المراقبات 47

القُربى» (الشورى : 23) وتأكيد هذا الحكم بقوله : «قُل ما سألتُكم من أجرٍ فهو لكم» (سبأ : 47) ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس على وجه الأرض أقرب له من فاطمة سلام الله عليها .
وكيف يشكّ العاقل في أنّ من خان رسول الله في أجر رسالته ، لا يليق أن يكون مأموناً في خلافته ، وأنّ من لم يراعه في قريبه ، كيف يراعيه في بعيده ؟ ومن ظلمه في ابنته كيف يعدل في أمّته ؟ وهذا الأمر يعرفه العالم والجاهل ، والخاصّ والعامّ لا سيما أنّ فاطمة ـ سلام الله عليها ـ نزلت في شأنها آية التطهير بإجماع الشيعة ، وبتصديق جماعة من أعيان مفسّري العامّة وعلمائهم ، فلا يمكن لمن ظلمها ، وغصب حقّها التعلّل ـ في إيذائها ـ بوجه صحيح شرعيّ ، بعد تصديق محكم الكتاب طهارتها ، وإيجاب مودّتها .
يا أهل العالم ابكوا على هذه القطيعة الفجيعة الفظيعة بالنسبة إلى رسول الله الكريم الأكرم والنبي الرؤوف الأرحم ، في بضعته الطاهرة ، وكريمته المطهّرة غصبوا حقّها ، وأخذوا نحلتها ، ومنعوها من إرث أبيها ، ولطموا وجهها ، وأسقطوا جنينها ، وأكفان رسول الله طريّة ، ودعوا بالنار على إحراق بابها الذي طالما وقفت الملائكة المقرّبون عليه لطلب الاذن بالدخول .
وكيف كان ، فللشيعي أن يعامل معها صلوات الله عليها في هذا اليوم من الزيارة والصلوات ما يرضي الرسول ، ويرتضيه ربّ فاطمة البتول ـ سلام الله عليها ـ ويلزمه حقّ التشيّع .
وفي ليلة التاسع عشر منه ليلة ابتداء الحمل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعلم حقّ تعظيمها للمراقب مع الله جل جلاله ، والموافي لحقوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما ذكرناه في ميلاده ، فإنّ الليلة كالمفتاح لسعادة يوم الميلاد ، بل مقام إجمال له

المراقبات 48

كما أنّ الميلاد من مفاتح يوم المبعث ومقاماته والعبد المراقب يستوفي حظوظه من هذه المراتب كلّها ، ولا يفوّت شيئاً من الخير للكسل ، فإنّ العاقل لا يجوّز ردّ السعادات إن أحلّت بساحته .
ويوم العشرين منه يوم ولادة فاطمة ـ صلوات الله عليها ـ على رواية الشيخ المفيد ـ رضوان الله عليه ـ قال : يوم العشرين منه مولد السيدة الزهراء ـ صلوات الله عليها ـ سنة اثنين من المبعث ، وهو يوم شريف يتجدّد فيه سرور المؤمنين ، ويستحبّ صيامه والتطوّع فيه بالخيرات والصدقات .
أقول : ويقدّر تعظيم هذا اليوم بمقدار عظمها ، فإنّها المعظّمة عند الله جل جلاله ، وعند الملائكة الأطهار ، وأولياء الجبّار ، وقد ورد في صحيح الأخبار أنّها سيدة نساء العالمين ، ومريم ـ صلوات الله عليها ـ سيدة نساء عالمها ، فثبت بذلك سيادتها لمريم الصدّيقة بتصديق القرآن العظيم ، بل جزم جمع من أعاظم العلماء أنّها أشرف من سائر الأنبياء والمرسلين ، ولعمري إنّ هذا لهو الفضل المبين .
ومن جملة ما ورد إلينا بالطريق القطعيّ من فضائلها التي اختصّت بها من جميع نساء العالمين ، أنّ لها مصحفاً كبيراً جليلاً جاء به جبرئيل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكتبه أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو عند أولادها المعصومين عليهم السلام وفيه علم ما كان وما يكون وما هو كائن كما في رواية ثقة الإسلام عن الصادق عليه السلام .
وبالجملة روى المخالف والمؤالف في فضائلها أخباراً تملأ مجلّدات كبيرة لا يحتملها هذا المختصر ، وفيما ذكرناه كفاية «لِمَن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد» (ق : 37) ولو لم يكن من فضائلها إلا ما ورد من شفاعتها لمحبّيها ومحبّي ذريّتها بل ومحبّي محبّيها ؛ لكفى الشيعة في إثبات

المراقبات 49

حقّ تعظيمها ، وتعظيم ولادتها ، بقدر الوسع والطاقة ، والاعتراف بعد ذلك بالقصور ، فإنّ بعض الحقوق لا يؤدّي وإن بلغ المجهود غايته .
ومن مهمّات العمل في هذا اليوم زيارتها ، والصلوات عليها ، ولعن ظالميها ويختم يومه بما يختم به أمثاله .

* * *

المراقبات 50




المراقبات 51


الفصل السابع


في مراقبات شهر رجب الحرام


وهذا الشهر بمحلّ عظيم من الشرافة ، ومن أسباب شرافته أنّه من أشهر الحرم ، أنّه من مواسم الدعاء ، وكان معروفاً بذلك في أيّام الجاهلية ، وكانوا ينتظرونه لحوائجهم ، ولذلك حكاية عجيبة نقل بعضها السيد الجليل ـ أعلى الله مقامه ـ في «الإقبال» ، وأنّه شهر أمير المؤمنين عليه السلام كما ورد في بعض الروايات كما أنّ شعبان شهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وشهر رمضان شهر الله ، وأنّ الليلة الأولى (منه) من الليالي الأربعة التي يتأكّد فيها الإحياء بالعبادات ، وأنّ يوم النصف منه ورد فيه أنّه من أحبّ الأيام إلى الله ، وأنّه ممّا خصّ جلّ جلاله هذه الآية به ، وأنّه موسم عمل الاستفتاح كما يأتي تفصيله ، وأنّ اليوم السابع والعشرين منه يوم مبعث النبي ، الذي هو يوم ظهور الرحمة الرحيميّة ، ظهوراً لم ير مثله من أوّل العالم إلى هذا اليوم ، وهو أشرف الأيام من الجهات الباطنية ، وبالجملة فضائل هذا الشهر لا تحيط بها العقول .
ومن مهمّات المراقبات فيه من أوله إلى آخره تذكّر حديث الملك الداعي على ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الله تعالى نصب في السماء السابعة ملكاً يقال له الداعي ، فإذا دخل شهر رجب ينادي ذلك الملك كلّ ليلة منه إلى

المراقبات 52

الصباح : «طوبى للذاكرين طوبى للطائعين ، يقول الله تعالى : أنا جليس من جالسني ، ومطيع من أطاعني ، غافر من استغفرني ، الشهر شهري والعبد عبدي ، والرحمة رحمتي ، فمن دعاني في هذا الشهر أجبته ، ومن سألني أعطيته ، ومن استهداني هديته ، وجعلت هذا الشهر حبلاً بيني وبين عبادي ، فمن اعتصم به وصل إليَّ» .
أقول : فياحسرتاه على ما فرّطنا في جنب الله ، أين الشاكرون ؟ أين المجتهدون ؟ أين العقلاء من تقدير حقّ هذا النداء ، ما لي لا أرى من يجيبني على ندائي ؟ ولأُنادي أين العارفون الذين يعرفون أنّ شكر هذه النعمة لا يمكن أداؤها من أحد ، أين المعترفون المقرّون بالقصور والتقصير ، ليجيبوا هذا المنادي فيقولوا : لبيك وسعديك ، والصلاة والسلام عليك أيها المنادي من الله الجليل الجميل ، ملك الملوك أرحم الراحمين ، الحليم الكريم ، الرفيق الشفيق ، كريم العفو ، مبدّل السيئات بالحسنات ، هؤلاء العبيد العصاة ، واللئام الطغاة ، رهائن الشهوات ، مأسورون بأيدي الغفلات ، فاعلم أيها الرسول الكريم أنّك تنادي أمواتاً في صور الأحياء ، فإنّ القلوب ميّتة ، والعقول هاجرة ، والأرواح مختلة ، فكيف تنادي الأموات والأموات لا تنتفع من النداء إلا أن تحيي بندائك القلوب ، وتردّ العقول على الرؤوس ، وتنبه الأرواح فيعقلوا موقع هذا النداء من الكرامة العظمى ، عظمة الربّ ، وخسّة النفس ، وشدّة البلوى ، ومساءة الحال . وأن مقامهم وحالهم يقتضي الطرد والإبعاد ، واللعن والعذاب ، ولكن سعة رحمة الرب اقتضت هذه الدعوة اللطيفة الكريمة بهذا اللسان والبيان الألطف الذي يبهر العقول ، ويزيد على كلّ مسؤول ومأمول ، فبشفاعة هذا الشأن الجميل ، واللطف النبيل ، نسأل أيها

المراقبات 53

الملك إلهنا جل جلاله أن يوفّقنا لإجابة هذه الدعوة اللطفى ، الكرامة العظمى .
ونجيبك أيها الواعد للطوبى للذاكرين والطائعين بالترحيب والدعاء ، والتفدية بالنفوس والأرواح ، حيث نبّهتنا بذكر مالكنا اللطيف الكريم ، ورغّبتنا إلى طاعة مولانا وسيدنا الرؤوف الرحيم ، وبلّغتنا كرامة إلهنا الرفيق الشفيق .
فيجيبك أيها المنادي المبلّغ ، لسان حال هذه النفوس اللئيمة ، ذوي الأوصاف الذميمة . قد أنعمت وأكرمت ، ودعوت إلى السعادة العظمى ، والمحلّة الكبرى فما أبعد محلّنا الخسيس ، ومقامنا الأرذل ، وحالنا الخبيث ، ومكاننا الأخسّ ، من ذكر ربّنا ، وأن نكون محلاً لتقديس إلهنا ، وما للتراب وربّ الأرباب ؟ وأين المتلطّخ بالأقذار ومجالس الأطهار ؟ وأين المكبّل الأسير من منازل الأحرار ؟ ولكن كرم ربّنا قد اقتضى الإذن لنا في ذكره ، وحكمته اقتضت التشريف بالتكليف ، وما أفضحنا إن قصّرنا بعد هذه الموهبة الجليلة في الذكر ، وما أخزانا بعد هذا التشريف إن أهملنا في الطاعة ، فما أكرم السيد وما ألأم العبيد ، وما أحلم الإله ، وما أسفه العباد .
ثمّ إنّا قد سمعنا بأسماع قلوبنا ما بلّغته من قول ربّنا وإلهنا : «أنا جليس من جالسني» وقد أبكم عظمة هذا الإبلاغ والتشريف كل لسان في عالم الإمكان والتكليف عن الجواب ، وحارت العقول ـ من جمال هذه الكرامة ـ من ذوي الألباب ، ولو كان لكلّ نفس من المشرّفين بهذا الخطاب أنفس تمام العالمين ، وأرواح جميع ذوي الأرواح وبذلوها في الجواب ، وفدوا بها لتعظيم هذا الخطاب ، لما أدّوا بذلك شيئاً من حقوقه ، وشكر جزء من أجزاء نعمه ، وكيف للبطّال اللئيم ، والخسيس الذميم ، يغفل عن إجابته ويهمل عن

المراقبات 54

مراتب عنايته ، بل يختار بدل ذكر الجبّار ، ذكر من يستوجب ذكره النار ، ويرضى من مرافقة الملائكة المقرّبين ، والأنبياء والمرسلين ، في مجلس حضور ربّ العالمين ، بمقارنة الجنّة والشياطين ، في مهوى دركات السجين .
فيالله والخطب البديع ، والشأن الفظيع ، أن يندب الخالق المخلوق في إجابته ، ويرغب السيد في مناجاة العبد ومؤانسته ، ويستنكف العبد من قبول عنايته ، فنقول بإظهار الأسف والحسرات ، والاعتراف بسوء الحال والغفلات ، وقد ألجأتنا الضرورة بالجواب : نعم يا إلهنا وسيدنا ، ويا مالكنا ومولانا ، إن أعطيتنا التوفيق ، وأدركتنا عنايتك بما أكرمتنا به من الدعوة ، وشرفتنا به من الكرامة ـ كما هو المرجوّ من كرمك ، والمتوقّع من كمال جودك ، لأنّ من تمام نعماء الكريم ، استتمام نعمائه ، ومن شواهد آلاء الجواد استكمال آلائه ـ فطوبى لنا ، ثم طوبى لنا ،فقد فزنا وسعدنا ، ونلنا فوق آمالنا . وإن لم يدركنا توفيقك ، ولم يجد بنا(1) عنايتك فلنا الويل ، ثمّ الويل الطويل ، والعناء والعويل ، فنحن الأشقياء المحرومون واللئام المعذّبون ، بالعذاب الأليم ، والنكال الرجيم ، فنقول : لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنّا من الظالمين ، إلهنا «ظَلَمنا أنفُسَنا وإن لَم تغفر لنا وترحمنا لنكونَنّ من الخاسرين» (الأعراف : 23) بل نزيد في الخسارة من باب الضرورة .
ونكشف عن ذلّ المقام والخسيسة ، ونؤكّدها بالأقسام العظيمة ، ونناديك من مهوى عالم الطبيعة والسجّين ، وسفلى دركات المنافقين ، ونقول : وعزّتك وجلالك يا إلهنا لنعصينّك ونهلك أنفسنا ، ونطغينّ ونفسد حالنا ، إن لم تعصمنا بتوفيقك ، وإن لم تجُد علينا بفضل عنايتك فإنّه لا حول ولا قوّة إلا بك .

(1) في نسخة : يجذبنا .
المراقبات 55

ثم نزيد في المقال (بتوفيقك) ونلحّ في السؤال بتأييدك ، ونعرّض إلى جناب قدسك ، بل إلى حضرة رحمتك ولطفك ، استعطافاً لسيّدنا ، واستنزالاً لرحمة ربّنا ، ندعوك : يا أكرم الأكرمين ، ويا أجود الأجودين ، يا من سمّى نفسه باللطف ، قد دعانا هذا المنادي في (هذا) الشهر العظيم إلى كرمك ، وأشار إلى لطفك ورحمتك ، حيث حكى عن كرمك وإكرامك : «الشهر شهري ، والعبد عبدي ، الرحمة رحمتي» فصرنا بتلك الدعوة أضيافاً لك مدعوّين ، ووفداً لبابك مضطرّين .
وأنت الذي كرهت للمضيف أن يمنع ضيفه القرى ، وإن كان الضيف ممّن لا يهلكه المنع ، والمضيف ممّن ينقصه الإحسان ، ونحن إذا منعتنا من قراك ، بتنا طاوين في حماك ، ووصلنا إلى الهلاك ، وأنت لا يزيد إحسانك إلا في ملكك ، أمَّن لا ينقصه الإحسان ، ولا يزيده الحرمان ، لا تؤاخذنا بسوء حالنا ، فقد كان الذي كان .
وأنت الذي زدت على نفسك لي بالسوم ووعدت المضطرين غير الأضياف إجابتهم ، وأنزلت في كتابك الكشف عن سوء حالهم ، فنحن يا إلهنا مضطرّون إلى مغفرتك ، والنجاة من أليم عقابك ، ولا يوجد في عالم الإمكان اضطرارٌ فوق هذا الاضطرار ، فأين الإجابة يا غفّار ، والكشف عن سوء الحال ، فخذ بأيدينا من ورطة الهالكين ، وسقطة الخاسرين ، فكما أنّ الشهر شهرك ، والعبد عبدك ، الرحمة رحمتك ، فالاعتصام بحبلك أيضاً بتوفيقك ، لأنّ الخير كلّه منك ، لا يوجد فيَّ شيء سواك ، وأين لنا الخير ولا يوجد إلا من عندك ، وأين لنا النجاة ولا تستطاع إلا بك .
فإن أجابنا أيها الكريم عدلك ، وردّنا ميزان حكمتك : بأنّ الفضل عليكم خلاف الحكمة ، وتوفيقكم خلاف العدل في القضيّة ، لأنّكم لا

المراقبات 56

تستحقون الفضل ولا يستحسن بكم الاحسان ، لأنّ المعاصي قد سوّدت وجوهكم ، والغفلة من ذكري قد أظلمت قلوبكم ، ومحبّة الدنيا قد أمرضت وأهلكت نفوسكم وعقولكم ، فإنّ رحمتي وإن كانت وسعت كلّ شيء ، ولكن قد سمعتم ما أنزلت من قولي في كتابي :
«فسَأكتُبُها للذين يتّقون» (الأعراف : 156) وإنّي وإن كنت أرحم الراحمين ، الغفور الرحيم ، ولكنّي أيضاً شديد العقاب ، وإن لم يحكم حكمتي في خليقتي بتمييز أهل العدل والفضل فأين يكمل ظهور جمالي وجلالي .
فنقول بتعليمك وتأييدك في جواب هذه القضايا : أمّا عدم استحقاقنا لفضلك ، فهو حقٌ لا ريب فيه ، ولا شكّ يعتريه ، إلا أن فضلك يا كريم لو كان مشروطاً بالاستحقاق لما ظهر شيء منه في العالم ، لأنّ الممكن ليس فيه من جهته استحقاق ولا غيره ولا شيء من الخير فإنّ الاستحقاق أيضاً فضل منك ، لا يمكن أن يوجد بالاستحقاق .
وأمّا سواد وجوههنا ، وظلمة قلوبنا ، فهو أيضاً كذلك إلا أنّ النور أيضاً كله فيك ومنك ، فمن أين نجيئ بالنور ، إن لم تجُد علينا به ، فإنّك إن وهبتنا ذرّةً من نورك وضيائك ، وأكرمتنا بحياتك ، أحييتنا وشفيتنا ، ونوّرتنا وأكملتنا .
وأمّا ما أنزلت في كتابك من قولك ، فهو أيضاً لا ينافي رجاءنا ، وآمالنا ودعاءنا ، لأنّا نتوقّع من فضلك أن تهب لنا التقوى كما وهبته للمتقّين ، ثم تكتب لنا رحمتك ، وأيضاً قول هذا لم يصرّح إلا بأنّك تكتب رحمتك للمتّقين ، ولم تنزل أنّك لا تكتب لغير المتّقين .
وأمّا ظهور جلالك ، ومحلّ عدلك وعقابك ، فيكفي له المعاندون

المراقبات 57

لحضرة كرمك والمتكبّرون عن عبادتك ، فإنّك تجد من تعذّبه غيري ، ولا أجد من يرحمني غيرك ، فما للمقرّبين المعترفين السائلين الداعين الراجين الوجلين المستحيين وظهور الجلال ؟
لا سيّما أنّا وإن كنّا عصاةً ، ولكنّا نتوسّل إليك بأوليائك المطيعين ، ووجوهنا وإن كانت مسوّدة عندك ، ولكنّا نتوجّه إليك بوجوه أوليائك الطاهرين المنيرة عندك ، قلوبنا وإن كانت مظلمةً ولكنّا نستضيء من أنوار عبادك العارفين بك .
وإن كان حبّ الدنيا قد أمرض قلوبنا ، وأهلك عقولنا ، ولكن محبّة أحبّائك أيضاً قد أحياها ، فإن كان فضلك يظهر في عبادك المتمسكين بعروة فضلك ، وذيل كرمك ، فليظهر فضلهم أيضاً في أهل ولايتهم المتمسّكين بعروة محبّتهم وولايتهم .
وإن ناقشنا عدلك في ثبوت ولايتهم ، ولم يثبت ذلك من حالنا ، فلا شكّ في أنّ أعداءك وأعداءهم إنّما يبغضوننا بنسبة ولايتهم ، وطالما ما ابتلينا في دنيانا بإيذائهم في أوليائك ، فهذه النسبة الجزئيّة تكفي لنا في التشبّث بأذيال عفوك ، وعروة فضلك وكرمك ، وحبل أوليائك .
فبفضلك وكرمك ، وبجاه أوليائك محمد وآله صل عليهم صلاة لا غاية لعددها ، لا نهاية لمددها ، مبلغ علمك ، ومنتهى رضاك ، وما لا نفاد له ، وصلّ عليهم صلاة تغفر بها ذنوبنا ، وتصلح بها عيوبنا ، وتكمل بها عقولنا ، وتتمّ بها نورنا ، وتعرّفنا بها نفسك وإيّاهم ، وتقرّبنا بها منك ومنهم ، وتزلفنا لديك في جوارهم ، وترضى بها عنّا رضى لا سخط علينا بعده أبداً حتى توردنا عليك راضين مرضيّين ، تلحقنا بآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين ، مع شيعتهم المقرّبين ، وأوليائهم السابقين ، «في مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ»

المراقبات 58

(القمر : 55) ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ما شاء الله لا قوة إلا بالله .
ومن مراقبات هذا الشهر أن يعرف السالك معنى الشهر الحرام وحقّه حتى يراقبه في حركاته وسكناته ، بل وخطرات قلبه ، وأن يعلم أنّ هذه الأشهر الثلاثة مواسم العبادة ، فينبغي لطلاب العلم أن يزيدوا فيها جهة العبادات على جهة تحصيل العلم ، وإن كان تحصيل العلم أيضاً من أفضل العبادات .
وأوّل ليلة منه من الليالي الأربعة التي يتأكّد استحباب إحيائها ، والدعاء عند الاستهلال بما روي ، وينبغي الالتفات بما في الدعاء المأثور في ذلك من ذكر شهر شعبان وشهر رمضان بالدعاء للتأهّل للعبادة فيهما فيكثر في أوقات دعائه ذكرهما حتى يكمل الاستعداد للدخول فيهما بدعائه ويستحبّ أن يدعو بعد صلاة العشاء بالدعاء المرويّ في «الإقبال» .
وأورد في «الإقبال» صلوات لهذه الليلة أنا أذكر منها أخفّها لأمثالي من الضعفاء وهي ما رواه في «الإقبال» عن روضة العابدين قال : روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من صلّى المغرب أوّل ليلة من رجب ، ثمّ صلى بعدها عشرين ركعة يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب و«قل هو الله أحد» مرة ، ويسلّم بين كل ركعتين ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ : أتدرون ما ثوابه ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إنّ روح الأمين علّمني ذلك ـ وحسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذراعيه ـ وقال : حفظ في نفسه وأهله وماله وولده ، وأُجير من عذاب القبر ، جاز عن الصراط كالقبر الخاطف من غير حساب .
وأخفّ منها أيضاً ما رواه أيضاً في هذا الكتاب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من صلّى ركعتين في أوّل ليلة من رجب بعد العشاء يقرأ في أوّل ركعة فاتحة الكتاب «وألم نشرح» مرة و«قل هو الله أحد» ثلاث مرّات وفي الركعة الثانية فاتحة الكتاب مرّة ، و«قل يا أيها الكافرون» ثلاث مرّات و«قل هو

المراقبات 59

الله أحد» مرة وإذ سلّم منهما رفع يديد وقال : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويُميت ، وهو حيٌ لا يموت ، بيده الخير وهو على كلِّ شيءٍ قدير ، وإليه المصير ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم ، اللهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمدٍ النبيّ الأُمّيّ» . يمسح بهما وجهه ، فإنّ الله سبحانه يستجيب الدعاء ويعطي ثواب ستّين حجّة ، وستّين عمرة .
ثم يشتغل بقيّة ليلة بما يراه مناسباً لحاله من الذكر والفكر والمناجاة إلى وقت صلالة الليل ، ويسجد بعدها ـ أي بعد الركعة الثامنة ـ ويقول في سجوده ما رواه في «الإقبال» عن أبي الحسن الأول عليه السلام .
ويقرأ بعد الوتر ما رواه في «الإقبال» من الدعاءين ، ولا يغفل عن فقرات الدعاء الثاني فيكون حظّه من الدعاء التلفّظ المحض فيرضى أن يكون في عباداته نظير الأنعام في عباداتها ، ويجتهد في صدق مقاله لئلا يكذب مع الله جل جلاله في مجلس حضوره في دعائه ، فإنّ فيه خطراً عظيماً لأهله ، وإن لم يصدّقه حاله في إظهار هذه الأحوال التي يحكيها إلى ربّه ، فليعالج حكايته بقصد بعض المعاني المجازية ، وإن لم يقدر على ذلك أيضاً فليغيّر الألفاظ بما ليس فيه كذب صريح ، ودعاوي باطلة ، فإنّ من لم يعرف معنى حبّ الله كيف يقدر أن يدّعي الأنس معه ؟ ومن لم يعرف حقيقة التقريب كيف يقول : وارفعني بمجاورته من ورطة الذنوب إلى ربوة التقريب ؟ وهكذا .
وبالجملة يراقب قلبه حتى يكون حيّاً بذكر الله والحضور بين يديه بما يرضى من مراسم العبوديّة فإنّ المقصود من إحياء الليالي إحياء القلب فيها ، وحياة القلب إنما هو بالذكر والفكر ، والقلب الغافل كالميّت ، والمشغول بغير رضا الله من المكروهات أدون من الميّت ، والمشتغل بالمحرّمات في هذه الليالي يشتدّ حاله من المشتغل بها في غيرها ، ولعلّه يورث سوء الخاتمة .

المراقبات 60

فجدّي يا نفس ! أن لا تكوني ـ لا محالة ـ من الثالثة . وأنت تحسب مع ذلك أنّك أحييت الليل ، ودخلت في زمرة الفائزين ، فتكون بذلك من «الأخسَرين أعمالاً * الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يَحسبون أنّهم يُحسِنون صُنعاً» (الكهف : 103 ـ 104) وبزعمي أنّك لا تخلو من المعاصي الخفيّة ، مثل تأخير التوبة عن بعض المعاصي ، فإنّ المشهور أنّ المسارعة واجبة فوراً ، وترك الواجب محرّم ، ولا أقلّ (من) أنّ تزكية النفس من بعض الأخلاق واجبة عيناً ، وتركها والاشتغال بالعبادات المستحبّة محرّمة ، وأمثالهما .
وبالجملة فللسالك أن يراقب قبل دخول هذه الليالي والأوقات الشريفة (و) يتفقّد حاله أشدّ ممّا يتفقّد في سائر الأوقات ، ويجتهد لئلا تبقى له معصية حاضرة فتكون صفقته خاسرة ، ويفوت عنه أنوار العابدين ، بل يكون مثله كمثل عبد أكرمه السلطان بالدعوة إلى مجلسه للعطاء والإكرام ، بل للمؤانسة والمناجاة والأحوال السنيّة العظام ، مع الأولياء الكرام ، فحضر ذلك المجلس ، وارتكب حضوراً مخالفة السلطان ، وأظهر عبادة الشيطان ، في بيت الرحمن ، فاستحقّ بذلك الخزي العظيم والخذلان ، واستبدل بالكرامة الذلّ والهوان .
وكيف كان هذه الليلة وأمثالها يجب بحكم العقل الاستظهار فيها بكلّ ما هو في الإمكان ، في تحصيل رضا الملك المنّان ، وسلامة الأعمال والأحوال من الآفات ، المبالغة في ذلك ببذل كلّ جهده ، ليكون مخلصاً لله تعالى جلّ جلاله وعمله خالصاً فيكفي عند ذلك قليل من العمل ، فإنّ جزاء العمل الخالص من العبد المخلص بغير حساب والعبد الصحيح (النيّة) لا يرضى في معاملة المولى إلا بالخلوص الصادق ، ويسعى كلّ سعيه في ذلك ،

المراقبات 61

ويكون ذلك أهمّ عنده من كل شيء ، فإنّ هذا الأمر لا يدرك بالمنى ، ولا ينال بالهوينا ، وإلا فمن عميت بصيرته عن تفاوت هذه الاحوال ربما يجتهد في إكثار العبادات الظاهرة ، وقلبه وباطنه مشحون بغوائل المخالفات لمالك المحيا والممات ، كم من الحالات الرذيلة ، الأخلاق الخبيثة ، من قبيل ترك الواجبات ، والإتيان بالمحرّمات ، وصورة العبادات ، ويشوب عمله بالرياء والسمعة والنفاق ، وخبائث العجب والجهل والشقاق .
وأيضاً يكون اهتمامه بتلطيف العمل أكثر من تكثيره ، ويختار من الدعوات والمناجاة ما يشتمل على زيادة التملّق والاستكانة ، والاعتراف بحقوق المنّة من الله الحنّان المنّان ، في التشريف بتكليف الذكر والعبادة ، ويؤثر في الحالات والحركات والسكنات ما يهيّج الرقّة ، ويكون أبلغ في التواضع والتبتّل من لبس المسوح ، والجلوس على التراب والرماد ، ووضع التراب على الرأس ، وشدّ الأيدي على الأعناق بالحبال والأغلال ، وعدم الاستقلال والاستقرار ، كالحيران والسكران ، بالقيام تارة ، والقعود أخرى ، والسجود ثالثة ، والمشي أخرى ، ووضع الرأس على الجدران ، والخرور على الأذقان .
وقد كان السابقون يضعون الأغلال في أعناقهم ويدخلون قبورهم ، ويأمرون من يشدهم بالأغلال ويجرّهم إلى النار ، ويخرقون تراقيهم ويدخلون فيها الحبل أو الغل ، ويشدّونه في أسطوانة البيت المقدس ، وهذه الأحوال إنّما تنشأ من أحوال القلب ، ومعرفة ذلّ النفس ، وعظمة الرب ، فيورث حالاً أخرى أسنى وأفضل ، قد يوجد بالتعمّل فيورث الحال .
ويهتمّ في دعاء توفيق الإخلاص في الشهر كلّه وشهر شعبان ، وشهر رمضان وتمام العمر ، ويكثر التوجّه إلى الله جل جلاله من أسمائه بكريم

المراقبات 62

العفو ، ومبدّل السيئات بالحسنات ، والتوسّل إليه بمحمد وآله ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ فإنّ أمثال وجوهنا لا يليق بالتوجه إلى حضرة قدس ربّنا ، فالأولى أن نعالج في ذلك بالتوجّه إليه بوجوه أوليائه المشرقة عنده ، ويختم ليله بما تكرّر ذكره من التوسّل بخفير ليلته من المعصومين عليهم السلام في استصلاح حاله وعمله مع الله جل جلاله .
وأيضاً إن كانت الليلة الأولى ليلة الجمعة ينبغي أن يعمل فيها بعمل ليلة الرغائب وهو ما روي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : ولا تغفلوا عن أوّل ليلة جمعة فيه فإنّها ليلة تسمّيها الملائكة ليلة الرغائب ، وذلك أنّه إذا مضى ثلث الليل لم يبق ملكٌ في السماوات والأرض إلا يجتمعون في الكعبة وحولها ويطلع الله عليهم إطلاعة ، فيقول : يا ملائكتي ! سلوني ما شئتم ، فيقولون : ربّنا حاجتنا أن تغفر لصُوّام رجب ، فيقول الله تبارك وتعالى : قد فعلت ذلك ـ والأنسب لمن سمع هذا الخبر أن يكثر في هذه الليلة من الصلوات على الملائكة أداء لتكليف آية التحية بقدر المقدور ـ ثمّ قال رسول الله :
ما من أحد صام يوم الخميس أوّل خميس من رجب ثمّ يصلّي بين العشاء والعتمة اثنتي عشرة ركعة يفصل بين كلّ ركعتين بتسليمة يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة و«إنّا أنزلنا في ليلة القدر» ثلاث مرّات ، و«قل هو الله أحد» اثنتي عشرة مرّة ، فإذا فرغ من صلاته صلى عليَّ سبعين مرّة يقول : «اللهمّ صلّ على محمدٍ النبيّ الأمّيّ وعلى آله» ، ثمّ يسجد ويقول في سجوده سبعين مرّة : «سبّوحٌ قدّوسٌ ، ربّ الملائكة والروح» ، ثم يرفع رأسه ويقول : «ربّ اغفر وارحم ، وتَجاوز عمّا تَعلَمُ ، إنّك أنت العليُّ الأعظم» ، ثمّ يسجد سجدة أخرى ويقول في سجوده مثل ما قال في السجدة الأولى ، ثمّ يسأل الله حاجته ، فإنّه يقضيها إن شاء الله تعالى .

السابق السابق الفهرس التالي التالي