|
|
ميزان حسناتك حتى تدخل الجنّة بفضل الله تعالى ولا تجدها ، ولا يسمح بها عليك أبوك وأمّك وأولادك الذين فديتهم بعمرك ومالك ، بل ودينك «يَومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون» هذا .
ولا يذهب عليك أنّ ذكر هذه المثوبات الواردة في الأخبار لهذه العبادات ليس كما توهّم سبباً لعدم تأتّي نيّة أهل الفضل من كونه تعالى أهلاً للعبادة أو عدم الفائدة لأهل هذه النيّة ، لأنّ تعيّن المثوبات إنّما يكشف عن درجة محبوبيّته عند الله فتقوى نيّة العمل ولو لا لهذه المثوبات بل لكونه أحبّ إلى الله فيكون إتيان محبوبه أيضاً لكونه أهلاً له .
ومن مهمّات الأعمال في هذا الشهر الأذكار والدعوات الواردة .
منها : أن يقول في تمام الشهر ألف مرّة : «أستغفر الله ذا الجلال والإكرام من جميع الذنوب والآثام» روى الصدوق عليه الرحمة أنّه من قال ذلك في رجب ألف مرّة قال الله تعالى إن لم أغفر لست بربّكم لست بربّكم لست بربّكم .
ومنها : أن يقرأ (سورة) التوحيد في تمام الشهر عشرة آلاف مرّة .
ورود أيضاً ألف مرّة وروي أنّه من قرأها ألف مرّة جاء يوم القيامة بعمل ألف نبيّ وألف ملك ، ولم يكن أحد أقرب إلى الله منه إلا من زاد عليه ، وإنّها لتضاعف في رجب .
وفي رواية أخرى أنّ من قرأها في رجب مائة مرّة بنى الله له اثنا عشر قصراً في الجنّة مكلّلة بالدر والياقوت ، وكتب الله (له) ألف حسنة ثم يقول : اذهبوا بعبدي فأروه ما أعددت له فيأتيه عشرة آلاف قهرمان ، وهم الذين وكّلوا بمساكنه في الجنّة فيفتحون له ألف ألف قصر من درّ . وألف ألف قصر من
ياقوت أحمر كلّها مكلّلة بالدرّ والياقوت والحليّ والحلل ، ما يعجز عنه الواصفون ، ولا يحيط بها إلا الله تعالى ، فإذا رآها دهش وقال : هذا لمن من الأنبياء ؟ فيقال هذا لك بقراءتك «قل هو الله أحد» .
ومنها : أن يهلّل فيه كلّه ألف مرّة ، وورد أنّه من قال ذلك كتب الله له مائة ألف حسنة ، بنى له مائة قصر في الجنّة .
ومنها : أن يقول فيه كلّه ألف مّرة «لا إله إلا الله» روي أنّه من قاله فيه كتب له [مائة] ألف حسنة وبنى له [مائة] مدينة في الجنة .
ومنها : أن يقول فيه كلّه مائة مرّة : «أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأتوب إليه» . و(إذا) ختمها بالصدقة ختم الله له بالرحمة والمغفرة ، ومن قالها أربعمائة مرّة كتب الله له أجر مائة شهيد .
ومنها : أن يجعل ذكر سجوده في الشهر كلّه : «عَظُمَ الذنبُ من عبدك ، فَليَحسُنِ العفوُ من عندكَ» تأسّياً بعليِّ بن الحسين عليه السلام .
ومنها : أن يقول في الصباح والمساء في وفي دبر كلّ صلاة : «يا من أرجوه لِكُلِّ خيرٍ وآمَنُ سَخَطهُ عند كلِّ شَرّ ، يا مَن يُعطي الكثيرَ بالقَليلِ ، يا مَن يُعطي مَن سَألهُ يا مَن يُعطي مَن لَم يَسألهُ ومَن لَم يَعرِفهُ تَحَنُّناً منهُ ورحمة أعطِني بمسألتي إيّاكَ جميعَ خيرِ الدنيا وجميعَ خيرِ الآخرةِ ، واصرِف عنّي بمسألتي إيّاكَ جميع شرّ الدنيا وشرِّ الآخرةِ ، فإنّهُ غير منقوصٍ ما أعطيتَ وزدني من فضلِك يا كريم» ثمّ يقبض لحيته بيده اليسرى ويلوي بسبابته اليمنى ويبكي ثمّ يقول :
«يا ذا الجلالِ والإكرامِ ، يا ذا النعماءِ والجودِ ، يا ذا المَنِّ والطّولِ حرِّم شَيبَتي على النار» .
أقول : لا تغفل أنّك تقول في أوّل هذا الدعاء إنّك ترجو الله لكلّ خير ، وتأمن سخطه عند كلّ شر ، ومن بعض هذا السخط مكر الله ، والحال أنّ الأمن من مكر الله من المعاصي الكبيرة ، فليكن قصدك من هذه العبارة بشرط التوبة فكأنّك تقول : أمن جعل لعباده طريقاً إذا سلكوه أمنوا من سخطه ، وهو التوبة ، وهذا ليس أمناً فعلياً من مكر الله وكذا قولك : «أرجوه لكلّ خير» فكأنّك تقول : يا من جعل لعباده طريقاً إذا سلكوه وفتح لهم باباً إذا دخلوا منه نالوا به كلّ خير يريدونه وهو الدعاء .
ثمّ إنّك لو تدبّرت في قولك : أعطني جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة ، بتكرار لفظ الجميع في المعطوف وفي قولك : واصرف عنّي جميع شرّ الدنيا وشرّ الآخرة ، بلا إعادة لفظ الجميع لعلّك تتفطّن أنّ في تغيير الأسلوب إشارة إلى أنّ الشر عبارة عن أمر عدميّ ، وهو البعد عن رحمة الله ، والحرمان من روح الله ، لكنّ الخير من جهة كونه أمراً وجودياً فكأنّه أنواع لا نهاية لعددها ، وأمّا ذكر لفظ الجميع في شرّ الدنيا فكأنّه أيضاً لأجل عدم انكشاف هذا المعنى في شرور الدنيا لعامّة أهلها بخلاف الآخرة .
فإذا تقرّر ذلك فاعلم أنّك لا تنال لخير الدعاء وإجابته كمالاً إلا إذا اتّصف سرُّك وروحك وقلبك بصفات الدعاء والاتّصاف بصفاته عبارة عن أن يكون المنشئ بالدعاء سرّك وروحك وقلبك ، مثلاً إذا قلت : أرجوك لكلّ خير ، تكون راجياً الله بسرّك وروحك وقلبك ، ولكلّ منها آثار فلتظهر آثاره في عملك ، فمن تحقّق الرجاء في سرّه وحقيقته ، فكأنّه يصير رجاءً كلّه ، ومن كان ذلك في روحه فكأنّه يكون حياته بالرجاء ، ومن كان راجياً بقلبه تكون أعماله التي يصدرها عن قصد واختيار ملازماً للرجاء ، فاحذر أن لا يوجد في شيء من شؤونك شيء من الرجاء .
واعتبر ذلك من أعمالك ، فانظر هل ترى في حركاتك أثر الرجاء وهو الطلب أم لا ؟ أما سمعت قول المعصوم عليه السلام من رجا شيئاً طلبه ، وهو كذلك لأنّك ترى في أحوالك الراجين من أهل الدنيا في الأمور الدنيويّة أنّهم إذا رجوا خيراً من أحد أو شيئاً طلبوه من هذا الشخص ومن هذا الشيء الذي رجوه فيه بقدر رجائهم ، ألا ترى أنّ التاجر لا يفارق تجارته ، والصانع ملازم لصناعته فذلك كلّه من جهة أنّهم يرجون الخير في التجارة والصنعة ، وهكذا كلّ فرقة يطلبون ما يرجونه فيما يرجونه ولا يفارقونه حتى ينالوا به إلا راجي الجنّة والآخرة وإلا راجي فضل الله وكرامته غالباً ، هيهات هيهات هذه الآثار للصفات ممّا حكم به الله الحكيم ، ولا ترى تغيّراً لسنّة الله ، ولكنّ التخلّف في اشتباه الدعوى بالحقيقة وإلا فلا يوجد ذرّة من الرجاء وعنده مثله من الطلب وهكذا ، وهذا .
وقس على الرجاء غيره من مطالب الدعاء من التسبيح ، والتهليل ، والتحميد والتضرّع والاستكانة ، والاستغفار ، والتوبة ، فإنّ كل ذلك له حقائق ودعاوى ، فالأثر للحقيقة ، ولا خلف ، مثلاً إذا كنت بسرّك وروحك وقلبك منزّهاً لله تعالى عن النقائض ، فكيف لا تأمن وعده في أمر رزقك وقد ضمن لك ، وإذا كنت منزّهاً له من أن يكون له شريك في ملكه ، فكيف تخاف غيره في طاعته ولا تخافه في طاعة الغير بمعصيته ؟
بل لو كنت عارفاً بحقّ المعرفة أنّ الله يسمع دعاءك ، ويرى باطنك كما يرى ظاهرك ، وأنت بين يديه مسخّر مربوب وهو يفعل ما يشاء بك ، من ثوابك وعقابك ، ونجاتك وهلاكك ، وقبولك وردّك ، فلا أقلّ من أن تهابه أن تشافهه في حضروه بالكذب والفرية ، والدعاوي الباطلة ، فالمظهر لمراسم العبودية صورة لا باطناً إذا كان (خلوّ) الباطن معلوماً للطرفين يسمّى مستهزئاً عند أهل
العرف ، لكن واقع الأمر في الأغلب ليس كذلك ، لأنّ خلوّ الباطن عن مراسم العبوديّة وحقائقها ليس معلوماً للعبد بل هو يرى أنّ عبادته حقيقيّة وليست بصوريّة ، وهو مغرور ، بذلك يخرج عن المستهزئين ولكنّه يدخل في «الأخسرين أعمالاً * الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يُحسِنون صُنعاً» (الكهف : 103 ـ 104) .
ومن جملة أدعية كلّ يوم ما رواه في «الإقبال» عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال في جواب معلّى ـ إذ سأله أن يعلّمه دعاءً يجمع كلّ ما أودعته الشيعة في كتبها ـ قل : يا معلّى : «اللهمّ إنّي أسألُك صَبرَ الشاكرين لَكَ» إلخ .
ومنها : ما رواه أيضاً عن الشيخ في أدعية كلّ يوم منه وهو : «يا من يملك حوائج السائلين» .
ومنها : ما رواه أيضاً بإسناده عمّا كتب حر بن عبد الله عن التوقيع المبارك :
بسم الله الرحمن الرحيم ، ادع كلّ يوم من رجب : «اللهم إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك إلخ .... ، وهو دعاء عالي المضامين يفتح منه أبواب من العلم لأهله .
ومن مهمّات الدعاء ، الدعاء الذي قرأه إمامنا وسيّدنا أرواحنا وأرواح العالمين فداه وعليه صلوات الله في مسجد صعصعة على رواية الشيخ وهو دعاء جليل أوله «اللهم يا ذا المنن السابغة» .
ومنها : أيضاً دعاء رواه ابن [أبي] عيّاش على ما في «الإقبال» عن التوقيع المبارك (أوّله) : «اللهمّ إنّي أسألك بالمولودين في رجب» .
ومن المهمات في أعمال رجب زيارة الحسين عليه السلام في أوّله ووسطه .
أمّا الصلوات الواردة في لياليها ، الأولى أن لا يترك رأساً فيصلّي الصلوات الخفيفة التي لا تستغرق وقته ، فيمنعه عن سائر أوراده من العلم والعمل ، ويعمل السالك بهذا النوال إلى (الـ) أيّام البيض ، فيزيد في لياليها على قدر إقباله ونشاطه .
وإن صلّى فيها الصلاة التي رواها في «الإقبال» باسناده عن أحمد بن العيناء ، عن الصادق عليه السلام بـ «يس» وتبارك ، «قل هو الله أحد» ، ففيه فضل مرويٌّ .
وإن اقتصر على بعض الصلوات المختصرة المرويّة في الليلتين وصلّى في الخامسة عشرة ما رواه في «الإقبال» باسناده إلى الشيخ وهو باسناده إلى داود بن سرحان عن الصادق عليه السلام قال : تصلّي ليلة النصف من رجب اثنتي عشرة ركعة ، تقرأ في كل ركعة : الحمد وسورة ، فإذا فرغت من الصلاة قرأت بعد ذلك : الحمد ، المعوّذتين ، وسورة الإخلاص ، وآية الكرسي أربع مرّات وتقول بعد ذلك :
«سبحانَ الله والحمدُ لله ولا إله إلا الله والله أكبر» أربع مرّات ثمّ تقول : «الله الله رَبّي ولا أُشرِكُ بهِ شيئاً ما شاء الله ولا قُوّة إلا بالله العليّ العظيم» وإذا ساعده التوفيق يزيد لا محالة في الليلتين مقدار ورده من قيام الليل وصيام الأيام الثلاثة وإحياء ليلة النصف على ما وصفناه في إحياء الليلة الأولى على جهة المراقبة .
ويعرف تعظيم اليوم الثالث عشر من جهة أنّه يوم ولادة خاتم الأولياء ، وسيد الأوصياء ، أخ الرسول ، وزوج البتول ، وسيف الله المسلول ، أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، فإنّ لهذا اليوم في حكم العقل لشأناً من الشأن يقصر عنه البيان والتقرير ويكلّ عنه اللسان والتحرير ، فإنّ ما ظهر في
هذا اليوم ونزل على وجه الأرض من نور ولاية خاتم الأولياء الذي هو شرط الإيمان وركنه ، بل روحه ونفسه ، والذي هو كالجزء الأخير للعلّة التامّة من الإيمان والإسلام نعمة لا تقدّر قدرها بهذه العقول لأنّها لا تحيط بما أعدّ الله لأهل الولاية والإيمان من النور والكرامة ، ودرجات القرب في دار المقامة ، وبهجات لذّة اللقاء ، ومجاورة أهل الملأ الأعلى ، وجملة نعيم دار البقاء ، وكلّها مترتّبة على أصل الإيمان وهو ركنه الأعظم .
وأيضاً لو لم يكن سيف أمير المؤمنين وقد نصر الله الإسلام بسيفه لأباد أهل الكفر المسلمين وما قام للإسلام من دعامة ، فاذكر ما فعل يوم بدر وحنين ، وتفكّر في قول الرسول الصادق الأمين في يوم الخندق حيث قال : «برز الإسلام كلّه إلى الكفر كلّه» وبالجملة فضائل أمير المؤمنين أخفاها الوليّ تقيّة والعدوّ ضنّة ، فمع ذلك انتشر منه ما ملأ الخافقين .
وهو النبأ العظيم ، والصراط المستقيم .
وهو إمام المسلمين وأمير المؤمنين ، ووصيّ رسول رب العالمين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، ونور الله المبين ، وباب حطّة رب العالمين ، وجنب الله في خلقه ، ووجهه في أوليائه أجمعين .
وهو العلم العلاّم ، والبحر القمقام ، وكاسر الأصنام ، وفلاّق الهامّ ، ونور الله التامّ . هو مبيد الكفّار ، وقاصم الفجّار ، ومعدن الأسرار ، ونور الأنوار ، والمولود في البيت ذي الأستار .
وهو الأصل القديم ، والفرع الكريم ، والإمام الحليم .
وهو حبل الله المتين وجنبه المكين ، وقيّم الدين .
وهو صاحب الدلالات ، والآيات الباهرات ، والمعجزات القاهرات
الزاهرات ، والمنجي من الهلكات الذي ذكره الله في محكم الآيات فقال تعالى : «وإنّه في أُمّ الكتابِ لَدَينا لَعَليٌّ حَكيم» (الزخرف : 4) .
وهو صنو الرسول ، وزوج البتول ، وسيف الله المسلول .
وهو عين الله الناظرة ويده الباسطة ، وأُذنه الواعية .
وهو المعصوم من الزلل ، والمهذّب من الخلل ، المطهّر من العيب ، والمهذّب من الريب . أخو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصيّه ، والبائت على فراشه والمواسي له بنفسه ، وكاشف الكرب عن وجهه الذي جعله الله سيفاً لنبوّته ، وآيةً لرسالته ، وشاهداً على أُمته ، وحاملاً لرايته ، ووقايةً لمهجته ، وتاجاً لرأسه ، وباباً لسرّه ، ومفتاحاً لظفره .
وهو اسم الله الأعظم ، والقرآن الأكرم ، والبيت الحرام ، وصفا وزمزم ، وصاحب العصا والميسم .
وهو مظهر العجائب ، ومظهر الغرائب ، والشهاب الثاقب ، ومفرّق الكتائب ، ونقطة دائرة المطالب .
وهو أبو الأئمة ، ومحيي السنّة ، وكاشف الغمّة ، وسيّد الأُمّة ، وسني الهمّة .
وهو صاحب الاجتباء ، والمخصوص بالإخاء ، وخامس أصحاب الكساء ، وحامل اللواء والنقطة تحت الباء ، وصاحب الأنبياء .
وهو معلّم جبرائيل ، وأمير ميكائيل ، حاكم عزرائيل .
وهو قاسم طوبى وسقر ، وأبو شبير وشبّر .
وهو سيّد البشر ، ومن أبى فقد كفر .
وهو ملاذ اللائذين ، وغياث المضطرّين ، والحاكم يوم الدين ، وحبيب إله العالمين ، وحجّة الله على الأوّلين والآخرين ، وحياة العالمين ، وضياء العالمين ، أمير المؤمنين .
وهو سرّ الأسرار ، ونور الأنوار ، وإمام الأطهار ، ووليّ الجبّار ، نعمة الله على الأبرار ، ونقمته على الفجّار .
وهو جنب الله العليّ ، ووجهه المضيء ونفسه الوفيّ ، الإمام أبو الحسن عليّ .
فلأوليائه أن يعتقدوا ليوم ولادته كلّ شرف ، ويجعلوه العيد الأكبر ، ويشكروا الله جلّ جلاله شكراً لم يشكر مثله أحد من الأمم الماضية ، والقرون السالفة ، لأنّ هذه النعمة لم تنزل إليهم قطّ ، ولشيعته أن يستقبلوا هذا اليوم بشكر (ليس) دونه شكر لأنّه أتى بنعمة صغرت عندها كلّ النعم .
اعلم أنّ الإنسان إذا عزل العقل عن الحكم ، فلا حكم لشيء ، ولا ترجيح ولا تكليف فأمره أمر البهائم يأكل ويتمتّع ويروث ويبول ، حتّى يأتيه الموت ، وأمّا إذا جعل العقل حاكماً في حركاته وسكناته فله بالنسبة إلى كلّ ما في الوجود حكم فعليٌّ أو تقديريّ بلا حيف ولا ميل ، ولا تعطيل في حكمه مقدار ذرّة ، كلّ ما ناله فهمه فله فيه حكم ، وكلّ ما لم يحط به أيضاً له حكم من هذه الجهة .
فإذا عقل العاقل أنّ سيّداً من أولياء الله قد صار سبباً لنجاته من عذاب وعقوبة ما ، له حكم بوجوب شكره بقدر هذه الفائدة .
فكيف إذا قطع بأنّ أمر العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد انجرّ إلى أن انطمست أنوار الهداية في بحر الضلالة ، وكسفت شموس الدين في ظلمات
الغواية ، وانخسفت أقمار الأديان في تيه الغماية ، وكسدت أسواق العلوم ، وفسد مزاج الحلوم ، حتى أقاموا سوقاً يفتخر أشرافهم فيه بصفات البهائم ، وعدّوا الكذب والدعاوى الباطلة من العظائم .
وانتهت أمر العالمين إلى أن خرطوا أخشاباً ، وصنعوا أحجاراً ، فعبدوها وجعلوها بمنزلة ربّ العالمين ، وخالق المخلوقين ، وسجدوا لها سجود العبادة ، ووضعوا لها مناسك عن وجه البلادة ، واستحقّوا بذلك هلاك الأبد وعذاب الخلد وشارفوا بكفرهم نار الجحيم ، والعذاب الأليم ، واستثاروا بالزَيغ والأهواء غضب الرحمن ، وسجروا بظلمهم وعميهم لظى النيران ، وكم من نار أوقدوها لقبورهم ؟ وكمن من ظلمة بدّلوها من نورهم ؟ وكم من ظُلَم سنّوها من جهلهم ، وأذيّة ابتلوا بها من حمقهم ؟
قد خرّبوا بظلمهم البلاد ، وهلكوا العباد ، واتّبعوا الشهوات ، وضيّعوا الصلوات ، أنكروا القربات ، ودفنوا البنات ، وهجروا الصلوات ، ونازعوا مالك المحيا والممات ، وخالفوا النبوّات ، واستحقّوا بذلك أسوأ الهلكات المرديات .
فبعث الله جلّ جلاله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم علماً للهداية ، وأنزل عليه الكتاب ، فدفع به الجهالات ، ونشر به الهدايات ، وأكمل به الكمالات ، وأَحيى به الصلوات ، وقمع به الضلالات ، فجمع به الحلوم ، وأكمل به العلوم ، وأتمّ به النور ، حتى أورى قبس القابس ، فأضاء به الطريق ، وسلك به السبيل ، قد جاء من الله نور وكتاب مبين «يَهدي به الله مَنِ اتّبع رضوانه سُبُلَ السَّلامِ ويُخرجُهُم مِنَ الظّلماتِ إلى النّورِ بإذنِهِ ويَهديهِم إلى صراطٍ مستقيم» (المائدة : 16) .
فشرع شريعة كاملة ، وأتى بحكمة بالغة ، حتّى بيّن لجميع حركات الإنسان وكلّ سكناته أحكاماً خاصّة روعي فيها أنواع الحكم والمصالح ،
وأوضح لأمّته كلّ ما يقرّبهم من الله والجنّة ، ويبعّدهم من النار ، حتى ارش الخدش ، ولم يترك شيئاً من الأشياء ، ولا حالاً من الحالات ، كليّةً أو جزئيّة ، شريفةً أو وضيعة ، كبيرةً أو صغيرة ، إلا ووضع لها أحكاماً مطابقة لحكم الله الحكيم تعالى لها ، بما اقتضته حكمته البالغة التي لا يبلغ كنهها عقول العقلاء ، وأوهام الحكماء ، حتّى جاء بشريعة تامّة ، كاملة جامعة لحكم الظاهر والباطن ، وسياسة الدين والدنيا .
حتّى بين لأخسّ حالات الإنسان ، وهو حال تخلّيه أحكاماً ومصالح ، وسبراً وأذكاراً ، ودعوات يحار فيه اللبيب ، ويبهر منه العقول ، ولم يسوِّ بين الدخول على المستراح في تقديم الرِجل ، وبين الخروج إلا حكم في الدخول بتقديم اليسرى لأنّه دخول على ما يناسب اليسرى ، وفي الخروج بتقديم اليمنى لأنّه خروج من الأخسّ وهو يناسب الأيمن .
وبالجملة انتشر في زمانه وزمن أوصيائه من العلوم ما يملأ الخافقين ، من علم الفقه ، وعلم الأخلاق والمعارف ، وأكمل الحكمة في أمّته في زمان قليل بما لم تبلغه حكمة القدماء في أزمنتهم الطويلة .
وبالجملة جاء بشريعة وحكمة ونور يوصل بها العالمين في مدّة أعمالهم القصيرة إلى أقصى درجات الكمال ، وأبهى بهجات الوصال ، من الله ذي الجلال .
وبالجملة إذا عرف الإنسان من عظمة مقدار نعمة البعثة ما عرفت وإن كان لا يبلغ ما ذكرناه قطرة من (بحار) حقائقها وعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخاً ووزيراً بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعده ، وكان باب مدينة علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان أمر الإسلام قائماً بسيفه ، وأمر الهداية دائراً بتعليمه ، جعله الله بمنزلة نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه ، وجعل ولايته
ركناً للإسلام ، شرطاً في الإيمان ، يعرف بذلك نبذة من عظمة شأن هذا اليوم ، ويشمّ رائحة من علوّ مقامه ، فبقدر معرفة النعمة يجب شكرها ، ومن شكرها تعظيم اليوم بالقلب والروح ، ومن عظم في نفسه مكانة زمان ، أو شرافة مكان ، فلا بدّ أن يعامله معاملة بقدر شرفه ، وأوّل ذلك أن لا يضيّعه ولا يتركه معطّلاً ، بل يصرفه بكلّ ما يعتقد شرفه ، ولا شرف فوق شرف الإخلاص لله تعالى في العبادة من الصوم والصلاة والانفاق في سبيل الله ، وتعظيم حرمات الله ، وتكريم شعائر الله ، والتزيّن بالذكر والفكر في الباطن ، والفرح والسرور في البشرة ، واللباس النظيف في الملبس .
وزيارته عليه السلام والتهنئة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللأئمة عموماً ولصاحب الزمان أرواحنا وأرواح العالمين فداه خصوصاً وذكر شمة من فضائله ويختم يومه بما مرّ من ختم الأيّام الشريفة بتسليم الأعمال على الحماة والخفراء حتى يصلحوها .
ثمّ من الأهمّ أن يصلّي صلاة سلمان المحمّدي (رضوان الله عليه) حصته يوم النصف في الخامس عشر ، وهي أيضاً عشر ركعات على ما صلّى في اليوم الأول إلا أنّه يرفع يديه ويدعو بين الركعتين بدل ما ذكرناه في اليوم الأول : «لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ ، لَهُ المُلكُ ولهُ الحمدُ يُحيي ويُميتُ وهو حيٌّ لا يموتُ بيدهِ الخيرُ وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ إلهاً واحداً فَرداً صمداً لم يتّخِذ صاحِبَةً ولا ولداً» ثمّ يمسح بها وجهه .
واعلم أنّ هذا اليوم من الأوقات الشريفة المخصوصة ، روى سيّدنا في «الإقبال» باسناده إلى ابن عباس قال : قال آدم : يا ربّ أخرجني بأحبّ الأيام إليك وأحبّ الأوقات ؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليه : يا آدم أحبُّ الأوقات إليَّ يوم النصف من رجب ، يا آدم تقرّب إليَّ يوم النصف بقربان ، وضيافة
وصيام ، ودعاء واستغفار ، وقول لا إله إلا الله ، يا آدم إنّي قضيت فيما قضيت ، وسطرت فيما سطرت ، إلى باعث من ولدك ، لا فظّ ولاغليظ ولا سخّاب في الأسواق ، حليم رحيم ، كريم عليم عظيم البركة أخصّه وأمّته بيوم النصف من رجب لا يسألوني فيه شيئاً إلا أعطيتهم ، ولا يستغفروني إلا غفرت لهم ، ولا يسترزقوني إلا رزقتهم ، ولا يستقيلوني إلا أقلتهم ، ولا يسترحموني إلا رحمتهم ، يا آدم من أصبح يوم النصف من رجب صائماً ذاكراً ، خاشعاً ، حافظاً لفرجه ، متصدّقاً من ماله ، لم يكن له عندي جزاءٌ إلا الجنّة ، يا آدم قل لولدك أن يحفظوا أنفسهم في رجب فإنّ الخطيئة فيه عظيمة .
أقول : ليس للعاقل ـ بعدما عرفت أنّ اليوم بهذه المكانة عند الله ـ إلا أن يرحم نفسه ألاّ يفوّت مثل هذا السبب القويّ في استعلاج حالاته السالفة ، تقصيراته الماضية ، ويستصلح في يوم واحد ما قدّم وأخّر من عمره ، ويخاطب نفسه مخاطبة الأخ الشفيق ويقول : أفما تتفكّر فيما أتاك من هذه النصيحة الإلهيّة التي إن تعرّضت لها أنجاك من نار الجحيم ، والعذاب الأليم ، وأخرجك من الظلمات إلى النور ، ألا فقد ناداك الجليل إلى مجلس الرحمة والأمان ، وموهبة الملك والسلطان وعطاء الخلع والهدايا ، وصكك الفضل والمزايا ، وأحضرك إلى مجلس أوليائه وأحبّائه ، وندبك لرفاقة أصفيائه وأهل اجتبائه ، وقد صرّح في مواعيده أن يغفر لك بالاستغفار فلا تقصّر فيه ، واجتهد في صدق حال الاستغفار ، واحذر أن تبدّله منه بالاستهزاء ، ووعدك من الدعاء بالإجابة فحصّل لنفسك حال الدعاء ، فإنّه حال سنيٌّ ، لا يشتبه على العاقل بقراءة ألفاظ الدعاء .
والأهمّ في الدعاء أن يعرف المدعوّ ، ويرجو إجابته ، والأغلب [من الناس] في معرفة الله مبتل بالتنزيه الصرف الملازم للإبطال ، وبعض أيضاً
يتخيّلون شيئاً مجوّفاً محيطاً فوق الأفلاك ينادون إلهاً بعيداً في جهة الفوق ، أو يزعمون العالم وأنفسهم صمداً قائماً بنفسه .
وبالجملة الأهمّ في الدعاء استكمال شرائطه ، وهو أن يعرف الله تعالى معرفة إجماليّة لائقة بشأن الداعي بلا محالة ، ويدعوه عن حضور بل ويرى أنّ دعاءه أيضاً منه برز إليه ويظنّ حسن عنايته ، ويرجو إجابته إن كان صلاحاً .
ويذكر في أوّل دعائه من أسماء الله الجماليّة ، أو مناسباً لدعائه ، ويمجّد الله تعالى ويثني عليه ويعقّبه بـ «يا أرحم الراحمين» سبع مرّات ويعترف بذنوبه وعيوبه وعدم استحقاقه للإذن في الدعاء وللإجابة ثمّ يصلّي على النبي وآله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويتوسّل بهم ، يقسم على الله تعالى بحقّهم ، في إجابته ، والأولى أن لا يذكر مطلوبه مستقلاً بل يجعله شرطاً وقيداً وصفة ـ للصلوات عليهم ـ كأن يقول : صلّ عليهم صلاة تغفر بها ذنوبي .
ثمّ يختمه أيضاً بصلوات ، وبقوله : ما شاء الله لا قوّة إلا بالله ، ويبكي عند دعائه ولو مثل رأس الذباب ، ويكرّر هذا التفصيل لا محالة أربع مرّات فإنّ الله يحبّ السائل اللجوج ، وله شرائط غيرها مذكورة في محلّها .
وبالجملة للسالك أن يقوّي اعتقاده بصدق مواعيد الله تعالى ، ويتفكّر في شأن هذه المواعيد ، ومبلغها من السعادة ، ويلتفت أنّ هذا اليوم وهذا المقام محال أن يوجد في سنة مرّتين ، وأنّه لا اطمئنان بل ولا ظنّ للبقاء إلى مثله في السنّة الآتية ، مع توفيق التدارك ، وعند ذلك يضنّ أن يتركه مهملاً ، لا سيّما إذا رأى شدّة احتياجه لمثله في غداة غد ، عند الوقوف بين يدي الملك الجبّار للحساب ، في يوم عظيم لا أعظم منه .
وإن وفّق لدعاء الاستفتاح مع الشرائط فهو وإلا لا يترك لا محالة نفس الدعاء ويزور الحسين عليه السلام .
| |