآن جذرها مشدود

ولأمجادنا بكل رباع             الأرض صرح إلى السما ممدود

ثم عذراً فما اجتررت ولكني تساءلت كيف لان الحديد

أهو عيب المواد أم عيب من يبني فقد ضلل النهى التعقيد(3)

غير أني وربما شذ رأي         وتخطى الصواب فكر سديد

ما ترددت أنه عيب بانٍ          صنع الجيل صنع من لا يجيد

فاعذروا أيها البناة إذا ذابوا فعند اللظى يذوب الجليد

قدتموهم بألف دربٍ فتاه القصد فيهم واستبهم المقصود(4)

***

أمتي والشموخ والعزة القعساء والمجد باذخ والصمود(5)

والهدير المرنان في حلبات الفتح نشوان من صداه الوجود

والسنا المشرئب في فجرنا الزاحف تجلو الظلام منه بنود

_______________
(1) الزحوف: جمع زحف: وهو تقدم الجنود للقتال، وفلت: هزمت. والجريد: العود من النخلة أو غيرها.

(2) تبرجن: تزين. والأباطح: جمع أبطح وهو المسيل الواسع فيه دقاق الحصى والتراب. والنجود: جمع نجد، وهو التل أو الجبل الصلب.

(3) ضلل النهى التعقيد: حيرت العقل المفارقات والملابسات.

(4) تاه القصد فيهم: لم يهتدوا إلى الصواب. واستبهم المقصود: لم يفهموا أو لم يعرفوا الاتجاه الصحيح الذي يجب أن يسلكوه.

(5) العزة القعساء: الحمية الممتنعة الثابتة. وباذخ: عالٍ.

(335)

 

وصروح من دونها سقطت هام وبانت سواعد وزنود(1)

شهد الدم أننا دون مبناها زحمنا القراع وهو شديد(2)

ذهبت والتوى الشموخ وقالت           نخوة: أين من جدودٍ حفيد؟

واستفاق الإباء ينكر ما صرنا إليه ولج فيه الجحود(3)

وتمطى دم عصي على الجلى أبي على الهوان عنود(4)

يتحدى رواية النكسة الشنعاء بل فرية رواها حسود(5)

وجراح موجودة من حراب القوم ينزو فيها دم وصديد(6)

كذبت وهي بالشفار تشظى             أن من يحمل الشفار اليهود(7)

***

وأفقنا بزعمنا غير أنا            ما عرفنا للآن أنا رقود

وبأن الذي حسبناه يوم الروع فقعا ورب زعمٍ بليد(8)

وضع القيد في يدينا ونحن السادة الغر والأباة الصيد

فابك يا فخر واخرسي يا مواويل وقل أيها الشجا ما تريد(9)

_______________
(1) صروح من دونها سقطت هام: جمع صرح وهو البناء العالي الضخم، قصد بها الإنجازات الحضارية العربية الإسلامية. وسقطت هام: قصد بها التضحيات والاستشهاد في المعارك حيث تقطع الرؤوس والأيدي.

(2) دون مبناها (مبنى الصروح الحضارية)، وزحمنا القراع: أقبلنا على القتال.

(3) الإباء: رفض الضيم والامتناع والأنفة. وينكر ما صرنا إليه: حالنا الحاضرة. والجحود: الإنكار مع العلم (عن قصد).

(4) الحلى: الأمر الشديد والخطب العظيم.

(5) فرية: كذبة وافتراء.

(6) حراب القوم: اسلحتهم. وينزو: يثب. والصديد: الدم المختلط بالقيح في الجرح.

(7) الشفار: جمع شفرة، وهو ما عرض وحدد من الحديد كحد السيف وغيره. تشظى: تتشظى: أي: تتشقق وتتفرق وتتطاير شظايا.

(8) الفقع: ليس أكثر من فقاعات طافية على السطح لا قيمة لها.

(9) الشجا: ما يعترض في الحلق من عظم ونحوه، وقصد به الغصة التي تعترض النفس أو الصدر فتجعل الإنسان يحس وكأنه يكاد يختنق من الهم والحزن.

(336)

 

واستكيني يا كبرياء لذل         ما لمعناه في الهوان حدود

صوح الحقل يا جهام ومات الزرع من جذره ففيم الرعود؟(1)

يا ذر خيبر! أما من علي        يتلوى بكفه أملود(2)

ينتضينا سيفاً ويرجع أسرا       نا فقد أطبقت عليها القيود(3)

وسوي زيف الطبائع حتى       كل شيء لأصله مردود

حيث ما استأسد ابن آوى ولكن         خدرت في مروضيها الأسود(4)

***

يا جراحاً قد ضمدوها بجرحٍ           هل لجرح بمثله تضميد؟

كان جرح بالأمس عالج منه الشاعر الفحل والخطيب المجيد

وآتى جرح اليوم ينشد طباً              فتصدى إلى العلاج النشيد

وصداح من المها راعش الوقع يزكي حماسه التنهيد

واصدحي يا مهاً على راعش النغمة ولتشرع الرماح النهود(5)

يا لوجدي من راقصين على البلوى كأن الشقا لديهم عيد

***

وتبارى المبررون، وكم هان على ثغر نائح تعديد!(6)

ووقفنا وللشجون حوالينا حديث يمله الترديد

فهنا يبعث الأنين جريح          وهنا يلفظ الحياة شهيد

وهنا طفلة وطفل يتيم            والأسى والحرمان والتشريد

_______________
(1) صوح: يبس حتى تشقق. والجهام: السحاب الذي لاماء فيه.

(2) علي: قصد: متصد ذي نخوة يناضل. الأملود: الناعم وقصد به السيف.

(3) ينتضينا سيفاً: يقودنا لرد الحق.

(4) خدرت: تخدرت أو سكنت في الخدر وهدأت. والمروض: الذي يذلل الطباع والنفوس لتصير سلسلة الانقياد.

(5) المها: البقر الوحشي، ويطلق اللفظ على النساء لاتساع عيونهن وجمالها.

(6) وتبارى المبررون: الذين يبررون النكسة بحجج واهية يسمعون أصوات النائحات على الموتى.

(337)

 

وبقايا أم برتها الرزايا           ببقايا حطام روح تجود

وعلى صدرها تكور طفل       ذكل ما فيه نابض ووريد

شاحب الوجه يطلب الدر من أثداء جفت فليس إلا جلود

***

وصباياً بالأمس ود شفيف النور لو أنه لهن برود

ناعمات فواغم بالشذا والعطر لدن من البضاضة غيد(1)

بتن يرفلن في الشباب ربيعاً            خضلاً لونت رؤاه الورود

ثم أصبحن والمواطن نهب             ولذيذ الأوطار حلم بديد

لا أب يحضن الصغار ولا عش به تحتمي ولا من يذوذ

ما لها غير حيمة أشبعتها الريح مزقاً فنث منها الجليد(2)

وفراش مهلهل فيه للإحسان والمن في الرقاب عقود

وهموم وما أظن الرزايا         عرفت مثلهن مما يؤود(3)

نم عنهن في الترائب جمر       وحكاهن في المآقي جمود(4)

***

أيها اللاجئون يا وشل الآلام يا نضو نكبة لا تحيد(5)

يا لقى لا غلى الممات فيرتاح ولا من حياته يستفيد

_______________
(1) الفواغم: الورود المتفتحة. وهي جمع فاغمة. أراد تشبيه الصبايا بتفتح الورود. البضاضة: مصدر بض. والبض: رقيق الجلد الممتلئ، وأراد: أنهن رقيقات وجميلات.

(2) نث منها الجليد: نزل وانتشر الجليد من فتحات الخيمة لكونها ممزقة لا تحمي من برد أو حر.

(3) مما يؤود: مما يتعب ويجهد. أي أن الهموم والرزايا التي سببتها النكسة تتعب وتجهد المرء وتثقل كاهله.

(4) نم عنهم في التراب جمر: نتج. والترائب: الأضلاع. أراد الألم الذي يتقد داخل الإنسان كاتقاد الجمر.

(5) الوشل: الدمع القليل أو الكثير. ووشل الآلام: دمعها. ونضو النكبة: إجهادها. يقال: (فلان نضو سفر) أي: مجهد من السفر.

(338)

 

هوموا ليلكم بما فيه بالقر وشرب الدموع والتسهيد(1)

هل أتاكم بأن ليل رؤوس        شهرزاد تحكي وخمر وعود

واغتنام لحاضر لا يبالي         بغدٍ أو مدقع أم رغيد

وأماني ضاحكات وللموت أمانيكم الثقال السود؟!

أيها الكاس فيم حلمك بالصهباء والكرم ما به عنقود(2)

***

أيها اللاجئون هان على النظار ما قد يذوقه المجلود

فإذا شئتم الحياة فموتوا           فوراء الممات بعث جديد

احسبوا كل ما ترون سراباً             لا يروي الغليل حتى تعودوا

***

يا فيتنام! يا لهى تكرع الموت إذا خاف حتفه الرعديد!

يا خطى داست الغرور جباهاً          وأذلته وهو صلف حقود!(3)

قسرت للركوع آلهة الحرب فأهوى إلى النزول الصعود

ذكرينا إذا نسينا البطولات فقد يعتري الذكي شرود

وامنحينا وقداً ليصهر برد       يستوي فيه قائد ومقود

***

_______________
(1) القر: البرد، أي: اقضوا ليلكم بالبرد وشرب الدموع التي تسيل على خدودكم من الحزن والتنهد على فوات النصر ومر الهزيمة.

(2) الصهباء: الخمر: أي: لماذا تحلم بالارتواء، والكرم لا يحمل عنقوداً واحداً من العنب. والكلام كناية عن اليأس.

(3) وهو صلف حقود: الصلف: مجاوزة القدر في الظرف والبراعة والادعاء فوق ذلك تكبراً.

(339)

 

حديث فلسطين

       نظمت عام 1967م

فلسطين ما بخل المنفق          ولا هو الكتف المرهق

ولا مات بالعزمات اللهيب              ولا أضظلم الأمل المشرق

وما برح الساح أحلامه          تهدهدها الضمر السبق(1)

وينتظر الكبرياء الجريح         مصير بأمثاله أليق

فإما إلى حي يرضى الشموخ           وإما بعفر الثرى يلصق(2)

فشدي الأكف وغذي اللهيب            وخلي اللظى باللظى يلحق

وضمي لتلك الجراح الجراح           فما وقع جرح بمن مزقوا

وهاتي إلى الخطب أعتى الخطوب            فما يرهب المطر المغرق

ولا تلبسي اليأس زهو الزحوف        وإن خسر الشوط من أعنقوا(3)

فما زال منذ وعينا الوغى       يطيح ويرتفع البيرق

ومن لذعوا بلهيب الشواظ       جنوا منه نضجاً وإن أخفقوا(4)

ومهلاً فكم تلد النائبات           لهاذم في خوضها أخلق(5)

وللجمر نبت ومن طبعه         بغير لظى الجمر لا يورق

فلسطين والفجر دامي الشروق         وأبعاد سينا لظى يحرق

 

_______________
(1) تهدهدها الضمر السبق: تحلم أحلاماً لذيذة بالنصر وتحقق الآمال الحلوة... الضمر: جمع ضامر، والسبق: جمع سابق، وهما صفتان تمتدح بهما الخيول التي هنا هي رمز للفوز والنصر.

(2) وإما بعفر الثرى يلصق: وإما هزيمة تلصق الجباه بالتراب.

(3) زهو الزحوف: الفخر والتباهي بنصر قريب عند التوجه إلى المعارك. ومن أعنقوا: من أسرعوا إلى القتال متطاولين بأعناقهم.

(4) من لذعوا بلهيب الشواظ: من اكتووا بنار الحرب. الشواظ: اللهب الذي لادخان فيه.

(5) اللهاذم: جمع لهذم: السيوف القاطعة الحادة، وقصد الأبطال الماضين في قتالهم كالسيوف الذين يكونون في خوض المعارك عند النوائب او المصائب أكثر جدارة ومضاء.

(340)

 

وفي القدس حيث الصمود العنيد        على الموت أنيابه تطبق

وفي طبرية منا فم         بغير القذائف لا ينطق

وحيث مشاعرنا وحدة           دعا مغرب فانتخى مشرق

وجلجل صوت على الرافدين           فحنت إلى وقعه جلق

وصوت بأوراس هزت له       أغادير واختلجت طبرق(1)

كذا نحن يا هضبات الخليل             غصون إلى أصلها تعرق

محمد في فكرنا يشرق           ويعرب في دمنا يدفق

فقري وإن أثخنتك الجراح       فإنا إليك هوى شيق(2)

سنمشي يجر الخميس الخميس          ويدفع في فيلق فيلق(3)

سنعطيك حتى يقول العطاء             كفى أيها الدم ما تهرق

سنرضيك حتى يقول الوفاء             صدقتم وكذب ما لفقوا

سنستاف تربك حيث الدماء             عبير بأفنائه يعبق(4)

فما مسح الذل إلا دم             فذلك يوم اللقا أصدق

***

فلسطين لا ذكرتنا الحياة         إذا ما نسينا رؤى تألق

رؤى هي إن خطرت بالخيال          أضاء الخيال بها رونق(5)

تقول ملامحها للجنان            إذا ذكرت أينا أأنق(6)

      

_______________
(1) أوراس: جبال في الجزائر. وأغادير: مدينة على ساحل المغرب العربي. والصوت: دعوة الداعي إلى التوحد العربي.

(2) قري: اهدئي واسكني، وإن كثرت جراحك، فهوانا وشوقنا إليك لايزايلاننا.

(3) الخميس والفيلق: من الوحدات العسكرية أو الجيوش.

(4) سنستاف تربك: إما من السف وإما من اتخاذ الترب سيوفاً. والعبير الذي يعبق بأفنائها: أراد به ريح دماء الشهداء التي تعبق في جنباتها.

(5) الرؤى: الآمال والتطلعات والأحلام الحلوة. وإن خطرت بالخيال: إن لمعت بارقة به واعتملت في النفس. وأضاء الخيال بها رونق: كان لها صفاء ولمعان في الخيال.

(6) الجنان: الجنات: جنان الخلد أو الحدائق والبساتين. أينا أأنق: آنق أو أكثر روعة حسن وأناقة. أي: تتباهى عليه بجمالها.

(341)

 

متون التلاع على سهل يافا             ومطرفها الخضل الأزرق(1)

رفيف السنابل في حقلها         وزهو الكروم وما تعذق(2)

حضائر يسكر أبعادها           غناء الصغار وما موسقوا(3)

تفجر خيراتها لليعود             ومن حولها أهلها ترمق

مشردة للطوى والذبول          وللنائبات وما يطرق

وللذل ينهش في الكبرياء        وللهم يحنى له المفرق

ونطق الأسى في عيون الصغار        وإن لم يقولوا ولم ينطقوا

وأسئلة في شفاه الصبي          لأم بعبرتها تخنق

تلهب أضلاعها إذ يقول          أأماه أين أبي المشفق

وأين أخي ولداتي وأين          ملاعب داري التي أعشق

لماذا أنام بهذي الخيام            وخدي على الترب لا يرفق

وأمي بجنبي تنث الدما           ء من صدرها وأخي يشهق(4)

لماذا يسموننا اللاجئين           أليس لنا وطن مسبق

أما كنت بالأمس ترب النعيم            أعب وكاساته تدهق(5)

يغازلني النجم في مضجعي             فلي مطرف منه أو نمرق(6)

وأرجوحتي في مهب العبير            لعوب بدرب السنا تمرق

وكم لي من حلمٍ أخضر          مشى لي في موجه زورق

_______________
(1) متون التلاع: المتون: جمع متن، أي الظهر. والتلاع: جمع تلعة؛ وهي الأرض المرتفعة الغليظة، أو مجرى من أعلى الوادي إلى بطون الأرض. والمطرف: الرداء المصنوع من الخز ذو الأعلام. والخضل: الندي المبتل.

(2) ما تعذق: ما تعمل من عذوق (جمع عذق) وثمار وفواكه. والعذق من النخل كالعنقود من العنب، أو كل غصن له شعب.

(3) الحضائر: الأماكن. جمع حضيرة، ما موسقوا: ما ترنموا به من غناء أو ألحان.

(4) تنث الدماء من صدرها: تخرج، ترشح. أراد بهذا البيت وصف الحال المتردية البائسة التي يعشها اللاجئون في المخيمات.

(5) ترب النعيم: ند أو رفيق الصفاء. أعب: أتجرع مرة بعد مرة. وتدهق: تملأ.

(6) النمرق: الوسادة  أو الصغيرة من الوسائد.

(342)

 

يقول أبي لو أردت النجوم       دمى ستجيء فلم تقلق

وإن شئت في الروض جني الورود           تصدت لعيني تزوق

فأين أنا الآن من كل ذاك        وحولي ضروب الأسى تحدق

أبي كم نشدت الكرى كي أراك         ولكن عيني أبي تأرق

تعال أبي، ويذوب الصغير             وعيناه بالدمع تغرورق

***

بني رويداً فلابد أن       ترد السهام لمن فوقوا

ونصنع فجراً سخي الضياء            ومجداً على دمنا يبسق

ونرفع هاماً وعته الحروب             مدى الدهر يفتح أو يغلق

أنحن الجنائب عند اليهود        نرجي اليهود متى تطلق(1)

وبعض عزائمنا أمس ضاق            بسورتها الأفق الفيهق(2)

غداة الكتائب نستاقها             بسيف محمد إذ يمشق(3)

فعدنا ويا للمصير المرير        سباياً نناشد من يعتق

***

أقادتنا! يا رفات الرجال!        ويا جيفاً! نتنها يخنق

ويا نوباً! ما أصاب الشعوب            كأمثالها نوب تمحق

ويا بلهاً! ما أضاع الحقو         ق أتفه منه ولا أحمق

ويا سارقين! ولم يقطعوا         ويا قاتلين! ولم يشنقوا

بنى الشعب أبراجكم من دماه           ومما يكد وما يعرق

وجاد فأسمنكم من طواه          وصب الدموع وقال استقوا

_______________
(1) الجنائب: جمع جنيبة وهي الدابة التي تقاد ولا تركب. إشارة إلى ما يحاول الصهاينة ترويجه من وقت لآخر، من أن العرب لا يساوونهم قدراً، عنصرية بغيضة منهم، وحطا من قدر العرب وفضلهم على الحضارة والإنسانية.

(2) الأفق الفيهق: الواسع.

(3) يمشق السيف: يستل من غمده للقتال ورد الحق.

(343)

 

وأرخص من نفسه والنفيس             فأرضاكم وهو المحنق(1)

وأغدق بالرتب المسبكا           ت صفراً بأكتافكم تبرق

فضاقت مناكبكم بالنجوم         فلا كتف إلا به جولق

وأمل تحقيق آماله         ليفخر شعب بمن حققوا

فلما تجهم وجه الضروس        وقيل لكم أرزمت فاصدقوا(2)

تخايلتم كتف شائل         وشقشقة وفم أشدق

وقلتم زعانف مهما استطال             مداها ففي غدوة تسحق

وجدت وغى فإذا الضابحات            دمى وإذا الدرع إستبرق(3)

ولو أن من غالكم لاعب         لهان ولكنه بيرق(4)

فيامن على شعبهم آفة!           ويا من على خصمهم أنيق!

ويا من تعود لعق الجراح!       متى يؤلم الجرح من يلعق؟!

ويا من تزأبق في فكره           متى عرف المبدأ الزئبق

أقادتنا! غيركم ذللوا       متون الصعاب ولم يزعقوا

وأنتم وعشرون حولاً عجاف           صبرنا على مرها نمذق(5)

ركبتم بنا سابحات الضجيج             فللترب أنتم ومن صفقوا

***

_______________
(1) المحنق: المغتاظ.

(2) الضروس: الحرب الشديدة المهلكة. وتجهم وجهها: اشتدادها. أرزمت: حان وقت إحقاق الحق أو وقت القتال الصادق.

(3) وجدت وغى: واحتدمت المعركة. والضابحات: الخيل تصوت أنفاسها في جوفها عند العدو. وقصد بها المتظاهرون بالشجاعة والبطولة، الذين بدوا على حقيقتهم دمى وأسلحتهم زائفة ناعمة كالحرير الذي لا يؤثر في جسم مرتديه، فهي لافعل لها في الأعداء.

(4) غالكم: هاجمكم وقتل منكم من قتل. والبيرق: العلم الكبير.

(5) الأحوال العجاف: كالشياه التي هزلت وذهب سمنها بسبب القحط والجفاف. ونمذق: من مذق اللبن: إذا أخلطه بالماء، وقصد: نتخبط في حيرتنا فيكم.

(344)

 

بغداد

       نظمت خلال الأوضاع المتدهورة عام 1960م

بغداد ساء بك الهوى أم باطا           سيظل وجهك رائعاً جذابا

قسمات شيخ بالجلال متوج             وسمات غانية تقيض شبابا(1)

وحضارة تعطي المؤمل ما اشتهى            فلكل ما طلب الخيال أصابا

فهناك صب سيتزيد من الهوى         وهناك حبر يستزيد ثوابا(2)

وهنا نؤاسي تيمم حانة           وهناك صوفي أتى محرابا(3)

وهناك رازي لدى أنبيقه         وهناك إسحق يلحن بابا(4)

وهناك باقعة بأفلاك السما       رصد النجوم وحرك اسطرلابا(5)

وبحيث بالمستنصرية عالم             يعطي العلوم ويكرم الطلابا

وبحيث رابعة يجللها التقى              وعريب عن جسد تميط ثيابا(6)

_______________
(1) قسمات شيخ: سمات جلال ووقار. وسمات غانية: ملامح امرآة جميلة.

(2) الصب: المحب العاشق. والحبر: العالم الصالح.

(3) النؤاسي: الذي يتصرف كأبي نؤاس شاعر الخمريات. والصوفي: العابد المنقطع للعبادة في محرابه.

(4) الرازي: العالم السار في طريق العلم كالرازي الذي انصرف إلى البحث العلمي والتجارب الاكتشافية. وإسحق: فنان كإسحق الموصلي الذي عاش أيام الخليفة هارون الرشيد. يلحن باباً: أي وصلة غنائية أو كما ورد في «الأغاني» لأبي الفرج الأصهباني: يلحن صوتاً. وإذا لم يكن في الأصل تصحيف فهي «يابا» العامية يلحنها الملحن.

(5) الياقعة بأفلاك السما: قصد العالم الفلكي، فالباقعة الذكي الحذر ذو الحيلة الذي لا يفوته إلا ماندر. والإسطرلاب: آلة يقيس بها علماء الفلك حركة النجوم في السماء.

(6) رابعة: رمز المرأة المتصوفة المتعبدة كرابعة العدوية التي انصرفت إلى العبادة والتقرب من الله عز وجل بطاعته وحسن عبادته. وعُريب: رمز المتحللة من الحياء والعفة كعريب جارية الخليفة التي اشتهرت بالغناء والرقص وتجردت من الثياب.

(345)

 

وبحيث كان العلم صرحاً والهوى             داراً ومختلف الفنون نصابا(1)

من كل ذا قسمات وجهك تجتلى        مجداً وفكراً ناضجاً وشرابا

***

بغداد! أي أصالة بك، كلما              أمعنت فيها زدتني إعجابا؟!

صبت بك الأعراق مختلف الدما       لكنها ما غيرت أحسابا

فبقيت سيفاً والروافد كلها        بقيت كما شهد الزمان قرابا(2)

أغراك فيل بالركوب فعفته             وركبت مهراً عارياً وثابا

وتركت ماء الجلنار حريصة           أن تأخذي من شيحك الأطيابا(3)

ونصبت جنب القصر خيمة فارسٍ            للريح ظل يشرع الأبوابا

وبقيت بنت رداء رغم وشيجه          نقلت إليك ملاءة ونقابا

ولشهرزاد وإن نمتك فلم تكن           لتذود عنك أميمة وربابا

أبت العروق فكان أصلك لابتي         نجدٍ وكان فصيلك الإعرابا(4)

***

وجرت بنهرك للعقول روافد           تغوي النهى وتحير الألبابا

وتعددت أهدافها وتباينت         في منهج وتنوعت أثوابا

_______________
(1) كان العلم صرحاً: بناءً شامخاً أو رائجاً لدى طالبيه. والهوى الدار: الذي يؤم ويسكن ويلجأ إليه باستمرار. والنصاب: الأصل أو المرجع يرجع إليه.

(2) بقيت سيفاً: نضالاً أبياً. والروافد: ما رفد دماءك وثقافتك من علوم وثقافات أخرى. والقراب: مكان حفظ السيف، وهو هنا تعبير عن كون بغداد مركز إشعاع حضاري في مختلف المجالات تحضنها وتهتم بها.

(3) الجلنار: زهر شجر الرمان. الأطياب: جمع طيب: وهو هنا كناية عن خلاصة كل شيء حسن.

(4) تنتسبين إلى المواضع العربية كلابتي نجد (اللابتان حرتان تكتنفان نجداً)، والفصيل ولد الناقة إذا فصل عن أمه وهو كناية عن الفروع أو الأجيال العربية الناشئة من ذلك النسب العربي الأصيل، إذا الإعراب ضوابط اللغة العربية لغة العرب التي يتكلمونها.

(346)

 

فلكل رهط نحـــــلة دانــــــــــوا بهــــــــــا           وتــــــــــــحزبوا من حــــــــولها أحزابا(1)

وتحركـــــــــــــت أقلامـــــهــــم سيــالــــة          تلقــي علـــــــــى شبهاتهــــــــا جلبابــــــــا

من كل من رســـــم الصــــــــواب ضلاله           أو كـــــــــل من جعـــــــل الضلال صوابا

فوقفـــــــت ســــــــداً دون ذلـــك كلــــــــه          وحبســــت سيــــــــلاً عــــــارماً وعبابا(2)

ورفعت في وجــه الضـــــــلال هـــــــداية           وحـــــــملت فيـها ســـــــــنة وكـتابــــــــــا

ومضيـــــــت صامدة فـــــــــذابت كلهـــــا           وأصيــــل رأيـك صـــــــــامد ما ذابــــــــا

***

بغداد! واحتربــــــــــت عليــــك نـــــوازل           تركت شوامخ ما بنيـــــــــت خـــــــرابا(3)

قد كنت فيـــها الشلـــــــو يــــــنزف بالدما           نــــــــزفاً وكــــــــان الـــــحاكم القصابا(4)

كانت رحابك بـــالريـــــــــاض مــــــــليئة           فأتتك تـــــملأ بــــــالرؤوس رحابــــــــا(5)

فاستـــــــهدفــــــت فيـــــك الفنون وهدمت           دور الــــــــــعلوم وشــــــــادت الإرهـــابا

تتر تـــــخوض بالدمــــــــا وسلاجــــــــق           لــــــم تنـــــــــــــم إلا قاتــــــــــلاً نهابـــــا

وبليـــــــة الأتــــــراك يعــــــــصف بالدما          تاريخهـــــــا ويمــــــزق الأعصـــــــــــابا

حكــــمت وأبــــقت للــــسرير خــــــــلافة           ترضــــى بــــــأن تتقلـــــــد الألقابــــــــــا

عـــــــــفن إلى عصــــــــبية وعصــــــابة           رجـــــعية رجــــــعت بــــــــنا أحــــــــقابا

_______________
(1) فلكل رهط نحلة: الرهط مادون العشرة من الرجال لايكون فيهم امرآة. والنحلة: المذهب. والبيت تعبير عن الاتجاهات المذهبية التي تنتظم بها الجماعات.

(2) البيت تعبير عن وقوف عروبة بغداد في وجه كل الاتجاهات التي أرادت أن تتآمر على أصالتها العربية، والتي شبهها بالسيل العارم.

(3) احتريت عليك نوازل: كثرت عليك المؤامرات والحوادث، فهدمت مابنيت من مجد. احتريت: من الحرب التي تحتاج إلى طرفين مهزوم في النتيجة أحدهما. والنوازل: جمع نازلة، وهي المصيبة الشديدة. وشوامخ البنيان: المجد المؤثل والحضارة الرفيعة.

(4) الشلو: العضو من الجسد يقطع منه. والقصاب: الجزار الذي يقصب اللحم ويقطعه.

(5) أتتك (النوازل). والرحاب: الأماكن الرحبة الواسعة.

(347)

 

بحسابنا منــها رصيـــــــد متـــــــــــــــرع           حقداً لقد ســـــــاءت وســــــــــاء حسابا(1)

وبربعنــــــا للآن منهـــــــــا عــــــــــصبة           عــــــــــــاشت تمجد عهدهـــــا الـــــخلابا

النـــــــاعتـــــــــون لظـــــلمها بعــــــــدالة          والقائلـــــــــون لشوكهــــــــــا عنابـــــــــا

وعمى لأعيـن ثلة تــــسمـــــــي الـــــهوى           ديناً وتعتبر الـــــــــــنجيع خضـــــــــابا(2)

خـــــــــرقاء إمــــــــا أن تكـــــــــون غبية          أو أنهـــــــــا لمـــــــــآرب تـــتغابــــــى(3)

لكــــــن روحـــــــك رغم ما أودى بهــــــا          منهــــــــم ستبقـــــــــى صـارماً وشهابا(4)

***

بغداد مهــــما طــــــال عــــــــهدك أو خبا           نجـــــم تألــــــــق في سمــــــــاك وغابا(5)

وتطامـــــــــنت قــــــممم وكن شــــــواهقاً           وتحول الألــق الخضيــــــــل يبابــــــــا(6)

سيظــــــــل من مجـــــد الـــــــرشيد مؤثل           يضفي علـــــــــــيك بسحــــــــره جلبابا(7)

وتظل قـــــــينة دار ســـــــــــــــابور على           غصن تردد سجعــــــــا المــــــــــطرابا(8)

ويظل للمأمـــــون عنـــــــــدك مجـــــــلس          يبنـــــــي العـــــــــلوم ويـــــــغرس الآدابا

وصدى لمـــــــعتصم يـــــــــــــعد كتـــائباً           لنداء مسلـــــمة دعــــــت فـــــأجابــــــــــا

_______________
(1) الرصيد: ما يبقى للمودع في المصرف من حسابه بعد استجراره مبالغ منه. ما نختزنه من حقد على تلك العصابات التي خربت حضارتنا يملأ صدورنا. الرصيد المترع: الممتلئ.

(2) الثلة: الجماعة. تسمي الهوى ديناً. تعد ظنونها الفكرية حقائق ومذاهب وعقائد. والنجيع: الدم. والخضاب: ما يغير به لون الشعر. والكلام على الكناية.

(3) خرقاء: صفة لثلة: حمقاء. والمآرب: الغايات والحاجات والأغراض. وتتغابى: تدعي الغباء أو تتجاهل الحقيقة.

(4) روحك ستبقى صارماً: ستبقين مناضلة صلبة. الصارم: السيف القاطع الصلب.

(5) طال عهدك: عهد الظلم عليك. وخبا نجم: مضى مخلص أو استشهد مناضل بطل. (خبا النجم: انطفأ).

(6) تطامنت قمم: ركع أو أستسلم معارضون كانت لهم باع في الساح وذكر وشهرة. وتحول الألق الخضيل يباباً: الأمل الحلو تحكم وخرب.

(7) سيظل من مجد الرشيد مؤثل: سيظل تاريخك المجيد يشهد بعظمتك. المؤثل: كل شيء قديم مؤصل.

(8) قنية دار سابور: مطربة قديمة فنانة. وتردد سجعها: غناءها.

(348)

 

ومجــــــــــالس لأبي نــــــــــؤاس وزقـــه           تخلــــــــــــي الرؤوس وتمـــــــلأ الأكوابا

ومعــــــــاهد التطــــــــريب يعطي درسها           إسحـــــــق أو يـــــــدعو لــــــها زريابا(1)

وعلـــــــــى منـــــاكب دجلـــــــة في ليلها           سمـــــــــر يضـــــــم كـــــــواعباً أترابا(2)

رقــــــــصت جنــــــــــان به وغنى مــعبد           وتبـــــادلـــــــت سمـــــــــاره الأنـــخابا(3)

وستخلــــــدين مدى الدهــور، خــليفـــــــة           لبس الوقـار، وغــــــــــــادة ملــــــــــــعابا

***

بغداد! لا مـــــــــــرت عليك بشــــــــــرها          دهمــــــاء تعقـــد في سمــــــــاك سحابا(4)

مطـــــــــــرت عليــــــك شراذماً ممسوخة          حشدت على أرواحـــــــــنا الأوصــــابا(5)

وغــــــــــريبة عـــــــن فكرنا ودمـــــــائنا          فيما أتـــــــــــته وتـــــــــدعي الانــــــسابا

درست علــــــى ابن الغـــــاب تأخـذ دوره           حتــــــى تــــــــخيلت الحـــــــــياة الغابا(6)

وأدت تطلعـــــــــنا وداســــــــــت عــــزنا          وتغــــــــــرزت بــــــــــجسومنا أنـــيابا(7)

وتفاخــــــــرت في قتلــنا وتــــــــــوزعت           منـــــــــا جســـــــــــوماً بـــــــضة ورقابا

_______________
(1) إسحق: الموصلي، صاحب مدرسة في فن الغناء العربي القديم. وزرياب: موسيقي عراقي أخذ الغناء عن إسحق الموصلي وغادر إلى الأندلس فأقام بقرطبة، ثم زاد في أوتار العود وتراً خامساً واخترع مضراب العود من قوادم النسر.

(2) سمر: ليالي أنس. والكواكب: جمع كاعب وهي الفتاة نهد ثديها. والأتراب: المتماثلات في السن.

(3) جنان: إحدى الجواري الشهيرات في العصر العباسي. وكانت تجيد الرقص. ومعبد: مغن مشهور في العصر نفسه.

(4) الدهماء: السوداء، ويرمز بها إلى الجوائح والمصائب التي تجتاح البلاد والممتلكات.

(5) الشراذم: جمع شرذمة وهي الجماعة القليلة من الناس. وأكثر ما يطلق اللفظ على المجتمعين على هوى سرعان ما يفشل لقلتهم وعدم ائتلاف قلوبهم حول الهدف. والأوصاب: جمع وصب، وهو المرض والوجع. وحشدت على أرواحنا الأوصاب: عقدتنا.

(6) درست على ابن الغاب: تعلمت شريعة الغاب معتقدة بأن الدنيا تؤخذ غلاباً، فتعاملت مع الأمور والبشر بوحشية. وابن الغاب: الوحش الكاسر أو المستعمر الغربي الذي يصدر إلينا ما يسميه ديمقراطية بالحديد والنار.

(7) وأدت تطلعنا: دفنته. وداست عزنا: هدمت مجدنا التليد. وتغرزت بجسومنا أنياباً: نهشتنا بأنيابها ناهبة مقدراتنا.

(349)

 

مــنحت صدور النـــــابغين لــــــــــفضلها           بدل الـــــــــــوسام أســــــــنة وحــــــــرابا

ووراءها مـــن بعــــــــــد ذلك مــــــــعشر          يبــــــــكي الــــــــقتيل وينهب الأســــــلابا

ولقد وقفنا خـــــاشعـــــــين حــــــــــــيالها           لنحط في عســــــــــلٍ رمــــــــــــــته ذبابا

وأذل مــــــــــن سكــــــــــــن البسيطة أمة           عاشــــــــت تــــــــهادن مــــــــسرفاً كذابا

أو بــعد أن قــفز الــــــــــزمان بــــــــأهله          عـــــدنا نـــــــــعايش أكـــــــلباً وذئــــابا؟!

يا رب عــطفك أن تـــــــــعود ضـــــوابط           مسخـــــــــاً وينقلــــــــب النعيـــــم عذابـا!

يا رب عفـــــــــوك أن تــجف منـــــــــابع           ويعـــــــــــود مخضــــــــل الخميـل ترابا!

***

يا رب لـــــــــــــطفك أن نـــــــــمجد تافهاً           أو نعبــــــد الأزلام والأنـــــــــصابــــا!(1)

***

_______________
(1) الأزلام: جمع زلم، وهو قطع من الخشب مسواة تصلح أن تكون سهاماً، وكان العرب يقترعون بالأزلام، يكتب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، ويكون الثالث غفلا لا كتابة عليه. وقصد الشاعر بالأزلام والأنصاب: الأشخاص. والأنصاب: كل ما عبد من دون الله تعالى، مفردها: نصب.

(350)

 

العمل الفدائي

       نظمت عام 1968 وألقيت في الكويت في حفل دعم العمل الفدائي بمدرج ثانوية الدعية 1969 بعد نظمها بسنة.

من هنا يولد الغــــــد الوضــــــــــــــــــاح           وينــــــــــحي الليل الرهــــــــــيب صـباح

من هــنا يبــــــــــــــدأ الطريـــــق وإن طا          ل ويـــــدنو من الغــــــدو الـــــــــــــرواح

ويرجى نـــــــبع ويمــــــــــــضي ســراب           خــــــــــــــادع غـــــــــــررت به الأقـداح

حين عشنا كمسرج فــي الضــــحى الشمــ           ـــع فـــــــــراح الضــــــياء فـــيمن راحوا

ورجــــــــونا أن تمـــــــطر الشمس أو أن           تلد الـــــــــــخصب بــــــلقع صـحصاح(1)

وطلبنــــــــا إزاحة الخـــــــــطب ممــــــن           صــــــــــــــنعوه. أبــــــــــعد هــذا مزاح؟

نســـــــــــتر الـــــــــجبن عــــند مؤتمرات          فلنا عنـــــد مــــــــجلس الأمـــــن ســـــاح

ونـــــسوي من الــــــــــهزيمة نــــــــصراً           والجـــــــــلابيب ضـــــــــــجة وصــــياح

ويحنا لو علــــــــــى الــــــــجراح انطوينا           وسكتنـــــــــا حتــــــــــى تقـــــول الجراح

وشددنا النــــــــــــــــــدوب حتى يــــسوي           فـــــــارس ســــرجه ويضـــــرى جنــــاح

ومضى أمـــــس بالــــــــــــــمراض فدعه           وســـــــل اليوم أن تـــــــــقوم الصحــــاح

أن تخط الفتوح كــــــــــف الفــــــــــــدائي           وأن يــــــــــــعزف النشيــــــــــد الســـلاح

فلقد أرجـــــــــــع النـــــــــياح لثكـــــــــلى          وتصــــــــــــدى للمــــــــــوجة السبـــــاح

فإلــــى مـــوعدٍ على القــــــــــدس يا فتـــ           ـــح فقــــــــــــد أعول الحـمى المستباح(2)

***

_______________
(1) البلقع: الأرض الخالية لا شيء فيها. والصحصاح: المستوية.

(2) أعول الحمى المستباح: بكى من شدة المصاب الوطن الذي أباح الأعداء لأنسفهم احتلاله. الحمى: كل ما يحمى من وطن وغيره.

(351)

 

يا شــــــباب الفــــــــــداء يا ديمة في الــــ           ــجدب تشـــــــــــتاقها الـــــذرا والبطاح(1)

يـــــــا شهــــــــــاباً والليـــــــــل داج يلف           الرعـــب أبعــــــــــاده وتـــعوي الرياح(2)

يـــــا هـــــــــدى يــــــــقظة أتت بـعد نوم           أســـرتنــــــــــا به الـــــــــطيوف الــملاح

أنا أدري بــــــــــأنكم في ربــــــــــيع الـــ           ــعمــــر حيــــــــــث الحيــــاة روحٌ وراح

وبأن الأوطـــــــار مـــــــــا زلن خضــراً           والليـــــــــالي سمـــــــــــــيرها ممـــــراح

وسناً من شمـــــــــــوعكم في عيـــــــــون           الأم إن خيـــــــم الدجــــــــى مصــــباح(3)

وهو نجــــوى خطـــــــيبة فـــــــــي هدوء           الليل ودت لو تــــــــــــــــــــسرع الأفراح

نســــــــــجت حبـــــها على ضوئه الدافـــ           ــئ فازدان من نــــــــــــــــــسيج وشــــاح

ولبانات غـــيــــــــــرهـــــا، لابن عشـريــ           ــن غبوق بكـــــــــــــاسها واصـــطباح(4)

كـــــل هـــذا أدريــــــه لكــــــــن شــــــيئاً           غيـــــــــر ما قلــــته يــــــــــريد الكــــفاح

***

فانـــــــــهدوا إن للــــــــعروبة جــــــــذراً           من ســـرايــــــا مــــــــــحمد يــــــــــمتـاح

إذ علي يـــــــدك خيـــــــبر في عـــــــــزم          روته عــــــــــــــنه القنا والصـــــــــفاح(5)

نحن بين الحــــــــــــياة في حـــــــكم إسرا          ئــــــــــيل شعبـــــــــــــاً يــــدوسه الذبــاح

_______________
(1) الديمة في الجدب: الغيمة الممطرة أيام الجفاف. وهي هنا رمز العطاء والتضحية والدفاع عن الحمى. والذرا: جمع ذروة. والبطاح: جمع البطحاء وهي الأرض المنبسطة. وتشتاقها الذرا والبطاح: تتمنى البلاد ومواطنوها نجدة الشباب وعونهم في الدفاع والتحرير.

(2) الليل داج: شديد الظلمة. والشهاب: كناية عن النور المضيء أو الأمل الطالع في أوقات اشتداد الأرزاء.

(3) السنا: الضياء، أي: أنا أعلم أنكم نور عيون أمهاتكم وفرحها الدائم. وإن خيم الدجى مصباح: إذا نصب المصباح ضياءه في ظلمة الليل كالخيمة. والأبيات الثلاثة التالية: استطراد في الصورة التي يشبه فيها الشاعر الشباب بالسنا.

(4) اللبانات: جمع لبان وهي الحاجة أو ما يطلبه المرء عن رغبة وشهوة. والغبوق بكأسها والاصطباح: يعيشها الشاب في صباحه ومسائه... الغبوق: هو شرب آخر النهار. والصبوح: الشرب بالغداة.

(5) علي يدك خيبر: إشارة إلى فتح خيبر، إذ كان كسر باب حصنها على يديه عليه السلام. روته القنا والصفاح: تحدثت عنه رماح المعارك وسيوفها.

(352)

 

أو كــرامــــاً نعــطـي الدمــــاء لتــحــيــــا          أمــــــــة مـــــــــن عطــــــــــائها الأرواح

ليـس بيــــن الهـــــوان أو مســـلك الــــعز           اختيـــــار وللنـــفــــــــــوس طـــمــــــــاح

فالكـــــرامـــات دونــــهـــــا ألـــف غـــالٍ           ونفيس في النــــــــــــــــــازلات يـــــــباح

والحصـــــــى في الســـماء نجم وفي الأر           ض حصـًــــى تحــــــــت أرجــل ينداح(1)

فاخبـــــروا الشــــــامتين أن مــــــواضيــ            ــنا سيـــــجلى عنـــــها الصــــدا ويزاح(2)

وبـــأن النــــــواهد الــــــسمــــــر فــــرسا           ن وإن مــــــــال ســــرجـــهم أو طـــاحوا

***

وســـــــــألت الســــــــــفين عن قصة النو           ء فما كـــــان عنــــــــده إيــــــــــضــاح(3)

أشــــــــبعته الأمــــــــــواج لطماً فـــــأعيا           ثـــم أومــــــــــى أن يســــــــأل الفـــــلاح

وســـــــــــألت الفــــــلاح فانصـاع يروي           حجــجاً ضـــــــــل فهـــــــــمها الشـراح(4)

وتعــــــجبت كـــــــــــيف نجـــــهل حــتى           الآن مـــا كـــــل أحمــــــــــرٍ تفـــــــــــاح

إيــــــه يــــــــا قــــــادة الســـــــــفين أما آ           ن بــأن يــــــنطق الكـلام الصـــــــــراح(5)

والوغـــــــى تصـــــــــطلي وهـذي عدانا           واقـــــــــع قــــائم ونـــــــحن اقـــــتراح(6)

أقنــــــــعتم من بـــــــعد تلــــــك الحـــــميا          بكـؤوس فيــــــــــــهن مـــــــاء قــــــراح؟

هل تــــكون الكبـــــــــــــاش إلا تيـــــوساً           عنــــــدما يـــــــــعوز الكــــباش النطـــاح

_______________
(1) البيت تعبير عن قيمة الشيء عندما يكون في مكانه مؤدياً دوراً مفيداً كالقول المعروف: «الحجر في مكانة قنطار»، فالحصى فوق الأجرام السماوية ينعكس عليها ضياء الشمس فتشع نجوماً، لعلوها وارتفاع قدرها بما تقوم به من دور مفيد. أما حصى الأرض فهي شيء وضيع يتدحرج تحت الأقدام التي تدوسه.

(2) أخبروا الشامتين: الذين يسرهم ابتلاء الآخرين بالمصائب. والمواضي: السيوف القاطعة. سيجلى عنها الصدا: سيزول صدؤها وتنجلي ليعود إليها مضاؤها.

(3) لنوء: الإعصار أو العاصفة. كناية عن المصائب التي تواجهها الأمة.

(4) الحجج: جمع حجة، الدلائل والبراهين الأسباب. وضل فهمها الشراح: لم يفهموا منها شيئاً.

(5) يا قادة السفين: أيها الحكام. وينطق الكلام الصراح: تبين الحقائق.

(6) الوغى تصطلي: الحرب تزداد احتداماً.

(353)

 

ولماذا؟ أنحن نزر قليل          أم أكف وليس فيها رماح؟

أم عفا جوهر تفجر للدهــ        ــر عطاء من فيضه وسماح(1)

فهو في الحرب مارد والمحاريــ       ـــب كتاب وفي العقول انفتاح

عربي ملء الزمان وعزم       يتلظى وصاهل نفاح

وهو اليوم مثلما كان بالأمــ             ــس هدير مزمجر وطماح

غير أن الضباب سد عليه        الدرب فاستبهمت به الأشباح

فضعوا خطوه على واقع الدر          ب: أشوك بدربه أم أقاح؟(2)

وأيحوه من خداع وعود          وسمتها بالكذب حتى سجاح(3)

***

إيه، صهيون! يا ولادة بغي             أبواها خيانة واجتراح(4)

إن وضعاً ولدت فيه وإن         زكاه حكم القوي فهو سفاح(5)

خففي التيه لا يغرك عرس             أنت فيه فقد يليه نياح(6)

كل شوط فيما علمنا سجال             لم تدم فيه خيبة أو نجاح(7)

سيدوس الصمود غطرسة البغــ        ــي وتعنو تلك الوجوه الوقاح(8)

 

_______________
(1) عفا جوهر: بلي واندثر عطاؤنا الذي كنا نصفه بالأصيل والذي شهد الدهر تدفقه وكرمه وسهولة التعامل معه.

(2) ضعوا خطوه على واقع الدرب: اجعلوه واثق الخطو على درب التقدم والرقي. والأقاح والأقحوان: نوع من الزهر التزييني الجميل.

(3) وسمتها بالكذب حتى سجاح: هي سجاح التميمية التي ادعت النبوة كذباً بعد وفاة الرسول (ص)، والمعنى: إن كذب وعود القادة مكشوف ينكر صدقه أكذب الكاذبين.

(4) صهيون: أيتها الصهيونية. وولادة البغي: التي نتجت عن الظلم والعدوان والخيانة واقتراف الشرور. الاجتراح: الكذب وارتكاب الذنوب.

(5) السفاح: الزنا والفجور.

(6) التيه: الزهو والتباهي والغطرسة. والنياح: الندم والبكاء والنواح.

(7) الشوط السجال: الرابح مرة والخاسر مرة.

(8) الصمود: الثبات في وجه الغزاة والمعتدين. وتعنو الوجوه الوقاح: تذل وتخضع.

(354)

 

وستنهى رواية للصليبيين        منها الختام والإفتتاح

وإلى الأرجل التي تستعيد الـــ          ــعدو من غيرها يعود الكساح

وتعودين للدموع ولكن           ألف هيهات يخدع التمساح

***

أيهذا المجتاح أرضي مهلاً              أي أرض ما مر فيها اجتياح

ثم عادت لأهلها؟ ومتى فا        زت بأيدي المغامرين القداح(1)

ووراء الحق السليب دم حر            وزند ما زال فيه اقتداح؟

وحذاراً من أن تقولي: كلام             تتلهى به القوافي الرداح(2)

إن قومي فتح وإنك أدرى        أنهم ألسن اللهيب الفصاح

***

يا ثرى ينبت النبيون فيه         فهو النور والهدى والصلاح

تحتفي بالصلاة والحمد والتســ          ــبيح فيه العشي والإصباح

بصمات المسيح فوق ثراه       وشذاً من ردائه فواح(3)

وبه من محمد قسمات            يجتلي حسنها السنا اللماح(4)

سيعود السلام يا بلد القد          س وشيكاً ويطردا لسفاح

ويلم الشمل الشتيت وينهى       لغريبٍ عن الديار انتزاح(5)

_______________
(1) ومتى فازت بأيدي المغامرين القداح: أراد أن المغامرة لايربح المقدمون عليها. والقداح: جمع قدح: وهو قطعة من الخشب مستوية، قليلة العرش، طولها نحو فتر، تجعل فيها حزوز تدل على نصيب صاحبها من الدابة الصالحة للذبح.

(2) القوا في الرداح: الأشعار ذات القوا في المبسوطة السهلة.

(3) الشذا: عطر الورد. والفواح: العبق ومنتشر الرائحة.

(4) يجتلي حسنها: ينظر إليه مشرفاً ويتفحصه. والسنا اللماح: الضياء الدال بالإشارة دون التصريح.

(5) يلم الشمل الشتيت: يجتمعون وينضم بعضهم إلى بعض بعد التفرق. وينهى انتزاح الغريب: ينتهي إبعاده عن أرضه ووطنه.

(355)

 

ويخلــــى من الأسيــــــــر الــــــــذي أســـ           ـــرف فيــــــــه عــــــــض الـــقيود سراح

وستزهــــــــو مــــــــلاعب بالــــــــصبايا           وتــــــــنث الــــــــهوى وجــــــــوه صباح

وستـــــــلتف بالكــــــــروم المــــــــواويـــ           ــل وينســــــــاب فـــــــي السواقي صداح

وتسيــــــــل الأنغـــام من قصــــــــب الرا           عــــــــي ويـــشدو يحقــــــــله الــــــــفلاح

فــــــــقد احــــــــمر مـن دمــــــــاهم كثيراً          وســــيزهو بــــــــهم ويخــــــــضر واح(1)

لــــــــست فــي الحلم يا فلسطــــــــين لكن           كف فــــــــتح بــــــــدا بــــــــها المــــفتاح

ثــــــــورة حـــتى النــــــــصر أولا فموت           وكــــــــلا الغــــــــايتين عنــــــــدي فـلاح

***

_______________
(1) الواح: مجمع الماء والنخيل في وسط الصحراء القاحلة (الواحة)

(356)

 

مع نهر التايمس

       نظمت عام 1976 في لندن بعد وقفة تأمل على النهر المسمى بالتايمس.

مررت على التيمس المشمخر          وقد ذبلت شمخة التيمس(1)

وفارقه تيهه والغرور            فأخلد في هيئة المبلس(2)

لمحت عليه طيوفاً تمر           منوعة الوجه والملبس

أتت تعكس الأمس فيما حوى           فلا شيء ثمة لم يعكس

رأيت بأبعادها ألف غو          ل تناوح في ليله الحندس(3)

لها أثر عند وعي الشعوب              أليم إلى الآن لم يدرس(4)

غداة القوى تسحق الضعف في         غرورٍ يشق على الأنفس

وإذ يتقصى الغني الغني         رغيفاً من الأبأس الأبأس

ومترف يأكل يوم الجياع        وآخر من غدهم يحتسي

ومن شرسٍ كل من قتلهم        فأعطى المهمة للأشرس

***

أتذكر يا شاطئ التيمس          شواطئ من دمنا تكتسي

لنا في مناكبها جنة        بغير الأضالع لم تغرس

ولوعة أم بجنب القتيل           ودمع أب صابرٍ مؤتسي؟(5)

_______________
(1) المشمخر: الطامح المتكبر. وقد ذبلت شمخته: أي ذهب منه التكبر لذهاب بعض مائه وانخفاض مستواه كما يحدث في الصيف عادةً.

(2) المبلس: اليائس. ولذا يطلق اللفظ على الذي يسكت عند انقطاع حجته ولا يكون عنده جواب.

(3) الغول: نوع من الشاطين كانت العرب تزعم أنها تظهر للناس في الفلاة فتتلون لهم في صورة شتى وتضللهم وتهلكهم، أوحيوان وهمي لا وجود له. وتناوح: أصدر أصواته الكريهة. والليل الحندس بكسر الحاء والدال: الشديد الظلمة.

(4) لم يدرس: لم يزل، مازال باقياً.

(5) المؤاتسي: الذي ملأ جوانحه الأسى، أو المتأسي المتصبر.

(357)

 

فنحن من الحزن في مجلس            وأنت من الورد في مجلس

وإذ ليل أكواخنا تستحيل         كواكب في ليلة كرسمس(1)

وإذ عرق الضمر الكادحين             وذوب الحشاشة والأنفس(2)

يعود هوى في عيون الحسان           وأشذاء في أعين النرجس(3)

وإذ تحضن الترب أكواخنا             ليفرش دربك بالسندس(4)

***

أتذكر أقطارنا النائمات          بغير ذئابك لم تحرس؟

ذئاب عليها ثياب التقاة           وأخلاق ذي الورع الأقدس

ثعابين تصدرها للشعوب         لواسع ناعمة الملمس

فيا أفقاً غص بالكنس             جوارٍ بأنحائه خنس(5)

لكم قلت: إن عطاء الشعوب            وليد تصرفك الكيس

فمن مود تحرير أرض العراق         وحفر القناة للديلسبس(6)

وما زال يا منطق الإبتزاز             لسانك للآن لم يخرس

***

أتذكر يا شاطئ التيمس          ملاعب سوطك في الأرؤس

وأنت بأجسادنا مخلب            سوى العنق الحر لم يفرس(7)

_______________
(1) ليلة كرسمس: ليلة عيد الميلاد.

(2) الضمر الكادحون: العمال والفلاحون وصغار الكسبة الذين تجعلهم مواردهم القليلة وأعمالهم سيئي التغذية ضامري البطون هزيلي الأجسام. والحشاشة: رمق الحياة أو بقية الروح في المريض والجريح.

(3) الأشذاء: الروائح الذكية القوية.

(4) السندس: الحرير المنسوج المتلون ألواناً زاهية.

(5) الكنس: النجوم التي تبدو ليلاً وتختفي نهاراً أو الكواكب السيارة لأنها تغيب وتستتر. وجوارٍ: جارية، تجري. والخنس: الكواكب السيارة دون الثابتة، وسميت كذلك لأنها تخنس في المغيب، أو لأنها تخفى نهاراً.

(6) ديلسبس: فردنان دلسبس المهندس الفرنسي الذي أشرف على حفر قناة السويس.

(7) المخلب: ظفر السبع الماشي أو الطائر. ويفرس: يفترس ويقتل ويصيد.

(358)

 

وهم يطوق أرواحنا       فأرواحنا منك في محبس

وغطرسة الوغد سام الكريم امــ        ــتهاناً فأغضى ولم ينبس؟(1)

غرستم بها الحقد عند الشعوب          ويا بئس ذلك من مغرس!

أنبئكم أن حقد الشعوب           سهام إذا ظفرت بالقسي(2)

وأن جبينكم المشرئب            تصاغر للأسود الأفطس(3)

فأصبح يركل عيدي أمين        لجونكم الأقعس الأشوس(4)

 

***

تفهم أيا شاطئ التيمس           فما كان ذهنك بالأملس

إلى كم وأنت الحصيف الذكي          ترى الواضح الحق كالمبلس؟(5)

إليس من العدل ما أنت فيه             على رغم شامخة المعطس؟

سرقت الشعوب وعدل بأن             تعود إلى مملق مفلس(6)

ظلمت فطال عليك الظلام        وما عاد صبحك بالمشمس

وعذراً فلست من الشامتين             ولست المسيء إلى من يسي

فإني للعربي الصميم             جذوري بيضاء لم تدنس

ولكن وقد تحسبني نسيت        أنبئك أن لست ممن نسي

***

_______________
(1) سام الكريم امتهاناً: أهانه. فأغضى: فسكت وصبر. ولم ينبس: لم يقل شيئاً.

(2) القسي: الأقواس: جمع القوس: وهي أداة من أدوات الحرب والصيد ترمى بها السهام، تتكون من عود مرن على شكل هلال يتصل بطرفيه وتر من مادة متينة مرنة.
(3) الجون: الأبيض أو الأسود (من الأضداد). والأقعس: الثابت في عزه. والأشوس: الناظر بمؤخر عينه تكبراً أو تغظياً.

(4) الحصيف: المحكم العقل. والمبلس: الساكت من الحزن أو الخوف أو سواهما. قيل: إن ابليس سمي بهذا الاسم لأنه لما يئس من رحمة الله أبلس يأساً.

(5) المملق: المفتقر الذي صار فقيراً بعد غنى. والمفلس: الذي نفد ماله وعاد لايملك فلساً واحداً.

(359)

 

محنة الدهر

 

محنة الدهر أن يضيع الحساب         وتعود الأخطاء وهي صواب

ولكم يعبث الزمان ويلهو        وفعال الزمان شيء عجاب

إنها غيبة المقاييس فيها          شاهق النجم والحصى أتراب

رب عيشٍ قلامة الظفر أغلى           منه والعمر في مداه سراب(1)

وإذا عادت النخاسة والعهـــ            ـــر مناخاً يستوحش المحراب

ويقيني أن الممات نعيم          جنب دنيا تقودها الأنصاب

أهي دنيا تلك التي شيخها معــ          ـــتوه أو عبقريها خرناب؟!

أهي دنيا تقاد من نكرات         ورعيل يجل عنه السباب؟

كفلولٍ تفيهقت أنها عر           ب عليها ممدوة أطناب(2)

شد فيها من البداوة قشراً         وتخلى عنها الكريم اللباب

وحسيب بها الدعي ورهط       من مسوخ يجل عنه السباب

سحنة ما تعرفتها مجاليـــ        نا ولا رهطنا ولا الأحساب

لا أطيل الكلام عنها فحسب الـــ        فم طهراً في ترك ما هو عاب

وإذا لمن تجد أمامك شيئاً        يستوي الاختصار والإطناب(3)

يعلم الله أنها ليس عرباً           يوم تنمى لكنها أعراب

_______________
(1) قلامة الظفر: ما قطع من طرف الظفر الذي هو مادة قرنية تغطي أطراف الأصابع في الإنسان وغيره. وقلامة الظفر أغلى منه:تعبير عن وضاعة شأنه وتفاهته. والسراب: كناية عن الأمرا لكاذب الخادع.

(2) تفيهقت: ملأت فمها بالكلام تكبراً وتباهياً. وعليها ممدوة أطناب: كناية عن كونها ذات عز وسؤدد (مشادة لها الخيام الطويلة والعريضة ذات الحبال الكثيرة التي تشدها إلى أوتادها).

(3) الإطناب: التوسع في الكلام. ويستوي: يتساويان في نظرك.

(360)

 

أيها الفاشلون هيهات أن تبــ            نوا وهل يملك البناء الخراب؟

فتمادى بالهدم والنفر الفا         شل في جسم أمةٍ أوصاب

إنه لولا النفط جوع وعري             ما له كسرة ولا جلبابُ

لعن النفط كم سما بوضيع       هو لولاه جل عنه السباب

حرروا جسمنا من الجرب ألوا         فد فالجسم حسبه أوصاب

أنتم لولا النفظ جوع وعري            ما لكم كسرةٌ ولا جلباب

فاشكروا النفظ تمشخون به شر         قاً وغرباً كأنكم أرباب

ليس بالصقر من يطير به النفــ         ط فبعض مما يطر الذباب

نحن من أجله قرعنا رؤوساً            ولديكم تقارع الأنخاب

إن في كأسنا من النفط دمعاً            ولدى القوم خمرةٌ وحباب

ها هو الشعب وهو دمع وبؤس         وهم الخمر والهوى والكعاب

أين منكم مجاعة الشعب والبؤ          س وأنتم مدامة وكعاب

أيها القيد قد بلوناك دهراً         شرس العض والقيود كلاب(1)

شرسات لم يكفها اللحم حتى            قضمت عظمنا لها أنياب

فصبرنا لها وقد وهن العظــ            ـــم بلأوائها ورق الإهاب

وصمدنا لها وقلنا بأن الـــ       جدب لابد بعده إخصاب

وإذا نحن غارقون بإيقا          ع تنرى لوقعه الأعصاب

وإذا القمة التي قد نشدنا          بعدما أرهقت خطانا الصعاب

هجمة من ملاحم الدم والتشــ           ريد نستامنا ووحش وغاب

وركوناً إلى كثير بلا معـــ       نى وزعم ما جاء فيه كتاب

فوق أرضٍ بغير ناسٍ وأفقٌ             دامسٌ لا يلوح فيه شهاب

_______________
(1) بلوناك: خبرناك. العض: الإمساك بالأسنان. والقيود كلاب: خبيثة مؤذية عضاضة على المقيدين بها.

(361)

 

ولقد تاه قومنا في عزيف        أسر السمع لحنه المطراب(1)

هزمن قومنا فراحت تنزى             منهم عند وقعه الأعصاب

واستراحوا له وسارت حشود           خلفه وانتخى له الأقطاب

وأفقنا ونحن شلو مدمى          وهم من مآله استغراب

عجبوا كيف أخطأ الذئب لحماً          رصدوه له فخاب وخابوا

إن أكل الأخ الشقيق أخاه        فطرة ما تعلمتها الذئاب

فليفكر من قدس الذئب يوماً             أن قرآن الذئب ظفر وناب

***

لامس الكبرياء وامتد بالأعــ            راق ينداح لحنه المطراب

فرقصنا له وسارت حشود       خلفه وانتخى له الأقطاب

وأفقنا وبالرؤوس دوي           من حصيبلل الإيقاع واستغراب

أقصارى الفتوح أكلك أهلاً             ركضوا إذ دعوتهم واستجابوا

سأل الدست وهو يعجب ممن           حله أين في الرؤوس الصواب؟(2)

أكذا تمسخ الصحاح وتطغى            سنن الافتعال والاغتصاب؟

ويسوى للذئب معبد قدسٍ        في فناه تقبل الأعتاب

الهوى يحرق البخور لوحش           بعض ألقابه المهيب المهاب

عرشه الدم والسجون وجوع            وصنوف التدمير والإرهاب

حاكم كل ما حواليه زور        وجميع المسميات كذاب

وبديه أن تقلب الرأس للكعــ            ــب مسوخ يجيء فيها انقلاب(3)

***

_______________
(1) العزيف: ضرب المغنين بالطبل. وعزيف الجن: جرس أصواتها. وقيل: هو صوت يسمع ليلاً كالطبل. وتاه قومنا: ضاعوا وخدعوا وأخذوا.

(2) الدست: المنصب الحكومي.

(3) المسوخ: جمع مسخ، وهو الذي جعل على هيئة أسوأ من هيئته وصورته الأصلية نتيجة قوة خارجة عن إرادته.

(362)

 

وطني أيها الحبيب الذي أهـــ           ــوى وبالقلب تسكن الأحباب

يا خيالاً من الغريين أسرى             باركته مآذن وقباب

وطيوفاً من بابل ساجدات        في محاريب مجدها الألباب

وبه مجد بابل في جلال          رسمته رقيمة وكتاب

يا أريجاً من نينوى ضمخ الدنــ         يا وماست من عطره الأحقاب(1)

يا هديراً من جند معتصم الفتـــ         ــح على سر من رأى صخاب

أنت لحني وقعته فوق            موج البحر يرديه مده والعباب

وبزهو النخيل بالكوخ والأفـــ          ــق أصيل وشعلة والتهاب

والرصافات خضرة يضحك الور             د بأرباضها ويبكي السحاب

وبدقات خافقٍ أنت قلب          للحمى رغم بعده وثاب

أين مني وأين منك كلانا         هده الإبتعاد والإغتراب

أنت مازلت في فمي ثدي أم            لم يزل حاملاً شذاه الرضاب

***

وطني غذني فأنت ثدي الأم            يشتاره فمي والرضاب

أنت لي من أبي حنو وعطف           لي من دفئه اللذيذ ثياب

وصغاري الذي تحضنت والجســ             ـــم طري والنابتات زغاب

إنني أنت منبت وفروع          وطن المرء بدؤه والمآب

أعذرني إذا كويتك        فالكي دواء للجسم حين يصاب

قد وهى النزع في جناحك فاخفق              فمتى كل عن بغاثٍ عقاب

أنا أدري بأنها النار والبا        رود والراجمات والأطواب(2)

_______________
(1) ضمخ الدنيا: لطخ جسدها بالطيب حتى كاد أن يقطر منه. ماست: تمايلت منتشية من طيب رائحة العطر.

(2) النار والبارود والراجمات والأطواب: مكونات الحرب من الأسلحة العسكرية، فالراجمات ترجم الأعداء بالصواريخ، والأطواب: المدافع.

(363)

غير أن الأجسام من إبرةٍ تد            مى ويوري الحريق عود ثقاب

فترسم عزم الشعوب التي ثا            رت وأسيافها نفوس صلاب

وطني قل لمن أتى يركب المو          ج ويرجو أن تقسم الأسلاب

وطني ضع على النقاط حروفاً         ليبين التصديق والارتياب

فترسم عزم الشعوب التي ثار          ت وأسيافها نفوس صلاب

وتنحى عن الطريق أفاع         حيث تجني من [سمها] تنساب

ولتجلى ملامح ولتكن قبــ        ــحاً وعن وجهها يزاح النقاب

ويذاد الرهط الذي ما عنته              محنة الشعب أو شجاه المصاب

إنما ساءه وأحبط مسعاه          سهام قليلة ونصاب

فارعفي يا جراح في ثورةٍ كبـــ        ــرى لتمحى الأزلام والأنصاب

وارفدي الساح بالرؤوس كباراً         لتذاد الصغيرة الأذناب

***

أيها الطحلب الذي ما له جذ            ر ولا شد فيه منا تراب

تاجر يحلب الجراح ويبكي             فضروع المغفلين احتلاب

ما رأى جيفة فأعرض عنها            ومتى عف عن فطيس غراب(1)

خل عنا فلم يعد دمنا سو         قاً ليجني أرباحها النصاب

أترانا من بعدما فاض خطب           وذوت أمة وجذت رقاب

نتناسى أو نغمض الطرف؟ كلا        سوف يشتد بالمسيء الحساب

وطني حرف المسار فصححــ          ــه وإلا أتى علينا التباب(2)

رد هذي الحقول والزرع للفلاح        كي تمرع الربا والهضاب

وأعد كل معمل ليد العمال       حتى يصحح الإنتساب

  

_______________
(1) الجيفة: جثة الميت إذا أنتنت. وعف عنها: كف. والفطيس: الذي مات من غير علة ظاهرة. وإذا وقع الغراب على فطيسة أكل منها دون أن تعف نفسه عنها.
(2) التباب: الخسران والهلاك.

(364)

ولغير الملاح لا تدفع المر       كب فالبحر عتمة وضباب

أعط هذا اللوا لزندٍ تلظى        بالوغى والتقت عليه الحراب

فدروب الفتوح أوعر من أن            يمتطيها مرفة ملعاب

وحسيك السعدان يجرح إن لم                 يتول احتطابه حطاب(1)

***

أيها القلب كم تعاني فهلا         إذ نأوا عنك ذبت فيمن ذابوا؟

ليس لي منك غير خفقٍ دؤوب          ولهم منك كل ما يستطاب

أنت عندي أم عندهم ليتني أد           ري، وهل للسؤال هذا جواب؟!

خلني وارتحل ليخبو ضرام             تحت ضلعي ويهدأ الاضطراب

فحياة من دون قلبٍ نعيم         وحياة مع القلوب عذاب

أتسمى قلباً وقد ذهب الخفــ             ــق وجف الخضيل والإخضاب(3)

وإذا لم يعد بأرضك زرع        ترتجي ريعه ففيم السحاب؟

وطني! هل نسيتني عن قريب          عندما غبت عنك فيمن غابوا

وأنا لي ملاعب في مجاليــ             ك روتني في أفقها الألعاب

كتبت لي طفولتي والصبا        الغض عل رملها فنعم الكتاب

فإذا ما منعت عنك تراباً         ونخيلاً وجدولاً ينساب

_______________
(1) حسيك السعدان: نبات شائك.

(2) اللظى النار أو لهبها. والمران: الرماح الصلبة اللدنة. والواحدة مرانة، أو شجر المران. والسوط: ما يضرب به من جلد مضفور ونحوه. جمعها سياط. والدواوين: جمع ديوان، وهو ما جمعه الشاعر من شعره في كتاب. أو السجل تكتب فيه أسماء الجنود وأماكن وجودهم، كما تذكر فيهم أعطياتهم. أو المكان الذي يضمهم. أو الكتاب الحكوميون. والألقاب: جمع لقب، وهو الاسم الذي يسمى به الإنسان بعد اسمه الأول ويشعر بمدح أو ذم كالأمين والحافظ وغيرهما.

(3) الخضيل: الرطب من النبات الناعم والمبتل. وقصد به الشباب وجذوته.

(365)

 

فبعيني والفؤاد وبالسمــ          ـــع رنين وخفقة ورباب

أسكنتك الحشا فلا القهر          يستلك من جانحي ولا الاستلاب

***

وطني هل نسيتني عن قريب           عندما غبت عنك فيمن غابوا

نسيتني ملاعب في مجاليــ              ك روتني بساحها الألعاب

برح الشوق يا عراق لورد             من فراتٍ به الرحيق مذاب

واجتلاء عن الشواطي اللواتي          نسجتها الزهور والأعشاب

ولهمس المجدف والزورق الحا        لم نجوى مبثوثة وعتاب

ولنادٍ على الضفاف عقدنا        أنقته العلوم والآداب

فإذا كل فكرنا نصنع الطيــ             ــن دمى كم لنا بها ألعاب

يا لوجدي راحت وأقفر ربع            الأنس من أهله وولى الشباب

أي عمرٍ إذا الشباب تولى        ومضى الصحب عنك والأتراب

فأعد يا فرات لمساً من الخضــ         ب لروحي فالروح قفر يباب

وإذا ما أبيت فاغمر رفاتي             وليكن منك للعظام شراب(1)

وإذا ما أبيت فاغمر [ترابي]            وليكن منك للعظام شراب

***

_______________
(1) الرفات: بقايا جسد الميت

(366)

 

سناء محيدلي

 

       قالها بمناسبة مرور أسبوع على استشهاد (سناء محيدلي) في عملية بطولية في الجنوب اللبناني ضد العدو الإسرائيلي:

تطلع يستجلي سنا الأرض كوكب             فشد بعينيه جبين معصب(1)

تعرى به لبنان سهلاً وشاهقاً            وشاطئ بحر بالحلا يتأشب(2)

ومرت به شمس الجنوب فأنضجت           به الكرم فالصهباء في الصدغ تلهب

وجسد أطياف الفداء كريمة             إلى بدر واليرموك تنمى وتنسب

هو المجد يا دنيا (سناء) فغردي        فأنت أريج الخلد بل أنت أطيب

دم وسرايانا – ذميل مسيرها           وعز أمانينا رجاء مخيب(3)

تألق فانزاحت عن الليل عتمة          وأمطر فارتدت سحائب خلب

وما مسح الإذلال عن وجه أمة         كمثل وريد بالدم الحر يشخب(4)

ولا اختصر الدرب الطويل كخطوة           مشت في طريق المجد وهي توثب

رأت غاية للدرب فاندفعت لها          وما رجعت والمدفع الوغد يصخب

ملاحم آبائي سمعت هديرها            بصوت سناءٍ وهي للمجد تغضب

***

(سناء) رأيت الشمس رغم سنائها             تمجد ثوباً منك بالدم يخضب

ويحضنك التأريخ سفراً وصفحةً        بما ينزف الجسم الممزق تكتب

_______________
(1) شد بعينيه جبين: ارتفع أو عدا وركض (بدا وظهر له) يقال: شد النهار: أي ارتفع وشد الرجل: عدا وركض. معصب: مشدود أو مربوط بعصابة.

(2) يتأشب: يختلط ويمتزج.

(3) ذميل مسيرها: سريع. ومخيب: مصاب بالخيبة.

(4) يشخب: يتفجر دمه ويسيل. أراد أنه لاشيء يمسح الذل مثل الدم الحر الذي يبذل فداء لكرامة الوطن.

(367)

 

وأطياف إيمان ورمز صلابة           سقى غرسها في أرض (عامل) (جندب)

وأنت على الجوزاء كأس كريمة       تهيب بأبطال الخنوع ليشربوا

متون وإن ثقل النياشين أدها            يشرفها في كعب رجليك شبشب(1)

وعزمة صقرٍ فيك تفدي شموخها              خنافس في مستنقع الوحل ترسب

سيبقى وإن شظاه بارود مدفعٍ           بثغرك صداح مدى الدهر يخطب

أجل وسمات المجد صهوة سابح       شموس بغير الدم هيهات تركب

***

(سناء) ودعوى التضحيات لسانها            صدوق ودعوى الادعاء تكذب

وكل قناع يحكم الزيف نسجه           سيحسر عن وجهٍ ويبدو المنقب

وتبقى الشعارات الكذوبة سبة          تنم عن الجبن الذليل وتعرب

تكذبها حرية مستباحة            ويخجل منها بالهتافات يعرب

ويلعن دعوى الاتحاد تجزؤ            على كل شبر منه دين ومذهب

ورأس حواليه رؤوس تعفنت           فلو شمها نتن من النتن يهرب

تسطر أمجاداً كذاباً لشيخها             وتعزو له كل الشموخ وتنسب

لعنتك من داء تأصل جذره             بجسم وأعياه اللطبيب المطبب

***

ألا أيها الليل الطويل أما لنا             كمثل ليالي الناس صبح فيرقب

ألسنا كمثل الناس صبحاً وعتمة        وفي أفقنا شمس تهل وتغرب

فما بالنا لا يعرف الصبح أفقنا          إذا ما تولى غيهب جد غيهب(2)

تقضم منا الأجنبي بنابه          ومن أهلنا الحكام ناب ومخلب

_______________
(1) أدها: أثقلها. والشبشب: النعل يحتذى في الرجل. (كلمة رائجة الاستعمال في مصر).

(2) الغيهب: الليل المظلم شديد السواد.

(368)

 

فنحن بظفر الكاسرين فريسة           يمزقنا هذا وذلك ينهب

ونحن بكف الفاتحين مناهب            كرامتنا تستام والأرض تسلب(1)

وقادتنا ليل وخمر وسامر        ينضر ليل المرتفين وربرب(2)

ومفترش النعمى وبالشعب فاقة         ومستروح والشعب يشقى ويتعب(3)

ونحن ضياع وامتهان ومحنة    سنبقى بها حتى يثور المعذب

***

عروس الجنوب الحر ألف تحية        لأفراح عرسٍ بالشموخ مطيب

وأي عروسٍ مثل يومك يحتفي         بها الدهر فرط الجلال ويعجب؟!

ولكنني أنبيك أن عرائساً         على دربك المزهو بالأمس طنبوا(4)

أصاخوا لأنغام الخلود وهزهم          من الخلد قيثار على البعد يطرب

فتاهوا بما أسدوه للمجد من يدٍ          وتاه بهم أفق أعز وأرحب(5)

***

_______________
(1) تستام: يطلب معرفة ثمنها لتشترى وتباع. استام المشتري السلعة: أراد شراءها ومعرفة ثمنها. واستام البائع بالسلعة: غالى وطلب سعراً عالياً. واستام فلاناً السلعة وعليها: سأله تعيين ثمنها. واستام على السلعة: غالى.

(2) الربرب: الغانية السمينة التي زاد نمو جسمها زيادة فوق زيادة.

(3) الفاقة: الفقر.

(4) طنبوا: ساروا، أقاموا خيامهم على دربك في مسيرتهم للشهادة. من طنب الخيمة ونحوها: جعل لها أطناباً وشدها بها. وطنب بالمكان: أقام به.

(5) تاهوا: تباهوا. واليد المعونة والمساعدة، وتاه بهم: تباهى واعتز.

(369)

 

الذبابة المسافرة

       هذه قصيدة في ذبابة ركبت على كتف الشاعر وهو في طريقه إلى دخول الطائرة، وكلما دفعها عادت مرة اخرى حتى نزلت معه على أرض المطار المقصود فأوحت له بالأبيات التالية:

وذبابة طارت معي من أرضها         طوعاً ولم يعصف بها تهجير(1)

صعدت معي طيارة في رحلةٍ          كتفاي كرسي لها وسرير

لم تلق أي موانعٍ في دربها             بل حيث تشتاق المسير تسير

لم يطلبوا منها الجواز ولم يصل        لمزاجها من أجله تعكير

فتنقلت عبر الحدود طليقة        في حيث لا منع ولا تحجير(2)

ونجت فلا رعب المباحث سد من             فمها ولم يعبث بها شرير

وتصرفت مختارة في فعلها             إذ لا رقيب حولها وخفير

عرفت بعلمانيةٍ لا مذهب        من أجله شجب ولا تكفير

لا تجتوى أو تجتبى من أجله           وينال منها تافه وحقير(3)

تسبى هويتها ويسلب قوتها             ويؤد منها النبز والتحقير(4)

وصلت لمنأى لا الكلاب تشمه         أبداً وليس يعضه خنزير

وتمتعت بهوية دولية             فبكفها أنى تشاء مصير

وقعت على أي الأرائك تشتهي         فلها فراش ما تشاء وثير

إني لأحسدها على حرية         فيها ابن آدم لو تناح جدير

_______________
(1) التهجير: الإجبار على الانتقال من الوطن إلى وطن آخر، أو  إكراه الإنسان على أن يهجر بلده أو يهاجر منه.

(2) التحجير: التضييق أو المنع من مخالطة الناس.

(3) لا تجتوى: لا تكره أو تبغض. ولا تجتبى. لاتختار.

(4) يؤد منها النبز: يثقلها ويؤذيها التقليب. (ولا تنابزوا بالألقاب).

 

(370)

 

إن الحياة بدونها عبء وآ        لام وطعم ما علمت مرير

***

أذبابتي أشكو إليك هواننا        وضياعنا والباقيات كثير

أترين أنا من سلالة آدم          أم أننا للسائمات نصير؟(1)

أنحى علينا القسر حتى أننا             همل يقاد كما يقاد بعير(2)

واجتاحنا قهر فماتت نخوة       وذوى شموخ واستكان هدير

وأماتنا الطغيان يصنعنا دمى           موتى يزرق موتها التصوير

وتأنق الإعلان يروي بؤسنا نعمى             ويبدع عنده التزوير

نحن الرواحل سيم من أكتافنا           ما استنكفت أن ترتضيه حمير

فهي التي عملت بأكل شعيرها          ولكم نكد وما هناك شعير

بنت الفتوح دماؤنا وابتزها             من عنده التطبيل والتزمير

ممن ونحن على اللظى وغطاؤنا       البارود وهو سرادق وحرير

لكنها الأهواء شادت صرحه            وفم الهوى عفن الكلام أجير

وزنودنا وعلى الحقول شواهد          من كدحها وعلى الربا تعمير

ذابت على المسحاة تفترع الثرى       فترف في غضارة وخضير(3)

فجنى الثمار مرفه وطغت على         دنيا الكوادح كسرة وحصير(4)

واستاقها للصادحين فغردوا             وشدا لديه فرزدق وجرير

_______________

(1) للسائمات نصير: السائمات: الإبل أو الماشية ترسل للرعي، أي: نتحول إلى رعاة وخدم للمتسلطين. أو نتحول إلى عبيد تسومنا الشاريات وتحاول شراءنا بأسعار أقل من المطلوب فينا. وكلاهما أمران غير محمودين يدلان على الهوان.

(2) الهمل: إبل ضالة. مفردها: هامل.

(3) المسحاة: أداة القشر أو الجرف.

(4) الكوادح: الكادحات. العاملات (قصد بها الكادحين إطلاقاً) والكسرة: القطعة من الخبز.

(371)

فإذا الخنا والسيئات مناقب       وإذا الخراب خورنق وسدير(1)

***

أذبابتي يهني طنينك أنه          حر ويخنق عندنا التعبير

ولديك متسع المدى ولنا مدى           بالرغم من سعة المجال صغير

قد صغرته نفوسنا وطباعنا             فتحكم الإيراد والتصدير

أوليس يضحك أن يطول بأفقنا          الذبان والإنسان فيه قصير

ويسف فيه إلى الحضيض بنو الورى          وبه الذباب إلى السماء تطير

أسمعت بالكذب الصراح ذبابتي        ولكم لدنيا كاذب ومبير(2)

رسموا الحدود وأعلنوها وحدةً          أكذا يكون اللف والتدوير

كتبوا على أبوابهم حرية         من بعضها التكبيل والتدمير

أما اشتراك الكل في الدخل الذي        يجنى فأمر ماله تفسير

فالوابل الدفاق رزق عصابةٍ            أما الشعوب فرزقها التقطير

مدن يغلفها البريق وتحتها        عفن رواه النتن والتقذير(3)

يا من تجذر بالشعوب وباؤهم           إن الدواء القطع والتجذير(4)

لكم بوعي الشعب أي جرائمٍ            لا الحد يغسلها ولا التعزير(5)

وعداك شعبي العذر بعض مواقفٍ             لا العذر ينفعها ولا التعذير(6)

_______________
(1) الخنا: الفعل القبيح البذيء. والمناقب: جمع منقبة، وهي الفعل الكريم والمفخرة. والخورنق والسدير: قصران واسعان كانا لملوك الحيرة.

(2) المبير: المهلك المتلف من أبار الشيء: إذا أهلكه.

(3) قذر الشيء: جعله قذراً، أو ارتكب الفعل القذر.

(4) الحد: (في الفقه) العقوبة المقدرة التي تجب على الجاني. والتعزير: المعاقبة بما هو دون الحد الشرعي.

(5) عداك شعبي العذر: جاوزتك يا شعبي الحجة. والتعذير: عدم إثبات العذر في المسألة.

(372)

ما أمة قد غيرت أحوالها         ما لم يجئ من عندها التغيير

فيم الهوان وأنت لست بقاصر          فيما أرى لكنه التقصير(1)

***

أذبابتي أين انتهى يخيالنا         مجد إلى دنيا النجوم سفير

والخالدون بطولة وشهامة        والباذخان الفتح والتحرير

وخيولنا تزجي الغبار لهامة النجمات          فالنجم الشفيف قتير(2)

فنعود نمسحه بعرف خيولنا             حتى يعود النجم وهو منير

وعلى الثرى مما سنابك خيلنا          وطئت حداء شيق وعبير(3)

تختال بالشهداء فوق سروجها          لا هارب من فوقها وأسير

لم تبق آفاق الشموخ سماءها            يرتد عنها الطرف وهو حسير

وكبا بأشواط الفتوح تطلع        فالطرف مغضٍ والفؤاد كسير(4)

ونتاج أم الصقر سقط رغم أو          حام شداد والمخاض عسير(5)

***

_______________
(1) القاصر: العاجز. أو الذي لم يبلغ سن الرشد من الورثة.

(2) تزجي: تسوق. والقتير: شديد التقتير والبخل.

(3) سنابك الخيل: أطراف مقدم حوافرها. مفردها: سنبك. والحداء: الغناء. والعبير: أخلاط الطيب.

(4) الطرف مغض: مطبق من الحزن والانكسار.

(5) الأوحام: جمع وحم وهو ما يعتري المرأة عند حملها من شدة الشهوة لمأكولات معينة أو قلة الشهوة للأكل. والمخاض: وجع الولادة أو الطلق.

(373)

 

عاشق الظلام

خواطر سجلها في ليلة من الليالي الحالكة

عشقت الدجى لا كافراً بضيائي         ولا لأعد النجم من ندمائي

ولا أنشد الإلهام فيه فلم تعد             مجالي الخيال الخصب ذات عطاء

ومالي دن في الدنان أعبه        ولا قمرا أشكو له برحائي(1)

وما كنت شادي الليل دون صباحه            وبالصبح رأد واجتلاء بهاء(2)

ولكن عشقت الليل يؤنس وحشتي             ويستر أحزاني عن الرقباء

وأقرأ أحبابي السلام فإن نأوا           عليه جعلت النجم من سفرائي

وأرسل أحزاناً وضاءً طليقةً            تحررن من قيدٍ وضغط وعاء

تعودن يشربن الإباء بشاهقٍ            وما اعتدن غير النجم من قرناء(3)

***

أقافلتي قد أوحش الدرب والتوى        ولم يبق عندي فيه من رفقاء

وغامت به حتى شموع ضئيلة          تعودن منح الليل بعض سناء

وعهدي به درب الكرام إذا به          ويا لشجوني مسلك السفهاء

من الحاسبين المجد أن يأكلوا على            موائد سحت في حمى الأمراء(4)

وأن يتقنوا رقص القرود ويحسنوا             نشيد الثنا في جوقة الأجراء

إذا عاد فن الزيف فناً وحنكةً            فماذا يكون الصدق غير هراء

***

_______________
(1) الدن: الجرة الضخمة للخمر والزيت وغيرهما. جمعها دنان. والبرحاء: الشدة والمشقة أو المعاناة منهما.

(2) رأد الصبح: وقت ارتفاع الشمس وانبساط الضوء حيث تتضح الرؤية وتظهر الأمور على حقيقتها.

(3) الشاهق: المكان المرتفع. والقرناء: جمع قرين وهو الصاحب.

(4) السحت: الحرام وما خبث من المكاسب كالطعام أو الرشوة وغيرهما.

(374)

أعاذلتي هل في الحياة بقية              تمد إليها العين دون قذاء

وهل من طموح الكبرياء بأنها          تزاحم تجار الخنوع بماء

أكأس بماء مثل كاس بصرخد          وبغل ومهر سابح بسواء(1)

أمثل الذباب النسر أن كليهما            يطير قياس مفرط بغباء

إذا زحم الغربان صقراً بورده          فليس أمام الصقر غير ظماء

***

أطل على الدنيا يكدر صفوها           مزاح يمني كأسه بدماء

يعذبه أن يضحك الناس مرة            ويطربه إن أغرقوا ببكاء

وليس ينام الليل والناس عندهم         رغيف وبقيا عزة وإباء

حلال له كل الحرام لغيره        ومن لم يطعه فهو من عملاء(2)

يرى أنه الفذ العظيم وأنه         لرعي نعاج لا يليق وشاء

وكيف يسوس الناس أرعن تافه         وكيف يداوى الجهل بالجهلاء

قصاراه أن يشدو بأصلٍ وفعله          هجين يعري أصله لهجاء

فما المرء إلا ابن الفعال كريمةً         وما الأصل دون الفعل غير هباء(3)

***

ومنعطف أشرفت منه على رؤى       تكاذب وجهاها بدون حياء

تريك حضارات بلفظ وفعلها            ستعليه قدراً أن تقول بدائي(4)

وكارثة أن يصبح الذئب سيداً           وأن يتمشى العهر في خيلاء

_______________
(1) صرخد: موضع نسب إليه الشراب في الشعر.

(2) من عملاء: أحد العملاء، أي متهم بالعمالة لحساب جهة تعاديه.

(3) الهباء: ما تطاير في البيت وتراه في ضوء الشمس شبيهاً بالدخان. ويضرب به المثل لما لايعتد به.

(4) البدائي: ذو التصرف غير المتحضر.

(375)

 

أفي زمن العلم الحديث وفترة           تطول السما فيها يد العلماء

تقوم بنا يا للتعاسة حالة          مكاسبها غزو وسبي نساء

أحلت لرهطٍ عابثين دماءنا              وصبت دنان الخمر للزملاء؟!

فيا لأيادي ينصب عندنا          بدون جزاءٍ بل لمحض حباء!(1)

ألم يسمحوا للنور نمشي بضوئه        ونشبع من ماء وشم هواء؟

أما تركوا الأثواب فوق متوننا          وأرجلنا جادوا لها بحذاء؟

أما الإمبراليون فوق متوننا             وهم أنقذوا الأسرى من الدخلاء؟(2)

أجل! حولوا الوهم الكذوب حقيقةً       فصرنا لهم من أعبد وإماء

لك الحمد يا من ليس يحمد غيره       على كل مكروه وكل بلاء

رجعت إلى حزني ألوذ بجمره          وأقنع دائي أن فيه شفائي

ومن عرف الأحزان يعلم أنها          هي المن والسلوى لدى نظرائي(3)

فلولا الشجا ما أطرب الأيك صادح           ولا غردت صناجة الشعراء(4)

ولا كانت (الخنساء) لحناً مخلداً         ولا فجرت في (صخر) نبع إخاء(5)

وبعض الظما قد ينشد الورد بالظما           ورب دواء ترتجيه بداء

_______________
(1) أيادي النور: فضائله ونعمه. لمحن حباء: لمجرد العطاء والكرم.

(2) الإمبراليون: الإمبرياليون، المستعمرون الدخلاء.

(3) المن والسلوى: كناية عن العزاء للنفس. فالمن: طل ينزل من السماء على شجر أو حجر ينعقد ويجف جفاف الصمغ، وهو حلو يؤكل. ومن بني إسرائيل هو الذي أنزل الله عليهم بوجه عجيب في التيه ليقتاتوا به. أما السلوى فهي العسل.

(4) الشجا: الهم والحزن. والأيك: الشجر الكثيف الملتف. والصادح: الطير المغرد. وصناجة الشعراء أو صناجة العرب: لقب أعشى قيس، وهو الأعشى الكبير المتوفى في السنة السابعة للهجرة، وقد لقب به لجودة شعره وصلاحيته للتغني به أو لعزفه على الصنج.

(5) صخر: هو أخو الشاعرة الخنساء تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية الذي كان موته في إحدى المعارك وحتى شعرها المشهور في الرثاء الذي جعلها تعد أشهر شواعر العرب وأشعرهن.

(376)

 

حـــــــنانيك شــــعبي ما عهدتك خـــــــانعاً          وأنـــــــت ابن عزف السيف وابن جلاء(1)

ولكن وقد تعـــــــمي الــــــشعوب طوارق           تخدر روح الـــــــشعب دون فــــــــــناء(2)

وقـــــــد تــــستنيم الكـــــــبرياء لفـــــــترةٍ           وقـــــــد يـــــــستجم الــــــمهر بعد عناء(3)

ولـــــــكنها تــبقى الشعوب وإن قـــــــست           قـــــــيود ولـــــــج الـــــــجبن بــالجبناء(4)

ستـــــــنقذ أســـــــراهـــا وتنقذ ثأرهــــــــا           وتنـــــــفض عنـــــــها الــذل دون مراء(5)

***

_______________
(1) حنانيك شعبي: تحنن على مرة بعد مرة وحناناً بعد حنان. ما عهدتك خانعاً: ما عرفتك تقبل الذل والضيم. وابن عزف السيف: من تصدر سيوفه صليلاً كالعزف الموسيقي في أثناء المعارك الشديدة. ابن جلاء: من يحرر بلاده من كل غاصب احتلها في غفلة منه. وثمة تورية في قوله: (ابن جلاء)، فابن جلا هو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قال:

أنـــــــا ابـــــــن جلا وطـــــــلاع الثــــنايا           مـــــــتى أضـــــــع العـــــــمامة تـعرفوني

(2) الطوارق: الصعاب والمصائب والنوازل التي تنزل به وتطرقه وتصيبه.

(3) تستنيم الكبرياء: تستكين لفترة. ويستجم المهر: يستريح ليذهب تعبه.

(4) لج الجبن بالجبناء: تمادوا في جبنهم لتمكنه منهم.

(5) دون مراء: دون شك أو جدال.

(377)

 

كواذب الأحلام

 

أغرقي يا رؤوس بالأوهام       وعدي في كواذب الأحلام

واخدعي فالحياة محض خداع          وهراء مفوف الأكمام

أوعزي للطبول أن تكثر القرع         وغذي الجياع بالأنغام

واستهيني بالناس فالناس إلا            قلة لا يسوون أي اهتمام(1)

حفنة من ثعالب وابن آوى       وسوادٍ مكثف من سوام(2)

يتلاقون في الطباع على الرغــ         ــم من الاختلاف في الهندام(3)

ما أخو الصدق فيهم غير صفر         بيسار ما عد في الأرقام

هبطوا فالسمو فيهم نشاز         وأصيبت أذواقهم بالسقام

فإذا بالوجود يطرب للظفــ       ر وللناس لا لسجع الحمام

***

كان فيه هذي الأرض بعض ربوع            وادعاتٍ في نعمةٍ وجمام(4)

قاد من ركبها تراث كريم        من جدود في السالفين الكرام(5)

غير أن العدوى تمشت إليها            فسرت في نخاعها والعظام

فتأست وللمقلد حرب             فوق حرب الأصيل في الاحتدام

فإذا الخير قدت تحول شراً              وإذا الختل قمة الإلهام(6)

_______________
(1) سوي يسوى: استقام أمره. وقصد: لا يساوون ولا يستحقون أي اهتمام، أو لايؤخذ لهم اعتبار.

(2) السواد: معظم القوم. والسوام: السوائم من إبل أو ماشية تسام ويذهب بها إلى المرعى.

(3) الهندام: حسن القد وتنظيم الملابس.

(4) الجمام: الراحة.

(5) التراث: الإرث الحضاري.

(6) الإلهام: ما يلقى في القلب من معانٍ وأفكار.

(378)

 

وإذا خدعة الشعارات فن         يتبنى عند الذرا والآكام

***

قيل حرية وفي كل شبر          ألف كلب بأنفه شمام

يتقصى خطاي فهو ورائي       وهو في كل خطوةٍ قدامي

واحتكام الجلواز وهو يقود الـــ         فم والفكر والنهى بزمام(1)

فإذا قلت في السماء غيوم        هي فيما علمت محض جهام(2)

قيل لي قد شتمت غيم السماوا           ت وبئس الأخلاق شتم الغمام

وإذا ما التفت قالوا ترصد        ت مرور الزعيم للإجرام

وإذا ما نفضت كفي قالوا         تنسف المنشآت بالألغام

هكذا كبلوا الجوارح طراً        عن ضروب الإرسال والاستلام

وهم يهدمون في كل يوم         ما بنى المجد من صروح عظام

ثم يرمون غيرهم أنه يمـــ       تار من كل مبدأ هدام

***

(اشتراكية) ولكن بجوع          وسجودٍ لحضرة الأصنام

عندها الفقر للجماهير والثر             وة ملك الأنصاب والأزلام

ترسم العهر شرع كل فتاةٍ       والضلالات دين كل غلام

قذر في تقدميات اسمو            ها فصيغت في بهرج من كلام

عوضوا النقص في دوي كما           عوضه ابن التسعين في الاغتلام(3)

وأصروا بأنهم هبه الدنــ         ـيــا لأجل المسير نحو الأمام

_______________
(1) الجلواز: الثؤور. وقيل: هو الشرطي. وجلوزته: خفته بين يدي العامل في ذهابه ومجيئه. والجمع: جلاوزة.

(2) الجهام: السحاب لا ماء فيه ومطر.

(3) الاغتلام: الانقياد للشهوة.

(379)

 

ضيعوا أرضنا وباعوا أمانيـــ           نا وحطوا أنوفنا بالرغام(1)

وأرقاوا الدماء في نزواتٍ        ليس في غابة ولا في المرام(2)

يا لهدر الجهود والصلف المغـــ        رور حتى في قمة الانهزام

والخداع الأشد في دعوة الوحــ         دة في طول بعدنا المترامي

فعلى كل رقعة مثل جحر        الضب رمز لدولة ونظام

وحدود هيهات يعبر منها         غير من حاز ألف شرط تمام

هي للعرب والأعاريب حجر           وهي مأوى للزط والأعجام(3)

فإذا ما اسما رعتك وقضيــ             ت بها حقبةً من الأعوام

ومنحن الجنسية المتوخا          ة ولفتك بدلة الاحترام

ستراهم قد صنفوك لحام         بينما الآخرون أبناء سام(4)

ثم راحوا يقررونك صبحاً       ومساءً بالفضل والإنعام

أولست ابن النفط فاشمخ         ولو ترجع بالأصل للبعير التهامي؟(5)

أولا تستحي الشعارات بالمد            خل من حجم زورها المتنامي(6)

***

هكذا يا عجائب الأيام نحـــ             ـــن أسرى الخداع والإيهام(7)

_______________
(1) الرغام: التراب.

(2) ولا في المرام: في غير المراد، ليس في هدف حقيقي.

(3) الزط: قوم من الهند أو السند واسمهم بالهندية: الجت. والواحد زطي. والأعجام: من لبسوا عرباً، أو الفرس خاصة من سكان بلاد فارس.

(4) سام: أكبر أبناء نوح عليه السلام، وإليه ينسب الجنس السامي واللغات السامية، ويعد جد العرب، لأن إبراهيم عليه السلام أحد أحفاده. قيل: أنه توفي عن عمره قدره ستمئة سنة.

(5) التهامي: المنسوب إلى تهامة في الجزيرة العربية.

(6) زورها: باطلها وكذبها.

(7) الإيهام: التضليل.

(380)

 

ليس بين الأقوال فيما روته             واتجاه الأفعال أي انسجام

أنكرتنا نفوسنا لمدى الإســـ             ــفاف فينا بالنقض والإبرام(1)

نحن حقاً أولئك القمم الشماء            فيما مضى من الأيام

يوم زمت فينا سموا وفكراً       وشموخاً شريعة الإسلام(2)

فصنعنا نقص الحياة كمالاً       وبنينا بفكرنا والحسام

وتركنا على مناكب هذي         الأرض رمزاً لكل ما هو سامي

ورفعنا منارةً أسرجتها           بيض أفكارنا لطرد الظلام

كيف ذاب السمو فينا فذبنا        فإذا نحن موطئ الأقدام؟

كيف تاهت طلائع الهدي وهي          الرشد والنور في غمار الزحام

وانتهت تأكل الفتات على ما            ئدة الكفر وهي حقل الطعام؟

أقسمت أن تبر كل دخيل         وتبنت قطيعة الأرحام

فإذا رهطنا عدو لدود            وإذا (التيمس) النصير المحامي

وإذا نحن دون طعم ولون        ليس ندري عن بدئنا والختام

راح حتى شكل العروبة والإســـ        لام واستبدلا بشكل هلامي(3)

***

_______________
(1) الإسفاف: التدني في التفكير أو العمل، أو طلب الدنيء من الأمور. النقض: إبطال نظام من الأنظمة وعدم العمل بمقتضاه. والإبرام: عقد الأمور والأخذ به.

(2) زمت فينا سموا: سمت بنا ورفعت قدرنا.

(3) الشكل الهلامي: الشاف الذي يكون جامداً في حالة الجفاف ثم يتحول إلى سائل بالرطوبة، والمقصود أنه لا تعرف له حال.

(381)

 

  جيل الحجارة

 

«أوحت بها أحجار غزة ونابلس في أيدي أطفالنا تضرى في مقابلة مدافع الصهاينة»

اربعي (إسرائيل) فالأمر جد            راح وقت به يصعر خد(1)

لم يكن بالحسبان أن حقوقاً       هضمت في حجارةٍ تسترد

كيف تلوي الأحجار أعتى الشظايا            إنما يقهر الشديد الأشد

غير أن الحجارة الحق شفع             حين تهوي والمدفع البغي فرد

ومتى ضمت العزيمة للحق             فلا باب عن دعاءٍ يسد

هكذا كان للأوائل منا            دعوات مع السيوف تشد

فتنال النصر المبين وللنصـــ            ر سبيل بغيره لا يعدد

غير أنا لما حملنا دعاءً          دون سيفٍ لم يأتنا منه رد

***

إيه جيل الأحجار مر علينا              في إسار الطغيان عقد وعقد

نكرع الذل والهوان كأنا          ما لنا دون ذلك الورد بد(2)

واقتضانا الضياع مسخ الهويا           ت فلا قبل في مدانا وبعد

مزقتنا الأهواء شرقاً وغرباً             ونمتنا مذاهب لا تعد

فإذا نحن ضجة دون شيء       وصدى بالأضغان والغير يعدو(3)

وبريق التصنيف في الانتماءا           ت خداع مهما تباين حد

أي فرق والكل صرن إماء             أن هذي ليلى وهاتيك هند؟

_______________
(1) إربعي: توقي وانتظري. يصعر الخد: يمال ويرفع كبراً وتعالياً.

(2) مالنا بد: لا مفر لنا ولا محالة.

(3) الأضغان: جمع ضغن، وهو الحقد.

(382)

 

سألتنا أشواطنا وهي ثكلى        هل درينا حقاً إلى أين نعدو؟(1)

عبث أن يسير ضعن ولا يد            ري لدى السير هل هنالك قصد؟

وإلى أن ولدت قال لنا الشو             ط هنا فارس على الدرب يبدو

ولكم تبدأ السيول بقطر           ولكم يشعل الحرائق زند

إيه جيل الأحجار خل النياشيــ          ن لرأس ما مس صدغيه وقد(2)

عاش يعطي لنفسه كل يوم       رتبة من خياله تستمد

في امتداد السنين قد يصنع القا          دة وقد اللظى وعلم وجهد

وهم في يومين بالمقعد المخــ           ــمل والشوط كاعبات وورد

لخصوا الدرب فالمعاهد يسألــ          ـــن ترى عاد للمعاجز عهد؟

هكذا فالألقاب في الكتب سفر           والنياشين في المناكب حشد

فتهاد جيل الحجارة أنت          الرتب الحق والطريق الأسد(3)

لك هذا الهتاف لم تصنع الأطــ         ماع إيقاعه ولا الزيف مجد

والهوى والمشاعر الحق سيف          والأماني والخافق القلب بند(4)

يا دماً سأل لابن سبع وعشر            فوق رمل فالرمل شيح ورند(5)

وقعته رمال (غزة) أو (نا        بلس) لحناً وغردت منه  (لد)

وبأجراس من كنائس (رام الله)         وقداسه مدى الدهر خلد

ولدى (القدس) في المنائر والمحــ             راب من طهره صلاة وورد(6)

_______________
(1) الأشواط: جمع شوط، وهو العدو مرة بعد مرة إلى غايات معينة، والمقصود من البيت أن ثمة ضياعاً في التوجه أدى إلى حيرة.

(2) النياشين: جمع نيشان وهو الوسام. والصدغ: ما بين العين والأذن، ويسمى الشعر المتدلي عليه ايضاً صدغاً. والوقد: اشتعال الشيب بالرأس.

(3) الرتب: الثابت المستقر في المقام الصعب. والأسد: الأكثر سداداً وصواباً.

(4) البند: العلم الكبير الواضح للعيان.

(5) الشيح والرند: نوعان من الشجر طيبا الرائحة.

(6) الورد: النصيب من القرآن أو الذكر يقرأ.

(383)

 

سوف تبقى على الرمال شموخاً        ما لوى منه غاصب مستبد

كبرياء البارود مرغها الرمــ           ل بأحجاره فللرمل حمد

حيث للبغي بالمدافع جند         ولدى الله بالحجارة جند

***

يا مدى يأسر المسامع والأبــ            صار فيما لديه بعد وبعد

الرسالات في مداه نجوم         والنبيون فيه هدي ورشد

فأبو الأنبياء والروح والعذ       راء قدس جلاله لا يحد

وهدير فيه ملاحم كنعا           ن بوعي الدهور برق ورعد

ودوالٍ تبرج الكرم فيها          مثلما اختال عند حسناء عقد(1)

شف ماء الكروم حتى أغاظ            النجم في أن يحكيه في الأرض ند

وهوى البيارات أجج منه         يوم قطف الليمون وصل وصد

والصبايا نواضج كثمار          الين والراقصان: خطو ونهد(2)

تتهادى ويهمس الغصن والنبــ          ــع وتغفو الزهور والطير يشدو

مهرجان بساطه السنبل الأصــ          ــفر والخيمة السما اللازورد(3)

مسرح للقلوب والفكر والعيــ            ن بأبعاده هيام ووجد

مهد (عيسى)! رزية حين تسبى         عند رجس وأنت للطهر مهد(4)

ويداس القرآن فوقك والإنجيل          والضاربون عجل وقرد

صمت المصحف المرتل والقداس             والقدس لا رحال تشد

_______________
(1) الدوالي: أشجار الكروم، تبرج الكرم: تزين. اختال العقد: تمايل كبراً وزهواً.

(2) النهد: النساء الناهدات أو اللواتي نضجت وبرزت نهودهن.

(3) اللازورد: لفظ استعمل صفة للسماء بجامع تشابه اللون فهو بزرقتها ولكنه يضرب إلى الخضرة، ومنه ما هو بنفسجي.

(4) الرزية: المصيبة. وتسبى: تؤسر. والرجس: القذر أو الشيء القذر.

(384)

 

حـــــــزن ابــــــن البتول عيسى لقتـــــــلى          رضـــــــع عـــــــند حــلمة الثدي أردوا(1)

وشـــــــباب براعمٍ وصبـــــــايا زفـــــــهم           فـــــــي مـــــــواكب الـــــــعرس لــــــــحد

وأعـــــــد الـــــــريحان لا لـــــــسرير الـــ           ــعرس بـــــــل للـــــــنعش ســـــــواه وعد

كـــــــان يـــــــغدو علـــــى العرائس إكليــ           لاً، فيـــــــا للريحـــــــان للـــــــقبر يـــغدو

***

قد ســـــــقى الرمـــــــل من مواويل حـزنٍ          والـــــــــد ثـــــــــاكـــــــل وأم وجــــــــــد

فـــــــاحملوا هذه المـــــــواويل أحــــــــجا           راً إذا اـــــــشتد جـــــــزرنا فـــــــهي مــد

***

_______________
(1) أردوا: قتلوا، أهلكوا.

(385)

 

عتاب الجراح

هذه صرخة طلب النصف من العرب والمسلمين أوحت بها مأساة الخليج

فاض بالصدر من الآلام طفح           فليسعنا من بني الأعمام صفح(1)

ليس هذا العتب عن موجدةٍ             فكريم الأصل بالعادة سمح

غير أنا كلنا نسمعها       آهة الجرح إذا ما ذر ملح

خلق الإنسان كالنبت إذا          اشتد وقد حوله خفف نتح(2)

وانفعال الذوق الطبيعي إذا ما           مر في أجوائه حسن وقبح

ومتى ألححت في ضغط على           الزق يندى من خزين الزق رشح(3)

وإذا ما عرك الزند فلا           بد أن يومض عند الزند قدح(4)

***

يا بني أعمامنا معذرةً            فالجوى تحت حنايا الضلع لفح

والأسى والعتب كل منهما        ثار حتى لا يرد الوثب كبح

لنصرح فمن الإدغال ان         ينطوي منا على الأحقاد كشح

إن عبئاً أدكم من ثقله             أدنا منه بحكم الدم رزح(5)

نحن بالشوط رعيل واحد        خيبة بالشوط أم بالشوط نجح

ويحم الجانب الأيمن للجانب            الأيسر ان شظاه فلح

_______________
(1) صفح: عفو.

(2) الوقد: الحر / خفف نتح: خفف مدة الحر وشدته النتح والنتح: العرق أو كل سائل يخرج من الجسد بسبب الحر.

(3) الزق: الجلد الذي يدبغ ويملأ ماء أو خمرة.

(4) الزند: العود الأعلى الذي تقتدح به النار.

(5) عبثاً: ثقلاً، رزج: هزال.

(386)

 

فلماذا نحن في ساحتنا            قمة للبعض والآخر سفح

ولماذا بعضنا أصواته            نغم والآخر المسكين نبح

ولم الطوفان إذ يغرقنا            لم يبلكم ولو بالثوب نضح

هكذا حر وبرد جمعا             وهوانا واحد والسطح سطح

***

يا بني أعمامنا ليس من          الوعي والحنكة أن يهمل نصح

إن نهج الحقد نتن ريحه          وشذاً رائحة الحب ونفح

نحن رهط فليكن إحساسنا        عندما لج بها قطع وذبح

وكشفنا الوحش والرهط الذي           حوله وازداد إيضاح وفضح

فأبيتم قولنا واستيقظت            نزعات وانتحى حقد وردح(1)

وصرختم إذ دعوناكم إلى        رص صف ليس منها حن قدح

***

كم تنسمتم هواءً أصفراً          فيه مما أوقد الشيطان فح(2)

وتوسمتم صلاح الدين في        بطل فيه من الأسلاف لمح

والتقت من حوله أذرعكم        مثلما التف إلى الوديان طلح

وتهامت فوقه أموالكم             وسرح ماله بالمجد فتح

هو للأهل شفار ولظى           ولاسرائيل ريحان وروح

قد زرعتم نبتة أعطتكم           ثمراً مراً وما بالشوك قمح

***

يا بني أعمامنا لا دغل           لو تأتى بدل المكنون بوح

آن أن تسأل عن أشياء هل       خطها بالقدر المحتوم لوح

_______________
(1) الردح: الوجع الخفيف.

(2) فح: صوت يصدر من الفم وأكثر ما يكون للأفعى.

(387)

 

صنف الناس بها في معشر             طرب والمعشر الآخر نوح

وفريق ما لعينيه مدى            وفريق لمدى عينيه سرح

ورعيل ظله الشمس كما         لرعيل وارف بالظل دوح(1)

لو رجعتم لمسار صائب         ربما يطرح غير البر طرح

وإذا لم يرتفع صوت النهى             فسيأتي الجد إذ يذهب مزح

***

يا بني العم وإن لم يحمنا         علم أو ما لنا سيف ورمح

فلنا هامات ما ألوى بها          رغم طول العهد بالعدوان نطح

وشرايين تصدت للمدى          فهي إذ تدفع اعطاءً ومنح

إن تكن أبعادنا مجدبة            فلقد ينبت بعض الشعر جلح(2)

رب غيم لا تراه ممطراً          ثم يجتاح به الوديان سح(3)

لا يعرونا وجوهاً إن دعت              حاجة تسفر أولا فهي كلح(4)

حددوا ما بيننا في وضح         أهو حرب كاشح أم هو صلح؟

بيتنا فيه ركام هائل        وهو يدعونا أما للبيت كسح؟

***

يا بني أعمامنا والآن إن         كشف الزيف وإذ أسفر صبح

عدلوا الكيل فما في صفقة        في نطاق الأهل خسران وربح

وليكن عبر المدى في وعيكم           ما لقينا وليقم سبر ومسح(5)

_______________
(1) الدوح: الشجرة العظيمة.

(2) مجدبة: لا زرع فيها أي: يابسة، الجلح: ما تطاير أو سقط من رؤوس القصب ونحوه مشبهاً القطن.

(3) السح: الصب يقال: «سح الماء»: صب صباً شديداً.

(4) الكلح: الضيق يقال «كلح وجهه»: عبس وتكبر.

(5) السبر: امتحان غور الجرح ليعرف مقداره.

(388)

 

ألف قرح عبر دهر مسنا         إن يكن مسكم بالأمس قرح

ومآسينا على الإجمال قد         تملأ الدنيا فما لو طال شرح

وقصير سبحكم في محنةٍ         ولنا طال على المحنة سبح

ومذ اشتد علينا مخلب            شرس يسكره بالدم سفح

جرح الجنبين وحش واحد       وهما من طيرنا جنح وجنح

فنقيض صارخ أن يلتقي         منكم في حقه ذم ومدح

واعذروني يا بني أعمامنا        لست في عتبي لاح جاء يلحو

أنا صوت من ضمير مخلص           ينشد الحب وللتوحيد ينحو

فإذا الفيتموني ساعداً             يدفع الناكب للدرب ويدحو

لا تسموا ذاك عنفاً فلقد           يركل السكران بالرجل ليصحو

انه عتب جراح عندنا            طالما تغتفر الذنب وتمحو

***

(389)

 

قانا وفتح الدم(1)

قانا هو الدمع مأوى كل من هربوا            فكفكفيه ولو يغرى به الهدب

وإن جرحك أسمى من معادلةٍ           بلهاء لا يرتضيها المجد والحسب

ما أهون الدمع في عين معودةٍ          على البكاء مدى الأيام تنتحب

فأججي النار حتى في ترائبنا           فربما ألهبتنا وهي تلتهب(2)

لقد أصبنا بقرض في مشاعرنا         فليس يوقظ منا ندب من ندبوا

كأننا والسبايا تستجير بنا         والسيف يحصد م أعناقنا خشب

هذي جهنم تشوينا بجاحمها             وأنتم بالجنان الخضر يا عرب

لمن إذن والحمى نهب لغادرة           هذي الفيالق والألقاب والرتب

كما هو الرعد لا غيث يصدقه          ولا تفرج عن أنواره السحب

لمن تعانق أصوات الجراح لمن        تدعو وتدعو إلى أن هدها التعب

وهكذا السمع إن أودى بهم صمم        فعنده يتساوى الصمت والصخب

ويح الجراح التي عشنا نطببها          ببلسم كله الأشعار والخطب

واستحقرت موتنا دنيا نموت بها        موت الذباب وقالت بئس ما اكتسبوا

قانا ألا ترتجي من ليلنا شهب           فالليل من بعض ما في عتمه الشهب

إلام نخبط في عشواء  لا ضيم          أقدامنا فيه تستهدي ولا نصب(3)

شعب يظل عزيزاً في حقائقه           ورب أشياء منها يعجب العجب

فالناس يجمع منها الخطب وهو على          شيء تساءل عنه العرق والنسب

وهان حتى استحى منه الهوان لما             أضحت عليه نفايات الورى تشب

وارتاح للوضع حتى لا أنين به         واستعذب الذل فهو السائغ العذب

_______________
(1) قانا: قرية في صور لبنان وهي المقصودة.

(2) ترائبنا: صدورنا.

(3) خبط عشواء: التصرف في الأمور من غير بصيرة.

(390)

 

هشت يداه إلى قيدٍ وراق له             لأنه لامع في شكله ذهب

وكان أقصى نزوع في مطامحه        أن اليهود رضوا منه وما شجبوا

لله أنت أتنسى ألف مجزرةٍ              حمراء تحفظها الأجيال والحقب

وبالنفوس عزيز لا يقر لها              إلا على القرع رأس ما به عصب

وما لمعتذر بالقهر عاذرةً        فالموت يملكه في الهم محتسب

قانا أغاريد بالعرس الذي بليت         به صبايا كريم جذرها شجب

مر الصباح عليها والشباب بها         غض وأحلامها البيضاء والأرب(1)

جاءتك تنشد أن تحيا غداة غدٍ           ربوعها البغي والبارود واللهب

فزفها مدفع شظى ترائبها        وضاع بين الشظايا حلمها الخصب

وتلك حلتها البيضاء كم كفن            وتلك حجرتها الأحجار والترب

ورضع يد إسرائيل تلقمهم        ثدي الرصاص فمنه الورد والحلب

براعم من صبا لبنان رقتهم             رقت وأوجههم للورد تنتسب

ترقبوا العيد يأتيهم بفرحته       وأن للغد يلقاهم رغبوا

وما دروا أن إسرائيل يطربها           بأنهم للظى أحقادها حطب(2)

رأت بنا لسلاح خير مختبر             فنحن من ضربوا دهراً وما ضربوا

وحسبها أن تخوض الإنتخاب ولو             على الجماجم والأشلاء تنتخب

أدرى لظاها من التلمود ما رسمت            أحقاده ومن نيويورك ما تهب(3)

وسرها أن تقين الإحتفال على          الأوداج تشخب والأجساد تضطرب(4)

_______________
(1) غض: ناعم الأرب: الحاجات.

(2) اللظى: النار.

(3) التلمود: من أهم كتب الديانة اليهودية التي دونت بعد الكتاب المقدس وهو قسمان: «المسنا» أي: الشريعة الشفوية و«ثمارا»: وهو تفسير المشنا، وللتلمود طبعتان التلمود الفلسطيني في القرن الخامس والتلمود البابلي في أوائل القرن الرابع.

(4) الأوداج: مفردها «الودج»: العرق في العن، تشخب: تسيل، والشخب: الدم؛ لأنه يسيل.

(391)

 

وما تصدى لها في ذاك منتفض         فالأبرياء على صدق وإن كذبوا

بل نحن من دان شرم الشيخ صرخته          ونحن من عنده الإرهاب والرهب

قضية أخذوها من أوائلنا         يكوى السليم ويعفى من به جرب(1)

قد باركتهم ذئاب من فصيلتهم           والذئب للذئب مشدود ومنجذب

ونحن صمت كما يهوى الخنوع فلا           عقيدة رفعت همساً ولا غضب

يا بنت جندب يا أعماق ما برحت             مع المدى منذ ألفٍ وهي تنتصب

تنشأت في دعاء داف طينته            أبو تراب الذي للصاعدات أب

واستمسكت بالإباء المر واعتذرت            بالحق واستيقنت هذا هو القلب

كم سامها الضغط والإغراء يمطرها          تبراً فما لان منها عودها الصلب(2)

سجية من تراب الطف يحملها          الثوار فهي على أخلافهم لقب

ما ضرهم أن أغلى لبسهم خشن        وأن أشهى طعام عندهم جشب

وأنهم ورثوا الأخلاق رائعة             فذلك الإرث لا الأموال والنسب

يا بنت جندب إن المجد أعرفه          أما الشموخ وأما الموت والعطب(3)

لقد درجنا على الجلى نعب بها         عب الظمي ولا شكوى ولانصب(4)

سلي ترائبنا والرمح يشجرها    هل اشتكت وصب أم يشتكي الوصب(5)

ما أوحشتنا بعتم الدرب وحدتنا         فدرب أهل المبادي مشرق أشب(6)

وإن تكن قدعت عنا وشائجنا           في النائبات فلا عتبى ولا عتب(7)

يبقى أخاك وإن شالت نعامته           أخ به منك مورث ومكتسب

_______________
(1) يعفى: يشفى.

(2) تبرا: ذهباً.

(3) العطب: الهلاك.

(4) نعب: نشرب.

(5) ترائبنا: صدورنا، يشجرها: يتداخل معها، وصب: ألم.

(6) أشب: ملتف.

(7) قدعت: ضربي، النائبات: المصائب.

(392)

 

فنحن مهما أراد الزائغون بنا           غد وأمس ودرب واحد لحب(1)

تمضي الرياح وإن كانت عواصفها           هوجاً وتبقى الجبال الشم والهضب

لبنان أسعد روحي أمس مرتفع         من المشاعر ممن كان يحترب

تعانق الدم والهامات وامتزجت         عواطف من ثرى لبنان تنسكب

ذابت حواجز مما ساد منتفع            خب وما اجترح الأوزار محتطب(2)

وأصحرت فكر بيضاء لوثها            بالحقد مهد لئيم كله وصب(3)

فارتد لبنان قلباً واحداً وهفت            إلى المآذن في محرابها الصلب

فباركي الدم يا قانا فرب دم             فتح به أبعد الآمال يقترب

واســــــتمطري للضحـــــايا هنا رقـــــدوا           وهم عطـــاشى ومن ورد الردى شربوا(4)

***

_______________
(1) الزائغون: المنحرفون، لحب: واضح.

(2) خب: سريع، الأوزار: الأثقال.

(3) وصب: ألم وتعب.

(4) ورد الردى: موضع الهلاك.

(393)

 

 

شعر الرثاء

 

1- دمعة على قبر أحمد                              7- عبير من دم

2- دمعة وفاء في رثاء الدكتور فيصل الوائلي            8- دمعة في رثاء جعفر الخليل

3- آهة في رثاء رفيقة العمر                        9- عبد المحمد

4- ذكرى الشريف الرضي                                 10- دموع القلب

5- في ذكرى الشيخ المفيد                                 11- في رثاء حافظ الأسد

6- دمعة على أبي أديب                             12- في رثاء السيد عيسى كمال الدين

 

(395)

 

 

(396)

 

دمعة على قبر أحمد

 

بك جلى من الرمال كثيب        وثرى يدفن المهيب مهيب(1)

هزه نبعك المغرد فيه            إذا الممحلات روض خصيب(2)

وإذا كل ذرةٍ منك لحن           رائع الوقع بالعبير خضيب(3)

وإذا الموت لو نظرت حياة             وإذا القبر فيه كون رحيب

وإذا من معناك ألف ربيع        يتنادى له التراب الجديب

لغة الموت عبر الرمل عنها            ومن الرمل شاعر وخطيب

***

حكمة الموت أن تخلص روح          من إسار وأن يعود منيب(4)

وتعود الأرواح للنور والجســ          ـــم لترب ويفصم التركيب(5)

وسيعيا التراب أن يدفن الأنـــ           ــغام فالجرس في الثرى لا يغيب(6)

قد عرفنا القيثار حتى ولو يكــ          ــسر يبقى وحده التطريب(7)

وإذا شئت تدفن العطر بالتر            ب سيبقى عفر الثرى وهو طيب(8)

وسيبقى ثراك ينزرع الطيــ             ــب به والجمال والتأشيب(9)

ويوشيه بالخضيل المندى        والأزاهير راعف شؤبوب(10)

_______________
(1) الجلى: الأمر الشديد والخطب العظيم.

(2) الممحلات: الأراضي اليابسة، مفردها الممحلة، ولا تقال إلا في الشعر إذ صوابها: ماحلة.

(3) الخضيب: بالعبير: المختلط به إلى حد تغير لونه.

(4) أناب إلى الله إذابة: رجع إليه وتاب فهو منيب.

(5) يقصم: يفك بعضه عن بعض أو يحل.

(6) الجرس: الصوت أو خفيه وجرس الحرف: نغمته.

(7) الحد: المنتهى.

(8) عفر الثرى: ظاهره.

(9) الشؤبوب: الدفعة من المطر وغيره.

(397)

 

احضني أيها القبور نجوماً       مدفن النجم في القبور عجيب

وأقم، في نفوسنا يا ثراه          إن قبراً ضم الحبيب حبيب

أيها الراحل العزيز رويداً        فالمدى بين غايتيك قريب

إن عمر العطاء لمح وعمر             الجدب دهر بطوله محسوب

وحياة الورى هباء إذا لم         يك فيها من العطاء نصيب

هو عارٍ من لم يجلله فكر        وإن اختال فيه برد قشيب(1)

وثمانينك الرعابيب يخطر       ن بما دبج اليراع الأريب(2)

مثقلات بالعبقرية والإبـــ         ـــداع طبع لا مغنم مكسوب

اسبر الدهر هل تألق فيه         بين كل الألقاب إلا الأديب(3)

يا موشى الخميل ما زال أنف           الدهر من كل ما به يستطيب

ومتين النسيج ما كان يوماً       بين ما خطه الركيك المعيب(4)

ونظيفاً إذا تعقب أو أثنى         فيسمو الثناء والتعقيب

بعض ما فيك هذه والسجايا             إن أضيفت لطيبين تطيب

وحسان الأخلاق أسرة مجدٍ             وعشير مهذب ونسيب

صنف الناس أنهم قطر شتى            بعيد ما بينها التقريب(5)

فعطاء الضياء صبح أنيس       وعطاء الظلام ليل رهيب

فإذا نم عنك فكر نجيب           فلان الملاك جذر نجيب(6)

***

أيها المنعش الحروف بروح            منك في هيكل الحروف تذوب

_______________
(1) البرد القشيب: الثوب المخطط الجديد.

(2) الرعابيب: جمع مفرده رعبوب: الحلوة الناعمة. واليراع: القلم يتخذ من القصب.

(3) سبر الشيء: تأمله واختبره وتفحصه.

(4) الركيك: الضعيف.

(5) الفطر: الطبائع. مفردها: فطرة.

(6) النجيب: الأصيل والحسيب والفاضل.

(398)

في أضاميم من زهورٍ ولأز            هار نهج وللشذا أسلوب

شمخ الحرف في نسيجك حتى          كل حرفٍ بجملةٍ يعسوب(1)

وتبدى على يراعك فجراً        مزق الليل ضوؤه المشبوب

ومشى يجتلي الحياة ويجلو              ها سواء شروقها والغروب

فهو حيناً قيثارة وهو حيناً        فيض دمع بمقلةٍ مسكوب

وهو آناً من اللهيب شواظ        وهو آناً من المدامة كوب(2)

حولته الأم الثكولة آهاً            وشجا روحه الأب المحروب

وتهامى على الطفولة دفئاً        وأمضته لليتيم ندوب

ودعا للسلام وارتاع للإنــ        ــسان أن غالت السلام حروب

هكذا الشاعر الأصيل صدى            للناس فيما يسرهم وينوب

***

يا أخا الضاد في رعيل حماها          حين رام اجتياحها التخريب(3)

في دعاوى من بعضها الصقل والتيــ          ــسير والإختصار والتبويب(4)

وهي دعوى فيما أخال توارى          بين أبعادها نزوع مريب(5)

وأعد السهام رهط فأصماها             فباتت من اسهام تلوب(6)

من بنيها مغفل ومن الأعــ       داء دهقان في الخديعة ذيب(7)

ولقد يصدق البنون ولكن         حسنات المغفلين ذنوب

موقف الحاقدين من لغة القر            آن لم ينسه الذكي اللبيب

_______________
(1) الحرف اليعسوب: الكبير العظيم الشأن والمعنى.

(2) الشواظ: لسان النار أو الحر.

(3) الرعيل: جماعة متقدمة في مجالها.

(4) دعاوى: ادعاءات.

(5) النزوع المريب: المشكوك في أهدافه.

(6) اصماها: أصابها في الصميم.

(7) الدهقان: التاجر أو زعيم فلاحي العجم.

(399)

 

فأعدوا لهم فرب عذاب          من عدو في رحمةٍ مصبوب

***

وفريق تيمموا الشعر فاغتا              لوه والشعر فكرنا المكتوب

مزقوا هيكلاً له فإذا الشعــ       ــر تفاريق مزقت وجيوب

وأذابوا وقع القرار بموسيـــ             قاه فامتص روحه التذويب

وأتاه يستامه بعد نزع            النسر من معشر البغاث دبيب(1)

زعموه حراً وقد أنجبوه          ومحال أن ينجب المجبوب(2)

أنها بدعة التبني وهيها           ت يساوى بما ولدت الربيب

إنما استهدفوا النبوغ لعجزٍ       كي يساوى بخاملٍ موهوب

هدف صارخ وإن سترته        ظلمات الإبهام والتضبيب(3)

وسيبقى في الناس كل أصيل            ويولي لأهله المجذوب(4)

أيها العربي بين جنبيه روحاً            ورجاءً بقلبه لا يخيب

ودعا الغافلين للوحدة الكبــ              ـــرى ينادي برهطه ويهيب

وتغنى بمجد سورية العر        ب سواء شمالها والجنوب

ذاب في أهلها جميعاً، هلالٌ             من وراء انتمائهم أم صليب

قارع الإستعمار شخصاً وفكراً          فهو في ذلك القوي الحسيب

وتلظى عزماً وما نال منه        النفي والإعتقال والترهيب

***

جند الشعر للمواقف والشعــ            ــر بلا موقف كلام رتيب

_______________
(1) يستمامه: يقيمه والبغاث: طائر لا يرغب فيه لعدم جدواه.

(2) المحبوب: المقطوع من غيره.

(3) التضبيب: التعميات الضبابية.

(4) المجلوب: المستورد.

(400)

 

أيها الهيكل الصغير لقد أو       دعت روحاً عطاؤها يعبوب(1)

***

يا أبا الشعر هل يعاني أسانا            داخل القبر حسك الملهوب

الطريق الطويل يزداد بعداً              وخطانا ضاعت عليها الدروب

وتلاشت أهدافنا في ضجيج             يزعم الانتصار وهو هروب

واتجاه يجزئ الجزء لأجـــ             ــزاء من أجل وحدةٍ تستجيب

وابتعاد بين القيادات والشعـــ            ب فهذا رب وذا مربوب

وشعارات في اعتقاد الملاييـــ           ن خداع يلفه تذهيب

وضياع ألح في  غيبة الأهــ            داف والرشد تائه لا يثوب(2)

وعريب تراطنوا وتداعوا        أن يغيث العروبة التعريب(3)

وحمانا مضيع وعدانا            أسرونا ورحلنا منهوب

غير أن الحياة لا تعرف اليأ            س وإن أخلف السحاب الخلوب(4)

سيجيء الصباح حتماً فما الليــ          ل بباقٍ ولا تموت الشعوب

رب في وجهك الكريم جمال            كل حسنٍ من حسنه موهوب

نم عنه سحر الشروق وروض          عبقري الشذا ونبع صبيب

أترع العارفين عشقاً فها هم             كالفراشات يستبيها اللهيب

رب إمكاني الفقير له فخر       إذا ما رعاه منك الوجوب

كل نبضٍ بجانحي دعاء          وبمعناك كل شيء مجيب

عاش قلبي على رجائك حتى           ما به أن يمر فيه وجيب

_______________
(1) يعبوب: سريع شديد الجري.

(2) الرشد: كمال العقل.

(3) تراطنوا: تكلموا بكلام لا يفهمه السامع لكثرة الدخيل فيه وعدم فصاحته. والتعريب: إعطاء اللفظ الأجنبي صيغة عربية عند نقله إلى العربية.

(4) أخلف السحاب الخلوب: لم يف بوعده في الإمطار.

(401)

 

رب أغرى خطاي عندك باب          ما به حاجب ولا محجوب

وسماح على رحابك غمر        لم يكدر صفاءه التثريب(1)

من أنا كي أقول: أنت وإني             ومتى صح بيننا تنسيب

أنا والكون كله رشحات          من عطاءٍ لا يعتريه نضوب

رب أشبع من فيضك الغمر روحي            فأنا للذي تفيض سغوب(2)

رحمة أنت عند كل مكان        ومحال من رحمةٍ تعذيب

***

أيها الراحلون، في النفس حزن         وحنين ولوعة وندوب

وعلى الأفق وحشة وسهوم              من شعور بأنكم لم تؤوبوا(3)

الخميل اجتواه شادٍ وولى         رخو أنسامه وجف الرطيب(4)

واستبدت نواعب بغصونٍ        وأليم بعد الهديل النعيب

سلبيتني القبور رهطي فروحي         حسرات ومأتم منصوب

وبقلبي معسكر من جراحٍ        جمعتها إلى الخطوب الخطوب

واقتضى أن يواسي الجرح جرح       رب جرح لداء جرح طبيب

فسأبقى حول القبور مقيماً        حيث حب ثاوٍ وخد تريب

إن قبر الحبيب دار، وداراً       ليس فيها الحبيب قبر كئيب

فتقبل يا قبر دمع غريبٍ          فلقد يسعد الغريب الغريب

***

_______________
(1) التثريب: اللوم.

(2) سغوب: كثير الجوع.

(3) السهوم: الهزال والعبوس وتغير اللون.

(4) اجتواه شاد: كرهه وأبغضه.

(402)

 

دمعة وفاء

 

في رثاء الدكتور فيصل الوائلي

أغروباً رأيته أم شروقاً          يشهد الأفق ما عرفت الفروقا

لا ترى العين حينما لا ترى الرو       ح ويبقى إبصارها تحديقا

المعافى يدري الفوارق لا من           طوقته يد الجوى تطويقا(1)

فإذا غامت النفوس فشأن الـــ           ـــغيم أن يحجب السنا والبروقا

المعنى آفاقه ظلمات       كان صبحاً أم كان ليلاً غسيقا(2)

وسواء على الكسيح أكان        الساق ساقاً مقيداً أم طليقا

ولماذا أجشم العين أن تنـــ       ــظر ما لا تحبه أو تطيقا(3)

أنا في اليم من طيوف أحبا              ئي كما ضمت البحار غريقا(4)

عشت في دنياهن روضاً خلوباً         ونسيماً رخواً ومسكاً فتيقا

ويظن الورى بأني فيهم          ألتقي بينهم وأمشي الطريقا

ولو استبطنوا رأوا هيكلاً خا            وٍ مشى دون رغبة أو سيقا

وفؤاداً يقتات من ذكرياتٍ        عشن فيه صبابة وخفوقا

***

يا رفاقي إذ الحياة من الأحـــ           لام نشوى تفيض صفواً رحيقا

كم وددنا لو أن أحلامها الخضــ        راء دامت وأننا لن نفيقا!

غير أن الدنيا كما علمتنا         لا يفي وصلها المحب المشوقا

زحفت لفحة الصحارى لروضي              فأحالته يابساً محروقا

أين مني أبو محمد شيخاً         يصنع الفكر شامخاً مرموقا؟!

_______________
(1) الجوى: الحرقة وشدة الحزن.

(2) المعنى: المتعب تعباً شديداً أياً كان السبب.

(3) أجشم العين: أكلفها أمراً على كره منها.

(4) اليم: البحر ذو الماء المالح أو النهر الكبير ذو الماء العذب.

(403)

 

وبنوه الطلائع الغر من صحـــ          ــبي ومن أتعب النجوم سموقا(1)

ذهبوا فافتقدتهم خلقاً عفاً         وروحاً حراً وقولاً صدوقا

أين مني أبو فريد ولاح          النجم سحراً والرأي صلباً وثيقا؟!

جمعتنا قبل الوشائج أحوا        ل بها يسبر الصديق الصديقا(2)

فتلمست فيه روح الوفي          الشهم والصادق الهوى والشقيقا

***

يا لهول الردى لقد صرعته             وهو مازال فارعاً ممشوقا!

فبكيت الروح الوفي دهاه        نفر لا يجيد إلا العقوقا

وشجتني أبا فريد عظام          أثرت مرقداً بعيداً سحيقا

***

أيها النائم الغريب بكمبرج       لساناً ومحتداً وفريقا(3)

أنسيت الديار بعد رحيل          أم تناسيت روحها  المخنوقا؟

أتعبتنا همومها يوم عشنا         نتساقى صبوحها والغبوقا(4)

نسبر المحنة التي حولتها         للأسى والخراب والذل سوقا

ونرى ناعم الأكف حولتها       للأسى والخراب والذل سوقا

ونرى ناعم الأكف ينحي         عن جنى الأرض كفها المعروقا

ونمير بالرافدين جرى خصــ           ــباً لقد حولوه يجري فسوقا(5)

زرعوا أرضه غداة سقوها             بالدما أذرعاً لداناً وسوقا(6)

أسكنوا الترب كل وجهٍ حيي            وأحالوا الحياة وجهاً صفيقا(7)

_______________
(1) سموقا: سمواً وعلواً.

(2) يسبر: يختبر.

(3) كمبرج: مدينة أمريكية فيها جامعة (كامبردج). لسانا: لغة. محتداً: طبعاً، فريقاً: جماعة أو رفقة.

(4) الصبوح: ما يشرب في الصباح. والغبوق: ما يشرب في المساء.

(5) النمير: النهر الصغير ذو الماء الصافي. والفسوق: الفجور وتجاوز حدود الشرع والخروج عن طاعة الله عز وجل.

(6) الأذرع اللدان: أذرع النساء البضة الطرية التي لم يتعبها العمل في الأرض. والسوق: جمع ساق.

(7) الوجه الحيي: الكثير الحياء الذي تملؤه العفة. والوجه الصفيق: الوقح.

(404)

 

الحصان العف البتولة من        حول بالعهر بيتها مطروقا(1)

والأنوف الشم اللواتي عرفنا            كيف سيمت من الهوان نشوقا؟(2)

والمقاييس كيف ضاعت فعاد           الزور فضلاً والإلترام مروقا

الصليبية استقادت من الإســـ           لام ثاراً وأرضت الجاثليقا(3)

***

أنكرتنا أبا فريد ديار             ذيد عنها من كان فيها عريقا(4)

من بناها دماً وكدحاً فعاشت            وهي تروي زفيره والشهيقا

وتبنت شراذماً من غثاءٍ          ليس منها خلائفاً وعروقا(5)

أنكرتها عروقنا ورأتها           بين أبنائها الدعي اللصيقا(6)

ما بها من عرار نجد ولا تعــ           ــرف سلعاً في أصلها والعقيقا(7)

ومعاذ الحفاظ ما كنت ممن             صنف الناس سادة ورقيقا

غير أني أهوى الكريم تعاف            النتن أعراقه ويهوى الخلوقا(8)

من سجايا النجوم لا تنزل التر          ب فسل عن سماته العيوقا(9)

_______________
(1) الحصان: العفيفة من النساء. والبتولة: العذراء. والعهر: الفجور. والبيت المطروق: المدخول إليه ليلاً.

(2) الأنوف الشم: التي ارتفعت قصبتها كبرياء وعزة. وسميت من الهوان: أذلت. والنشوق: ما يدخل في الأنف لينشق.

(3) استقادت من الإسلام ثأراً: انتقمت منه. وأرضت الجاثليق: أرضت مقدمي الأساقفة.

(4) ذيد عنها: دفع عنها ورد. والعريق: الأصيل.

(5) الشراذم: جمع شرذمة وهي الجماعة القليلة من الناس. والغثاء: الرغوة أو القش الذي يعوم على وجه الماء أو فتات الأشياء التي على وجه الأرض. وقصد بالشراذم من الغثاء: الجماعات التافهة التي لا جدوى منها ولا قيمة.

(6) الدعي اللصيق: من يدعي انتسابه والتصاقه بقوم.

(7) نجد وسلع والعقيق: مواضع في الجزيرة العربية. والقرار: نبات طيب الرائحة يكثر وجوده في منطقة نجد.

(8) الخلوق: ذو الأخلاق الحسنة.

(9) العيوق: كوكب أحمر مضيء بحيال الثريا في ناحية الشمال يطلع قبل الجوزاء، سمي كذلك لأنه يعوق الدبران، والدبران نجم يدبر الثريا أي يتبعها يعد من منازل القمر.

(405)

 

ورزايا أوطاننا همل أصغى            وخب لا يجهل التلفيقا(1)

ونعاج تتابع الذئب خوفاً          ورعيل السوام يبغي العليقا(2)

كم وعدنا أوطاننا بسري         وأطلنا المطال والتشويقا(3)

غير أنا والوعد أكدى وددنا             لو أعدنا جرابنا الممزوقا(4)

وقنعنا ببلغة وكراما       تٍ ولم نركب الهوى والمروقا(5)

فاصبري يا جراح قد تنسل             الخيبة يوماً من الرجاء بريقا

***

يا أحباي يوم كنتم حوالي        ووجه الحياة يزهو أنيقا

نسي الدهر طبعه فنعمنا          وأمنا مزاجه المسبوقا

وحسبت الأشياء ينبع منها        حسنها كالخميل غصناً وريقا

وكما الشمس تستنير وعقد       النجم يبدو منمنماً منسوقا

ثم رحتم فراعني كيف عادت           قسمات الدنيا جهاماً وضيقا

فإذا السهل كان فيكم رحيباً             وإذا الغيث كان فيكم وريقا

وإذا العيش والأماني والدنـــ            يا هراء من غيركم لن يروقا(6)

وحشة النفس عند فقد حبيبٍ                   وحشة الدرب إن فقدت الرفيقا

***

_______________
(1) الهمل: المهملون المتروكون بلا رعاية ولا عناية، قصد الجهلة من العامة الذين يستمعون إلى ما يدور ويفسرون الأمور حسب ماتوحي لهم به آفاقهم الضيقة متصورين الأمور عكس الحقيقة. والخب: الخداع الذي يكثر الكذاب والتقول والتلفيق.

(2) النعاج التي تتابع الذئب خوفاً. ورعيل السوام: كناية عن الذين تعودوا النفاق والتهليل والتطبيل والتمجيد جبناً واسترزاقاً. العليق: نبات معروف يتعلق بالشجر ويلتوي عليه تأكله القطعان أو أي طعام يقدم للسوائم.

(3) السري: السيد الشريف السخي ذي المروءة. والمطال: المماطلة في تنفيد الوعد.

(4) أكدى الوعد: عجز عن التحقيق لوقوف العراقيل في طريقه.

(5) المروق: الخروج عن الطاعة.

(6) الهراء: الكلام الفاسد السخيف الذي لا نظام له.

(406)

 

يا أحباي كم أعلل نفسي          ربما يطفئ الرجاء حريقا

إن رآكم بعالم يجمع الشمـــ             ــل ويأبى الإبعاد والتفريقا

عالمٍ ما رأى عبيداً وأسبا         داً ولا ساحقاً ولا مسحوقا

الموازين تنشر العدل فيه         وتجازي الأثيم والصديقا

لا ينال الظلام فيه من النو       ر ولا يطرد الهجين العتيقا

ليس فيه مستنقع ينعت الطهـــ           ـــر بدعوى لا تقبل التصديقا

ويسمى الهديل فيه هديلاً         ويسمى النهيق فيه نهيقا

شرعة الله لا تجور ومكر        السوء في غير أهله لن يحيقا

ههنا موعد لنا في رحاب        الله تشتار عطفه المغدوقا(1)

ونمني ذنوبنا من عطاء          الله عفواً بالطيبات خليقا

يا لنعمى السماء ما أسعد المثــ   ـــوى عليها لو استطعت اللحوقا

***

يا أحباي والخطوب لجام         ولكم أخرس الأسى منطيقا(2)

فبقلبي من الأسى ما عذرت الــ         حرف في بعض عبئه أن يضيقا

غير أني وقد ألحت خطوب             روضتني حتى ألفت الطروقا(3)

وصحبت الجراح حتى اتخذت الــ             ــبعض منها المحبب المعشوقا

نادمتني على طيوف أحبا        ئي فنادمت نرجساً وشقيقا

وشربت الصديد فيها سلافاً             ثم أقسمت غيرها لن أذوقا(4)

إن قلباً دفنت فيه أحبا            ئي سيبقى غمر الحنان رقيقا

***

_______________
(1) تشتار: تجني. والمغدوق: المتدفق. أراد كرم الله عز وجل المتدفق والمغدق على عباده.

(2) المنطيق: البليغ أو ذو الكلام البليغ.

(3) ألف الطروق: تعودت زيارة الخطوب والمصائب لي.

(4) الصديد: دم الجرح المختلط بالقيح. والسلاف: الخمر أو عصرها أو أفضل الخمر.

(407)

 

آهة في رثاء رفيقة العمر

 

رفيقة عمري هل لجرحي بلسم         رحيلك أدماه وما انقطع الدم

مددت له كفي فلما رددتها        إذا الكف مما ينزف الجرح عندم(1)

أحاول أسلو الحزن أو أطرد الشجا            فيكبر حزني بالسلو ويعظم(2)

أنا على صمت الجراح وصمتها        يعبر عن حر الجوى ويترجم(3)

وأصحو على سكب الدموع ونوحها           وللدمع ثغر ربما يتكلم

***

رفيقة عمري ليس يحجبك الثرى       وشخصك في أعماق روحي يرسم

وفي خاطري مما طبعت شواخص            تعلل روحي بالحنان وتفعم(4)

وضوح وإيمان وطهر براءة            ووجه وإن ألوى به الهم يبسم

وليس الغنى إلا غنى النفس والذي             يحوز الدنا من غير ذلك معدم

ونفس قنوع ما أرتني سوى الرضا            تشارك في العيش القنوع وتسهم

***

مشيت معي في الدرب والعيش بلغة           ووجه الأماني كالح متجهم

ولما استراش الفرخ واشتد عوده       وجاء الرغيد الحلو وانزاح علقم(5)

شكرت وفي الحالين كنت رضية       وثغرك بالشكران لله مفعم

رفيقين من بعد الثلاثين خمسة          مشينا بها في دربنا وهي أنجم

ففرقنا ريب المنون فها أنا       وحيد يعض الحزن في ويقضهم

وما الدرب من دون الرفيق سوى شجاً        ووحشة روح واكتئاب يخيم

***

_______________
(1) العندم: نبات بري تستخرج منه أصبغة صفر للصوف والقطن، وقصد أنه وجد كفه مصطبغاً بنزيف جرحه.

(2) السلو: النسيان.

(3) الجوى: الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن.

(4) تفهم روحي بالحنان: تملؤه به.

(5) استراش الفرخ: كبر وصار ذا ريس. والعلقم: المر.

(408)

 

رفيقة عمر ي أي حجر موطأ          تمرغ أطفالي به وتنعموا

ليوذون من قر الشتاء بدفئه             فإن الحفوه تحت جنحيك هوموا(1)

فلا يفتحون العين إلا لتضحكي         ولا يغلقون الجفن إلا ليحلموا

لأرؤسهم من جانحيك وسادة            وأذرعهم من تحت ثدييك محزم(2)

غمرتهم تحت الضلوع فزقزقوا         وناغيتهم بالأغنيات فتمتموا

بنيت لهم أجسامهم وعقولهم             وما الأم إلا صانع ومعلم

فلولا الذي هدهدتهم لم يزغردوا        ولولا الذي لقنتهم ما تفهموا(3)

***

رفيقة عمري آنس الله وحشة           وبل رى واراك بالغيث يسجم(4)

وأعطاك مما عنده من نعيمه            فما عنده خير وأبقى وأرحم

هنيئاً بمثواك الكريم بتربةٍ        بحيث مجير جاره لا يسلم

وجار علي بالحمى وأبو الحمى         سري يحيي الوافدين ويكرم(5)

دفنت به أهلي ورهطي فكلهم           لدى تلعاتٍ بالغريين نوم(6)

صليهم وقولي: رحمةً من مخلفٍ       يقيم قليلاً بعدكم ثم يقدم(7)

وإن سألوا عني فقولي حبيبكم           يصلي على أجداثكم ويسلم(8)

سأبقى إلى أن نلتقي بثرى الحمى              وقلبي لصيق بالتراب متيم(9)

***

_______________
(1) قر الشتاء: برده. وألحفوه: غطوا به لحافاً. وهوموا: هزوا رؤوسهم من النعاس أو ناموا نوماً خفيفاً.

(2) المحزم: موضع الحزام من الخصر. والمحزم: الحزام.

(3) الذي هدهدتهم: هدهدتك لهم بصوت جميل كهدير الحمام أو غناؤك الرفيق النابع من أمومتك وحنانك. ولم يزغردوا: قصد: لم يسنجموا مع المجتمع. ولقنتهم: علمتهم.

(4) واراك: حجبك عن الأعين. يسجم: ويسيل أو ينصب.

(5) السري: السيد الشريف ذو المروءة والسخاء. والوافدون: القادمون.

(6) التلعات: المرتفعات.

(7) رحمة من مخلف: أبلغكم ترحمه عليكم.

(8) الأجداث: جمع جدث: وهو القبر.

(9) متيم: ذاهب العقل من شدة الحب والوجد.

(409)

 

 ذكرى الشريف الرضي

 

لك رغم الهجير روض خضيل         الشذا الغمر والنسيم البليل(1)

والجنان المفوفات لديها          أكل دائم وظل ظليل(2)

منعش من ربيعه يبس الدنيا            وبالغيث تستجير الرمول

ومدى عشت بين بعدين منه            سحر الدهر فجره والأصيل

ليس عمراً بل عشته ألف عمر         كل عمر بهٍ عطاء جزيل

سوف يبقى والرائع الفذ يبقى           لم ينل روحه المدى المستطيل

تتساوى به الروائع لا يعرف فيها مقصر وفضيل

السجايا به توائم بيض            بعض أوصافها الأنيق الجميل

والمزايا به لظى وهجير         وشموخ ورقة وهديل

هو سر الإعجاز أن يكبر المظروف ظرفاً ويصنع المستحيل

هكذا الأربعون عمرك أغنانا وقد يفعل الكثير القليل

***

أيها الواحد الذي بين برديه كثير ورب فرد قبيل

دخل الكون خالداً ثم لم يرحل عنه وللأنام الرحيل

وأخ الفكر كالحقيقة يبقى         حاله والأحوال طراً تحول(3)

حملته العيون بدراً مضيئاً        في الأماقي لايعتريه أفول(4)

ورأى الوعي فيه فكراً أصيلاً           وقليل في الكون فكر أصيل

_______________
(1) الهجير: الحر الشديد، الخضيل: الندي.

(2) المفوفات: الرقيقات، يقال: «هذا ثوب مفوف» رقيق.

(3) طراً: جميعاً.
(4) لا يعتريه: لا يصيبه أو لا يأتيه، أفول: غياب.

(410)

 

سكب الروح في إطار أنيق             فإذا الفكر للحياة عديل

وأرانا تراثه صوراً منه          ويحكي الإنسان فكر وقيل

فإذا عفةً ومجد وعزم            بمدى النجم حبله موصول

همة تعبر النجوم لأسمى         وترى أن كل صعب ذلول

سمة الصقر يحسن النزع حتى         لو أضرت بأخمصيه الكبول(1)

سخرت من خلافة ليس إلا              طيلسان مزركش وطبول(2)

عندها المجد في دروب النبوة فما بالكرسي عنه بديل

كان هذا وكان أكبر من هذا فأنى يطاله التفصيل

نسخة من أبي تراب رؤها       وعلى الفرع تستبين الأصول

وانتساب الأنغام للعود طبع             ما به خدعة ولا تمثيل

يا يراعاً ينمنم الورد من نهج علي والنهج سفر جليل(3)

***

دلل النبر أنه لعلي         رب قول عليه منه دليل

إنه في البيان شمس فلا الفانوس من سنخه ولا القنديل(4)

نظم الرائعات مبنى ومعنى             فإذا الأحرف الشذا والخميل

كل فصل أبو تراب به يبدو             فتهتز بالهدير الفصول

غير أن النفس المريضة تهوى          أن يغطي الحقائق التضليل

زعموه نسج الرضي ومهلاً             أين من هادر الفحول الفصيل

لا تعر قولهم فما هو شيء       كي يصفيه الجرح والتعديل

_______________
(1) الكبول: القيود.

(2) طيلسان: لباس أخضر يلبسه الخواص من المشايخ والعلماء وهو من لباس العجم.

(3) اليراع: القلم وقيل: القصب الذي يصنع منه القلم.

(4) سنخه: أصله.

(411)

 

إنه العجز والقصور وماذا       غير أن يحسد المتين الهزيل

قد أفاضت «مصادر النهج» رد فيه معاند وجهول

ودرى الباحثون في أن دعوى          عزوه للرضي قول عليل

وأبى الحاقدون أن ينظروا إلا ازوراراً وأعين الحقد حول(1)

ولو «النهج» نهج صخر بن حرب            فعلى القطع إنه مقبول

لكن النهج كان نهج علي         وعلي على الدني ثقيل

إيه بغداد يا رؤى مترفات        ما محاها الزمان مهما يطول

يوم كانت وللفوارس فيها        ألف شوط وللخيول صهيل

والسرايا طيوبها من نجيع       ومن النقع فوقها إكليل(2)

فاتحات لم تعرف الزهور والبغي ولا كان همها التقليل

إنما همها حياة عليها الحكم نعمى، والعدل ظل ظليل

عندها للجهاد سيف وللرحمة قلب وللهدى تهليل

وببغداد سيد ملأ الدنيا صدى والزمان عبد ذليل

ذاك عصر محفل بصدور        متلعات ما زاحمتها الذيول(3)

من مزاياه مرتضى ورضي            ونصر وصاحب وخليل

***

أيها الكرخ ألف باقة ورد من مغانيك عطرها مطلول(4)

خطرت حلوة فأنقت الدنيا        وغنت على رؤاها الطلول

نفثت سحرها على كل ذهن             فلها عند كل ذهن مثول(5)

_______________
(1) الأزورار: النظر بمؤخرة العين حقداً وغيظاً.

(2) نجيع: دم أحمر، النقع: الموت.

(3) متلعات: عاليات.

(4) مغانيك: حدائقك وجناتك.

(5) نفث: نفخ. مثول: حضور.

(412)

 

وتبارت بالعلم والأدب المترف فيها قرائح وعقول

في صروح للعلم يسرح في أبعادها الفكر والفهوم تجول

ومحاريب عامرات بآل الله والليل ستره مسدول

كل حبر براه حسن خفي         فهو فيه المتيم المتبول

إن تلا آي ذكر هزته منها رعدة فهو كالغصون يميل

جن بشر الحافي بها وعرى ابن الفارض الشعق فهو نضو نحيل(1)

وتسامى الحلاج فالله فيه حالة ذاب عندها لا حلول(2)

عرفوا أن ما سوى الله وهم             وبأن الحياة مرعى وبيل

وحداهم حاد من الغيب فاشتاقوا        وجد السرى ولذ القفول(3)

ولنار الحبيب تومئ كف هذه النار نار ليلى فميلوا

رتعوا بالحمى فهاموا بوجه             ذي جلال جلاله لا يزول(4)

***

وبوعيي يا كرخ في الطرف الثاني هوى ذاب في جواه رعيل

إذ مقاصير الف ليلة أسمار اديها الشهي والمعسول

نفذ الدهر والمفاتن منها          لم تزل في الزمان نبع يسيل

وليال تنورت بنجوم              قمر الكرخ بينهن ضئل

واللذاذات من مفاتن قصر الخلد منع للصب أو تنويل

رسمتها بجبهة الدهر حسناً             طلعة حلوة وفرع رسل

  

_______________
(1) بشر الحافي وابن الفارض وبعدهما الحلاج في البيت الذي يليه عرفوا بصوفيتهم.

(2) الحلولية: اتحاد الذات مع الله أو حلول الباري في جسد الإنسان وهي فكرة عارضها أغلب المفكرين المسلمين.

(3) حداهم: ساقهم.

(4) رتعوا: أقاموا بالمكان وتنعموا برغده وخصوبته.

(413)

 

فتألق فما عهد ابن ألف           مثلما أنت وجهه مصقول

هكذا أنت في خيال الليالي       الأمالي والشدو والترتيل

للمصلي وللمغني وللعالم في كونه ذراً ومقيل(1)

إيه مهد الرضي هل تحفظ العهد        وحفظ العهود غالته غول(2)

هل تقول الصواب هذا أصيل           حين ينمى جذر وهذا دخيل

إن شر العقوق لو عاد رب البيت يقصى ويستقر النزيل

والشريف الرضي يا كرخ فخر         يوم تدعى به ومجد أثيل

ولمحض انتمائه لك أمر أنت فيه على السهى تستطيل

أو لم ينظم النجوم على افقك عقداً تقلدته العقول

فإذا بالفرائد البكر سفر           ضاء فيه المعقول والمنقول

وإذا بالفريض عود وسيف              يتغنى هذا وذاك يصول

وإذا بالصفات تحسد راعيها ويزهر بالحامل المحمول

السماح الغني والأدب المفرط لينا والاعتداد النبيل

خلق من محمدٍ وعلي            في كثير مما به تعليل

***

وسؤال عندي أبا الحسن اسمعه وقد يعرف الجواب السؤول

ليلة عشتها اقتصاصاً وزاداً             الدبور احتفى بها والقبول(3)

ثمرات العناق زادك فيها         ورضاب مزاجه زنجبيل(4)

_______________
(1) الذرا: الأماكن العالية، المقيل: موضع القيلولة وهو نقيض الذرى.

(2) غالته: أصابته أو أهلكته وأخذته من حيث لا يدري، الغول: الداهية أو المصيبة.

(3) الدبور: نقيض القبول.

(4) الرضاب: الريق المرشوف أو لعاب العسل ورغوته وقيل: فتات المسك. الزنجبيل: نبات له عروق تسري في الأرض ويتولد فيها عقد لها طعم طيب وقيل: الخمر.

(414)

 

حيث يهدي لموقع اللثم ثغر             ويمد الظلام جعد أشيل

وأحب الظلال ما صنع الشعر          ونعم الدليل ثغر دليل

أتراها كانت خيلاً من الحرمان يميله عالم مأمول

قد يغذي الأحلام ليل كريم       حين يقسو لها نهار بخيل

الخدود المصعرات نهاراً        ناب عنها في الليل خد أسيل(1)

أم تراها عن واقع ويقين         كل ليل لديك عف بتول

اظمأتك التقوى ولو شئت تسقى لا ستجابت واغرفتك السيول

فليالي الزوراء لو شئت فيها            نغمات وكاعب وشمول(2)

غير أن العشق الكبير صعود           وسمات العشق الصغير نزول

أنت قلب الدنيا الكبير وطبع كل قلب عن الجسوم حمول

فإذا ما قست عليك الليالي        دون باقي الورى وصبت ذحول(3)

فسراها مع الكرام وجيف        وسراها للآخرين ذميل(4)

ولئن يجتبى سواك وتنسى فلكم ساد فاضلاً مفضول

مثلما الشمس اهملت واحاط القمر المدح والثناء المكيل

وهو من نورها استمد وكم يحرم كدح وللنؤوم الحصيل

وحنانيك أن مجدك حق          وإن ازور عن علاه جهول(5)

والذي رام ينحت الريح مجداً           سله ماذا سينحت الإزميل(6)

***

_______________
(1) صعر: خده: أماله عن النظر إلى الناس كبراً، أسيل: لين أو أملس.

(2) كاعب: جارية عظيمة النهدين، شمول: خمرة.

(3) الورى: عامة الناس والخلق، ذخول: حقد أو ثأر.

(4) وجيف: اضطرب مصحوب بخوف، الذميل: السير اللين المظمئن بلا اضطراب.

(5) أزور: نظر بمؤخرة عينيه لشدته أو مال عن الشيء.

(6) رام: طلب، الإزميل: أداة النحت.

(415)

 

ويح بغداد إذ تذودك عنها        هل درت أن عرشها المثلول(1)

أنت إن رمت تطرد الغيث عن أرض فما بعدك ذاك إلا المحول

أنت بغداد حيثما كنت كانت             إن بالأهل يشمخ المأهول

والذي ظن أنه يقتل الفكر فلا شك أنه المقتول

أو رأى يذل بالسوط فكراً        فسيبقى وهو المهين الذليل

إن للفكر حيثما حل ربعاً         ورجالاً ودولة لا تدول

كل زيف سينتهي ولو استشرى دوي من حوله وصهيل(2)

وسرير المفكرين رؤوس        وسرير الموتى تراب مهيل(3)

فتألق أيها الشريف فلالأشراف دنيا خلودها مكفول

 

_______________
(1) المثلول: المقطوع.

(2) استشرى: انتشر.

(3) مهيل: مصبوب، يقال: «هال على قبره التراب» صبه.

(416)

 

في ذكرى الشيخ المفيد

 

قد تقضت ألف وأنت جديد       ان عمر العطاء عمر مديد

كل ما لا يفيد يمضي جفاءاً             والبديهي أن يعيش المفيد(1)

رصدتك الدهور كنزاً وللدهر           كما للأنام كنز رصيد

انه الفكر حيه يبعث الموتى             وينمى إلى مداه الخلود

فتألق فكرأً وهدياً وفي هذين            ما يبدئ الثنا ويعيد

بين من راضه الدليل فللقلب            خضوع وللعناد جحود

فروت فضلك الخصوم على كره       واثنى عليك حتى العنيد

ومن ارتاد منك افقاً سخياً        فهو في جلوة النجوم قعيد

والكمالات تدخل الحب والبغض        فلا باب دونها مسدود

***

ويح بغداد والهوى يمتطيها             لو بتلك الرؤس رأي سديد

لرأت فيك رمزها الفذ فالعلم            على كل ما عداه عميد

واستعادت بك الحياة فقد جف           بها من دم الياة وريد

انه الرزء ان يضيعك الاقرب           في حين يجتليك البعيد(2)

إحنة الجزء نحو جزء وكل             منهما ضمن اصله معدود

والنبات الشقيق في الحقل حيناً          حسك شائك وحيناً ورود(3)

هكذا الدين عند بعض فحيح            ونشوز عن أسرة وصدود(4)

_______________
(1) جفاء: شيء لا يفيد.

(2) الرزء: المصيبة.

(3) الحسك: نبات شائك تقضمه الدابة عادة.

(4) نشوز: امتناع.

(417)

 

وهو في الفطرة السوية بر       لا عقوق إلى الهوى مشدود

عاشق في الليل من أبى الشمس        والشمس هدى ما عناه من لا يريد

ان ضحك الشموس ضحكة هاز        وهي للموثر الظلام بريد

***

ليس بغداد لحن اسحق يشدو            ودنان معتقات وغيد(1)

وقصور على الرصافة فيها             يسرف الوعد والهوى والوعيد

مجد بغداد ما تحضنه المنصور         في كل ما له والرشيد

فالذي اصلاه قصر وسيف       وهما الطين زائل والحديد

بل بنته المستنصرية واذكر             دار سابور والنجوم شهود

كل تاريخ أمةٍ دون  علم         ظلمات بها الضياع اكيد

ولكم أمة تموت إذا كان          بناها سيف وقصر مشيد

وتعيش الافكار فوق حصير            تحت كوخ دعا متاه جريد

راح في الترب الف كسرى وولى             وانزوى تحت تخته جمشيد(2)

وابن سينا حي مدى الدهر       والرازي وأمثاله الكثير العديد

سكنوا بالعقول والغير بالترب          وأين السما وأين الصعيد(3)؟

***

أيها الرائد المعلم والآفاق جهل         اوحى به التقليد

شعلة تحمل الضياء لدنيا         لفحت افقها حوالك سود

وحديث الظلام والنور شوط            تتبارى افعاله والردود

_______________
(1) الدنان المعتقة: الخمرة التي مضي عليها الوقت، الغيد: الجواري الحسان.

(2) انزوى: غاب.

(3) الصعيد: الأرض.

(418)

 

شتم الجهل منك علماً وضمن           الطبع لو ذم طارداً مطرود

وبناك الجهل المح وبعض        الجهل في خدمة الحليم جنود

فاحضن النبل يبتني لك صرحاً         وليهدم لو استطاع الحقود

خطرات الاحقاد للروح أكفان           وبالنبل للحليم برود(1)

***

يا رعيل القرآن عزت به الأســـ        ــياف لكن لديه منها غمود

وتصدت رماحه لصدور الأهل         تختار طعنها وتجيد

ومذ ارتدت العزائم فيه           وعراها بعد اللهيب برود

رجعت تصطلي على الطائفيات        ضراماً والمسلمون الوقود

أي رزء أن تقتل الدين فينا              رغبات حصيلها مزهود(2)

ارحموا نائشاً وأدتم أمانيه        ولله ذلك الموؤود

أو بعد الإسلام يحتضن الأبناء          ما قد تحضنته الجدود

يوم كانوا والجاهلية دين         أوغلوا فيه والهوى معبود

محنة الوعي أن يزاحمه الموروث             حتى تضيع فيه الحدود

إن من أعرقت به الجاهليات            صدى تافه ورجع بليد

ليس حالٍ بل عاطل من تحلى          بضغون إن الضغون قيود

***

يا رعيل القرآن هل نضب النبع        أم اختبر من سواه الورود(3)

أمن العدل نحلاً عنه             والدنيا كم من رحيقه تستفيد

_______________
(1) خطرات: هواجس، برود: ثياب.

(2) رزء: مصيبة.

(3) نضب: نفد.

(419)

 

أسرجوا الروح مثلما كان بالأمس             وإلا عاد الظلام الشديد

واتركوا هذا العزف في نغم الفرقة            فالوحش خلفكم موجود

اهدموا كل حاجز ما بناه الله            بل شاده الهوى والجمود(1)

لو غدا شملنا يمزقه الحان       لقلنا للحان شمل بديد(2)

ولكن الرزء أن يمزقك المسجد         من حيث يؤمل التوحيد

أو لم يأن والحرائق تسري              نحوكم عن لهيبها أن تحيدوا

منذ ألف وأنتم توزعون الحقــ          ــد في حقلنا فماذا الحصيد؟

***

وأعد يا مفيد ما زال عندي             لك شيء يضيق عند القصيد

إن فوق التراب في النجف الأشرف           عطراً إلى خطاك يعود

يوم تمشي فوق التراب ويمشي         بك صرح إلى السما ممدود

بين أبهائه العلوم لئال            بعضها فوق بعضها منضود

قد أظل الزمان منك خباء        ما هوى منه في الخطوب عمود

وارف الظل فيه للنضج فكر            عبقري قديمه والجديد

وتقربت من خوان علي          وسجايا يا أبي تراب الجود

فبذرت النهي فأعطى ومنه              بسقت حوزة ورفت بنود(3)

حوزة لم تمسها البيد والجدب لــ        ــصارت إلى الجنان البيد

ولدت النجوم وهي إلى الآن            على دهرها العقيم ولود

وتأبت على الهوان صموداً             هل بدنيا علي إلا الصمود

_______________
(1) شاده: بناه.

(2) شملنا: جمعنا، الحان: بائع الخمرة أو موضع بيعها، بديد مشتت.

(3) بسقت: طالت، بنود: رايات وأعلام.

(420)

 

وتصدت لكل عادٍ وان شد       عليها من بعد عادٍ ثمود

قمة يرجع الذي يتوخى           قهرها وهو لاهث مكدود(1)

***

سيدي يا أبا تراب به عرش جذ         ري واخضر لي فيه عود

أينما عشت كنت فيه كأن        الأرض طراً غيطانه والنجود(2)

ومتى يبعد المتيم عمن           تيم القلب وهو صب عميد(3)

إنني مدمن بحبك والمدمن مهما         اسكرته يستزيد

ولي أصغري منك سداد          صان لي فطرتي ونهج رشيد

وعقود حلت كياني فكلي         من حلاها والحمد لله جيد(4)

سيدي لا تردني عنك إني        ذلك العاشق الملح المريد

ولأن  كنت عند كهف سري            فمكاني من حيث أنت الوحيد

***

_______________
(1) مكدود: مغلوب.

(2) طراً: جميعاً، غيطانه: بساتينه، النجود: الأرض المرتفعة.

(3) المتيم والصب: العاشق، العميد: المريض عشقاً الذي يعمد بالوسائد حين الجلوس.

(4) جيد: عنق.

(421)

 

دمعة على أبي أديب – توفيق الفكيكي

بكيتك للتراث وللعروبه          وللغة المهذبة الحبيبة

وللفكر النظيف فلا افتئات        ولا كذب ولا زور وريبه(1)

وللخلق الكريم وللسجايا          مهذبة وللنفس الأديبه(2)

خصال حولتك إلى ملاك         نقي الثوب ميمون النقيبه(3)

ومن لبس الكريم من السجايا           فتلك عليه أثواب قشيبه(4)

***

أبا الغر الصحائف حبرتها       معبقرة من الفكر الأريبه(5)

جلوت بهن حقاً أثلوه             من التزوير والعقد العجيبه(6)

فكنت العدل تكتب لا تحابي             فكل آخذ فيها نصيبه(7)

شرحت العهد حرره علي        بأفكارٍ له غررٍ خصيبه

نشرت بشرحه ألقاً وطيباً        كما نشر الشذى بالحقل طيبه

***

وحللت الحسين بما حبته         وراثته البعيدة والقريبه

فكان البحر يفهق من عطاءٍ             وكان الليث في صدر الكتيبه(8)

وإذ بنت الحسين طردت عنها          سماسرة رووا صوراً كذوبه

_______________
(1) الأفتئات: الافتراء والتقول والاستبداد بالرأي والانفراد به.

(2) السجايا: جمع سجية وهي الخلق أو الغريزة أو الطبيعة.

(3) ميمون النقيبة: مبارك النفس، مظفر بما يحاول من أمور.

(4) قشيبة: جديدة ونظيفة.

(5) الفكر: الأفكار. والأريبة: الذكية الفطنة.

(6) جلوت بهن حقاً: أوضحته.

(7) لا تحابي: لا تميل إلى غير المحق منحرفاً عن الحق.

(8) يفهق من عطاء: يفيض أو يمنح عطاءه لمن حوله.

(422)

 

دفعت الإفتراء وليس بدعاً       مدافعة النجيب عن النجيبه(1)

وكم طهر إلى طهر نسيب       وأخلاق لأخلاقٍ نسيبه

***

فيا قبراً يضم أبا أديب            مكانك في جوانحنا الرحيبه

فضيفك سوف يبقى ناصعات           بأذهان المشائخ والشبيبه(2)

وأفكار زرعت بها حقولاً        ستهدي الخصب للروس الجديبه(3)

ومن خدم الحقيقة في جهادٍ              لوجه الله كان بها حسيبه(4)

سقى الغيث الملث ثراك دوما           ورواه من السحب الصبيبه(5)

***

_______________
(1) الافتراء: الكذب والتلفيق. النجيب: الكريم الحسيب الفاضل.

(2) سوف يبقى ناصعات: سوف تظل أفكاره توجيهات واضحة.

(3) الروس الجديبة: الرؤوس الخالية من الأفكار البناءة المفيدة.

(4) الحسيب: هو الله عزوجل. وكان بها حسيبه: كان الله عز وجل كافياً له ومغنياً إياه بالفوز بجنته ورضوانه.

(5) الغيث الملث: الدائم المستمر لأيام. والسحب الصبيبة: كثيرة صب المطر.

(423)

 

عبير من دم

«إلى الشهيد حجر بن عدي الكندي»

تيممت يوماً (مرج عذراء جلق)        لدى تلعاتٍ في سفوح جبال(1)

فرمت رؤى في ناظري ولوحت        شواخص في التأريخ عبر خيالي(2)

وآنست نوراً في قبور تعانقت           على بيض أحساب وغر فعال(3)

وحين مسحت الترب لاح على الثرى         شموخ ومغنى عزةٍ وجلال(4)

وهب عبير من دم سال إذا أبى         بأن ينتحى عن هدى لضلال(5)

وغرد في سمعي لحجر ورهطه        هدير بورد الموت غير مبالي(6)

غداة الخيار الصعب موت مآله         خلود وعيش ينتهي لزوال(7)

مسالك إما للحضيض أو الذرا          وللرجل أن تختار أي مجال(8)

فكان اختيار أثبت المجد أنه             الأسد وإن شظت ظباً وعوالي(9)

فيا حجر! مرحى للجبين الذي أبى             السجود لغير الواحد المتعال(10)

***

_______________
(1) تيممت: توجهت إلى وقصدت. والتلعات: جمع تلعة وهي المرتفعات من الأرض أو المنخفضات (من الأضداد).

(2) الرؤى: تصورات أو أحلام يقظة، وقصد بها ذكريات تاريخية أو تخيلات ماحدث في الماضي. والشواخص: جمع شاخص. وقصد بها ذكريات الأحداث الماثلة في الذهن.

(3) آنست نوراً: رأيته عن بعد.

(4) لاح: بدا وظهر. والمغنى: مكان الاغتناء.

(5) تنحى عن أمر لأمر: ابتعد عن أمر مائلاً لآخر.

(6) غير مبال: غير مهتم ولا مكترث.

(7) مآل الشيء: مرجعه ونتيجته.

(8) الحضيض: ما سفل من الأرض. والذرا: الأعالي، مفرداه ذروة. والمجال: موضع الجولان أو الميدان يجال فيه.

(9) الأسد: الأكثر سدادً وصحة. شظت: تفرقت، تشظت، تشققت، من شظى الشيء: شفقه فلقاً والظبا: جمع ظبة: حد السيف والسنان والخنجر وما أشبهها. والعوالي: جمع عالية، وهي القسم الذي يلي السنان (نصل الرمح) من القناة.

(10) مرحى: كلمة تعجب تقال للمرء إذا أصاب، وأطلقت على معنى الاستحسان.

(424)

 

ويا نبتة رغم الهجير تعرشت           وزمت بمخضر البراعم عال(1)

ويا حلس محراب وخشعة راهب       ونجوى تقي في  ظلام ليالي(2)

سقى الله قبراً ضم منك ورهطك الـ            ميامين أسمى عصبةٍ ورجال

وخلد منكم للشموخ مصارعاً           ستبقى بدرب المجد خير مثال(3)

أجل وبعين الله ما ذاق أهلنا             وما كابدوا في حب أكرم آل(4)

فيا رب فيض من نعيمك للألى         أبوا أن يذوقوا الماء غير زلال(5)

ويا رب بوئهم كريم منازل             بظلك يا من مد خير ظلال(6)

وليت الذوي قد خال أن قد بليتم         يرى من هو الباقي ومن هو بالي(7)

فهذا طريق الخالدين ومن يرم          خلوداً سواه رام ألف محال(8)

فضمي، ربا (جيرون) من أولياتنا             وجوهاً كريمات السمات غوالي(9)

صحائف من خلف التراب تألقت       هدى لا يغطى في حصى ورمال

رسائل خطتها أنامل (حيدر)            إلى سادرٍ من بغيه بخيال(10)

لتنبيه أن المتقين مآلهم           خلود وللباغين شر مآل(11)

عذرا في ربيع الثاني 1409هـ

***

_______________
(1) الهجير: نصف النهار في القيظ خاصة: تعرشت: نمت وامتدت وألقت بظلالها. وزمت: رفعت رأسها وشمخت.

(2) حلس المحراب: ملازمه. يقال: (هو جلس بيته): أي: لايبرحه. وخشعة الراهب: ضراعة المتعبد وتذللـه للمعبود. ونجوى التقي: توجهه بالدعاء لربه إسراراً بما في قلبه له.

(3) الشموخ: العلو والارتفاع والترفع والتعالي والتباهي.

(4) بعين الله: برعايته وحفظه. وماذاق أهلنا: ماعانوه وقاسوه.

(5) غير زلال: غير صاف عذب بارد سائع.

(6) بوئهم كريم المنازل: أنزلهم بها.

(7) خال أن قد بليتم: ظن أن الفناء يدرككم.

(8) رام يروم: أراد يريد. والخلود: البقاء الأبدي. والمحال: المستحيل.

(9) جيرون: منطقة متاخمة للجامع الأموي بدمشق من جهة الشرق، ماتزال بقايا آثارها موجوة في مكانها حتى يومنا هذا، وأولياتنا: نساؤنا والعظيمات اللواتي ننتسب إليهن.

(10) البغي: الظلم والتعدي. والسادر في بغيه: المستمر فيه لايثنيه عن ذلك شيء.

(11) تنبيه: تخبره وتنبئه. ومآلهم: مصيرهم ومنتهاهم.

(425)

 

دمعة

في رثاء جعفر الخليلي

طواك الردى سفراً فعش في كتابه             كبير المعاني رائعاً كل ما به(1)

فلم أخش أن يغتالك الموت فكرةً        فما مات معنى الفكر رغم احتجابه

ومثلك من إنه إمه الموت رده          خضيلاً ومد الخضيب فوق يبابه(2)

ولكنه فقد العزيز فجاءة          ولا أمل في عوده وإيابه

ومثل الحياة الموت سفحاً وقمة ونزراً         ونزراً وضخماً في رصيد حسابه(3)

ومن محن الدنيا بقاؤك بعد من         إذا ذهبوا أبقوك دون مشابه

فوجه إذا ما غاب تبكيه ساعة          ووجه تمل العمر عند غيابه

وتدفن فيه بالثرى إن دفنته       وجودك إذ المرء بعض صحابه

***

أحبتنا لا الروض يزهر بعدكم          ولا الغيث يجلو الروض عند انسكابه(4)

ولا نوب الأيام في غفلاتها             ولا العيش في ريعانه وشبابه(5)

ولا القمر المجلو يجمع شملنا           على سمر غف بكل نصابه(6)

فدهر ترضبناه شهداً وبهجة             أمر فذقنا علقماً من رضابه(7)

ونادٍ به كنتم إذا اكتظ سامر             نشيد الهوى في عوده وربابه(8)

غفا وغفا الشادي به فهو موحش        وأصبح قفراً ناعباً بغرابه(9)

فذوبت روحي بالدموع ويالجوى       فما الدمع فوق الخد غير مذابه

_______________
(1) السفر: الكتاب أو الجزء منه.

(2) أمه الموت: قصده فتوفاه. البياب: الخراب والخواء.

(3) النزر: القليل الضئيل.

(4) الغيث يجلو الروض: المطر يكشفه ويجعله أكثر وضوحاً.

(5) نوب الأيام: مصائبها. مفردها نائبة، ريعان العيش: أوله وأفضله.

(6) يجمع شملنا: يلمنا ويجمعنا في مجلس.

(7) أمر: صار مراً. والعلقم: المرارة. والرضاب: الريق.

(8) اكتظ سامر: تكاثف حضور النادي في محاضرة أو ندوة أو غيرهما.

(9) غفا الشادي به: قصد الشاعر الوحي أو الألهام.

(426)

 

أجل كل حلو راح بعد رحيلكم          وظل الصدى في حزنه واكتئابه

(أبا هاتف) والأمس في ذكرياتنا        معالم كونٍ ما اختفى في ضبابه

منيع يجوس البارعون خلاله           وتبقى حشود الخاملين ببابه(1)

زحمت به بالشوط حشد فوارس        فآنس فيك الشوط بعض عرابه(2)

وآثرت فيه أن تنام على الطوى         حذار خوان حاشدٍ بذبابه(3)

على حين ضج السحت في بطن بعضهم             ولاحت خيوط الريب بين ثيابه(4)

وخب تردى في ثياب ابن آدم           ولكن يصيح الذئب تحت إهابه(5)

فكنت الذي عاش الحياة بفضله         وكان الذي عاش الحياة بنابه

***

(أبا هاتف) والدرب لم ينس رائداً             تقحمه بالأمس رغم صعابه

وراعفة الأقلام إلا نواشزاً       تنضر للسلطان كل رغابه(6)

فكم قد توارى في (قرى الجن) عندما         أبى الإنس ما أسموه فحش سبابه(7)

أخو كسرٍ في مزودٍ كبرياؤه            تعد الطعام السحت دون اكتسابه(8)

ترقب عيشاً في قناةٍ كريمةٍ              وإن فات منه عمره في ارتقابه

ومن أحرز الخبز الشريف وطابه             فكل لذاذات الدنا بوطابه(9)

وكم قهر الظلماء وهي كثيفة            بوقدٍ وإن أودى به في التهابه

_______________
(1) يجوس: يطوف. ويجوس البارعون خلاله: يكتب الباحثون في أبحاثهم آفاق فكرنا.

(2) الشوط: السعي أو العدو مرة واحدة إلى غاية محدودة، وزحمهم بالشوط: سابقهم ونافسهم على السبق. والعراب: الخيل الكريمة الأصل السالمة من الهجنة.

(3) نام على الطوى: أغفى على جوع. والخوان: ما يوضع عليه الطعام ليؤكل فإذا وضع عليه الطعام فهو مائدة.

(4) الحست: الحرام وما خبث من الطعام أو المكاسب.

(5) الخب: الخداع الذي يسعى بين الناس بالفساد. والإهاب: الجلد.

(6) راعفة الأقلام: ما تكتبه من كتابات الكتاب والمبدعين. والنواشز: الشاذون والحائدون عن جادة الصواب. وتنضر: تذهب وتلمع.

(7) توارى: اختفى أو اختبأ. فحش السباب: نعت الآخر بالسباب والكلام البذيء.

(8) أخو الشيء: ملازمه. وأخو كسر المزود: الذي تكون زوادته كسراً من الخبز دائماً.

(9) الوطاب: وعاء الطعام.

(427)

 

تأبى بأن تطوي له الدرب شبهة        ولم يطوه في سرجه وركابه(1)

***

(أبا هاتف) والموت ورد محتم         ستكرع حتماً كل نفس بصابه(2)

وقد يستوي عمر بألفٍ وساعةٍ          إذا كان كل ينتهي بذهابه

ولكن رأيت الموت أقسى مرارة        إذا اخترم الإنسان عند اغترابه(3)

وأن لا يموت السيف في حومة الوغى        ولكن يموت السيف وسط قرابه(4)

وأألم وقعاً أن يذودك موطن             تعشقته في قشره ولبابه(5)

تحضنته طفلاً وذبت به فتى            وعانقته في خطئه وصوابه

تغنيت في أنهاره ونخيله         وسبحت في محرابه وقبابه

فأنت ابنه في وقده وجحيمه             وأنت ابنه في عذبه وعذابه

وأنت نسيج للغري ملامح        بمحكم أصلٍ فيه لامتشابه(6)

ومتنع عنك الموطن الأم عصبة        مكاسبها في نهبه واغتصابه

يذودك بغياً أن توارى بتربه            مزاج يسيل الحقد بين لعابه(7)

وقد يدعي في ذاك صون عروبةٍ       وما ذاق غير العرب سوط عقابه

ولم يختف حتى على البله قصده        فقد شبعوا من زوره وكذابه(8)

أما ذاد عن جذر العروبة (مالكاً)       وأعطى (صلاح الدين) حق انتسابه

وما ذاك إلا جيفة طائفية         وما غير هذا زاده في جرابه(9)

***

_______________
(1) تأبى: رفض أنف.

(2) الورد: المنهل. تكرع تجرع. والصاب: عصارة شجر الصاب الشديدة المرارة.

(3) اخترمه الموت: أخذه واستأصله.

(4) حومة الوغى: أشد موضع في ساحات الحرب القتالية. وقراب السيف: غمده.

(5) ذاده: دفعه ورده على عقيبه.

(6) أنت نسيج: يقال: هو نسيج وحده: لانظير له في علم أو غيره. والمتشابه: الذي يشبه بعضه بعضاً.

(7) يذودك بغياً أن توارى بتربه مزاج: يمنعك ظلما المزاجي من أن تدفن في تراب الوطن، وقد علمت من أحد الأصدقاء العراقيين أن الشاعر الدكتور الوائلي عندما مرض طلب أن يدفن في حالته موته في العراق، وشهد جنازته جميع غفير فيها.

(8) البله: جمع أبله. والزور: الباطل أو الكذب.

(9) الجيفة: الجثة المتعفنة. والطائفة: التعصب لطائفة معينة.

(428)

 

(أبا هاتف) يهنيك أنك راحل            إلى ربك المضمون حسن ثوابه

وصحبٍ ستلقى فيهم كل واضح        تيمم وجه الله كل احتسابه(1)

وتقرب من شادٍ يناغم روضه           وتبعد عن وحشٍ يهر بغابه(2)

وسوف تسامى أن تخاصم ظالماً        فمثلك من خلى الظلوم لعابه(3)

ومن راح عند الله عاش حقيقةً          ستنسيه كوناً غارقاً بسرابه(4)

ولله بحر من نعيمٍ ورحمةٍ        ستسبح في تياره وعبابه(5)

***

أعفر الثرى يا ألف برج مكوكب        يلف الوجوه الزهر فضل نقابه

وجوه رأى فيها الجمال أنيقه            وأخرى الجلال اختصها لمهابه

تغول مرآها الثرى غير آسفٍ          وعاث بمعناها الردى غير آبه(6)

ونجل عيون في محاسن بضة          قسا الدود في تمزيقها بحرابه(7)

وتلك الشفاه اللعس صيرها البلى        تراباً على سهل الحمى وهضابه(8)

تحدث عنها القبر بعد سكوتها           حديثاً طويل الوصف رغم اقتضابه(9)

طوى القبر أحبابي فعانقت قبرهم              أهيم لدى أحجاره وخرابه

فدارهم من بعد قبر وقبرهم             هو الخلد في جناته وكعابه(10)

_______________
(1) تيمم وجه الله كل احتسابه: احتسب كل أمور عند الله عز وجل.

(2) يناغم: روضه: ينسجم وإياه. ويهر بغابه: يصدر أصوات سخطه الشديد.

(3) تسامى أن تخاصم ظالماً: تترفع وتتعالى عن عده خصماً. العاب: العيب.

(4) السراب: رمز الكذب والمخادعة أو الخداع، فالسراب هو ما يرى في نصف النهار من اشتداد الحر كالماء يلصق بالأرض.

(5) العباب: ارتفاع الموج واصطخابه/.

(6) تغول مرآها الثرى: اغتاله. وعاث بمرآها الردى: أفسده. وغير آبه: غير مكترث.

(7) بضة: نضرة ممتلئة.

(8) الشفاه اللعس: التي جملها اسوداد باطنها. والبلى: الفناء.

(9) الاقتضاب: الإيجاز والاختصار.

(10) الكعاب: قصد الشاعر الكواعب. جمع كاعب: وهي الفتاة التي نهد ثدياها.

(429)

 

حسدت بهم أجداثهم إذ تحضنت         معاقد مجدٍ من رعيل نوابه(1)

تهادت بهم بالترب بيض شمائل        كما يتهادى جدول في انسيابه

أيا رملة الوادي على مطلع الحمى            سلام على رمل الحمى وشعابه(2)

على منزل حط الأحبة رحلهم          به وأراحوا الخد فوق ترابه(3)

وعهدي بأن القبر صمت ووحشة              فلا منشد أو سامع لخطابه

ورمل (علي) )(بالغري) طلاقة        وبشر وأفق ضاحك برحابه(4)

كأن علياً صب من بسماته       عليه وشذى رمله بملابه(5)

فهاموا بأفقٍ من ملامح (حيدر)         يسيل على الوادي بسحر خضابه

وعند (علي) للنزيل حماية       ورفد وحوض مترع بشرابه(6)

أصابوا هناك النور في روعة السنا           وشموا هناك المسك وسط عبابه

فديت حمى فيه شددت مشاعري        وأهلي ثووا في ممرع من جنابه(7)

وغشاه مطلول الخزامى بطيبه          ورواه نوء مرزم بسحابه(8)

***

(أبا هاتف) إن أبعدوك عن الحمى             فرب بعيد مغرق في اقترابه(9)

***

_______________
(1) الأجداث: جمع جدث وهو القبر. ورعيل: جماعة. ونوابه: جمع نابه وهو الشريف ذو الذكر الحسن.

(2) الشعاب: جمع شعب، وهو الطريق في الحمى أو غيره أو مسيل الماء في بطن الأ{ض.

(3) حط: وضع.

(4) طلاقه: بشر.

(5) شذى رمله: جعله شذياً، عطره. الملاب: العطش: من (لاب الرجل) أي عطش.

(6) مترع: مليء.

(7) الممرع: المخصب. والجناب: الكتف والرعاية. يقال: (هو في جناب فلان)، أي: في كنفه ورعايته.

(8) مطلول الخزامى زهر الخزامى الذي أصابه الطل( المطر الخفيف) ففاحت رائحته الطيبة. والنوء: المطر الشديد. ومرزم بسحابه: مجموع به.

(9) رب بعيد مغرق في اقترابه: أي: تظل قريباً منا برغم ابتعادك عنا

(430)

 

عبد المحمد

بمناسبة ذكرى الملا عبد المحمد الرادود

لك مهما طال الزمان وأبعد             صورة في خيالنا لا تبدد

قسمات فيها شحوب وحزن             وجبين من الصلاة مسجد

وجفون تقرحت وليالي الــ       متقين الأبرار جفن مسهد

وزفير في آهةٍ ودموع            في رثاء ابن فاطمٍ ليس تنفد(1)

كل هذا (عبد المحمد) ذخر             أنت فيه على المدى تتجدد

وسيحييك كلما هل عاشو         ر صدى في نواح آل محمد

وهدير الصوت الأجش ونبر            كم لآل النبي ناح وغرد(2)

ويقيني بأن دارك في الأخــ             رى بظل الحسين في خير مقعد(3)

فإذا ما لقيت يوماً حسيناً         في مقام سام وصرح ممرد(4)

وتأملت في جبين أبي            هبط الكون كله وهو يصعد

ولمست الشموخ عند كمي        أرهب القوم وهو شلو مقدد(5)

قل له: هذه مشاعر عبدٍ          خادمٍ كم روى نثاك وردد(6)

هو بالغد ناشد مجدك الغمــ             ـــر كما بالحياة منك تمجد

فتعاهده يوم غربته الكبـــ         ـــرى إذا ما دعي إلى الله مفرد(7)

وتقبل هذي المشاعر والإكــ            بار من خادم المنابر (أحمد)

***

_______________
(1) ليس تنفد: لاتنتهي، لا انتهاء لها.

(2) الصوت الأجش: ما فيه غلط  وبحة وما خرج من الخياشم.

(3) الأخرى: الدار الآخرة.

(4) الصرح الممرد: القصر العالي. والممرد: المطول ومملس والمصقول بالتطيين والطلاء.

(5) الكمي: الشجاع المقدام الجريء. والشلو: العضو. ومقدد: مشقق أو مقطع.

(6) تعاهده: قصد تعهده أي اعتن به أو تفقده أو استوص به خيراً.

(431)

 

دموع قلب

في رثاء الشيخ سلمان الخاقاني رحمه الله

لا السامرون، ولا الوادي، ولا البان          كأنما الأرض ما كانت ولا كانوا(1)

بدء النهاية في يوم البداية للـ            أعمار فالحل بالترحال إيذان(2)

درب إلى الموت هذا الكون ما برحت         من سالف تتوالى فيه أظعان(3)

أنحن في هذه الدنيا حقائق أم            ضرب من الوهم عاشت في أذهان؟

أهكذا يستحيل الصرح أخيلة            وينتهي فإذا الأفراح أحزان؟

وهم ويصحو الخيال الحلو من خدع           وتستفيق من الأحلام أجفان

وساعة وإذا الدنيا بآهلها         طيف تبدى وولى وهو عجلان

هي الأماني على كذب تطيب لنا       كما استطاب السراب الآل ظمآن(4)

فقل لأحبابنا ممن نشيعهم         لنحن من شيعوا لو صح ميزان(5)

أقمتم ورحلنا في مشاعرنا       لكم فمن مكثوا منا ومن بانوا

***

نسائل البر والمعروف والخلق          الرحب الكريم.. أحقاً مات سلمان؟

وهل طوى القبر فذاً من شمائله         ومن شمائله علم وعرفان(6)

وطلعة وهي روض في مواسمه        والروض عطر وأفياء وأفنان

ما أعظم الجنة الفيحاء في أفق          تفح فيه من الأحقاد نيران(7)

_______________
(1) السامرون: أصدقاء السمر في الليل والجليسون. والبان: شجر طويل الأفنان لينها تشبه بهد قدود الحسان في الطول واللين.

(2) الحل: الإقامة في المكان. وقصد به بدء الولادة وقدوم المولود إلى الدنيا، والإيذان بالترحال: الإشعار بقرب الرحيل إلى الدار الآخر بعد انتهاء عمر الإنسان القصير.

(3) الأظعان: المرتحلات على هوادجهن، وقصد بهن الأحياء السائرون على درب الفناء.

(4) ما يبدو كالسراب ويكون في أول النهار وآخره. والسراب: ما يرى في نصف النهار من اشتداد الحر كالماء يلصق بالأرض.

(5) لنحن من شيعوا: أي: إنما نشيع أنفسنا يتشييعنا إياكم.

(6) الفذ: المتفرد في كفايته أو مكانته.

(7) فحت النيران: أصدرت فحيحاً كفحيح الأفعى.

(432)

 

يا واحداً من رعيل سوف يعكسهم             صدى على جنبات الدهر مرنان

ممن لدى الرح مثواهم وموطنهم       وإن ثوت لهم بالتراب أبدان(1)

قد أجهشت ذكريات عشتها معكم        فليت ذكراكم بالوعي نسيان(2)

وعاد دمعي صمتاً والقلوب لها         دمع صموت وبعض الصمت إعلان

يا نازحين عن الدنيا وقد نزحت        بهم عهود وأوطار وأوطان(3)

أسلمتمونا إلى صحراء يعزف في             أبعادها الذئب والسمار غيلان(4)

لا نبع فيها ولا الأفياء وارفة            فأين يطفي أوار القلب حران(5)

وضيعة الروح فيمن ليس يعرفها       كضيعة الروض والرواد عميان(6)

***

يا من قبيلته التقوى وإن تك قد          غثته وافتخرت في ذاك (خاقان)(7)

ما أهون الدم إذ ينميك دون أب         من النهى تكتني فيه وتزدان(8)

فمن بنى الصرح من لحم يموت به            كما تموت بطين الحقل ديدان

ولحمة الفكر والأخلاق ثوب علاً       ولحمة الدم والأعراق أكفان(9)

ولست أبخس من قومي حقوقهم         فقد أهون وأيم الحق إن هانوا(10)

_______________
(1) ثوى بالمكان: أقام. وثوى بالترب البدن: اتخذه مدفناً ومقاماً إلى يوم النشور فهو مثوى له ومقام.

(2) أجهشت الذكريات: همت بالبكاء. والوعي: الفهم والسلامة والإدراك والانتباه والحفظ والتدبر.

(3) نزح عن الدار: ابتعد عنها فهو نازح. والأوطار: جمع وطر وهو الغاية والبغية.

(4) الغيلان: جمع غول وهو الهلكة أو الداهية أو شياطين كانت العرب تزعم أنها تظهر للناس في الفلاة فتتلون لهم في صور شتى وتضللهم وتهلكهم، أو هي حيوان وهمي لا وجود له.

(5) الأوار: العطش أو الحر.

(6) رواد الروض العميان: قصد بها العابثين بالطبيعة دون التفات لعواقب عبثهم.

(7) خاقان: اسم جماعة بشرية، وغثته: أفسدته.

(8) نماه ينميه: رفعه إلى نسبه، أو نسبه إلى أصل (كريم). والنهى: جمع نيهة؛ وهي العقل. واكتنى بالعقل: جعله كنية أي علماً عليه.

(9) اللحمة: القرابة والصلة.

(10) وأيم الحق: أقسم بالحق، واللفظ بعد واو القسم همزته همزة وصل، حوله الشاعر إلى همزة قطع للضرورة الوزنية.

(433)

 

ولا أعق جذوري الشم وهي علاً       أدنى منازلة الشعرى وكيوان(1)

لأنني أعرف الإنسان في قيم            لا في دم يستوي فيه وحيوان(2)

ساء انتماءك أن تقسو وشائجه          وأن ينالك من زنديك عدوان(3)

وأن تذاد ودار الأم واسعة        ويحتفي برفات منك جيران(4)

تحية يا رعيل الأمس من نفر           عاشوا وماتوا وهم للفضل عنوان

الصادعين إلى مجد وسائلهم            إليه صبر، وإخلاص، وإتقان

أقصى مطامحهم في أن واحدهم على الشدائد للعافين معوان(5)

مروا على هذه الدنيا بمزودهم          كأنهم في رباع الأرض ضيفان(6)

لكنهم أثقلوا الأيام من مننٍ       لهن في الناس برهان وبرهان(7)

يا من وقد رحلوا هيهات يرجعهم              حزن ودمع من الآماق هتان(8)

دعوا الصدى إن رحلتم كم نعيش به           فإن أصداءكم بالسمع ألحان(9)

وخلفوا طيبكم فالنتن زاحمنا            ومحنة الطيب أن يؤذيه إنتان(10)

***

(سلمان) لو نبتت بالقبر صالحة        وخيرات من التقوى وإحسان

_______________
(1) أعق جذوري: أعصيها وأشق عصا الطاعة عليها. والشعرى: اسم لنجمين نيرين هما الشعرى العبور والشعرى الغميصاء. وكيوان: نجم أيضاً.

(2) القيم: الفضائل الدينية والخلقية والاجتماعية التي تقوم عليها حياة المجتمع الإنساني.

(3) وشائج الفكر: الروابط الفكرية والتواصل الفكري، فالوشائج: جمع وشيجة، وهي القرابة المشتبكة المتصلة. والانتماء: الانتساب إلى أصل أو فكر أو غير ذلك. وساءه: أساء إليه أو أحزنه أو أضر به.

(4) الرفات: الحطام أو كل ما تكسر وبلي فتفتت، أو الجثة.

(5) للعافين: للضيوف أو طالبي المعروف. والمعوان: المعين بكثرة.

(6) المنن: وعاء الزاد. والرباع: جمع ربع وهو الموضع ينزل فيه زمن الربيع.

(7) المنن: جمع منة وهي الإحسان والإنعام. والبرهان: الدليل والحجة البينة.

(8) الآماق: جمع مؤق: أطراف العيون مما يلي الأنف. وهتان: كثير القطر والدمع.

(9) الصدى: رجع الصوت أو الأثر جمعه أصداء.

(10) خلفوا طيبكم: اتركوه. والنتن والإنتان: الرائحة الكريهة.

(434)

 

والمترعات ندي عامر وندى           والطاهرات سلالات وأردان(1)

فإن قبرك مما كان عندك من           تلك الكرائم جنات وأغصان

ولو تسمعت رملاً ضم ثغرك في       قبر لغرد بالآذان قرآن(2)

لقد سألت القوافي الغرو الـــ            فكر الشماء، أين مضى عنهن ديوان؟

فأنكرت أن يلف الفكر في كفنٍ          وأن تغطي وميض الروح كثبان(3)

(سلمان) كسرة خبز والحصير وما            بالنفس حزن ولا بالثوب أدران(4)

هي السعادة في الدنيا ويكرمها          لوتم من بعدها لله رضوان

إني وإن أك قد يزهو على كتفي        خز وملء خواني البر والضان(5)

وألتقي كل يوم بالحشود ولي            منهم رفاق أناجيهم وأعوان(6)

قد عدت أمضغ روحي في مشاعرها          لما ألح بها جوع وحرمان

فحيث يكثر زاد، والكريم به            نزر، ففي مثله من جاع شبعان(7)

لو يرتضي فضلات الزاد كل فم        لما تمايز أحرار وعبدان

كفرت بالأوكس الأدنى وإن خدعت           به العيون وبعض الكفر إيمان(8)

فما النعيم سوى روح تناغمها          ودار عز ولو كوخ وعيدان(9)

***

مررت عند القبور الدارسات وقد              مرت عليهن آماد وأزمان(10)

فشدت الذهن أطياف وأخيلة            بهن للموت فيما  غاله شان

_______________
(1) الأردان: جمع ردن: الكم.

(2) الأذان: جمع أذن، وهو عضر السمع في الإنسان والحيوان.

(3) الكثبالك: جمع كثيب، وهو التل من الرمل.

(4) الأدران: جمع درن، وهو الوسخ.

(5) الخز: الحرير. والخوان: مايوضع عليه الطعام ليؤكل، فإذا وضع عليه الطعام فهو مائدة.

(6) الأعوان: المساعدون.

(7) نزر: قليل.

(8) الأوكس: الأنقص.

(9) تناغمها: تنسجم معا في تفاهم. والعيدان: الأعواد: مفردها عود.

(10) القبور الدارسات: التي عفت وذهب أثرها وتقادم عهدها. والآماد: جمع أمد وهو الزمن.

(435)

 

هنا عروس بثوب العرس قد دفنت            وبرعم دفنوه وهو ريان(1)

على التراب عبير من كمائمه           ومن عذاريه أزهار وريحان

وذي أمان ذوت في أوج خضرتها            وكم تعود الأماني وهي أشجان

وهامة هي ميدان لمعرفة         أضحى بها للبلى والدود ميدان(2)

وكومة من رماد ألحدت أمم             بها وضمت بها دنيا وأكوان(3)

نام البليد بها والعبقري معاً              وحط في عفرها (موسى) و(هامان)(4)

والترب حضن كحضن الأم يجمع في         أفنائه من وفوا عهداً ومن خانوا

قرأت أمسى به في صورةٍ لكم          على الثرى فأنا للأمس ولهان(5)

فعدت أقتات منه في مخيلتي            حتى كأنكم بالنفس أعيان(6)

فلا تذودوا عيوني عن طيوفكم          فليس لي غيرها والحق سلوان

أبي وشيخي وإخواني وخالصتي       ترحلوا فالردى والعيش سيان(7)

***

(سلمان) أطناب تلك العرب قام بها            لمعشر من هجان الأصل إيوان(8)

ما فيه من أهلنا إرث فنخوته            زور وأمجاده خمر ونسوان(9)

ومنبت الشيح والقيصوم ليس به        معرس أهله طي وقحطان(10)

_______________
(1) البرعم: كم ثمر الشجر أو زهور الشجرة قبل أن تتفتح. وقصد الطفل أو الفتى أو الشاب.

(2) الهامة: الرأس. والبلى: الفناء.

(3) ألحدث: وضعت أو دفنت في اللحد (القبر).

(4) العفر: ظاهر التراب أو التراب.

(5) ولهان: متحير من شدة الوجد أو شديد الحزن.

(6) أعيان: أعين، والمفرد عين: أي كبار القوم وشرفاؤهم.

(7) سيان: مستويان: وسيان: مثنى السي وهو المثل والنظير.

(8) أطناب: جمع طنب أو طنب: وهو الحبل الطويل الذي تشد به الخيمة أو السرادق ونحوهما. وقام بها إيون: أنشئ بوساطتها بناء ذو ثلاثة حيطان يشرف على صحن الدار كإيوان كسرى. وهجان الأصل: من كان آباؤهم عرباً وأمهاتهم أعجميات.

(9) النخوة: المروءة والحماسة والكبرياء. والزور: الباطل.

(10) المعرس: المكان ينزل فيه المسافر آخر الليل.

(436)

 

وليس للساحبات الغر يوم وغى         شوط وللشد قمي الفحل أعطان(1)

والحي ما عاد من طعم ومن كرم             به يلوح مطعام ومطعان(2)

يشجيك أن متون الخيل أثقلها           عبء وما في متون الخيل فرسان(3)

وأن موترة الأقواس قد كثرت          لكنها ما بها نبل ولا زان(4)

وأن ألف عكاظ لا خطيب بها           لكن بها هذر في القول طنان(5)

فرائد الضاد أشلاء ممزقة        وما لنظم بديع العقد إمكان(6)

عرب ويا غربة الفصحى بموطننا             ورهط ضاد وشيخ الحي مرطان(7)

أليس تحسد دنيانا القبور إذا             ما كان في جوفها (قس) و(سحبان)؟(8)

كم بالقصور رؤوس هن منتعل         وبالقبور عظام هن تجيان(9)

***

_______________
(1) يوم الوغى: يوم الحرب. والشوط: العدو إلى غاية محدودة مرة واحدة. والشد قمي: الواسع الشدقين أو الأسد. والفحل: الذكر القوي من كل حيوان، أو المتفرق في الشعر أو العلم. والأعطان: جمع مفرده عطن، وهو مبرك الإبل حول الحوض أو مربض الغنم عند الماء. يقال: فلان واسع العطن؛ أي واسع الصبر والحيلة عند الشدائد، سخي كثير المال.

(2) المطعام: الكثير الإطعام الكريم، والمطعان: المقاتل الكثير الطعن في صدور الأعداء.

(3) يشجيك: يحزنك. ومتون الخيل: ظهورها.

(4) موترة الأقواس: كناية عن السلاح أو العتاد الناقص.

(5) عكاظ: موضع بين نخلة والطائف إلى الجنوب من مكة، كانت تقوم به أشهر أسواق العرب، يجتمع فيه العرب لتناشد الأشعار والتفاخر مرة كل عام، من هلال ذي القعدة، وتستمر إلى العشرين منه، والذهر: سقط الكلام الذي لايعبأ به أو الهذيان. والطنان: كثير الطنين والرنين.

(6) فرائد الضاد: جواهرها النفيسة. والأشلاء: جمع شلو وهو العضو من الجسد.

(7) المرطان: المتكلم بكلام تخالطه لغة أخرى، أو بكلام غير فصيح أو غير مفهوم.

(8) قس: هو قس بن ساعدة الإيادي. توفي سنة 23ق.هـ أحد حكماء العرب وشعرائهم وفصحائهم وخطبائهم في الجاهلية. ويضرب به المثل في البلاغة. وسحبان وائل: من فصحاء العرب. ويضرب به المثل في الفصاحة والبلاغة، فيقال: أخطب من سحبان وائل وأفصح.

(9) منتعل: محتذى وملبوس في القدم.

(437)

 

في رثاء حافظ الأسد

فدى المأساة

لا تقل مات فالأموات من قبروا        وحافظ مائل في وعي من حضروا

يؤنق الوعي من ريا محاسنه           كما يؤنق قلب الروضة الزهر

ويأسر العين سحر في شمائله          فالعين فيما لديه بعض من أسروا

أما المواقف في دنياه فهي مدى         من الشموخ به الأجيال تفتخر

قيادة صنعت ما لا يموت فما           موت على المنجزات البيض يقتدر

الميتون هم العبء الذي حملت         منه الحياة غثاء لفه الوضر(1)

والخالدون مدى الأزمان من حلموا            الأعباء واقتحموا الأشواط وانتصروا

فيا خلوداً بسفر الدهر قد حملوا         به إلى القبر دنياً كلها ظفر

إذ حدا بك صمت القبر واضجعت             على الرمال خدود ما بها صعر(2)

فسوف تنطق أعباء نهضت بها         وتلك أقوال صدق ما بها هذر(3)

***

قالوا استطال به داء فقلت لهم           كلا ولكن تأنى الطارق الحذر

تردد الموت أن يدنو لمحتلب           صم الصخور وها قد لوح الدرر

هل يهمل العمر والأثمار ناضجة       والنصر عن كثب والشوط مستعر

أم يخترمه وإن جل المصاب لكي             يجيء من رحم لأمر المأساة منتظر

وبين هذا وهذا طال موقفه       ثم استجاب لأمر الله مؤتمر

فراح يقبض روحاً ظل في يده          منها شميم طيوب نفحها عطر(4)

_______________
(1) الغثاء: الزبد أو البالي من ورق الشجر المخالط زبد السيل، الوضر: الاختلاط.

(2) الصعر: التكبر.

(3) خذر: هذي أو خلط كلام أو التكلم بما لا ينبغي.

(4) النفح: انتشار الطيب.

(438)

 

وحلفة يا أبا بشار أحلفها         لم يجرؤ المرت لولا أنه قدر

ضعي على القلب سوريا يداً وثقي             أن الحمى فيه شبل نسل من زأروا(1)

واستوعبي الخطب في صبر فما ثبتت        في النائبات سوى أقدام من صبروا(2)

شدي الأكف بعش النسر إن به         ما تنشدين إذا ما الأفق يعتكر

لا يأخذ الله ما أعطى لا عوض         ولا يعوض إلا فوق ما خسروا

فاسترقدي منه إن الصرح مرتفع       والحقل مخصوصب والنبع منهمر(3)

إذا ألح الرجا تعطي السما خلق         بالجود يندى إذا استعطاه مفتقر(4)

وما يطمئننا أن الثرى خصب           والخصب لا بد فيه يسمق الشجر(5)

***

بشار والأمل المرجو موعده            غداً يغرد في أبعاده الوتر

غداً يوشح في أفق ملامحه              أن لا ضرار بوادينا ولا ضرر

أوحت إلي بهذا وهي صادقة            فراسة صدقت إيحاءها الخبر

ترسمت ويد الزراع قد جهدت          أن الجنائن ميعاد لمن بدروا

قد أطلعتك حقول أخصبت ثمراً         وليس في كل حقل يرتجى ثمر

وكونتك وراء الغيب مبدعة             فتى يمتع فيه السمع والبصر

تحضنتك وكان المهد في قمم           شماء عنها بغاث الطير تنحسر

وترجمتك السهول الخضر حاملة       هوية وجه سوريا بها نضر(6)

***

_______________
(1) الزئير: صوت الأسد.

(2) الخطب: الأمر الصعب الشديد، النائبات: الصعاب.

(3) منهمر: منسكب.

(4) يندى: يكرم.

(5) يسمق: يطول.

(6) نضر: حسن أو جميل.

(439)

 

بشار تصنع كف الغيب في كرم        ما ليس تقوى على تصنيعه الأطر

تعد حجراً كريماً مده رحم       عف فينشأ من هذين من كبروا

ألست فرخاً أبوه النسر علمه            سكنى الشواهق لما استشرت الحفر

وزجه في حقول الجمر ملتمساً         له النضوج وحقل الجمر مختبر

رواه ملحمة سارت لغايتها       وما ثنى العزم درب شائك وعر(1)

كم صححت خطأ واستلهمت فكراً             بيضاء لا غبش فيها ولا كدر(2)

ينتابها الأب للأجيال مدرسة            وظل للإبن ما يبني ويبتكر

سجية المعطيات البيض إن غربت            شمس يقوم بطرد الظلمة القمر

***

شآم يا خطرات بالزمان إذا             مرت على الذهن هزتنا بها الصور

أيام تسترفد الدنيا كرائمنا        وتستقي فيروي جدبها المطر(3)

يا بقعة في خيال من مساجدها          بلال يخشع من تكبيره السحر

حضارة حمل التاريخ رونقها           فكاد ينطق عن مضمونها الحجر

عروبة بها وحي السماء كما            بين الأثير شفيف النور ينتشر(4)

فمن مزيجهما امتد الشعاع إلى          غياهب ضاع في ظلمائها البشر

حيث الدروس ضجيج في جوامعها            وفي الخزائن للأسفار مدخر

هنا قباب لأهل البيت شامخة            وللصحابة أجداث ومحتفر

وللفتوح من الآثار باذخة         ولابن عبد عزيز باذخ عمر

_______________
(1) وعر: صعب.

(2) غبش: سواد أو بقية الليل.

(3) تسترفد: تطلب عوناً، الجدب: اليبس.

(4) شفيف: رقيق.

(440)

 

يا أم حطين والمران مشرعة           والضمر الدهم للأشواط تبتدر(1)

ينغم الشوط وقع من سنابكها            وبين ليل قتام تلمع الغرر

شآم لا ألبستك اليأس فاجعة             فالكون في كل من حلوا به سفر

سلي الرمال أما كانت أباطرة           لها المفارق والتيجان والدرر

كثبان تسحقها رجل ويزرعها    حقل وتضحك في طياتها العبر

أحالها الموت كثباناً يحركها            عصف لوم تدري أين الورد والصدر

بعهدتي سيعود الدهر مبيسماً            حلو الرؤى ويعود اليأس يعتذر

إليك بشار وعد الأمس جاد به          أب فبورك من جاؤوا ومن غبروا

تفاءلي بعطاء الأمس يرفده             غد مضيء فنعم العين والأثر

دمشق في 20/6/2000

***

_______________
(1) المران: الرماح، الضمر: الخيول الرشيقة التي يسبب ضمور بطنها سرعتها. الدهم: السود.

(441)

 

في رثاء السيد عيسى كمال الدين

 

كاس تلفعه أبراده القشب         ماض نماه إليك الجد والحسب(1)

ريان أثقل بالأمجاد طافحة       والدهر عريان من أهل النهى جدب

رقت عليه طيوف من علاً وتقى        ووشحته مزاياً دونها الشهب

وباركته السما فاخضل يانعه            فكان صنوان منه العلم والأدب(2)

سما ففاطم وهي الطهر أمهة            وحيدر وهو خير المنجبين أب

***

أبا الحسين غفا النادي فلا سمر         واطبقت شفة الشادي فلا طرب

فم عهدناه يستوحي ملافظه             من كوثر الخلد كأساً حفها الحبب(3)

وبسمة هي عنوان الربيع إذا            شعت تلامس ثغراً ملؤه الشنب(4)

وهمة تحسب ابن الليل مد لها           يداً فراحت من ابن الليل تنجذب

وعزمة لو تراها وهي عاصفة         حسبت أن فم البركان يلتهب

وفكرة سددتها فهي صائبة       عناية الله فانزاحت لها الحجب

ونبل نفس رعى حب اصديق وإجــ           ــحاف العدو فلا عتبى ولا عتب

خلائق نفختها روح بارئها       في جسم عيسى فذاتي ومكتسب

***

يا قاطع العمر أوراداً وورد ردىً              تبارك الله أضداداً وتصطحب

 

_______________
(1) تلفعه: تشمله، القشب: البيض الخالصة أو المختلطة (كلا المعنين جائزان)، نماه: صعده.

(2) اخضل: صار ندياً، الصنوان: الشقيقان.

(3) حفها: أحاطها، الحبب: تنضد الأسنان وترتيبها المتسق أو الفقاقيع على وجه الماء ونحوه، كوثر الخلد: نهره.

(4) الشنب: بيض الأسنان.. يقال: «فلان أشنب الأسنان»: أسنانه بيض.

(442)

 

إن عسعس الليل فالمحراب سابغة             وإن بدا الصبح فهي السبغ اليلب(1)

قيثارة الليل قرآن وأدعية         ونغمة الصبح وقع عوده القضب

وبين هذا وهذا غفة زهدت              بالمغريات حصان عودها صلب

وألمعية علم فيك مصدرها       فقه الأئمة فهي المرتع الخصب(2)

لحيدر هاطلات من سحائبه             أرخت عليك عزاليها فلا عجب

وفي خصالك نفح من شمائله           والغصن للدوحة المعطار ينتسب

***

أبا الجهاد وعند الدهر من دمنا         شواهد ليس تمحو ذكرها الحقب

ففي الرميثة من هاماتنا سمة            وفي الشعيبة من أشلائنا نصب

والعارضيات أمجاد مخلدة       أضحى يحدث عنها الدهر والكتب

قدت الفيالق والآفاق من حمم           ترغو مدافعها والموت منتصب

فالجو طائرة والأرض قنبلة             وبالجهات البواقي مدفع حرب

وخضت بحرا ًدماء الصيد ترقده       وما السفائن إلا الضمر العرب

ثم انجلت وحشود من أحبتنا            صرعى على القاع تسقى فوقها العرب

فذا قوام وكان الغصن منكسر           وذاك وجه وكان البدر محتجب

وتلك أم يلف الوجد أضلعها             على جنين أبوه في العرا ترب

قد أفلت الأمل المنشود فهي على       جمر من الألم المكبوت تضطرب

حتى احتضنا أمانينا وصار لنا          بين الممالك من جاراتنا لقب

جاء الزعانف من حلف الفضول ومن         أذنابه فأرانا أننا الذنب

_______________
(1) عسعس الليل: مضى أو أظلم، المحراب سابغة: المحراب قريبة منه يقال: «سبغ المطر» دنا إلى الأرض والسبغ: النعمة وقيل: طولها، أي أن كما النعمة قربه من المحراب، بدا الصبح: ظهر، اليلب: الجلد، أي يلتصق بالمحراب وتصبح جلداً له.

(2) المعية: بروز.

(443)

 

أنحى بمنجله حصداً وخلفها             لا سلة يجتنى فيها ولا عنب

***

أبا الجهاد وما في الجو بارقة           توحي بأنا من التحرير نقترب

إن الذين على عهد عهدتهم             ثوابتاً ورجالاً صلبا هربوا

رأوا سراباً على الأبواب فازدحموا            حشداً عليه وأغراهم وما شربوا

أما الجديد من الأجيال فهو إذا          بالغت بالوصف برق خلب كذب(1)

ماعت طوائف منهم فهي من ترف            تسيل إثماً فلا لحم ولا عصب

وسائر الشعب أردى الجوع نخوته            فما له غير قرص حائل طلب

جوع وجهل وطرد عن مواطننا        وفقد عز ويكفي أننا عرب

***

أبا الحسين على قبر حللت به           سحائب اللطف والرضوان تنسكب

ما جئت أمجادك العليا أؤبنها           وقد تقمصها أبناؤك النجب(2)

وإنما هي نجوى أستعيد بها             لنائم الشعب ذكرى عله يثب

نم في جوار أبي السبطين مغتبطاً             فنعم حامي الجوار المشفق الحدب

***

_______________
(1) الخلب: السحاب الذي لا يرتجى الغيث منه.

(2) تقمصها: لبسها مثل القميص، النجب: الشرفاء.

(444)

 

قسم الإخوانيات

 

1- رسالة إلى صديق                                9- دمعة وفاء

2- إلى الأستاذ جعفر الخليلي                       10- خواطر وفاء

3- رسالة للخليلي                                   11- عتاب العزيز

4- حنين                                             12- دموع الكلام

5- بقية الماضين                                    13- العائد الجريح

6- رائد الفكر                                               14- أسرار الحج

7- ذكرى الشبيبي                                   15- نموذج من التاريخ

8- وقفة على قبر أبي رشاد

 

(445)

 

 

(446)

 

رسالة إلى صديق

 

حملتني إليك هذي السطور             فأنا في حروفها تعبير

سترى من خلالها قسماتي        جمدت فهي ساكن لا يمور(1)

سلب الوجد حسها فتساوى       عندها لاعج الجوى والسرور(2)

شأن من سد أنفه بزكام           فاستوى النتن عنده والعطور

بعض شوقي بعثته بكتابي        وسيبقى بجانحي الكثير

رمت منه بأن أجدد ذكرى       ربما أخلقت رؤاها أمور

يوم كنا برملة النجف السمـــ            ـــراء عوداً ألوت صباه الدبور(3)

في معاشٍ وإن تميز بالعو        ز ولكنه رضاً وسرور(4)

صبحنا لو ذكرت فكر وعلم             ومسانا طرائف وسمير

يا حنيني له فرب فقيرٍ           يتمنى حياته سابور(5)

نسب بيننا وشيج أبا. . .         وادٍ بجنب الغري وطور

ورمال لنفحة القدس فيها         ساجدات على ثراها العصور

وانتماء لحيدرٍ نم عنه            الدم والفكر والهوى والشعور

أمنياتي بأن نعود لواديــ          ـــه فواديه مهد علمٍ ونور

فننقي نفوسنا في غديرٍ           لعلي فهو النقي الطهور

_______________
(1) لا يمور: لا يتحرك.

(2) اللاعج: المؤلم والمحرق. ولاعج الجوى: حرقة وجد العشق أو الحزن.

(3) ألوت صباه: حركته وحنته. والدبور: الريح التي تهب من جهة الغرب.

(4) العوز أو العوز: الحاجة والضيق والفقر واختلال الحال.

(5) سابور: هو ملك، ويقال له بالفارسية، شاه بور.

(447)

 

نروي مشاشنا من نمير          لم يضارعه ما علمت نمير(1)

ونشد الغداة بالأمس صنواً       وإن اغتال يومنا تكدير(2)

حفظتك السماء يا روضنا الخصـ       ــب ندياً وإن ألح الهجير(3)

***

_______________
(1) المشاش: العظم لا مخ فيه. وفي علم الأحياء: هو العظم الأسفنجي الذي يتكون من حواجز عظمية رقيقة تفصلها أحياز النقي الأحمر. والمشاش: النفس أو الطبيعة. يقال: فلان طيب المشاش.

(2) الصنو: الأخ. يقال: فلان صنو فلان أي أخوه. ولا يسمى صنواً حتى يكون معه آخر، فهما حينئذ صنوان، وكل واحد منهما صنو صاحبه.

(3) الهجير: نصف النهار عند اشتداد الحر.

(448)

 

إلى الأستاذ جعفر الخليلي

بمناسبة إرسال كتابه «هكذا عرفتهم، للشاعر

(هكذا قد عرفتهم) جاءني أمــ          س فرد الزمان والأحبابا(1)

وصدى الذكريات أيقظ في نفـــ         سي حساناً كواعباً أترابا

وجلا لي من الغريين أطيا       فاً على كدرة الزمان – عذابا(2)

حافلاتٍ بالشهد والعطر          عشناها نعيماً ورقة وشبابا

الخوان البسيط مما جمعنا        ضم ما لذ بالصفاء وطابا(3)

والحوار الأنيق والظرف الممــ         تع ينساب في الندي انسيابا

والإساءات بيننا حسنات         ما عرفنا ملالةً أو عتابا

كم زرعنا من التفاؤل دنياً       أجدبت حولنا وضاقت رحابا

أي مر لم ننتزع منه حلواً        ويبيسٍ لم نحتلبه احتلابا

قد عبرنا العيش الوبيء كراماً          وقطعنا الشوط العسير عرابا(4)

وأخذنا على الجدارة سهماً       لا كمن عاش في الحياة استلابا(5)

أترى يستوي الذي يحسب الكو         ن خميلاً ومن يرى الكون غابا

وأحاشي من عاش كداً وكدحاً           أن يساوي من عاش ظفراً ونابا

تلك أثوابنا النقيات ما لونن              كالأخريات عاراً وعابا

***

_______________
(1) رد الزمان والأحباب: أعاد ذكرياتي معهم.

(2) جلا لي: أوضح وأبان. وكدرة الزمان: تعكيره صفوي. والعذاب: العذبة الحلوة.

(3) الخوان: المائدة عليها الطعام.

(4) الوبيء: المريض كالمصاب بالوباء. والعراب: بأصالة ككرائم الخيل الأصيلة السالمة من الهجنة.

(5) الجدارة: الاستحقاق. وسهم الجدارة كوسام الاستحقاق الذي تمنحه الجهات الرسمية للأبطال والمبدعين تكريماً وتقديراً. والمعنى: أسهمنا بدورنا المشرف في خدمة الإنسانية. والاستلاب: الاختلاس.

(449)

 

يا أبا هاتف تولت عهود          مثلما كوكب أطل وغابا

وبقينا نروي الغليل بأصدا       ء تحولن للغليل شرابا

إننا نستجير بالحلو منها          حين أيامنا تحولن صابا(1)

أوحشتني أبا فريدة دنياً           سلبتني أحبتي والصحابا

فاستحال الوجه الصبوح جهاماً         واستحال الثغر الضحوك اكتئابا

وعرفت الحياة في كل ما ضمته        زيفاً وخدعة وسرابا

فتنحيت آلف الليل والوحــ        دة صبحاً والذكريات كتابا

هكذا كل من مضى عنهم الأحبا        ب عاشوا هذي الحياة اغترابا

***

أي رزءٍ أن يعتلي الأيك بوم            بعدما كان شادياً مطرابا(2)

وتعيث السوام في ردهاتٍ       كن للسادة الكرام قبابا

وتريد العصا قراباً وتنسى       أن للباتر الحسام القرابا

والنياشين تركت الكتف التا             فه زوراً وتسرق الألقابا

إنها من تراجم العبث السا       خر أن ينعت البغاث عقابا(3)

وإذا عادت المقاييس مسخاً             فاعذر الدهر لو تبنى الجرابا(4)

هذه يا أبا فريدة روح            صغتها منك للبريد جوابا

_______________
(1) الصاب: المر أو المرار. أو الشجر المر الذي له عصارة بالغة المرارة.

(2) الرزء: المصيبة أو الكارثة. والأيك: جمع أيكة، وهي الشجر الكثيف الملتف.

(3) التراجم: جمع ترجمة. وترجمة فلان: سيرته الذاتية التي تتضمن أعماله. وتراجم العبث الساخر: كتابة السير التي لا يستحق أصحابها الحديث عنهم، فهي مضيعة للجهد والوقت. والبغاث: طائر أغبر أصغر من الرخم بطيء الطيران، لا يصيد ولا يرغب في صيده، لأنه لايؤكل. أما العقاب فهو طائر من كواسر الطير قوي المخالب، حاد البصر، له منقار قصير أعقف.

(4) الجراب: قصد به الجريب، وهو مكيال كان يستعمل في العهود القديمة.

(450)

 

إن فيها مشاعري وهمومي              شاكيات ضراً ألح ونابا(1)

طفحت تنشد المواساة والجر            ح إذا ما راى طبيباً أهابا(2)

وسجايا القلب الكبير سجايا             النبع يطفي من الغليل التهابا(3)

إن قلبي نهر صغير عراه        يبس فاستماح منك العبابا(4)

***

_______________
(1) ناب: أصابني بنوائبه ومصائبه.

(2) المواساة: العزاء أو التعزي. وأهاب: تأهب واستعد لتلقي مداواته.

(3) الغليل: شدة العطش وحرارته.

(4) استماح: طلب السماح له ببعض العباب. والعباب: كثرة الماء ومعظم السيل وارتفاعه. وقصد بالعباب: بعض ما عند الخليلي من حنان الصديق على الصديق وعطفه عليه وألفته إياه.

(451)

 

رسالة للخليلي

 

أرسلها المرحوم الأستاذ الخليلي جعفر في 7/2/1985 وكانت آخر رسالة له إذ توفي بعدها بأيام

أطير بأشواقي إليك ووقدها             فما عاد يقوى أن يطير جناحي

لعل خيالاً مننك يطرد وحشةً           تطاردني في غدوتي ورواحي

وتونسني في غربةٍ بعض ما بها        تغول عزمي واستراض جماحي(1)

فقد نازلتني النائبات وهكذا              قطعت حياتي كلها بكفاح

تقصدن ضعفي حين لامن صلابةٍ             ولا من مجن سابغ وسلاح(2)

وأسلمنني للوجد شلواً ممزقاً            أنيني أنغامي ودمعي راحي(3)

فبعض همومي يستجير ببعضها        وبعض جراحي يشتكي لجراحي

وما كان قلبي رغم كل شجونه          لغير عشير مسعدٍ بمباح(4)

***

أبا هاتفٍ! فاسعد همومي بمثلها         لديك فإنا رفقة بنواح

فقد خضت مثلي الدهر في هبواته             وقارعت فيه الخطب دون صياح(5)

أبا الهاتف السباح رفقاً بقاربٍ          فتى لم يواجه عاتيات رياح

فما كل بحارٍ يقود سفينةٍ         ولا كل كبشٍ صالح لنطاح

ومثلك من واسى الجراح ببلسم         وواعد ممدود الدجى بصباح(6)

***

_______________
(1) تغول عزمي: أهكله. واستراض جماحي: روض جموحي وعنادي وذللـه.

(2) المجن: الدرع يلبسه المقاتل أو يمسكه بيده ليذب عنه ضربات الخصوم.

(3) الشلو الممزق: العضو من الجسد وقد تقطع. أنيني أنغامي: أنظم آلامي شعراً موزوناً. ودمعي راحي: دوائي الذي يريحني.

(4) العشير: الزوج أو الصديق والمعاشر.

(5) هبواته: ثورته، من: هبا. الغبار: إذا ثار وانتشر. وخضت الدهر: دخلت معه في معارك كثيرة. وقارعت الخطب: صارعت المصائب والنوازل.

(6) البلسم: الدواء الشافي يخفف من آلام الجراح.

(452)

 

حنين

ذكريات إخوان بالنجف الأشرف

ذكرتكم والليل برد ومئزر       ورب هوى في هدأة الليل يذكر

وأرقني من ذكريات شواخصٍ          تمر على ذهني تباعاً وتعبر

فرحت وإياها أهش لبعضها             هوى يفعم الماضي شذى وينظر(1)

وأنشج من بعض فيوقظ لوعتي         أسى يتلظى في الضلوع ويسعر(2)

وسامرات ليلي دمعةً وابتسامةً          وعشت ليالي العمر أطوي وأنشر

إلى أن تولى الليل يحسب برده         وراح من الأحلام ريان أشقر

أطلت مع الفجر المطل لواعج          بكل صنوف الواقع المر تجأر(3)

أحباي والأمس القريب على يدي       يخضب بالنعمى صباي ويغمر

نعمت به عطراً وشهداً ومجلساً         رقيق الحواشي بالروائع يعمر

يهدهدني فيه الشباب فأصغر            ويحفدني فيه النضوج فأكبر(4)

شباب بأبراد الشيوخ مجلل              ونضج شيوخ بالصبا يتأطر

وأفق برغم النوء والسحب مشرق             وعيش على جدبٍ من العيش أخضر

وصحب إذا أمعنت فيهم إساءة          يهزك أن يستغفروك وتغفر

فيا لنفوسٍ لا حدود لطهرها             ومحض ودادٍ صفوه لا يكدر

***

زمان سقينا صرفه من طباعنا          فراق لنا حيناً ولان التحجر

_______________
(1) أهش: ابتسم بارتياح.

(2) أنشج: أغص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب (والانتحاب: رفع الصوت بالبكاء) ويتلظى: يشتد لهيبه.

(3) تجأر بالواقع المر: ترفع صوتها عالياً.

(4) يحفدني: يسرع بي.

(453)

 

ونزر تقاسمنا فأشبع ما بنا       فإن عال سهم أكمل النقص مؤثر(1)

بنو أسرٍ شتى وتحسبنا الدنا             بأنا جميعاً من أبٍ نتحدر

ويحسدنا الراؤون من مظهر الغنى            ونحن على مص النوى نتحسر(2)

أحباي ما أقسى على البعد غربتي             وأعنف وقع الحزن مما أصور

وبعض أحبائي بعيد وبعضهم           يغيب في عفر التراب ويقبر

وهيهات أن أسلو وللموت والنوى             معاول في قلبي تحز وتحفر(3)

ومن فقد الأتراب عاش بغربةٍ          وضاق به ما كان بالأمس ويكبر(4)

ولم يبق عندي غير رجع من الصدى         يريني طيوفاً منكم ويعبر(5)

ولولاه ما عاشت بقايا لنابضٍ           تلازمه البلوى فيذوي ويعصر(6)

***

لقد كان دمعي رائد الحزن شأنه        إذا لزني وقع الجوى يتفجر(7)

ولكنه إذ أصبح الحزن ديدني           تحول خمراً دائماً منه أسكر(8)

وكان الذي يشكو الزمان أعده          فتى يتعاطى صنعة ويثرثر(9)

فعدت وشكوى الدهر عندي سجية             وشيء له وقع الخطوب يبرر(10)

_______________
(1) النزر: القليل. وتقاسمنا: تقاسمناه. وعال السهم: لم يؤد غايته وترك نقصاً وفراغاً في المهمة المطلوبة منه والمؤثر: الذي يؤثر غيره على نفسه، ذو الإيثار.

(2) الراؤون: الناظرون إلينا. مص النوى: البذور.

(3) النوى: البعاد والفراق.

(4) ما كان به بالأمس يكبر: يحس نفسه كبيراً.

(5) الرجع من الصدى: الذكريات.

(6) النابض: القلب الذي ينبض.

(7) لزني: ضغط علي.

(8) ديدني: عادة في.

(9) يتعاطى صنعة: يتصنع.

(10) يبرر: يسوغ.

(454)

 

وكم رمت أستوحي التجلد موقفاً        يخبئ عن عيني الشرور ويستر(1)

ولكن حزناً ما استساغ تستراً           يحرف من مضمونه ويزور

وبعض الشجا يخشى الشماتة إن بدا           وآخر في وجه الشماتة يزأر(2)

ومن خلق الأحرار أن يشجونهم        وأفراحهم تأبى النقاب وتسفر(3)

***

عهود الصبا يا حلوة إن ذكرتها         فإن شفاهي من حلاها تفطر(4)

عهود بهن الشوك ورد وحقبة          بها السمل البالي رداء محبر(5)

نخال بها الأيام رحباً وإنها       لأضيق من سم الخياط وأصغر(6)

وعهد الصبا ترنيمة أريحية             تزوق من أحلامنا وتعطر(7)

فيا للصبا جفت لدان غصونه           وعاد يبيساً عوده يتكسر(8)

***

أيا كوفة من نخلها وفراتها       لنا ذكريات كالعرائس تخطر

مجالس في جرف الفرات فراشنا       بها عشب رطب ورمل معنبر(9)

وسامرنا في غارب النخل فاخت       تغرد للعذق المدلى وتنقر(10)

وقد خلبتها للأصيل جداول              تسيل على الوادي وبرد معصفر(11)

_______________
(1) التجلد: التصبر.

(2) الشجا: ما يعترض الحلق من عظم أو غيره. ويزأر: يصيح كالأسد.

(3) تأبى النقاب: ترفض التستر والاختفاء والاحتجاب.

(4) تفطر: تتفطر تتشقق.

(5) السمل البالي: الثوب الخلق. والرداء المحبر: الناعم الموشى.

(6) سم الخياط: ثقب الإبرة حيث يدخل الخيط.

(7) الترنيمة الأريحية: أغنية طربية تتغنى بالكرم معبرة عن ارتياحها له.

(8) الصبا: الشباب في أوله. لدان غصونه: أغصانه الغضة الطرية.

(9) الرمل المعنبر: الذي تفوح منه رائحة العنبر الحلوة.

(10) الفاخت: نوع من الحمام المطوق يتمايل في مشيه. العذق المدلى: العنقود من العنب أكلت الطيور معظم حباته أو مايقابله من النخيل.

(11) البرد المعصفر: الثوب المصبوغ بصفرة العصفر. والعصفر: نبات تصبغ به الأشياء وبعض المأكولات.

(455)

 

وهز النسيم الرخو من سعفاتها         فراق لها من راعش السعف منبر

إذا ما شدت هز الصدى من نفوسنا            وكان لها في كل جانح مزهر(1)

ومازال بالوادي من الأمس ساجع             يهز صداه السامرين ويسحر

***

ويا أيها الرمل المهوم بالحمى          أعندك من تلك العهود تذكر؟

وهل حفظت حباتك السمر شدونا       وظلت كما كنا نخطط أسطر؟

بجنب حصى ظن السما أن نجمه       تساقط منها إذ رآها تنور

غداة الهوى المشبوب في صبواتنا             حسان تخيلنا رؤاها وجؤذر(2)

يضج الهوى فينا ووالله إنه              لأنصع من ماء السماء وأطهر

وتسهرنا حتى الصباح أوانس           فأفكارنا لا كاعبان ومعصر(3)

ليالٍ بها كل النجوم تبرجت             تقول بها للمغريات معسكر

وتحسدها والدهر يحسد بعضه          يجلي شفيف الأفق منك ويمطر(4)

ويا تلعات بالغري تحضني             مغارب في إشراقها منك تفخر

وشقي لها ما بين جنبيك مضجعاً       تنام به جنب الوصي وتحشر

وحسب امانينا رضاً وكرامة            بأن الذي نهفو لمثواه حيدر

***

_______________
(1) المزهر: العود (آلة موسيقية).

(2) الجؤذر: البقرة الوحشية أو ولدها. جمعها: جآذر.

(3) أوانس بأفكار: فتيات متخيلات والكاعبان: الجاريتان والمعصر: المرأة التي أدركت وبلغت.

(4) راعف الحيا: المطر المنهمر. ويجلي شفيف الأفق: ينقيه ويجلوه.

(456)

 

بقية الماضين

نظمت في النجف مواساة للأخ أحمد المظفر عام 1961

عذرت فيك معين القول لو نضبا       ففيك ضاق فم العليا بما رحبا(1)

عوذت مجدك أن أرثيه ما لمعت        مناقب منك غر طالت الشهبا(2)

عذر القصيد إذا ما استام شاهقةً        فإنه شام نوراً منك فاقتربا(3)

حسبي وحسب قصيدي منك مفخرة           أن يغتدي النور فيما بيننا سببا

أغراه أنك مسماح لمنتهلٍ        وأن وجهك عن راجيه ما احتجبا(4)

وأن نفساً تضم الكون من سعةٍ          نمت إليك فناءً ممرعاً خصبا

فجاء يندب فيك الفكر مؤتلقاً            والوجه مبتسماً والعزم ملتهبا

وما مررت على الأحساب أندبها       سموت بالمجد أن يسترضع الحسبا(5)

فأنت حتى ولو ينميك بيت علا         تخذت نفس عصام في الفخار أبا(6)

***

تساءل الليل مشتاقاً لمنتصب            في الله لم يشك الأين والنصبا(7)

كم كنت تبعث في أحشاه ضارعة             من الدعاء رجاء الله أو رهبا(8)

_______________
(1) معين القول: القول الظاهر للعيان أو الغزير المتدفق.

(2) عوذت مجدك أن أرثيه: دعوت له بالحفظ، فلا أضطر لأن أرثيه. والمناقب الغر: المزايا الحسنة النقية. وطالت الشهب: سمت وارتفعت.

(3) عذر القصيد: الشعر معذور. إذا ما استام شاهقة؛ إذا ما أراد شراء عز ومعرفة الثمن الذي يدفعه للحصول عليه. شام نوراً منك: نظر إليه متفحصاً.

(4) المسماح: كثير السماح. والمنتهل: طالب النهل أو الشرب أو العطاء.

(5) سموت بالمجد أن يسترضع الحسب: وجدت أنك أرفع من استجداء الأصل الكريم والحسب، فأنت في الأصل ماجد ابن ماجد.

(6) فإنك على الرغم من أنك تعود بنسبك إلى بيت عز رفيع، إلا أنك فخرت بأنك عصامي تفخر بعملك الخير. إشارة إلى قول الشاعر:

نفس عصام سودت عصاما             وعلمته الجد والإقداما

(7) المنتصب في الله: المتعبد. والأين: التعب والإعياء. والنصب: التعصب.

(8) في أحشاء ضارعةٍ: في أثناء صلاتك تدعو الله رغبة أو رهبة.

(457)

 

وأجهش الذكر والمحراب مفتقداً        خداً يبيت عليه ضارعاً تربا

تسقيه بالذكر والأوراد نافلة             فينبت الذكر روضا يانعاً رطبا

وساءل الصبح عن وجه ببسمته        ما غام في وجه مرتادٍ ولا أكتأبا

ينم عن طهر نفس منك لا عقد          فيها وربة نفس أفعمت شغبا

روضتها في مسار الله فارتفعت        وأوغلت فيه حتى اجتازت الحجبا(1)

غرست فيها التقى والعلم فازدهرت           وأعقبت لك ذكراً يغمر الحقبا(2)

فالخالدون وغير الله ما اتخذوا          وسيلة فضة يوماً ولا ذهبا

والسائرون وغير الله مقصدهم          أكدت وسائلهم والورد ما عذبا(3)

***

بقية الخلف الماضين ما اتخذوا         غير الفضيلة من دنياهم لقبا

أبوهم الدين والتقوى قبيلتهم             فما انتخبوا عجماً يوماً ولا عربا

سما بهم خلق حر وسار بهم            على هدى ورع لم يعرف الكذبا

وزانهم أنهم عدل طريقهم        فما تشعب في غاياته شعبا

ما استعجلوا القدر لم تنضج بطبختها          طال الطريق إلى الغايات أم قربا

ولا استفادوا إلى العلياء راحلة          بلهاء شدوا عليها الرحل والقتبا(4)

يهزهم طرباً خفق النعال وإن           كان الذي راح يمشي خلفهم نصبا(5)

لكنهم أسسوا والعلم رائدهم             إلى الوصول طريقاً واضحاً لحبا(6)

كفاك أنك من عقد فرائده         ماتوا كراماً وعاشوا قادة نجبا

***

_______________
(1) مسار الله: على درب الإيمان. وأوغلت فيه: تعمقت. واجتازت الحجب: لم يبق بينها وبين الله حجاب.

(2) أعقبت ذكراً يغمر الحقبا: خلدتك على طول الآماد.

(3) أكدت وسائلهم: تعبت وعجزت. والورد ما عذب: لم يجدوا حلاوة الإيمان.

(4) الراحلة البلهاء: التي تستجيب لقائدها ويسهل قيادها. والقتب: الرحل.

(5) نصبا: تعباً من المشي.

(6) الطريق اللحب: الواضح.

(458)

 

يا قادة الدين لا تهدى لمثلكم             آراء مثلي وأنتم للهدى نقبا(1)

الوضع ليس بمستورٍ وفي يدكم         صمامة الأمن والتفكير ما نضبا

وقد يشجع أن الدرب ما خفيت          عنا مسالكه والبدر ما غربا

فيمموا السائر المجهول مورده          شطر الشواطئ إن الموج قد كلبا

وجنبوه عن الفوضى تعيث به          وقتاً وفكراً فتمضي الثروتان هبا(2)

وما علينا إذا ما جمجمت فئة            إذ صفا الماء ترنو العين من رسبا(3)

تأبى علينا قبول الإمتحان لما           يقال: هذا فتى جلى وذاك كبا

وهي التي حشرت في الجمع أنفسها           ليختفي فيه من أكدى ومن كسبا(4)

مهلاً فإن القطيع البله ينبذهم            إذا استفاق فلا سعفاً ولا رطبا

***

أخي أحمد يا نشر الربيع شذاً           ويا ندى الفجر من لطف إذا انسكبا

ويا حليف التقى والفضل هذبه          بأنه في حجور الأصفياء ربا(5)

جمعت فذين في جسم فنا         بغة علماً وباقعة في حلبة الأدبا(6)

إن كان صنفنا شكل ومتجه             لقد نمانا جميعاً معهد نسبا(7)

حنا علينا فغذانا وقومنا           أباً عطوفاً وشيخاً مشفقاً حدبا(8)

صبراً وإن جل خطب أو طغى ألم            فسوف للفضل تغدو عن أبيك أبا

***

_______________
(1) النقبا: مخففة من النقباء جمع النقيب الذي هو كبير القوم.

(2) الثروتان: وقت الشباب وفكره.

(3) جمجمت فئة: تخاذلت ولم تقدم.

(4) من أكدى ومن كسب: من تعب وعمل وكد وكان الكسب لغيره.

(5) في حجور الأصفياء ربا: تربى تربية صالحة.

(6) نابغة علماً: متفوق في العلم. وباقعة في حلبة الأدباء: أديب بارز ذكي لا يفوته شيء.

(7) صنفنا: شكل ومتجه: وضعنا في قائمة معينة، المعهد: المكان فيه منازل القوم، أو محضر الناس ومشهدهم. ونمانا معهد نسبا: انتسبنا إلى منازل العروبة تلك التي ترسح فيها انتماؤنا ونسبنا الأصيل.

(8) حنا علينا: عطف. وقومنا: ثقفنا.

(459)

 

رائد الفكر

نظمت في تأبين الشيخ محمد المظفر عام 1964م

أكبرت أمسك أن يأسى عليه غد        ولم يزل يرفد الدنيا بما يلد

وأمسك النبع ثر في تدفقه        رحب بأفنائه يوفي بما يعد(1)

وطئت في فجره جمراً فما احترقت           رجل ولذ لها في الجمر مقتعد

ورضته فأحلت الجمر دالية             يحلو لضاحين في أفيائها برد(2)

وما لعنت صخوراً فيه قد زرعت             ليوعر الدرب وهو المهيع الجدد(3)

بل باركتها أياد منك مخصبة            حتى تبرعم فينا صخرها الصلد

وسر أماً وإن أدت بما حملت           أن الذي هو في أحشائها ولد(4)

فجرت للرهط شهداً إذا تفجر من       حقدٍ وكل على ينبوعه يرد

حتى انتخى الشوط مزهراً بفارسه            وقام عن هبوات رائد جلد(5)

تعثرت في مجالي الشوط سابقة        في حين يرنو من الغايات مبتعد

فغبت عنا وحاشا أن تموت فما         يموت فكر ولا يغتاله اللحد(6)

مازلت أجحد والأمس القريب على            كفي يرعف منه العطر والشهد

وأنت تملؤني، في مقلتي ألق            والسمع أنشودة والفكر معتقد

لا لن يموت ندي منك مؤتلق           بالنيرات وللأمجاد منعقد

_______________
(1) ثر: كثير. رحب واسع.

(2) الضاحون: مفردها الضاحي وهو البارز للشمس.

(3) المهيع: الطريق الواسع البين. والجدد الذي لا وعورة فيه.

(4) أدت: أُثقلت.

(5) الهبوات: جمع هبوة؛ وهي الغبرة.

(6) اللحد: القبر.

(460)

 

إني وحقك لا أنفك نونسني              رؤى ويلطم وعيي واقع نكد

تراك عيني وذهني يحتويك فإن        مددت كفي إنى كفيك لا أجد

فكم مسحت عيوني عل خادعة         من الكرى أخبرت ما ليس يعتمد(1)

وكم حضنت ظنوناً أن كاذبة            نعتك يدفعها للفرية الحسد(2)

لكن قبراً على رمحين من بصري             يشدني فإذا كل المنى بدد(3)

فأرعوي للنهى تجلوك لي أفقاً          رحباً يشع على أبعاده رأد(4)

ومن عطائك فيه ألف باسقة             شوامخ في نداها للسما نهد(5)

لا يأكل الترب روحاً منك خالدة        بل كل ما للترب الشلو والجسد(6)

***

إني لأعذر دهراً لم يسعك        فبالأيام من كل فكرٍ رائدٍ كبد

لخصت في عزم عملاق مطوله        وإن معجزة أن تخصر المدد

ستون عاماً ضخاماً في حصائلها       وإن تبدى قصيراً عندها العدد

عمر كما القدر في خير فليلته           عن ألف شهر بما تعطي وما تعد

والعمر أن تصنع الأمجاد باذخة        طال المدى بعدها أم قصر الأمد(7)

ليهن روحك أن النجم سوف على             أفكار أبنائك الأخيار يتقد

وأن من كل إسفافٍ ومنعطف           نحو الهبوط سينجي نهجك السدد(8)

_______________
(1) عل: لعل (حرف مشبه بالفعل). والخادعة من الكرى: الحلم من أحلام اليقظة أو التوهم.

(2) الفرية: الكذبة.

(3) بدد: متفرقة.

(4) أرعوي: أكف وأرجع. والنهى: العقل. والراد: وقت ارتفاع الشمس وانبساط الضوء في ثنايا النهار.

(5) نهد: مرتفعة. جمع ناهدة.

(6) الشلو: العضو.

(7) باذخة: عالية.

(8) الإسفاف: طلب الدنيء من الأمور.

(461)

 

وليهنها أن أم الصقر قد ولدت          صقراً وأن الحمى من دونه رصد

تجسدوك سلوكاً خيراً وهدى            وسوف تبقى بهم حياً ومن ولودا

شددت أهدافهم بالنجم فاحتقروا         ما دون ذاك فباركهم إذا صعدوا

***

يا أيها النبع ثراً في تدفقه         أيام أغزر ما في دهرنا الثمد(1)

آمنت أنك ما خضت اللهيب لكي        تمتد ذات ويجنى الدرهم اللبد(2)

أو يجلب الضرع في لهوٍ وفي دعة           لاهون إن قام خطب فيهم قعدوا

أو أن تتيه بألقاب وغاشية        ونائل وحياة كلها رغد(3)

لكن تمليت جيلاً ألف وافدة              للأجنبي على أفكاره تفد

يمشي به الصبح في رأي وينقضه             عند المساء برأي كله فند(4)

تهفو نوازعه لكن إلى خدع             كذوبة ما لراوي وعدها سند(5)

ولست أنعت جيلي أنهم فطر            سقيمة أم على ما لقنوا جمدوا

أو أن أعود لأقوالٍ مرددة        فأدعي أن قومي كلهم عقد

وملء سمعي شهيق من جراحهم       يدعو المغيث ولم تأس الجراح يد

فلو دنت قمم منا متوجة          إلى سفوحهم لارتد من بعدوا

ولاستراحوا إلى فكر دعائمه           إلى السماء ودنيا الله تستند

فليس في ديننا عقم ليبعدهم              وإنما نحن منا العقم وألاود(6)

_______________
(1) الثمد: الماء القليل.

(2) خضت: اللهيب: كافحت وناضلت. وتمتد ذات: تتضخم أنانية. ويجنى الدرهم اللبد: الكثير.

(3) الغاشية: الداهية. والنائل: العطية والمعروف.

(4) الفند: الكذب.

(5) تهفو نوازعه: تسرع ميوله وأشواقه.

(6) الأود: الأعوجاج. والعقم: انعدام الجدوى.

(462)

 

فرحت تعمل لا تجتر حوقلة            فالأمر جد وما نال المراد دد(1)

وعشت والجو فيه ألف عاصفة         ترب غرساً وينسيك العنا الجلد(2)

حتى نماك سجل الخالدين إلى           رهط إلى غير وجه الله ما قصدوا

***

قالوا لقد عق أماً في تصرفه            أنى وأنت وأم يجمع الصدد؟(3)

فأنت أكرم أن تزري بمن سهروا              على الرسالة من ألف وما رقدوا(4)

الحاضنين من القرآن شرعته           ومانعي الضاد ممن رام يختضد(5)

لكن رأيت قديماً  خاف إن حضن الــ          ــجديد ذاب به فانصاع يبتعد

كما رأيت جديداً  عاف أوله            خوف التحجر فيما يدعي الجدد

فرحت تأخذ من هذين ما سلمت        أصوله وتدانيه وتجتهد

حتى استراشت فراخ رحت تعهدها            واشتد من جنحها ما كان يرتعد(6)

قامت تبضع منك الجهد هازلة          في جيدها يتلوى حبلها المسد

وعز أن يتلهى بابن باقعة        جهام ما مطروا لكنهم رعدوا(7)

مهلاً فما راع قلب اللج قوقعه           والشمس ما انكدرت لكنه الرمد

فأنت كالنجم لا يثنيه شاتمه             عن الضياء ولا من شاتم يجد(8)

_______________
(1) الحوقلة: قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وتجتر: تكرر. والدد: اللهو واللعب أواللاهي واللاعب.

(2) ترب غرساً: تحفظه. والعنا: التعب. والجلد: التصبر.

(3) الصدد: القصد أو القرب.

(4) تزري بهم: تعيبهم وتستهزئ بهم وتنكر عليهم فعلهم.

(5) رام يختضد الضاد: أراد أن يضعف اللغة العربية.

(6) استراشت: قوي ريشها. ويرتعد: يرتجف. وقصد بما كان يرتعد (جناحها).

(7) الباقعة: الذكي الحذر ذو الحيلة الذي لا يفوته شيء. والجهام: السحاب لاماء فيه. يقال: جاء من هذا الأمر بجهام: أي بما لاخير فيه. ورعدوا: من الرعد، وهو صوت شديد يصدر عن احتكاك الغيوم ببعضها عندما تمطر.

(8) يجد: يحزن. مضارع ماضيه وجد.

(463)

 

وأنت كالعود تشدو فيه إن ضربت            أوتاره النغمات البكر والغرد

***

يا زارعين على الوادي ثغورهم        زهراً ترف به الآكام والنجد(1)

وتائقين إلى نجوى أحبتهم        لو ترجم الترب للأحباب ما نشدوا(2)

أبي وترب ودادي ثم بعدهما            شيخي بهذي الرمال السمر قد همدوا

ما زال يجمعني رجع الخيال بكم       فألتقي بأحبائي وإن بعدوا

ليهنكم في تراب الطهر حيدرة          وذاك ما يتمنى النجم متسد(3)

ولتكفني لوعة بالقلب لاهبة             أروح من حرها بالجمر أبترد

***

_______________
(1) الآكام: جمع آكمة، وهي الرابية أو التل. والنجد: جمع نجد، وهو ما ارتفع من الأرض وصلب من تل أو جبل ونحوه. جمعه نجود ونجاد وأنجد.

(2) ما نشدوا: ما قصدوا أو ما اعتمل في نفوسهم من أفكار ورغبات.

(3) متسد: متوسد. من توسد الوسادة: إذا وضعها تحت رأسه. والمتسد: ما يتوسد عليه أو الوسادة.

(464)

 

ذكرى الشبيبي

نظمت في ذكرى الشيخ محمد رضا الشبيبي عام 1966م

يأبى لك الموت ما تعطي وما تهب            الفكر والعطر والصهباء واللهب

موائد ما تكلفت العطاء بها              لكن طبعت عليها والعلا نسب

كانت أباك الذي تنمى لمحتده           وإن سما بك فوق النيرين أب(1)

وكم يد لك بيضاء يطوقها        للمجد أف سوار ما بها كذب(2)

أساور لم تجئ عفواً ولا أخذت         من واجهات عليه الشك والريب(3)

لكنها من لهيب خضت جاحمه          زكاك فيه الضنا والكد والتعب(4)

فللثمانين إن تزهو بما حملت           فليس فيهن إلا اليانع الخصب

***

باركت ثوبك طهراً ناصعاً ألقاً          وإن تهلهل وانقدت له هدب(5)

يلاث منك على شهم سجيته            أن يشرئب وإن شدت به النوب(6)

منه ومن مثله ما يرفلون به             لو أنصفتك جلابيب لهم قشب(7)

_______________
(1) النيران: الشمس والقمر. كناية عن العلو والارتفاع في القدر والقيمة والمجد. والمحتد: الأصل. أي: إن أباك ذو أصل كريم ونسب رفيع خالص من كل سوء.

(2) اليد البيضاء: الإعانة الخالصة لوجه الله لا يتبعها من ولا أذى.

(3) البيت تعبير عن الذكر الحسن الذي اكتسبه الممدوح في حياته عن جدارة. إذ كانت أحاديث الناس الطيبة فيه كالأساور حلت ذكره وكان يستحقها فعلاً لأن كسبه كان حلالاً لا من مصادر مشبوهة.

(4) الجاحم: من الجحيم ذات النار المحرقة. والضنا: المرض والهزال، أو سوء الحال.

(5) انقد الشيء: تمزق وتقطع.

(6) يلاث: يمضغ. من لاث الشيء بفمه: إذ مضغه. ويشرئب: يمد عنقه لينظر أو يرتفع. والنوب: جمع نائبة وهي المصيبة تنزل بالمرء.

(7) ما يرفلون به: ما يجررون أذياله من الأثواب الطويلة الفاخرة لغناهم وتنعمهم والجلابيب: جمع جلباب وهو الثوب الواسع المشتمل على الجسم كله. والقشب: الجديدة اللامعة.

(465)

 

وهامة من معانيها الشموخ وإن         نأت بمثقلة تعنو لها الهضب(1)

تكورت عمة من فوق مفرقها           يا رب لا عدمت تيجانها العرب

أغنت بما منحته وهي في شظف       وأسمنت وهي من آلامها السغب(2)

تعطي وتمنح لا من ولا عوض         وتعذر الذنب لا عتبى ولا عتب

أكبرت جهداً يغذي في تواضعه         زهو القصور ولا تدري به القبب

دنيا الرسالات يا دنيا الرضا ومتى            ذوو الرسالات راموا أجر ما وهبوا؟

***

يا واهب الجيل وقداً من عزائمه        الجيل يخضل منه وهو يلتهب

عوذت وقدك من ساجين جد بهم        حفز الخطوب وهم في جده لعب(3)

النائمين على البلوى وحولهم            قرع لو استمع الموتى له انتصبوا

الآكلي الطرق حتى أنهم وتد            والشاربي الذل حتى أنهم قرب(4)

حب السلامة طبع عندهم ولهم          من القناعة كاس كلها حبب(5)

جاؤوا الوغى عزلاً حتى إذا استعرت         شكوا سلاحهم لكنه خطب(6)

وأقفر الشوط إلا من مهملجة            تظن أن غباراً نالها الغلب(7)

تمطرت بهم عجف فما وصلت         للساح حتى استبيح الملعب الرحب(8)

_______________
(1) نأت: ناءت ونهضت بالمثقلة في جهد ومشقة. والمثقلة: كل ما يثقل المرء من قيود أو هموم أوغيرها. وتعنو لها الهضب: تخضع لها الهضاب وتذل.

(2) أغنتهم: جعلتهم أغنياء. والشظف: ضيق العيش وقلة ذات اليد. والسغب: الجوع من التعب.

(3) الساجون: جمع مفرده ساج وهو الهادئ الساكن لا يحرك ساكناً.

(4) الأكلو الطرق: الذين يتلقون الضربات الموجعة كوتد الخيمة يطرق بالمطرقة لينغرس بالأرض ويثبتها. والقرب: جمع قربة، وهي ما يملأ بالماء من الأوعية الجلدية أو غير الجلدية.

(5) الحبب: الفقاقيع تعلو وجه الماء وغيره من السوائل.

(6) شكوا السلاح: لبسوه وتقلدوه أو طعنوا به عدوهم. والخطب: جمع خطبة: وهي ما يلقيه الرجال على الآخرين من المعلومات تثقيفية أو توجيهية.

(7) المهملجة: التي تمشي مشية سهلة في سرعة.

(8) تمطرت بهم عجف: ذهبت بهم ركائب عجفاء هزيلة.

(466)

فكان حظهم من كل مترعة             ثمالة الكاس إن سروا وإن غضبوا(1)

وكان عدلاً لو ان النار يرفدها          إذا استحر الوغى من غيرهم حطب

أو ازدهى الحقل إلا من مناجلهم        أو أحرز الشوط إلا من بهم وثبوا

أو شيد الصرح إلا من جماجمهم       أو اعتلى السرج إلا من بهم ركبوا

أولاء يجزون والأوطان تعرف من            عرق الثرى عندها أن ينبز الحسب(2)

يعربد السوط في عليائه أشراً           إذا تشكى لهم من حيفهم طلب(3)

حتى إذا انداحت الجلى بمن ولدت             ولاح بالأفق نجم وانجلت حجب

ودب وعي لو استشرى بحامله         فربما ثقل الميزان  ينقلب

ترجل السوط رمزاً عن تواضعه       ولان يوماً وعهدي أنه صلب

***

يا سادرين لهم في كل سانحة           وهم يعللهم في نيل ما طلبوا(4)

توزعتهم على طول المدى محن        ومزقتهم فهم من حولها شعب

طالت بهم سورة البلوى وجن لهم             ترقب فالثواني عندهم حقب

عوذتكم من سراب أن يخادعكم         بلمعه فسلوا الظامين: هل شربوا

ممن يعل رحيقاً من جراحكم           ويخدعون وهم في نوحكم طرب

ينضجون شواءً في لهيبكم        وليتهم لم يقولوا: إنكم كرب(5)

أولاء ما نبضت فيهم مشاعرنا         فسندوهم وقولوا: إنهم خشب

***

_______________
(1) حظهم: نصيبهم: والمترعة: الممتلئة من الكؤوس وغيرها. والثمالة: البقية التي تبقى في أسفل الكأس بعد شرب ما فيها.

(2) نبز الحسب: لقب بلقب. ويكثر ذلك في مايكره من الألقاب.

(3) أشراً: بطراً.

(4) في كل سائحة: في كل عارض يعرض. والوهم: ما يقع في الذهن من ظنون وخواطر.

(5) الكرب: جمع كربة وهي الحزن والغم الشديد.

(467)

 

ونهز في الشواطي يرقبونكم            واللج يزحمكم تياره اللجب(1)

فإن تغولكم خفوا لشلوكم         ووزعوه كما يستوزع السلب(2)

وإن بنيتم على أشلائكم ظفراً           هبوا ينادون نحن القادة النجب(3)

ومثلوكم ونابوا عن إرادتكم             بغير حق وهم فيما أرى نوب(4)

فحاذروا نفراً يدعونكم أبداً       بالقاصرين ليحموكم وينتهبوا

فيم الصفيف وقد راشت قوادمكم        وقد مضى زمن أنتم به زغب؟!(5)

***

يا من على يده الفصحى فرائدها        تألقت فهي فيما أومضت شهب

كم قد دأبت تجليها وتصقلها             كأن روحك فوق الحرف تنسكب

أيام جاءت رطانات لتزحمها           وأين من لمعان الأنجم الحصب(6)

فغردت سجعات في فواصلها           ووقعت نغمات خرد عرب(7)

وكم سهرت على التأريخ تكتبه         في يقظة من ضمير لا كمن كتبوا

_______________
(1) النهز: الذين ينتهزون الفرص ويغتنمونها. واللج: موج البحر العالي.

(2) تغولكم اللج اللجب: اغتالكم. وخفوا لشلوكم: أسرعوا نحو أشلائكم وأعضائكم المقطعة. والسلب: الأسلاب والغنائم.

(3) وإن بنيتم على أشلائكم ظفراً: إن فخرتم بانتصارات شهدائكم. والقادة النجب: الأذكياء البارعون في قيادة المعارك وغيرها من المضامير.

(4) مثلوكم: تحدثوا باسمكم. والنوب: جمع نائبة وهي المصيبة.

(5) الصفيف: من صف الطير في السماء: إذا بسط جناحيه في طيرانه ولم يحركهما. وقصد بالصفيف: الاستكانة والذل. وراشت قوادمكم: نبت ريشها وأصبحتم أقوياء قادرون على الاعتماد على أنفسكم. والزغب: جمع أزغب: وهو الطائر الذي لم ينبت ريشه بعد.

(6) الرطانات: جمع رطانة وهي التلفظ بألفاظ ليست من لغة المتكلم الراطن. والحصب: صغار الحجارة.

(7) الخرد: من خردت المرأة إذا استحيت وطال حياؤها وسكوتها، فالنغمات الخرد: التي تجيء على استحياء هادئة. والعرب: جمع عروب، وهي المرأة المتحببة إلى زوجها المطيعة له. وقصد بها: العربية الفصيحة.

(468)

 

أكرمت مثواه عن حقدٍ وعن وضر            وصنت معناه أن يستامه الذهب(1)

كتبته في حيادٍ لا انحياز به             فجاء لا عصبيات ولا عصب(2)

وكنت من كاتبيه في قرارة ما          يعتز فيه وما للحق يكتتب

لا كاتبي كتبٍ للوزر ما رقموا          والكذب ما نسجوا والإثم ما احتقبوا(3)

***

سل الرسالات هل كان الأديب سوى          رسالة إذ يجد الأمر ترتقب

وصيحة تتحدى البغي أو قبسٍ          إذا ادلهمت على أبعادنا الخطب(4)

وفي النوائب ترجيع لوالهةٍ              وفي البطولات عزم مارد يثب(5)

وفي الشقائق فيما يجتلى عبق           وفي الصحائف فيما يجتنى أدب(6)

وأنت من كل هذا في تألقه       إضمامة للشذا والنور تنتسب

فإن ترحلت عن أبصارنا فلقد           رواك في كل ذهنٍ خاطر عذب

***

تحية أيها الوادي الحبيب إلى           ربى إليها النجوم الزهر تنجذب

يلوح في لابتيها من أبي حسنٍ          وجه ومن قسماتٍ منه تختضب(7)

غفت ملايين آمال بتربتها السمراء فهي على أبعادها كثب(8)

_______________
(1) الوضر: الوسخ أو الشوائب تشوب النقي وتوسخه.

(2) العصبيات: جمع عصبية وهي الانحياز إلى عصبة من الناس لهم اتجاه عقدي محدد. والعصب: جمع عصبة: وهي الجماعة يتعصب أفرادها بعضهم بعض.

(3) الوزر: الإثم والذنب. ورقموا: كتبوا. واحتقبوا الإثم: ارتكبوه.

(4) ادلهمت الخطب: تكاثفت وكثرت، فكانت كالظلام إذا اشتد سواده.

(5) ترجيع الوالهة: بكاء الأم لفقدها ولدها. فوالهة: الأم التي يفرق بينها وبين ولدها.

(6) الشقائق: شقائق النعمان. والعبق: الرائحة الزكية.

(7) اللابتان: مثنى اللابة وهي الأرض ذات الحجارة السود البركانية.

(8) كثب: جمع كثيب وهي التل الرملي. ويجمع أيضاً على كثبان وأكثبة.

(469)

 

لو عن ثغور بها نم الثرى لغدت        تلك المتالع فيها ينبت الشنب(1)

توحدت طبقات في قرارتها             وهوم الخصم جنب الخصم واصطحبوا(2)

حتى تعابير كانت فوق أعينهم          ماتت فما ابتعدوا منها ولا اقتربوا

أبا ترابٍ وفي ترب ثويت به            تطوي الرضا أملاً قد غاله الترب

وعندنا منه ما يحيا به أبداً       مدى الدهور وعند الله يحتسب

***

_______________
(1) المتالع: التلعات: ما ارتفع من الأراضي وأشرف أو ما انهبط منها فهي من الأضداد. والشنب: قصد بها الشارب ينبت فوق الفم أو العنبر.

(2) هوم: هز رأسه من الناس أو نام.

(470)

 

وقفة على قبر أبي رشاد

 

عند القبور صوادح وهديل              ولدى الديار نوائح وعويل

قد تعكس الأحوال في مألوفها           حيناً ولا يستغرب التحويل

تلك عزفت عن الديار فعاذر            إن الإقامة بالطول رحيل

وإذا توطنت القبور فههنا         أهلي وممن أصطفيه رعيل

وإذا توطنت القبور فههنا         أهلي وممن أصطفيه رعيل

أمسي ويومي عندها وأنا هنا           نضو يعب الذكريات نحيل

هذا سبيلي في الأسى عللته             ولقد يبرر لوعة تعليل

***

أأبا رشادٍ حيل بن لقائنا          حتى افترقنا والفراق طويل

أسلمتني للأمس أسبر ما مضى         وأعب منه وأحتسي وأطيل

عهدان عهد للغضارة والصبا           عشناه وهو من الشباب خضيل(1)

وأضلنا الثاني ونحن على الإخا        إلف وظل النعيمات ظليل

نتبادل الأسمار من أذوادها             أدب وفكر ما علمت أصيل

وفرائد نختارها وقرائح نشــ            ــتارها ففراغنا تحصيل

في نخبةٍ جلى بهم خلق           ومن أعراقهم جلى أب وقبيل

درجوا بترب أبي ترابٍ وإنه           بنبوغ من ينمو عليه كفيل

سعداء عشنا رغم أن العيش            في بيس وحقل الأمنيات محيل

لكنها الدنيا فكل صفائها كدر            ومحض وضوحها تضليل(2)

يبس الخميل غداة صفائها كدر          وذوى بأيام الحصاد حصيل

_______________
(1) الغضارة: الخصوبة وطيب العيش الفضيل: الندي.

(2) كدر: حزن وهم: محض: خالص.

(471)

 

أأبا رشادٍ أمسنا في وعينا صور        أقل حقوقها شيخ أبر جليل

ونوابغ في الفكر يرتجل النهى          والنور فقه عندهم وأصول

يبغون وجه الله فيما زاولوا             حتى استطال على هداهم جيل

ومشوا على السنن القويم لربهم         ونهاية السنن القويم وصول

أولاء يحترق الزمان ودوحهم           ريان من نبع الخلود بليل

***

أأبا رشادٍ ما افترقنا عن قلى            فأخو الوداد متيم متبول(1)

لكنه خلق الزمان يسوؤه         لو أن شمل أحبةٍ موصول(2)

ما كان ضر لو اتبعتك نظرة            حتى يواريك الثرى ويحول

فلكنت أوصيت التراب الرفق           في صدغين حيث الفكر والتحليل(3)

ويعف عن سفتين  عهدي فيهما         يحلو حديثهما ويصدق قيل

ولقمت فوق القبر أذرف دمعة          عدم الرياء بها أو التمثيل

ولو سدتك خواطري ومشاعري        في حيث خدك وسدته رمول

فانا الذي لأحبتي بجوانحي              مثوى ودار إقامةٍ وحلول

لي في التراب من الميول تناقض              ولقد تناقض في الوحيد ميول

أبغضته أن يستبد باوجهٍ         أحببتها فربت عليه ذحول(4)

وهويته أن صار دار أحبتي            فهو الهوى وهو الغد المأمول

وينوب عن وجه الحبيب إذا اختفى            قبر الحبيب فذاك عنه بديل

ويح التراب حبائب ومصائب           فالحب يبسم والدموع تسيل

_______________
(1) قلى: بغض متبول: سقيم من الحب أو ذاهب العقل.

(2) شمل: جمع، اتبله الحب: أسقمه فهو متبول.

(3) الصدغ: ما بين العين والأذن وهما صدغان.

(4) ذحول: أحقاد أو ثارات.

(472)

 

دفنت به الآلام والآمال والنجوى       وما يعيا به التفصيل

في كل جزء بالتراب على اللحى       والسحر في الثغر الأنيق دليل

أأبا رشادٍ كان ليلك سامراً        حلواً وأنت بقلبه قنديل

كلف بصحبك لا تطيق فراقهم          فهموا وأنت صوادح وخميل

يردون من نبع القريض فليلهم          ألق وصبحهم الشذا المطلول

ويؤججون الفكر شعلة نابغ             أكرم بأفق أسرجته عقول

القانعون إذا تواضع ثوبهم       ورغيفهم فيه رضى وقبول

والباسمون وإن طحا بمتونهم           حمل بألوان الهموم ثقيل

أوحشت ناديهم وآنست الثرى           فالترب للنمر الأنيق مقيل

وإذا اجتليت الترب غرد مزهر         وتبرجت فتن ولاح كحيل

***

أأبا رشادٍ تلفتت عيني فلم أر     من لهم يهفو الحشى ويميل

ممن أفاض علي من آدابه        ما أسموا به وأصول

ومن الحياة بدونهم فيما أرى            عبء ومحض تفاهة وخمول

ترب الصبا وعشير ألعابٍ              وأستاذ نعمت بفضله وزميل

ما زلت أحيا في نعيم طيوفهم           فأنا عن الدنيا بهم مشغول

حلوا شغاف القلب دون سواهم          والفضل لا تطغى عليه فضول

رحلوا فروحي غربة ومشاعري        نهبب ودمع الكبرياء ذليل

سأعيش وحدي دون هذا الحشد         في الدنيا فروحي عنهم معزول

***

أأبا رشاد كان آخر عهدنا        يوم بلبنان الأغر جميل

ما زال من جزين عندي صورة        ذكرى اللقاء والذكريات مثول

(473)

 

وأنا وأنت وثالث من سنخنا             نحكي هموم بلادنا ونقول(1)

فكأننا رغم التباعد والنوى       في رملة النجف الحبيب نجول

نجلوا الغري رؤى يغار لحسنها        لبنان وهو المترف المعسول(2)

ونعب صرفاً من هموم بلادنا           والصرف من هم البلاد شمول

أترى حملت إلى القبور همومنا         الكبرى فإنك للهموم حمول

أقر السلام أحبتي ومشائخي            وأطنب فإنك للوداد رسول

ميعادنا وادي السلام فنم به             فالكل للوادي الكريم يؤول(3)

بحمى الوصي بحيث لا بجواره        خوف ولا وعد له ممطول

ومن استضاف النبع يؤنس روحه             خصب ويبرد من حشاه غليل(4)

***

_______________
(1) سخنا: نبتنا.

(2) الغري: أرض النجف.

(3) وادي السلام: مقبرة النجف، يؤول: يعود.

(4) حشاه: فؤاده، غليل عطش أو قرحة.

(474)

 

دمعة وفاء

في رثاء محمد الخليلي – نظمت عام 1068م

لي يجديك إن بكيت عويلي             لا ولا لوعتي وحر غليلي(1)

وافتعال الآهات أو ملق الحـســ         ــرة جوفاء من عطاءٍ أصيل

أو ثناء ينوي مجاملة الحي وإن كان موضع التبجيل(2)

كل هذا ما شاق طبعك يوماً             لا ولا شاقني ولا من سبيلي

إنما جئت أجتليك خصالاً         خضلات والدهر غير خضيل(3)

وأوفي جمائلاً لك عندي         وأقل الوفاء رد الجميل

فأنا صنت للوفا قبلاتي    وحرمت الأصنام من تقبيلي

وتأبيت أن تباع وتشرى          عاطفاتي او تسترق ميولي

وإذا مرت الحمامة في رو       ض فلابد عنده من هديل

وإذا مرت الحمامة التصنع ثوباً        ويعاف الرياء قلب الثكول(4)

يا كياناً مهذباً في معانيـــ         ـــه كبيراً في غير ما تهويل(5)

خلق من لطافة ومزاج           من سجاياه فيه ما في الخميل

وفم ما رأيته غير بسا            م بمر يعب أم معسول(6)

وحديث تكاد تشربه الأذ          ن كأن الكلام من سلسبيل

ويد بعض ما بها البرء والرحــ         ــمة إن برح الضنا بالعليل

_______________
(1) الغليل: شدة العطش وحرارته أو الغيظ والحقد.

(2) التبجيل: التعظيم.

(3) الدهر غير خضيل: ليس سهلاً أو رطباً.

(4) الثكول: فقدان الرجل أو المرأة أحد الأبناء.

(5) التهويل: الإفزاع أو التفزيع أو التخويف.

(6) بمر يعب أم معسول: سواء أكان ما يعترض حياته مراً أو معسولاً، فهو لا يظهر ما بداخله.

(475)

 

ولسنا عف وإن عاش في أفـــ          ـــق مليء: بالجرح والتعديل

ويراع يعطي بغير ادعاءٍ        ويجيد العطا بغير فضول

أدب من قريحة تسبك التبــ             ـــر قوافٍ في روعة الإكليل(1)

وإذا شئت تسكب النور صهبا           ء سلافاً في جلوة للأصيل

أبدعت في الحالين سبكاً وسكباً         فهي ما بين عسجد وشمول

***

يا لروح غنية في صنوف        الخير طهر من النفاق بتول(2)

ونفوس تخلو من الخير ليست          غير نحت النحات بالأزميل

هكذا فلتك الحياة عطاءً          وسواها ما غير عبءٍ ثقيل

***

نجفي يا خميلة في الفيافي        وربيعاً يهتز وسط محول(3)

وتراباً معنبراً لست أرضى             عن حصاه نجم السما ببديل

يا مغاني العلا ويا مهبك الفكــ          ــر ومحراب نابغات العقول

يا مهادي الوثير يوم قدومي             ووساداً أرجوه يوم رحيلي(4)

نام فيه أبي وشيخي وإخوا       ني جميعاً في ظل حامي الدخيل

***

نجفي أفتدي خميلك والأغـــ            ــصان فيه من زاحفات الرمول

_______________
(1) أدبه نتاج قريحة تحول الذهب شعراً مقفى جميلاً كالإكليل. والقريحة هي الملكة التي يستطيع بها الإنسان ابتداع الكلام وإبداء الرأي.

(2) طهر من النفاق بتول: عذراء طاهرة.

(3) الخميلة في الفيافي: الشجرة أو السبتان وسط الصحارى، فالفيافي في جمع فيفاء وهي الصحراء الواسعة المستوية. والربيع الذي يهتز وسط المحول: النبات الأخضر الذي يتمايل وسط الجفاف.

(4) المهاد: الفراش الوثير. وأرجوه: أرجو أن يتهيأ وساداً لي.

(476)

 

ومن الشوك راح يغزوه والسعـــ       ـــدان يمتد فيه عرضاً بطول(1)

قد مشى يزحم الورود فباتت     وهي خجلى ملمومة في ذبول

وأضيع المقياس فيها فأمست            وهي مهد الأصول دون أصول

واشمخرت فيها أناس فأضحت         لستد تدري صدورها من ذيول(2)

أي طعم للتمر إن نفق الحنــ            ـــظل أم أي ميزة للنخيل

خدعوها بالشكل زوراً كما تخـــ        ـــدع يوماً بالبو أم الفصيل (3)

نحروا طفلها وجاؤوا بجلد       ملؤوه بالتبن للتمثيل

أمكم برة فلا ترمقوها            بالعقوق اللئيم والتنكيل(4)

رب صن بلدتي حقائق فضل           وقها من مواكب التضليل

***

يا رفاقي في دوح رابطة الآ            داب لا زلتم بظل ظليل

من عشير الصبا وترب الندي          المشتهى والرفيق في التحصيل

إنكم من مداخل الروض فاحموا        روضكم وامنعوه من كل غول

ولئن غاب منكم اليوم نجم       فسماكم بالنجم غير بخيل

وعزاءً لكم ودمع وفاءٍ           من صديق لكم وآل الخليلي

وإذا لم يطل قصيدي فعذراً             قد يوفى عن كثرةٍ بقليل

***

_______________
(1) السعدان: نوع من القرود. أو نوع من النباتات.

(2) اشمخرت: تكبرت وتعاظمت.

(3) البو: جلد ولد الناقة يحشى تبنا بعد أن يذبح ويقرب من أمه لتظنه ولدها قبل أن يذبح فتعطف عليه فيدر لبنها.

(4) البرة: العطوف على أبنائها بلطفها وإحسانها إليهم.

(477)

 

خواطر وفاء للإمام الشهيد محمد باقر الصدر (رحمه الله)

 

عزائي ولولا ذاك عز عزائي          بأنك حي رغم كل فناء(1)

مسست الردى فاهتز حياً مغرداً        كما اهتزت الأرض الموات بماء

ومثلك لا يفنى فما الفكر ميت           وما كان الطبع الفكر غير بقاء

وهل ملك الدنيا سوى العلم وحده       وهل خالد فيها سوى العلماء

فما أنا إذ أدنو إليك مؤبن         ولا من دعاة الحزن رغم شجائي(2)

ولكنني أدنو لأقتبس اللظى              وأحمله جمراً ليوم لقاء(3)

فقد غمر الدنيا الجليد فاجدبت           فلا تنتهي دون اللظى لنماء

فما عصفت بالظالمين ورهطهم        سوى جولة في الساح يوم فداء

ولم لا وإن الموت في الناس يستوي           به أجل الشجعان والجبناء

فمت مرة كي لا ترى ألف موتةٍ        تموت بها في قبضة الحقراء

هو الوثب إما موتة مشرئبة             وإما صعود المجد في خيلاء

أبا الفكر من أردوك ما كان همهم             شفاء غليل لانتهى لشفاء

ولا هو محض الانتقام من الذي        تحداهم في عزمةٍ ومضاء(4)

ولا عطش للدم فالقوم أشبعوا           ثرى الوطن المنكوب بحر دماء

فهم من فصيل تستوي في حسابه       دما عبقري أو هزيلة شاء

ولكنهم ألفوك نسراً بوسعه       بأن يرتقي في نزعة لسماء

وخافوا لواءً راح يخفق ظله            على أمة في حاجة للواء

_______________
(1) عز: ثقل.

(2) المؤبن: الناعي وأبنه: نعاه.

(3) اللظى: النار.

(4) محض الانتقام: خالصة.

(478)

 

فأرداك حقد ينتهي بجذوره              إلى دمنة غذته شر غذاء

لآكلة الأكباد للشفة التي          تبل غليلاً من دم الشهداء

وما زال فينا من بنيها عصائب         هي الأمس لكن يختفي بغطاء

يمزق إذ يقوى ويرفع إن كبا            (مصاحفه) الصفراء البلهاء

أبا الفكر عمر الورد حتى لو انتهى            سريعاً يظل العطر غير نهائي

وعطر دماء الواهبين ملاحم            مضمخة ما هن محض شذاء(1)

فليت الذي يبكونهم يندبونهم             بملحمة حمراء لا ببكاء

فما ارجع الدمع الحقوق ولا انتهى             لفتح ولا روى غليل ظماء(2)

فقل للقوافي الهادرات فصيحة          كلام المواضي أفصح الفصحاء

ومن مرضوا بالذل أن دواءهم          كؤوس المنايا فهي خير دواء

أبا الفكر يربى محنة الفكر لو غدت           تحكم فيه قبضة الجهلاء

ولو مشت الظلماء في غمرة الضحى          لتغتال زهو النور عبر فضاء

وأن تتداعى ألسن حثها الهوى          لتمدح فحوى العار دون حياء

وكنت أخال العلم دون تعصب          يعم الورى من عدله بسواء

ويثأر للمظلوم دون هوية        وكان الرجا هذا فخاب رجائي

تسائلني نفسي أما كان (باقر)           فتى من جنود الله والأمناء

أما استهدف الإلحاد واهتز للهدى              حساماً ورمحاً ما التوى بأداء

أما كان سبطاً للبني إذا أبى             له البعض أن يدعى ابنه بنداء

اليس أبوه وهو فوق خلافة              لدى البعض يدعى (رابع الخلفاء)

إليس أمه الزهراء سيدة النسا           إذا ذكرت بالفخر أي نساء

_______________
(1) مضمخة: ملطخة.

(2) غليل: حرقة.

(479)

 

فما بال آل الله إخوة دربه        نسوه فما أعطوه حق إخاء

وليتهم ما ارتاح للذئب سمعهم          وقد سمعوا للذئب صوت عواء

فيا باقر العلم الذي ما أجاره            بنوه سوى أن أكثروا بدعاء

ولا قاه أبناء العقيدة بعدما        قضى العمر في تكريمهم بجفاء

ستبقى ولا يبقى سوى من تجردوا             ومن أخلصوا الله من حنفاء

وتبقى الدما هدراً إلى أن يجيء من           يجلجل بالبارود لا برثاء

ويا أيها الشلو الدفين (بكوفة)           من الرمل في وادي الحمى المتنائي

بوجه يشع النور في قسماته             دليلاً على طهر به ونقاء

وثغر كأن الشمس في بسماته           تضيء فما تلقاه غير مضاء

إليك على بعد مشاعر عانقت           جراحك تستوحيك رمز إباء

وتمسح قبراً كل جزء برمله            فم صارخ في أوجه العملاء

وتستمطر الأنواء في نحور تعاقبت            بدرب (علي) والد الشهداء

يوحدها درب الفداء فتلتقي       كبار المنى في حلبة الكبراء

وللجرح في وعي الشعوب مكانة       وللجرح عند الله خير جزاء

وعندي وقد عايشت فيك خلائقاً         كمثل شفيف النور يوم صفاء

سجاحة طبع أريحي تمازجت           بمتزن من هيبة الفقهاء

فيا صدر ما ضاقت رحاب فسيحة             على الأقرب الأدنى ولا البعداء

وداعاً فقد ألقاك إن جادت المنى        بمقعد صدقٍ في أعز فناء

***

 

(480)

 

عتاب العزيز(1)

 

جاءني من أبي فريدة عتب             وعتاب العزيز مر المذاق

حسب البعد والليالي أنستــ       ني حقوق الوفاء والأخلاق

لا وربي فما نسيت حقوقاً        كيف تنسى فضل البحار السواقي

أنا ما كنت عالماً بالذي نا        بك، لا، والمهيمن الخلاق(2)

في أليفين أسرعا برحيل         عوض الراحلين وجه الباقي

فعزاء أبا فريدة في رمــ         ــز الوفا والحنان والإشفاق

في التي رافقت حياتك زهراً            في ربيع وجلوة في مآقي(3)

والذي عاش منك للدهر ذخراً          والليالي نوراً وللخطب واقي(4)

إطرح عنك واردات هموم       فجميع الورى لهذا السياق

ليس يبقى من الورى غير شخص             خالدٍ في السطور والأوراق

وسيبقيك ما كتبت وما            دبجت في روعة وفي إشواق(5)

خالداً تقطع الدهور وتحيا        منه في خير إخوة ورفاق

***

_______________
(1) هذه أبيات أرسلها الأستاذ جعفر الخليلي عن إثر عتاب منه نقله له الأخ الشيخ محمد جواد السهلاني لعدم مواساته بفقد أخيه وزوجته وكان بالخارج فلم يسمع بالنبأ وذلك عام 1973م.

(2) نابك: أصابك أو لحق بك من الضر.

(3) الجلوة: الشيء المجلو الموضح النظيف. من: جلا الشيء يجلوه: أزال عنه ما يخفي جوهره. ومنه جلوة العروس. والمآقي: جمع مؤق أو موق وهو طرف العين مما يلي الأنف. والمعنى: أن الزوجة المتوفاة كانت في حياته نضرة عطرة كزهر الربيع وبعجة ونقاء في العين أو الناظر.

(4) واقي: أي واقياً وحامياً.

(5) ما دبجت: ما روضت من أفكار كتبتها بديباجة حسنة.

(481)

 

دموع الكلام

في رثاء السيد عبد الزهراء الخطيب

 

أحبتنا عند الثرى من جسومكم          فتوح وعندي من كرائمكم غمر

نشيد بمسع الدهر غر فعالكم            يردده من كل صالحةٍ ثغر

أرى الموت يحييكم وبعض الألى مشوا       على الأرض لو فكرت يمشي بهم قبر

يشد بهم للطين سود فعالهم              ويسمو بكم للنور أمثلة غر

كرائم أعمال وزاد من التقى            وفيض من الإصلاح هذا هو العمر

رأيت الغنى فكراً يعيش وغيره         وإن ملأ الآفاق من ذهبٍ فقر

فما مات عيسى وهو يفترش الثرى            ولا عاش قارون وأبوابه تبر(1)

***

_______________
(1) الثرى: التراب، تبر: ذهب..

(482)

 

العائد الجريح(1)

 

يا عود جرحك لحن بالعبير ندي        فخل جرحك يشدو في ذرا بلدي

فرب جرح على أنغامه سكرت         دنياً وما زال صداحاً إلى الأبد(2)

يا بن الفرات لقد تاق الفرات إلى       لحنٍ عن الشط والناعور مبتعد

غنى للبنان فاخضلت شواهقه           ولفع السفح في زاهٍ من البرد(3)

وتينة الجبل استبكته وحدتها            ورب منفرد يبكي لمنفرد

وعلمته بأرض الشام صومعة           يأوي إليها معاني الصبر والجلد

ونخلة الشام كم أذته غربتها            وأنها ما نمت يوماً ولم تزد

قلب يوزع للدنيا خوالجه         شجواً وشدواً ولم يبخل على أحد(4)

والشعر من طبعه النعمى وسابغة              من العطاء بلا من ولا نكد

***

يا أيها العائد المجروح نز له            بالقلب جرح وجرح نز بالجسد

فالقلب تجرحه البيض الحسان مشت          بساحة البرج حيث النفث بالعقد

والجسم يجرحه رشاش باغية           رش اللهيب على روض ومبترد(5)

إذ وجه لبنان كالمجدور شوهه          رشق القذائف من قرب ومن بعد

يابن الفرات وحمداً للرصاص فقد             أعاد مغترباً لولاه لم يعد

***

عد للفرات إلى الناعور يغزل في             الشطين نجوى حبيب لاهب الكبد

_______________
(1) أرسلها الشاعر أحمد الصافي النجفي إثر عودته من لبنان جريحاً برصاصة طائشة عام 1976م.

(2) الصداح: الذي يرفع صوته بالغناء.

(3) لفع السفح: غطاه ولففه من عدة أطراف.

(4) خوالجه: همومه التي تنازعه.

(5) الرشاش: البندقية الآلية.

(483)

 

_______________
(1) الأعذاق: المشبهة للأعواد التي تكون في نهايتها حبات العنب. والفواخت: الحامات التي تتمايل في مشيها. والجوق: حماعة من الناس.

(2) الأرباض: جمع ربض وهو ما يحيط بالمدينة من أرياف. والسدير: قصر كان للنعمان بين المنذر ملك الحيرة في ذلك الموضع.

(3) الدل: الدلال. والكرح: بيت الراهب. والأود: التمايل.

(4) الشعانينه: عيد يحتفل النصارى فيه بذكرى دخول السيد المسيح بيت المقدس، وهي كلمة عبرانية تعني التسبيح والابتهال.

(5) الندة: الصيحة.

(6) الراد: وقت ارتفاع الشمس وانبساط الضوء في أول النهار.

(7) المعار إلى أهليه مرتجع: لابد أن يعود المغترب إلى وطنه.

(484)

 

أسرار الحج(1)

 

يا أم براقٍ عليك السلام          دام لك الإيمان والإلتزام

السعي مشكور لوادي منى       والحج مبرور لبيت حرام

نزلت بيت الله ضيفاً على        أغنى خوانٍ حاشدٍ بالطعام(2)

وذقت للنبع المذال الذي          من ذاقه يبرد منه الأوام(3)

وجلت في رحاب رب بها        مغفرة لكل هذي الأنام

يا أم براق وبالحج من           أسراره مالا يحد الكلام

_______________
(1) هذه أبيات أرسلها السيدة نازك الملائكة لتهنئتها بالحج عام 1974؛ فأجابت بالأبيات التالية:

مولاي شكراً وعليك السلام             شعرك ورد وسواقي غمام

نديت حقلي من شذا ساقياً        لي قلماً عطشان صلى وصام

هنأني بالحج حجي رؤى         روحية ونجمة في ظلام

والله في قلبي تعريشة            والله نبع مغدق وابتسام

لا أنا ممن قدسوا صخرة         ولا أنا ممن جثوا للرخام

إني لمست في منى دفقة          من مطر الله ترش الخيام

أحسست وجه الله إغماءة         أغيب فيها ويغيب الزحام

فلا أعي إلا ذرا قمة              أغيب فيها ويغيب استلام

صليت ناجيت سرت رعشة            في أدمعي في شفتي في العظام

ناديت رب الورد إن الشذا       يرعاه فلاحون غرقى نيام

فالورد مجروح وألوانه           دم يسيل والروابي حطام

والوحش حزت قدماه الربا              غمس قيثارتنا في الرغام

أبا سمير حقلنا غاضب           شفاهه عصف وجوع انتقام

ألوانه سمير حقلنا غاضب       شفاهه عصف وجوع انتقام

ألوانه متفجرات لظى            أشجاره زوبعة واضطرام

والمسجد الأقصى صدى شاحب        مخلخل المنبر خاوي المقام

سما على محرابه طحلب         وانغرست في جانحيه السهام

خاو ويعوي في حماه الصدى           لا ركاع لا خطبة لا إمام

إن لم نقاتل حجنا باهت          وجمعنا في السعي محض ازدحام

وقوفنا في عرفات سدى          وشعرنا الحلو كلام كلام

(2) الخوان: ما يوضع عليه الطعام ليؤكل، فإذا وضع عليه الطعام فهو مائدة.

(3) النبع المذال المسفوح، المتدفق والأوام: حرارة العطش وشدته.

(485)

 

فهل رأيت الله في بيته            وهل لمحت الغيث خلف الغمام

وهل تسمعت إلى نغمة           لم تسب إلا أذن المستهام(1)

هل ذقت صهباءً حسا صفوها           الفارض والخيام وابن الهمام(2)

غابوا بما ذاقوه من نشوةٍ         فيها فهم للآن صرعى نيام

ولامست أوتارهم فالتقت         أرواحهم بألف عودٍ وجام(3)

هذا هو الحج وما بعده           أغمار ترتاد منى في زحام(4)

تحسب أن الحج طوف على            مربع أو جولة في مقام

وأنت قيثار سمعناه في           ألحانه يسكر شدو الحمام

فترجمي ما سكب الحج في             روحك من موسقةٍ أو مدام(5)

***

_______________
(1) تسبي: تأسر وتمتلك. والمستهام: العاشق الذي أصابته سهام العشق.

(2) حسا الماء: شربه شيئاً بعد شيء. والصهباء: قصد بها لذة الذوبان بالذات الإلهية من خلال التعبد والدعاء. والفارض والخيام وابن الهمام الشعراء الصوفيين الذي أتسم شعرهم بالنفحات الصوفية والذوبان في الذات الإلهية.

(3) الجام: الكأس. والعود: نوع من الطيب يتبخر به أي يتطيب به.

(4) اللأغمار: الجموع التي تغمر الأمكنة. وترتاد المكان وتطلبه.

(5) ترجمي: اشرحي. وما سكب الحج في روحك من موسقة أو مدام: ما تركه من أثر فيك وفي مشاعرك وانبطاعاتك.

(486)

 

نموذج من التاريخ

نظمها مؤرخاً وفاة السيد عبد الرزاق المقرم رحمه الله 1391هـ

إيه عبد الرزاق يا ألق الفكـــ            ـــر وروح الإيمان والأخلاق(1)

إن قبراً حللت فيه لروض        سوف تبقى به ليوم التلاقي

فإذا ما بعثت حفت بك الأعــ            ــمال بيضاء حلوة الإشراق(2)

فحسان الآداب والفقه والتا       ريخ قلدن منك بالأعناق

ومدى الطف يوم سجلت فيه            لحسين وآله والرفاق

صفحاتٍ من التبحر والتمــ              ــحيص تزري بأنفس الأعلاق(3)

في حسين وسوف تلقى حسيناً          وترى الحوض مترعاً والساقي

والنبي الكريم يمسح عن وجــ          ــه حسين من النجيع المراق(4)

وترى فاطم البتول وقد وا        سيتها في ظلال خير رواق(5)

فهي من خير ما ترجي عطاءً   وهي من شر ما تخاف الواقي(6)

هذه عندك الشفيع وما عنــ       ــد إلهي خير وأبقى البواقي

مستميحاً عطاء ربك أرخ        (رحت عبد الرزاق للرزاق)

1391هـ

***

_______________
(1) ألق الفكر: بريقه ولمعانه وتوقده. وروح الإيمان: ما فيه قوته وديمومته وحياته.

(2) حفت بك: أحاطت بك من كل جانب.

(3) التبحر: التعمق والتوسع والتبسط. والتمحيص: الاختبار. وتزري به: تعيبه وتضع من قيمته وتحقره أو تصنفه. والعلق: النفيس من كل شيء.

(4) النجيع المراق: الدم المسال.

(5) الرواق: بيت الشعر يحمل على عمود واحد طويل في وسطه أو سقيفة للدراسة في مسجد أو معبد أو غيرها.

(6) فهي تعطي خير عطاء يرتجى وتقي من الشرور المخوفة.

(487)

 

ويح الزمان

                                   للشيخ أحمد الوائلي

                                   النجف الأشرف

 

يا دمع ند الشعر عن خطراته           إم لم يوات له البيان فواته

إن كان عندك يا زمان مخبأ            مما ادخرت من الخطوب فهاتير

لم تبق في الدنيا يداك بقيةً        نخشى عليها الطرف في لذعاته

خطفت يد الحدثان فخر لداته            فرمت من التشريع خير حماته

وتعثر الدهر الظلوم فلا لعاً             أني وكيف يقال من عثراته

فطن يغوص على القلادة فاحصاً       عن عينها والهول في غوصاته

مرن يجوز من الوجود لبابه            متخيراً ويعف عن فضلاته

ويقول: إن كان اختطافي للورى        فعلاً يعد جريمة في ذاته

فلأحفظن فتىً إذا ظفرت به             كفي يموت الناس عند مماته

ولأتركن به السما مفجوعة             والأرض يلهبها زفير نعاته

ولأظمئن به نفوساً طالما         نهلت بفيض من غير هباته

ولأجرين به عيوناً آنست        بالمشرق الوضاح من قسماته

ولأخفضن به رقاباً أتلعت        تتشوف الجبار من عزماته

ولأرعمن به أنوفاً لم تزل        تستاف ريح المجد من نفحاته

هي عادتي إما أعود مطوقاً             أو عاطلاً كالسهم في رمياته

***

هتفوا فخفت للفؤاد أناملي        تتحسس الزفرات في آهاته

(488)

 

ولمست من قلبي البكاء بركضه        وبكاء قلب الحر في دفاته

وذهبت أشرق بالدموع سخية           يا من رأى الهتان في وكفاته

وعدوت للناعي أمد له يداً        لو تستطيع تحد من أصواته

ناعيه ما أقساك تهتف معلناً             أتراك أقسى من أكف رماته

سرقته كف الموت منا خلسة            ومضيت تهتف معلناً بوفاته

فخذ التصبر والسلو بل اختطف        حتى الفؤاد فليس غير فتاته

***

قالوا: القرائح احمدت ثوراتها          وغفا البيان على بليغ بناته

طعت الرزية فاللسان مكبل             قد ناب عنه الدمع في قطراته

ند الشعور فما القريض بقادرٍ           إما أطل الخطب من ربواته

فهئت من هذي المقالة ساخراً           وعجبت كيف تعللوا في هاته

فالخطب لا يهب الأديب قريحة         إلا إذا التهبت على سعراته

أنسيتم الخنساء كيف أعارها            وقد المصاب أرن قياراته

فمضت تمج الشعر ألهبه الجوى        وأذاب روح الفن في كلماته

والشعر كل الشعر ما قد خططت       نار الأسى والحزن تفعيلاته

***

في الكوفة الحمراء يرقد وادعاً         بيت أقام الدين في غرفاته

بيت إذا ما رمت مني وصفه            فالعدل والتوحيد بعض صفاته

ما نمق الساج المطعم بابه       كلا ولا التكليس في شرفاته

ما فيه روض يزدهي فينانه             صدحت صنوف الطير في شجراته

بيت قصارى ما يضم فناؤه             رفاً تقيم الكتب في جنباته

(498)

 

وأثاب بيتٍ إن سألت صفاتها           سل عنه سلماناً وتأثيثاتته

لكن على أعتابه هجع التقى             وثوى الإباء المر في ساحاته

فعليه من ياسين أوسمة العلا            ومن الرضا الايمان في جنباته

***

بيت إذا هدأ السمير وأولع الصــ        ــصب الطروب يصب في كاساته

وتغابق الندمان صرف شمولهم         يردون حتى الصبح من لذاته

عكف الرضا فيه على محرابه          وعلى الكتاب يعب من آياته

ومضى يعاقره الوعيد تارة             ما واعد الرحمن في جناته

حتى إذا ما الفجر مج لعابه             وأتى الصباح يرف في راياته

جل عن ابن علاً يفيض سماحة         أين الفرات السمح عند فراته

ندب توزع للسجاجة والتقى             والندب بين صلاته وصلاته

***

ويحا لزمان أما يكف عرامة            من غيه ويحد من نزواته

حين من الأعوام كان خلالها            متوثباً كالصل في رعشاته

اضمامة كانت تعبق بالدنا        وكواكب للبدر من أخواته

كانت من الدين الحنيف وشرعه        بمكانة كالروح من خلحاته

رفعت بضبع الفقه حتى ناطحت        فيه السحاب وماس في حبراته

كان الرضا منها أغن خميلة            ومن الزمان الفذ في حسناته

سل عنه أقطاب العلوم وعصرها       فالفن لا يدريه غير هواته

شح الزمان به فغاب وما درى الـــ            ــــمغرور أن حياته بحياته

***

(490)

 

أأخا الرضا المفضال ما أنا شاعر             هز الندي بديع ايحاءاته

والجرح قد عبر النصاب وما أرى            قلمي الهزيل يكون بعض اساته

والشعر لا يضفي عليك تعلة            عمن فقدت ولست بعض غواته

لكنها حمم تحشد في الحشا       طفح اللسنا بها على علاته

آنست فيك عن الرضا خلفاً به          يتمجد التاريخ عند رواته

خلق كما رق الشباب نضارةً           وتقىً جلال العلم بعض سماته

***

ولأنت يا حسن الخلائق صورة         تحكي الرضا في كل تفصيلاته

يا نبعة صقل الكمال رداءها            فتطلعت للعلم في مشكاته

بك الرضا كم من أمانٍ حلوة                   سيحقق الرحمن امنياته

***

(491)

 

أفدنا يا حكيم

 

صوت مسيحي يتعالى في سماء لندن يهتف بحقيقةٍ أجمع المسلمون على تقديسها؛ فلا بدع إذا هيمنت على إحساس الشاعر جرجس كنعان فانبرى يفيض بروح تقدس الحقائق، وقد تخلص في آخرها بالولاء للحجة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين الذي أقام صرح المدارس (الجعفرية) في صور. (البيان)

بـــــــربك ما اســـــــتفدت مـن الحـــــــياة           وقد عـــــــالجت أدهـــــــى المعـــــضلات

أهـــــــذي المـــــــكرمات الغر تمســـــــي           بجـــــــهد الـــــــحي مــــــن نهب الممات؟

عقـــــــود الـــــــعمر مضمار التفانـــــــي           ومـــــــا عـــــــمر بكـــــــف الـــــــغانيات

لعـــــــمرك انمـــــــا العـــــــلماء حـــــــقاً           مصـــــــابيح الـــــــهدى فــــــي الحالكات

ومـــــــا يـــــــبق جهـــــــاد العــــــيش إلا           وميضـــــــاً فـــــــي سحـــــــاب الذكريات

***

تـــــــباركت الحـــــــياة ومـــــا عليـــــــها           مـــــــن العـــــــلم المنـــــــور بالهــــــــداة

لنـــــــعم هـــــــداية جـــــلت الدياجـــــــي           عـــــــن الأوهـــــــام فـــــــي المــتسكعات

ونـــــــعم الـــــــدرس فـــــــي دهم الليالي           يـــــــفتح مـــــــن صنـــــــوف المـــغلقات

ومـــــــا رفـــــــع الـــــــمذلة غيـــــر علمٍ           بـــــــرأيٍ نـــــــيرٍ فـــــــي الـــــــنائـــبات

ويـــــــفنى مـــــــا علـــــــيها غيــــر ذهنٍ           يـــــــزان بـــــــنور رب الـــــــمكرمـــات

***

أفـــــــدنا يـــــــا حكـــــــيم وقـــــــد تجلت           لعيـــــــنيك المـــــــشاكـــل واضـــــــحات

أيبـــــــق الـــــــظلم فيـــــــنا مســـــــبطراً           تصـــــــرف أمـــــــره كـــــــف الطــــغاة

أيـــــــبقــــى البغـــــــي داءً لا يـــــــداوى           وقـــــــد      كثرت عباقــــــــــــرة الأساة

(492)

 

أيـــــــسعى عامـــــــل ليـــــــنال بــــــــاغٍ           تدهـــــــرى فـــــــي اللـــــــيالي الغابرات

ويحـــــــرق عالـــــــم ذهـــــــناً بـــــــجهدٍ           لينـــــــعم جـــــــاهـــــــل بـــالطـــــــيبات

***

أفـــــــدنا يـــــــا حكـــــــيــم خـــــــلاك ذم          وقـــــــد كـــــــثرت فنـــــــون المــشكلات

إذا مـــــــا لـــــــم يـكن في العلم مـــــــلحاً           لـدى الأزمـــــــات والمـــــــتحرجـــــــات

إذا مـــــــا لـــــــم يـــــــكن فـي الدين عوذ           لنـــــــا عـــــــند الرزايـــــــا المهلـــــكات

إذا مـــــــا لـــــــم يـــــــكن بالجـــهد عون           على خـــــــوض البحـــــــور الزاخـــرات

إذا مـــــــا لـــــــم يـــــــكن بشـــــيوخ علمٍ           رجـــــــاء فالـــــــسلام علـــــــى الحيــــاة

***

يقيـــــــم الحـــــــي للمـــــــوتـــــــى بعدلٍ           مآتـــــــم كالنجـــــــوم الـــــــزاهـــــــرات

وتـــــــهراق الـــــــمدامع مــــحرقـــــــاتٍ           تـــــــروي الذكـــــــريــــات الذاكـــــــيات

وتـــــــغرب شمـــــــسهم فـــــإذا ســـــــلو           يريـــــــن عـــــــلى الكـــلوم الجـــــــالبات

لعـــــــمر الحـــــــق مـــا تلك المآســـــــي           ســـــــوى دنيا الفـــــــتون المــبرقـــــــات

فـــــــمن لـــــــي بالحــــــقيقة سحف دجنٍ           يـــــــزاح عـــــــن العـــــــيون المبصرات

ألـــــــيس المـــــــوت غـــــــاية كـــل حي           لحـــــــلبة ضـــــــامرات الـــــــصافنـــات

وكاشـــــــف كـــــــل حجـــــــب عن مخباً           ومســـــــتحـــــــلي الفعـــــــال البــاهرات

وكـــــــم فـــــــأضلٍ يكشـــــــفه حـــــــمام           ككـــــــشف اللـــــــيل زهـــــــر النـــيرات

وخيـــــــر الفــــــضل ما يبـــــــدو جـهاداً           ولا يـــــــحـــــــتاج آيـــــــاً بـــــيـــــــنات

***

فــــإن فـــــــقد العـــــــيا لم طـــــــود علمٍ           ففـــــــي البـــــــاقي مـــــــلاذ للعـــــــفــاة

لـــنا الـــــــمولى المرجـــــــى للرزايـــــــا          وجمـــــــاع المـــــــآتي الصـــــــالحــــات

له المـــــــاضي الوضـــــــيء وأي ماضٍ           يـــــــزان بحـــــــاضـــــــر الأعمـــال آت

(493)

 

تقريظ كتاب وضوء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

 

قــــــــرأت كــــــــتاب وضــــــــوء النبي            فأشـــــــرق قلـــــــبي بـــــــنور النـــــــبي

وامعنــــــــت فــــــــي قــــــــلم مـــــــبدع           وفكـــــــر بــابعـــــــاده مـــــــخصـــــــب

نــــــــحط مــــــــدى فـــــــي مسار الدليل           يـــــــؤدي بـــــــه لمـــــــدى ارحـــــــــب

ترســــــــم بــــــــالدرب آل الرســــــــول            ولـــــــم يـــــــترسم خـــــــطى الأجــــنبي

اولـــــــئـــــك قـــــــوم إذا حـــــــدثـــــــوا           فـــــــمن كـــــــوكب قـــــــال عــن كوكب

وعـــــــن جـــــــبرئيل ووحـــــــي السماء           فـــلله مـــــــن اوثـــــــــــق اصــــــــــوب

فمـــــــن قـــــــاس اولاء فـــــــي غــيرهم           فـــــــذاك لعمـــــــري قـــــــياس غبــــــي

ومن كـــــــتب العـــــــلم عـــــــن أهلـــــه           فـــــــذاك وإلا فلـــــــم يــــــكـــــــتـــــــب

فـــــــيا من أتى الـــــــعذب المســـــــتساغ           علـــــــى عطـــــــش ثـــــم لم يـــــــشرب

إذا أنـــــــت عفـــــت الهنيء المـــــــريء           فمـــــــا ثـــــــم إلا الـــــــوبيل الـــــــوبـي

تـــــــيمم كـــــــما رمــــــت شتى الدروب           علـــــــى الـــــــسنن الواضـــــــح الألحب

فـــــــهذا جنـــــــاناً وفـــــــيه الـــــــخيـار           ينـــــــوق إلـــــــى الأطـــــــهر الأطــــيب

***

                                                                                                أحمد الوائلي

                                                                                         دمشق 10/11/1955

(494)

 

خيال الماضي

 

                                                              أحمد الوائلي

يد يتعرض الإنسان لواقع يقسو عليه ويجرده مما كان ينعم به لسبب أو آخر فيهرب من هذا الواقع ويستجير بأيام ذاهبة أو أضواء مفترضة ينزع إليها وجدانه وهذا ما تصوره هذه الأبيات بالاضافة إلى ضمائم تدور حول الموضوع ولكنها تنزع إلى نشدان الأفضل.

يا حديث الأمس يا غــزل        يا حــــكايا كلــــها عـــسل

يــــا خيــــالات مجــــنحة        في زوايا الذهـن تحتفــــل

أنــا من حري أفيء لهــــا       فتغشــــيني بــــها ظلـــــل

وبأهــــدابي لغــــابرهــــا        ألــــق أطيــــافـــه شهــــل

ومــــن الايقـــاع ذبذبــــة        في قـــنات السمع تنتــــقل

حــملت من كل ســــاجعة        فهي للأمــــراض مختزل

يتغــــشاني الشـــــباب بها       عنــــدما بالأمـــس اتصل

فــــكأني استـــــعيد بهــــا        مطلعاً يهــــفو لـــه الطفل

مـر أحلاماً وكم رحــــلت        صبوة فــي إثر من رحلوا

يــــا لوجــدي مر بي وأنا        فــــي يــبيس ما بــــه بلل

ولــــئن كان الــــشباب به        كلــــشيء ضاحك جــــذل

حــــلم ما طــــال شــــيقه        ومــــسير المـــشتى عجل

فتهاوى الصرح شاهقــــه        فـــتبــــقى بــــعده طــــلل

يــــا لــــباناتٍ على عجلٍ        ذهبـت لا بـورك العــــجل

ما تزال النفس عاطــــشة        وأمـــام العيــــس مقتبــــل

 

(495)

والدوالي في عــــضارتها        والهوى في كرنـها ثــــمل

ورشيش الشوق ملتــــهب        وإن اشتشرى بــــه خـجل

وبثغـــر الحــــب أغــــنية       بالشفــــاه اللـــعس ترتجل

وبــــأعمــــاقي لنغــــمتها        صبــــوات الأمــس تبتهل

يا فؤادي جف مرتــــضع        وذوى فــــي يـنعه خضل

وان اشــــتد الضـما بفمي        جئــــت للاصــــداء انتهل

يـــا ليالي العمر معــــذرة        رب غــــال راح يــــبتذل

موطن الغالي النفيس لدى        سفط للحــــفظ لا الزبــــل

قـــــد اضعنا منك صاعدةً        بين من هانوا ومن نزلــوا

ومــــراض فـــي خلائقهم        تفــــتك الأمراض والعـلل

كـــل شيء في حــــسابهم        فرصــــة للـــنفع تهتبــــل

فهــــم الأشــــواق عـامرةٌ        بــــجراح الـــشعب تعتمل

ورمـت فيــــهم ذواتهــــم        فهــــم مــــن حجــمها قلل

أي رأي غــــير رأيـــــهم        تــــافه في رأيهم خــــطل

لا علـوم غــــير ما حملوا        او صوابٌ غـــير ما فعلوا

يا لثـــكل العــــقل في نفر        غير ذاك العقل ما ثكــــلوا

غـــــرهم زعــــم بأنــــهم        دون شــــك للســـما رسل

هــــو وهــــم مــــغفلـــهم        وهو في موهوبهم دجــــل

يا حماة الــــدار يــــا مثلاً        ما له من جنســــه مــــثـل

ليــــس في قاموسه ابــــداً        كــــتلة لــــكنـــــها كتــــل

لا ولا في ذهنــــه هــدف        تــــتلاقى عـــنده الــــسبل

(496)

 

انــــه فــي شوطه فــــرق        بعضها بالبعض ينـــتضل

واجتــــهادات مــــكهــربة       إن دنت من بعض تشتـغل

وبهم سنــــخ مصيـــــبتهم        إنهم من عــــركة جبــــلوا

فــــإذا مــا لم يجد أحــــداً        مــــع جـــيب الثوب يقتتل

هو ذئب فــــي مـــلا سنة        وهــو ان جد الوغى حمل

لــــعنت فـــي فعلها فــــئة       تخلـــق البلوى وتعــــتزل

زادهم شــــتم فــهم ثــــلل        تتــــقرى لحــــمها ثـــــلل

وفــــريق هامـش سمــــج        لو بــــه يــستأثر الأجــــل

ليس في أفكــــاره وطـــن        ذات يــــوم فــــيه يـنشغل

مــــا له طــــعم ورائـــحةً       او صفاتٍ بل هو الهمـــل

عمــــره دنـــيا غــــرائزه        والبــــواقي كلــــها هـــبل

مــــاله والــــمأس مترعةً        ان اقصى حظــــه الوشـل

خــمة الصــــقر الــــنجوم       وللبعر أقصى همه الجعل

مــــعشر هذي شرائــــحه        أيــــن مــــن آفــاقه العمل

ومحــــال بالــــقياس بـأن        يتــــساوى الـــجد والهزل

أيها الشعب اللذي بفمــــي        وبــــأعمــــاقي لــــه نزل

يتغشاني هــــوى وجـوى         فــــأغنــــيه وأنــــفــــعــل

يا حمــــول العبء يا تعباً        يــا أكــــفاً كلــــها مــــجل

يـــا خوام الطيبات لمــــن        شاء وهــو الخبز والبصل

يا همــــوماً مــــا لـكثرتها       من نهــــايات لها تصــــل

سحـــــب ســــود ملبــــدة        مــــرزمات وابــلها مطل

(497)

 

يا ترى أين المصير وقــد        ضاق فيك الـسهل والجبل

إنــــما قد سلــــحوقك بــه        ليــــس فيــــه وحده الأمل

الـوغى البارود حاجــــتها       لا ابــــتهالات ولا زجـــل

ورجــــال فــــي مـدافعهم        تكتب الأفكــــحار والجمل

إن دنيــا الغاب من قــــدم        شرعها الأنيـــاب لا المثل

الســــما ملــــك الصــقور        وما ملكت أبعـادها الحجل

ولعدهية في حلش وغـــى        بــــمثار النــــقع يكتــــحل

فلماذا اللاهبــــات خـــبت        ولــــماذا استـــنوق الجمل

سر فإمــــا الموت تكرعه        وعلــــيك الحــــمد ينـهمل

او إلــــى ظهرٍ لجــــانحةٍ        يمتطيه الــفارس البــــطل

هــــذه انغـــام حشرجــــةً        لــــجريح أهــــله قــــــتلوا

حملت أمر الجــــراح لمن       أعرضوا والجرح يمتـــثل

***

                                                                                   مفكر إسلامي وعميد المنبر الحسيني

(498)

 

أبو القاسم الخوئي

                                                                     أحمد الوائلي

أبـــــــــا (الأوصــــــياء) عزاءً بـــــــــمن           أذاب الفـــــــــؤاد وأجـــــــــرى الــــعيون

(أبـــــــــو الــــقاسم) الفذ من لـــــــــج فيه           وأطـــــــــنب فـــــــــي نــــــعته العارفون

أبـو (الحوزة) الـــــــــمبدع العـــــــــبقري           المـــــــــجد إذا تـــــــــعب الــــــــسائرون

أفاض فـــــــــأغنى جـــــــــميع الــــــعلوم           وأعـــــــــى فأرضـــــــــى لـــــكل الفنون

وللـــــــــنجف الأشـــــــــراف الـــمشرأب           عزائـــــــــي، وإن فاجـــــــــأته الــــمنون

وغالت كـــــــــواكبه الـــــــــلامــــــــعات           غوائـــــــــل والـــــــــتهمتها الــــــــسجون

ومـــــــــهلاً فـــــــــليس يـــموت (الغري)           الـــــــــسري وإن أرجـــــــــف المرجفون

ســـــــــيبق ويـــــــــبق بـــــــــأبنـــــــــائه          المـــــــــعاجز يـــــــــلقف ما يأفــــــــكون

***

(499)

 

 

(500)