كلّ مَن أحسّ بخطر الموت أو القتل كان يتمثّل بهذه الأبيات .
ولا يَبعدُ هذا الكلام من الصحّة ، لأنّ الأبيات مُشتملة على عتاب الدهر وتوبيخه لا غير ، ولعلّ لهذا السبب أحسّت السيدة زينب باقتراب الخطر من أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) وقالت : هذا الحسين يَنعى إليّ نفسه .
وهكذا الإمام زين العابدين (عليه السلام) تَراه قد استَنبَطَ من قراءة هذه الأبيات نُزول البلاء .
حيث إنّ هذه الأبيات لا تُصرّح ـ بظاهرها ـ بشيء من هذه الأمور ، كخطر الموت أو اقتراب موعد القتل .
|
|
ولعلّ نهي الإمام أخته عن شقّ الجيب ـ في تلك الساعة أو الساعات الرهيبة ـ كان لهذه الحِكمة : وهي أن لا يظهر منها أثر الضعف والإنكسار والإنهيار ، أمام أولئك الأعداء الألدّاء ، فقد كان المطلوب من السيدات ـ حينذاك ـ الصبر والتجلّد وعدم الجزع أمام المصائب .
لانّ هذا النوع من الشجاعة ـ وفي تلك الظروف بالذات ـ ضروري أمام العدوّ الحاقد ، الذي كان يتحيّن كلّ فرصة للقيام بأيّ خطوة تُناسب نفسيّته اللئيمة ، تجاه تلك العائلة المكرّمة الشريفة ، وكانت مواجهة الحوادث بصبر جميل ومعنويّات عالية ، تعني تفويت الفُرص أمام تفكير العدوّ القيام بأيّ نوع من أنواع الاعتداء والإهانة وسحق الكرامة تجاه تلك السيدات الطاهرات المفجوعات ، اللواتي فقدن المُحامي والمدافع عنهن !
|
|
| زحف الجيش الأموي نحو خيام آل محمد (عليهم السلام) |
كانت السيدة زينب (عليها السلام) تَشعر باقتراب الخطر يوماً بعد يوم ، وساعةً بعد ساعة ، وكيف لا ؟ والسيل البشري يتدفّق نحو أرض كربلاء لقتل ريحانة رسول الله وسبطه الحبيب ؟
وآخر راية وصلت إلى كربلاء : راية شمر بن ذي الجوشن في ستّة آلاف مقاتل ، ومعه الحُكم الصادر مِن عبيد الله بن زياد ، يأمر فيه ابن سعد أن يُخيّر الإمام الحسين بين أمرين :
1 ـ الإستسلام .
2 ـ الحرب .
فزحف الجيش الأموي نحو خيام آل محمد (عليهم السلام) ونظرت السيدة زينب إلى أسراب من الذئاب تتراكض نحو بيوت الرسالة والإمامة .
|
ويعلم الله تعالى مدى الخوف والقلق والإضطراب الذي استولى على قلوب آل رسول الله .
وأقبلت السيدة زينب تبحث عن أخيها ، لتُخبره بهذا الهجوم المُفاجئ في تلك السويعات الأخيرة من اليوم التاسع من المحرّم ، قريب الغروب .
وأخيراً ، وصلت إلى خيمة الإمام الحسين (عليه السلام) وإذا بالإمام جالس ، وقد احتضن ركبتيه ، ووضع رأسه عليهما ، وقد غلبه النوم .
واستيقظ الإمام على صوت أخته الحوراء تُخاطبه ـ بصوت مليء بالرُعب ، مزيج بالعاطفة والحنان ـ .. قائلةً :
أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت ؟
فرفع الإمام الحسين رأسه وقال : أُخيّه ! إنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الساعة في المنام ، وقال لي : «إنّك تروح إلينا» .
أو «إنّي رأيت ـ الساعة ـ محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي عليّاً ، وأمّي فاطمة ، وأخي الحسن وهم يقولون : يا حسين إنّك رائحٌ إلينا عن قريب»(1)
.
| (1) كتاب (الملهوف على قتلى الطفوف) للسيد ابن طاووس ، طبع ايران ، عام 1414 هـ ، ص 151 . |
|
فلطمت السيدة زينب وجهها ، وصاحت : واويلاه ، وبكت .
فقال لها الإمام الحسين : ليس لك الويل يا أخيّة ، لا تُشمِتي القوم بنا ، أُسكتي رحمك الله .(1).
فنهض الإمام الحسين (عليه السلام) وأرسل أخاه العبّاس ابن علي مع عشرين فارساً من أصحابه ، وقال : «يا عباس إركب ـ بنفسي أنت يا أخي ـ حتّى تلقاهم وتقول لهم مالكم وما بدا لكم ؟؟ وتسألهم عمّا جاء بهم ؟
فأتاهم العباس وقال لهم : ما بَدا لكم وما تريدون ؟
قالوا : قد جاء أمر ابن زياد أن نَعرِض عليكم : أن تنزلوا على حُكمه ، أو نُناجزكم !
فقال العباس : لا تَعجَلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله ، فأعرض عليه ما ذكرتم .
فتوقّف الجيش ، وأقبل العباس إلى أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) وأخبره بما قاله القوم .
فقال الإمام إرجع إليهم .. فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدٍ وتدفعهم عنّا العشيّة ، لعلّنا نُصلّي لربنا الليلة
| (1) كتاب «معالي السبطين» للمازندراني ، ج 1 ، ص 204 ، الفصل الثامن ، المجلس الأول . |
|
فمضى العباس إلى القوم فاستمهلهم ، وأخيراً .. وافقوا على ذلك .(1)
| (1) كتاب «معالي السبطين» للمازندراني ، ج 1 ، ص 332 . |
|
| الفصل الثامن |
|
|
| ليلة عاشوراء |
إن مشكلة كبيرة واحدة تحدث في حياة الإنسان قد تسلبه القرار والاستقرار ، وتورثه الأرق والقلق والسهر ، وترفض عيناه النوم ، فكيف إذا أحاطت به عشرات المشاكل الكبيرة ؟ !
من الواضح أن أقل ما يمكن أن تسببه تلك المشاكل هو : الإنهيار العصبي ، وفقدان الوعي ، واختلال المشاعر وتبلبل الفكر ، وتشتت الخاطر .
فهل نستطيع أن نتصور كيف انقضت ليلة عاشوراء على آل رسول الله ؟ !
فالهموم والغموم ، والخوف والتفكر حول الغد ، وما يحمله من الكوارث والفجائع ، وبكاء الأطفال من شدة العطش ، ـ وغير ذلك من المميزات تلك الليلة ـ جعلت الليلة فريدة من نوعها في تاريخ حياة أهل البيت (عليهم السلام) .
|
وفي ساعة من ساعات تلك الليلة خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من منطقة المخيم ، راكباً جواده ، يبحث في تلك الضواحي حول التلال والربووات ـ المشرفة على منطقة المخيم ـ التي كان من الممكن أن يمكن العدو خلفها غداً ، إذا اشتعلت نار الحرب .
ويرافقه في تلك الجولة الإستطلاعية نافع بن هلال ، وهو ذلك البطل الشجاع المقدام ، وكان من أخص أصحابه وأكثرهم ملازمة له ، فلنستمع إليه :
إلتفت الإمام خلفه وقال : من الرجل ؟ نافع ؟
قلت : نعم ، جعلني الله فداك ! ! أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة معسكر هذا الطاغي .
فقال : يا نافع ! خرجت أتفقد هذه التلال مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل على مخيمنا يوم تحملون ويحملون .
ثم رجع (عليه السلام) وهو قابض على يساري ، وهو يقول : «هي ، هي ، والله ، وعد لا خلف فيه» .
ثم قال : يا نافع ! ألا تسلك ما بين هذين الجبلين (1) من وقتك
| (1) ليس في أرض كربلاء جبل ، وإنما فيها تلال وربوات لا تزال موجودة ويقال لها ـ بالغة الدارجة ـ : علوة وعلاوي ، ولعل الإمام (عليه السلام) قصد من الجبلين : التلال الموجودة في تلك المنطقة . |
|
فوقعت على قدميه ، وقلت : إذن ثكلت نافعاً أمه ! !
سيدي : إن سيفي بألف ، وفرسي مثله ، فو الله الذي من علي بك لا أفارقك حتى يكلا عن فري وجري (1).
ثم فارقني ودخل خيمة أخته ، فوقفت إلى جنبها (2) رجاء أن يسرع في خروجه منها .
فاستقبلته زينب ، ووضعت له متكئاً ، فجلس وجعل يحدثها سراً ، فما لبثت أن اختنقت بعبرتها ، وقالت : وا أخاه ! أشاهد مصرعك ، وأبتل برعاية هذه المـذاعير (3) من النساء ؟ والقوم ـ كما تعلم ـ ما هم عليه من الحقد القديم .
ذلك خطب جسيم ، يعز علي مصرع هؤلاء الفتية الصفوة ، وأقمار بني هاشم !
ثم قالت : أخي هل إستعلمت من أصحابك نياتهم ؟ فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة ، واصطكاك الأسنة !
|
(1) أي : حتى يعجز السيف عن القطع ، ويعجز الفرس عن الركض . (2) جنبها : أي جنب الخيمة . (3) المذاعير ـ جمع مذعور ـ : وهو الذي أخافوه . |
|
فبكى (عليه السلام) وقال : أما والله لقد لهزتهم (1) وبلوتهم ، وليس فيهم إلا الأشوس الأقعس (2) يستأنسون بالمنية دوني إستيناس الطفل بلبن أمه .
قال نافع بن هلال : فلما سمعت هذا منه بكيت ، واتيت حبيب بن مظاهر ، وحكيت له ما سمعت منه ومن أخته زينب .
فقال حبيب : والله لو لا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة !
قلت : إني خلفته عند أخته وهي في حال وجل ورعب ، وأظن أن النساء أفقن وشاركنها في الحسرة والزفرة ، فهل لك ان تجمع اصحابك وتواجههن بكلام يسكن قلوبهن ويذهب رعبهن ؟ فلقد شاهدت منها ما لا قرار لي مع بقائه .
فقال لي : طوع إرادتك ، فبرز حبيب ناحية ، ونافع إلى ناحية ، فانتدب أصحابه .
فتطالعوا من مضاربهم (3) فلما اجتمعوا قال ـ لبني هاشم ـ : إرجعوا إلى منازلكم ، لا سهرت عيونكم ! !
ثم خطب أصحابه وقال : يا أصحاب الحمية وليوث
|
(1) يقال : لهزته اي : خالطته ، والمقصود : الإختبار والإمتحان . (2) الأشوس : الجريء على القتال الشديد والأقعس : الرجل الثابت العزيز المنيع . (3) المضارب ـ جمع مضرب ـ : الخيمة . |
|
هذا نافع يخبرني الساعة بكيت وكيت ، وقد خلف أخت سيدكم وبقايا عياله يتشاكين ويتباكين . أخبروني عما أنتم عليه ؟
فجردوا صوارمهم ، ورموا عمائمهم ، وقالوا : يا حبيب ! والله الذي من علينا بهذا الموقف ! لئن زحف القوم لنحصدن رؤوسهم ، ولنلحقنهم بأشياخهم أذلاء ، صاغرين ولنحفظن وصية رسول الله في أبنائه وبناته !
فقال : هلموا معي .
فقام يخبط الأرض (1) ، وهم يعدون خلفه حتى وقف بين أطناب الخيم ، ونادى : «يا أهلنا ويا سادتنا ! ويا معشر حرائر رسول الله ! هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلا في رقاب من يبغي السوء بكم ، وهذه أسنة غلمانكم أقسموا أن لا يركزوها إلا
|
(1) يخبط الأرض : يضرب الأرض برجليه ضرباً شديداً ، وهو مأخوذ من ضرب البعير الأرض برجله . قال الخليل في كتاب (العين) : الخبط : شدة الوطئ بأيدي الدواب . وجاء في (المعجم الوسيط) خبط الشيء : وطأه وطئاً شديداً . ولعل المقصود : سرعة الركض ، أو نوع خاص من المشي العشائري . . يكون مزيجاً مع ضرب الأرجل بالأرض ، كنوع من التدريب للقتال قبل الحرب ، أو لإيجاد الحماس ورفع المعنويات .
المحقق
|
|
فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : أخرجهن عليهم يا آل الله !
فخرجن ، وهن ينتدبن (2) ويقلن : حاموا أيها الطيبون عن الفاطميات ، ما عذركم إذا لقينا جدنا رسول الله ، وشكونا إليه ما نزل بنا ؟
وكان حبيب وأصحابه حاضرين يسمعون وينظرون ، فو الله الذي لا إله إلا هو ، لقد ضجوا ضجة ماجت منها الأرض ،
|
(1) أسنة : رماح . يركزوها : الركز : غرزك شيئاً منتصباً . . كالرمح ونحوه ، يقال ركزه ركزاً في مركزه إي : ثبته في مكانه . كما في «لسان العرب» . ناديكم : محل اجتماعكم . النادي : مجلس القوم ماداموا مجتمعين فيه . (2) وفي نسخة : يندبن . ينتدبن : الإنتداب : بمعنى الإسراع ، وبمعنى تلبية الطلب ، فيكون المعنى : «يتسارعن» في خروجهن من الخيام ، أو : «يلبين» أمر الإمام لهن بالخروج لهم . قال الطريحي في «مجمع البحرين» : ندبه لأمر فانتدب : أي : دعاء لأمر فأجاب . وذكر في بعض كتب اللغة : أن الإنتداب : هو طلب شيء من شخص في حالة الحرب وإسراع الشخص في تلبية الطلب . كما يستفاد هذا المعنى من كتاب (العين) للخيل ، وكتاب (المحيط في اللغة) للصاحب بن عباد .
المحقق
|
|
وروي عن فخر المخدرات السيدة زينب (عليها السلام) أنها قالت : «لما كانت ليلة عاشر من المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة ، فوجدته جالساً وحده ، يناجي ربه ، ويتلو القرآن .
فقلت ـ في نفسي ـ : أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده ؟ والله لأمضين إلى إخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك .
فأتيت إلى خيمة العباس ، فسمعت منها همهمة ودمدمة ، (3)
|
(1) الظاهر أن المراد : حتى كأن كل واحد من الخيل ينادي ـ في صهيله ـ صاحبه وفارسه . . لركوب استعداداً للإنطلاق والقتال .
المحقق
(2) كتاب (الدمعة الساكبة) ج 4 ص 273 ، المجلس الثاني : فيما وقع في ليلة عاشوراء ، نقلاً عن الشيخ المفيد ، رضوان الله عليه . وكتاب (معالي السبطين) للشيخ محمد مهدي المازندراني ، المجلس الرابع : وقائع ليلة عاشوراء . (3) الهمهمة : هو الصوت الذي يسمع ولايفهم معناه ، بسبب خفائه أو اختلاطه مع أصوات أخرى . قال إبن منظور في (لسان العرب) : الهمهمة : الكلام الخفي ، وهمهم الرجل : إذا لم يبين كلامه ، والهمهمة : الصوت الخفي ، وقيل : هو صوت معه بحح . وقال ابن دريد في (جمهرة اللغة) : الهمهمة : الكلام الذي لا يفهم .
المحقق
|
|
ثم قال ـ في آخر خطبته ـ : يا إخوتي ! وبني إخوتي ! وبني عمومتي ! إذا كان الصباح فما تقولون ؟
قالوا : الأمر إليك يرجع ، ونحن لا نتعدى لك قولاً . (2)
فقال العباس : إن هؤلاء (أعني الأصحاب) قوم غرباء ، والحمل ثقيل لا يقوم إلا بأهله ، فإذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم .
نحن نقدمهم إلى الموت لئلا يقول الناس : قدموا أصحابهم ، فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة . (3)
فقامت بنو هاشم ، وسلوا سيوفهم في وجه أخي العباس ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه !
|
(1) ظهرها : أي ظهر الخيمة ، بمعنى خلفها وورائها . (2) لا نتعدى : لا نتجاوز من رأيك إلى رأي غيرك . (3) عالجوا : حاولوا التخلص من الموت بسيوفهم . . محاولةً بعد محاولة ، ومرةً بعد اخرى . |
|
قالت زينب : فلما رأيت كثرة إجتماعهم ، وشدة عزمهم ، وإظهار شيمتهم ، سكن قلبي وفرحت ، ولكن خنقتني العبرة ، فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين وأخبره بذلك ، فسمعت من خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة ، فمضيت إليها ووقفت بظهرها ، ونظرت فيها ، فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم ، مجتمعين كالحلقة ، بينهم حبيب بن مظاهر ، وهو يقول :
«يا اصحابي ! لم جئتم إلى هذا المكان ؟ أوضحوا كلامكم ، رحمكم الله» .
فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة !
فقال لهم : لم طلقتم حلائلكم ؟
قالوا : لذلك .
قال حبيب : فإذا كان الصباح فما أنتم قائلون ؟
فقالوا : الرأي رأيك ، لا نتعدى قولاً لك .
قال : فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للقتال ولا نرى هاشمياً مضرجاً بدمه وفينا عرق يضرب ، لئلا يقول الناس : قدموا ساداتهم للقتال ، وبخلوا عليهم بأنفسهم .
فهزوا سيوفهم على وجهه ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه .
قالت زينب : ففرحت من ثباتهم ، ولكن خنقتني العبرة ،
|
فقال : أخيه .
قلت : لبيك يا أخي .
فقال : يا أختاه ! منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك متبسمة ، أخبريني : ما سبب تبسمك ؟
فقلت له : يا أخي ! رأيت من فعل بني هاشم والأصحاب كذا وكذا .
فقال لي : يا أختاه ! إعلمي أن هؤلاء أصحابي من عالم الذر ، وبهم وعدني جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
هل تحبين أن تنظري إلى ثبات أقدامهم ؟
|
(1) عارضني : واجهني . (2) هناك احتمالان في كيفية قراءة «فسكنت نفسي» هما : 1 ـ سكنت نفسي : بمعنى أنها حاولت أن تتغلب على ما بها من البكاء ، وتمسح آثار الحزن والكآبة عن ملامحها . . لكي لا تزيد من هموم الإمام . وعلى هذا . . لا تكون الجملة تكملة . . بل جملة مستأنفة . 2 ـ سكنت نفسي : بمعنى أنه زال القلق عن نفسها ، وارتاح قلبها . . بما رأته وسمعته من موقف بني هاشم وموقف الأصحاب . فتكون الجملة تكملة لـ«ففرحت من ثباتهم» .
المحقق
|
|
فقلت : نعم .
فقال : عليك بظهر الخيمة .
قالت زينب : فوقفت على ظهر الخيمة ، فنادى أخي الحسين : «إين إخواني وبنو أعمامي» ؟
فقال الحسين : أريد أن أجدد لكم عهداً .
فأتى أولاد الحسين وأولاد الحسن ، وأولاد علي وأولاد جعفر وأولاد عقيل ، فأمرهم بالجلوس ، فجلسوا .
ثم نادى : أين حبيب بن مظاهر ، أين زهير ، أين نافع بن هلال ؟ أين الأصحاب ؟
فأقبلوا ، وتسابق منهم حبيب بن مظاهر ، وقال : لبيك يا أبا عبد الله !
فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا .
فخطب فيهم خطبةً بليغة ، ثم قال :
«يا أصحابي ! إعملوا أن هؤلاء القوم ليس لهم قصد سوى قتلي وقتل من هو معي ، وأنا أخاف عليكم من القتل ، فأنتم في حل من بيعتي ، ومن أحب منكم الإنصراف فلينصرف في سواد هذا الليل .
|
فعند ذلك قامت بنو هاشم ، وتكلموا بما تكلموا ، وقام الأصحاب وأخذوا يتكلمون بمثل كلامهم .
فلما رأى الحسين حسن إقدامهم ، وثبات أقدامهم ، قال : إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم ، وانظروا إلى منازلكم في الجنة .
فكشف لهم الغطاء ، ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها ، والحور العين ينادين : العجل العجل ! فإنا مشتاقات إليكم .
فقاموا بأجمعهم ، وسلوا سيوفهم ، وقالوا : يا أبا عبد الله ! إئذن لنا أن نغير على القوم ، ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء .
فقال : إجلسوا رحمكم الله ، وجزاكم الله خيراً .
ثم قال : ألا ومن كان في رحله إمرأة فلينصرف بها إلى بني أسد . (1)
فقام علي بن مظاهر وقال : ولماذا يا سيدي ؟
فقال : إن نسائي تسبى بعد قتلي ، وأخاف على نسائكم من السبي .
فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته ، فقامت زوجته إجلالاً له ، فاستقبلته وتبسمت في وجهه .
| (1) الرحل : ما تستصحبه في السفر . . من الأثاث أو الزوجة أو غير ذلك ، كما يستفاد من «لسان العرب» . |
|
فقال لها : دعيني والتبسم !
فقالت : يا بن مظاهر ! إني سمعت غريب فاطمة ! خطب فيكم وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة ، فما علمت ما يقول ؟
قال : يا هذه ! إن الحسين قال لنا : ألا ومن كان في رحله إمرأة فليذهب بها إلى بني عمها ، لأني غداً أقتل ، ونسائي تسبى .
فقالت : وما أنت صانع ؟
قال : قومي حتى ألحقك ببني عمك : بني أسد .
فقامت ، ونطحت رأسها بعمود الخيمة ، وقالت :
«والله ما انصفتني يا بن مظاهر ، أيسرك أن تسبى بنات رسول الله وأنا آمنة من السبي ؟ !
أيسرك أن تسلب زينب إزارها من رأسها وأنا استتر بإزاري ؟ !
أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول الله ويسود وجهي عند فاطمة الزهراء ؟ !
والله أنتم تواسون الرجال ، ونحن نواسي النساء» .
فرجع علي بن مظاهر إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يبكي .
|
فقال له الحسين : ما يبكيك ؟
قال : سيدي . . أبت الأسدية إلا مواساتكم ! !
فبكى الإمام الحسين ، وقال : جزيتم منا خيراً . (1)
| (1) معالي السبطين للمازندراني ج 1 ، المجلس الثالث في وقائع ليلة عاشوراء . |
| السابق |
الفهرس |
التالي |