والآن . . نذكر نص الخطبة ، ثم نشرح بعض كلماتها :
قال بشير بن خزيم الأسدي (1) :
ونظرت إلى زينب بنت علي (عليه السلام) يومئذ فلم أر خفرةً ـ والله ـ أنطق منها (2) ، كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (3) ، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا .
فارتدت الأنفاس ، وسكنت الأجراس ، ثم قالت :
«الحمد لله والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار .
أما بعد :
يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر ! !
أتبكون ؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة .
إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم .
ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف ؟ والصدر الشنف ؟ وملق الإماء ؟ وغمز الأعداء ؟
أو كمرعى على دمنة ؟ أو كفضة على ملحودة ؟
ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون .
أتبكون ؟ وتنتحبون ؟
إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً .
فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً .
وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ؟ ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهلا الجنة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ،
ومنار حجتكم ، ومدرة سنتكم ؟ ؟
ألا ساء ما تزرون ، وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة .
وَيلكم يا أهل الكوفة !
أتدرون أيّ كبدٍ لرسولا لله فَرَيتُم ؟!
وأيّ كريمةٍ له أبرزتم ؟!
وأي دم له سفكتم ؟!
وأيّ حرمةٍ له هتكتم ؟!
لقد جئتم بها صَلعاء عَنقاء سَوداء فَقماء ، خَرقاء شَوهاء ، كطِلاع الأرض وملء السماء .
أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى ، وأنتم لا تُنصَرون .
فلا يَستَخفّنكم المُهَل ، فإنّه لا يَحفِزُه البِدار ، ولا يَخافُ فَوتَ الثار ، وإنّ ربّكم لبالمرصاد» .(1)
قال الراوي : «فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ حَيارى
يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم . ورأيت شيخاًَ واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته ، وهو يقول : «بأبي أنتم وأمي ! ! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى» . (1)
قبل أن أبدأ بشرح بعض كلمات الخطبة أجلب إنتباه القارئ الذكي إلى بعض ما يرويه الراوي لهذه الخطبة ، وهو قوله :
«فلم أر خفرة ـ والله ـ أنطق منها»
يقال : خفرت الجارية : إذا استحت أشد الحياء ، فهي خفرة . ومن الطبيعي أن المرأة الخفرة يمنعها حياؤها من أن ترفع صوتها ، أو تخطب في مكان مزدحم ، فمن الواضح أنها إذا لم تمارس الخطابة لا تقوى على النطق والتكلم كما ينبغي ، ولكن راوي هذه الخطبة يقول : «فلم أر خفرة ـ والله ـ أنطق منها» أي : لم أر أقوى منها على التكلم ، وأقدر على الخطابة ، رغم كونها شديدة الحياء .
|