المراقبات 63

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده لا يصلّي عبد أو أمة هذه الصلاة إلا غفر الله له ذنوبه ولو كانت ذنوبه مثل زبد البحر وعدد الرمل ، ووزن الجبال ، وعدد ورق الأشجار ، ويشفّع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته ممّن قد استوجب النار ، فإذا كان أوّل ليلة نزوله إلى قبره ، بعث الله إليه ثواب هذه الصلاة في أحسن صورة بوجه طلق ، ولسان زلق ، فيقول : يا حبيبي ! أبشر فقد نجوت من كل شدّة ، يقول : من أنت ؟ فما رأيت أحسن منك ، ولا شممت رائحة أطيب من رائحتك ، فيقول : يا حبيبي أنا ثواب تلك الصلاة التي صلّيتها ليلة كذا ، في بلدة كذا ، وشهر كذا ، في سنة كذا . جئت الليلة لأقضي حقّك ، وآنس وحدتك ، وأرفع عنك وحشتك ، فإذا نفخ في الصور ظلّلت في عرصة القيامة على رأسك ، وإنك لن تعدم الخير من مولاك أبداً ، هذا .
وظاهر أوّل الرواية أنّ ليلة الرغائب أول ليلة الجمعة من رجب ، ولكنّه لا ينطبق عليه ـ إن كان العمل المذكور في آخرها من عمل تلك الليلة ـ إذا اتفق كون أوّل الشهر جمعة ، والجمود على الظاهر إنّما يقتضي أن يقال : إنّ العمل بذلك فيما إذا لم يكن أوّل الشهر جمعة وأمّا إذا كان الأوّل جمعة يكون العمل للجمعة الثانية ، لو لم ينطبق بليلة الرغائب ، وليس في الرواية تصريح باشتراط ذلك بليلة الرغائب .
ولكنّ الذي يقوى في النفس أن يكون العمل للجمعة الأولى ولكن بإلغاء الصوم إذا اتّفقت الجمع في أول الشهر أو بإلغاء قيد رجب من صوم الخميس في هذه الصورة .
وأمّا اليوم الأوّل ؛ فمن مهمّاته الصوم وصلاة سليمان ـ رضوان الله عليه ـ والدعاء في أوّله بالمأثور في إقبال السيد (قدس سره) .

المراقبات 64

وأمّا الصوم فقد ورد فيه روايات معتبرة يذكر منها واحدة وهو ما رواه الصدوق عليه الرحمة في «ثواب الأعمال» و«الأمالي» قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا إنّ رجب شهر الله الأصمّ ، لأنّه لا يقاربه شهر من الشهور حرمة وفضلاً عند الله ، كان أهل الجاهليّة يعظّمونه في جاهليّتهم ، فلمّا جاء الإسلام لم يزد إلا تعظيماً وفضلاً ، ألا إنّ رجب شهر الله ، وشعبان شهري ، ورمضان شهر أمّتي ، ألا فمن صام من رجب يوماً إيماناً واحتساباً استوجب رضوان الله الأكبر ، وأطفأ صومه في ذلك اليوم غضب الله ، وأغلق عنه باباً من أبواب النار ، ولو أعطى ملء الأرض ذهباً ما كان أفضل من صومه ، ولا يستكمل أجره بشيء من الدنيا دون الحسنات ، إذا أخلصه الله ، وله إذا أمسى عشر دعوات مستجابات ، إن دعا بشيء من عاجل الدنيا أعطاه الله وإلا ادّخر له من الخير أفضل ما دعا به داع من أوليائه وأحبّائه وأصفيائه .
وقد وردت روايات كثيرة لصوم أيّام رجب ، ووردت مثوبات جزيلة فاخرة جدّاً لمن صام منه يوماً أو يومين أو ثلاثة إلى أن ينتهي إلى تمام الشهر ، فمن أراد الاجتهاد فليصم الشهر كلّه ليفوز بجميع المثوبات الواردة في كلّ واحد منها ، لكن إذا اتفق الشهر في فصل حارّ لا يوافق مزاجه أو حاله مع الصوم ، أو اتّفق له عذر شرعيّ من الصيام كسفر أو ضيف يتضيّق من صيامه أو غير ذلك ، فليعمل بما ورد له من البدل وهو ما رواه الصدوق في «ثواب الأعمال» و«الأمالي» بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :
ومن صام من رجب ثلاثين يوماً ، نادى منادٍ من السماء : يا عبد الله أمّا ما مضى فقد غفر لك ، فاستأنف العمل في ما بقي ، فأعطاه الله في الجنان كلّها في كلّ جنة أربعون ألف ألف بيت ، في كل بيت أربعون ألف ألف مائدة من ذهب ، وعلى كلّ مائدة ألف ألف قصعة ، في كلّ قصعة أربعون ألف ألف لون

المراقبات 65

من الطعام والشراب ، لكلّ طعام وشراب من ذلك لون على حدة ، وفي كل بيت أربعون ألف ألف سرير من ذهب ، طول كلّ سرير ذراع في عرض ألف ذراع ، على كلّ سرير جارية من الحور العين ، عليها ثلاثمائة ألف ذؤابة من نور تحمل كلّ ذؤابة منها ألف ألف وصيفة تغلّفها بالمسك والعنبر إلى أن يوافيها صائم رجب ، هذا لمن صام رجب كله .
قيل : يا نبي الله فمن عجز عن صيام رجب بضعف أو علّة كانت به ، أو امرأة غير طاهرة يصنع ماذا لينال ما وصفت ؟
قال : «يتصدّق عن كلّ يوم برغيف ، والذي نفسي بيده إنّه إذا تصدّق بهذه الصدقة كلّ يوم ينال ما وصفت وأكثر ، لأنّه لو اجتمع جميع الخلائق كلّهم من أهل السماوات والأرض على أن يقدّروا قدر ثوابه ما بلغوا عشر ما يصيب في الجنان من الفضائل والدرجات» .
قيل : يا رسول الله : فمن لم يقدر على هذه الصدقة ، يصنع ماذا لينال ما وصفت ؟
قال : «يسبح الله في كلّ يوم من أيّام رجب إلى تمام ثلاثين يوماً هذا التسبيح مائة مرّة : «سبحان الإله الجليل ، سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له ، سبحان الأعزّ الأكرم سبحان من لبس العزّ وهو له أهل» .
أقول : الصوم لله ، وهو يجزي به كما ورد في الخبر ، فينبغي للسالك إذا صام أن تصوم معه جوارحه ، كما روي عن الصادق عليه السلام : إذا صمت فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك ـ وعدّ أشياء غير هذه ـ فإنّ في عدّ الجلد والشعر كفاية في لزوم صوم جميع الجوارح ، وبالجملة فإن صوم الخواصّ ليس من البطن والفرج خاصّة ، بل يعمّ سائر الجوارح كما أنّ صوم خواصّ الخواصّ بضمّ القلب على الجوارح فهو أن تصوم جوارحه عن مخالفة إرادة

المراقبات 66

الله وقلبه عن الهمم الدنيّة ، والأخطار الدنيوية ويكفّه عمّا سوى الله بالكليّة .
أقول : الصوم وكذا كلّ عبادة إنّما يعدّه العوامّ تكليفاً ، ويعمل به تكلّفاً ولكنّ الخواصّ يرونه تشريفاً ولطفاً من الله جل جلاله ويرون أنّ الله في جعل العبادات وايجابها منّةً عظيمة ونعمة جسيمة على عباده ، ويستقبلونها استقبال التشريف لا التكليف ، بفرح وسرور ونشاط ، بل ولذّة وحبور من الخطاب .
وروي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى : «يا أيّها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيام» (البقرة : 183) قال : لذّة الخطاب ذهب بالعناء . هكذا يجب أن يكون العبد العارف بالله وبحقّ الله ، فإنّ العبد إذا عرف الله أحبّه وإذا أحبّ الله أحبه الله ، فتصير جميع معاملاته مع الله معاملة الحبيب مع حبيبه ، وهل رأيت حبيباً مستثقلاً عن خدمة حبيبه ، لا سيّما إذا كانت الخدمة لطفاً من الحبيب وتشريفاً ، بل دعوة لمجلس المؤانسة وكرامة ، يلتذُّ من خطاب التكليف ، ويفديه بنفسه ومهجته على قدر محبّته ، ويراقب في إتيان تمام مراده ، ويجتهد في تحصيل كلّ محابّه ، وإن لم يردها منه ، ولا يرى سعيه واجتهاده في ذلك إلا لذّة وسعادة ، فيكون الإتيان بمحابّ الله جل جلاله من أهمّ محابّ نفسه ومراداتها ، فيعمل بها بالشوق التامّ الكامل ، والامتنان من إذن الله ـ جل جلاله ـ له في ذلك ، ولا يوجد في قصده غير الله تعالى وغير رضاه ، لا يشوبه قصد جزاء وثواب وجنّة ونعيم من نعم الله تعالى فضلاً عن شوب الرياء والسمعة واطّلاع الغير وتحصيل رضاه .
وتفكّر يا عاقل في هذا الصوم المعيّن الخارجيّ لو أتيت به على ما وصفناه من النيّات والمقصود ، فزت بجميع ما ورد من الكرامات السنيّة ، والمقامات العليّة للصائمين والمخلصين وأزيد ، لأن فضل الله وكرامته لا

المراقبات 67

تُقدّر بالبيان ، ويخدمك ملائكة الرحمن ، بل يطعمك ويسقيك في قيلولتك الملك المنّان .
وإن أتيت به رياء وسمعة وجب لك الخذلان ، وكنت من عبدة الشيطان ، ونوديت بأربعة أسماء : يا غادر ! يا فاجر ! يا كاذب ! يا مرائي ! واستحققت بذلك النيران . فيا سبحان الله هذا عمل واحد شخصيّ فما هذا الفرق العظيم إلا من جهة أمر القلوب والنيّات .
نعم لو لم يكن أمر القلوب والنيّات بهذه العظمة والحيثيّة ، لما أنزل الله في كتابه العزيز في سورة والشمس (أحد عشر) قسماً بفلاح من زكّاها وخيبة من دسّاها ، فللعاقل أن يبذل تمام جهده وسعيه في إخلاص النيّات وتصحيحها والصدق في ذلك .
وقد ذكر سيدنا ومولانا أسوة أهل المراقبة قدّس سرّه العزيز في كتاب «الإقبال» عدّة إشارات لاعتبار معرفة صوم الإخلاص من صوم الرياء والشبهات ، وأنا أذكرها تيمّناً بما ذكره ، ثمّ أعقبه بما يفتح الله لي من البيان في ذلك :
الأول : اعتبار ذلك بالاستحياء من الإفطار ، عن صوم الأيّام المستحبة بمحضر الصائمين من الأخيار ، فتعلم منه أنّ في صومك شبهة تزيد بها التقرّب إلى قلوب الأنام .
الثاني : أن تعتبر ذلك برغبة قلبك على اطّلاع الغير من المخلوقين ، الذين تظنّ في اطّلاعهم على صومك خيراً لك في دنياك ، ولو بالمدح والثناء ، وزيادة الإكرام ، أو عدم ميلك إلى الإطّلاع به من غير الله ، أو لا يكون الغير في قلبك بمقدار التأثير في رغبتك إلا أن اطّلاع الغير أجلّ من اطّلاع ربّك فإن كان كذلك فاعلم أنّ صومك سقيم ، وأنت عبد لئيم .

المراقبات 68

أقول : فليكن مراده (قدس سره) من الأخير أن يكون اطّلاع الغير أجلّ من اطّلاع الله وحده وجلالة ما لا يؤثّر في الرغبة ، وإلا لا يفارق ما في ظاهر كلامه من الرغبة .
الثالث : الاعتبار بالنشاط بكثرة الصائمين ، والكسالة بالوحدة ، وهذا أيضاً يكشف عن دخالة ما في كثرتهم في قصده وعمله ، فبقدر تأثير ذلك في القلب يتكدّر الإخلاص ويسقم الصوم .
الرابع : الاعتبار بأنّ القصد هل هو لمجرّد قصد الثواب ، أو لأجل مراد ربّ الأرباب ؟ إن كان الأول فقد عزلت الله جل جلاله عن أنّه يستحقّ الصوم لامتثال أمره ، وعن أنّه جل جلاله أهلٌ للعبادة بعظم قدره ، ولولا الرشوة والبرطيل ما عبدته ، ولا راعيت حقّ إحسانه السالف الجزيل ، ولا حرمة مقامه الأعظم الجليل .
الخامس : الاعتبار بسعة الفطور كمّاً وكيفاً هل يزيد في نشاطك في صومك أم لا ، إن زاد في نشاطك كثرة الطعام ولذّته ، فبقدر زيادة النشاط بغير جهة الله يتعلّل عملك من أولّه إلى آخره . هذا في اعتبارات تمام الصوم .
وأمّا اعتبارات إتمامه مخلصاً إذا فيه بالإخلاص فهي أيضاً أمور :
منها : أن يعرض لك في أثناء الصيام طعام لذيذ ، أو زوجة جميلة ، أو سفر فيه نفع ، هل يقلّ نشاطك بذلك عن الصيام ، وتكون مستثقلاً في صومك ، وتتوقّع خلاصك منه أم لا ، فإنّك لا تقبل من عبدك خدمته مستثقلاً فيها ، بل تطرده وتهجره بذلك .
ومنها : أن يحدث أمر يرجّح إفطارك عند الله على صومك ، فانظر هل تستحيي من الإفطار عند الناس ، فلا تبادر بالأرجح ، فلو كنت في عملك

المراقبات 69

وقصدك مخلصاً في مراد الله لما راعيت غيره إذا ترجّح الإفطار عند الله جل جلاله .
ومنها : أن ترى في أثناء صومك أنّه يعجزك ويمنعك عن إتيان بعض الفروض الواجبة ، أو ما هو أهمّ عند الله ، فبادر بالأهمّ عند الله جل جلاله وصغّر ما صغّر الله ولا تراع عدم علم الناس بعذرك ، فتدخل بذلك في المرائين في عباداتهم ، تدخل عبادتك في كبائر الذنوب ، فإنّ هذه العوارض تفسد صيامك أو خلوصه ، وإن كان في أوّله صحيحاً مرضيّاً لله جل جلاله ، فإن خطر لك بعض هذه العوارض أو غيرها ممّا يصرفك عن استمرار نيّة الإخلاص فبادر بالتوبة عنها .
واعلم أنّ ما يصرفك عن خدمة مولاك ومراضي إلهك ، فهو كالعدوّ لك ولمولاك ، كيف تؤثر عدوّك وعدوّه عليه ، وأنت في حضور سيّدك وهو يراك ، فإذا إثرت غيره عليه فمن يقوم بما تحتاج إليه في دنياك وأُخراك . انتهى ملخّصاً .
أقول : ولقد أفاد وأجاد ، جزاه الله عن عباده خير الجزاء ، ولكنّه لم يبيّن مراتب هذه الآفات ، فإنّ بعض ذلك مبطل للصوم ، وبعضه مفسد للإخلاص ، وبعضه مفسد للصدق والإخلاص ، وبعضه مرجوح بالنسبة إلى الدرجة العلياء ، ومع ذلك فهو من الصدق والإخلاص في درجة عالية .
فإن شئت ترتيب ذلك فاعلم أنّه كلّما دخل في قصد عبادتك صوماً كان أو غيره غير الله من مخلوقه سواءً من كان من أوّل الأمر أو حدث في الأثناء فهو مبطل للعمل ، ذلك مثل ما ذكره (قده) في العارض الراجح في الأثناء إذا لم يفطر من جهة عدم علم الناس بعذره ، فإنّ إدامة الصيام لأجل الغير مبطل له ،

المراقبات 70

ومدخلٌ له في الرياء المحرّم ، ولم يذكر من هذا القسم مثالاً لما يقع في الابتداء .
وكذا ما ذكره أخيراً من الصارف عن استمرار النيّة وقال : إنّه كالعدو لك ولربّك ، هو أيضاً شامل لهذا القسم ، وهو كما ذكره كالعدوّ بل هو إيثار عبادة العدوّ ، لأنّ ذلك إمّا يكون بأمر الخبيث إبليس ، فيكون عبادة لعدوّ الله في الحقيقة وهي بمنزلة الكفر بالله وإن لم يوجب الله له كفراً من كثرة رفقه وأناته .
وكذا ما ذكره أوّلاً في العوارض المرجّحة للإفطار فإنّ إدامة الصوم مع رجحان الأكل من جهة إيراد المخلوق يجعل الصوم من صوم الرياء ، فيكون باطلاً وموجباً لسخط الخالق ، ولم يذكر من هذا القسم المبطل ما يوجد في ابتداء العمل وذكر ممّا في الابتداء من الآفات ما يضرّ في كمال الإخلاص لا في صحّة العمل .
وأمّا ما ذكره في أوّل الأقسام في الحياء من الإفطار بمحضر الصائمين ، فهو على أقسام ، لأنّه إمّا أن يكون الحياء مؤثّراً في صومه بحيث لو لم يكن لما صام ، فهو أيضاً من الأقسام الباطلة سواءً كان مستقلاً في السببيّة أو جزء سبب ، ولكن يمكن أن نقول في ذلك بعدم العقاب ، وأمّا إذا لم يكن مؤثّراً فلا يكن مبطلاً إلا أنّه يحطّه عن الدرجات العالية وذلك مثل قصد الثواب ودفع العقاب ، فإنّه وإن كان صحيحاً وقصداً عاليّاً أيضاً في حدّ نفسه إلا أنّه من عمل العبيد والأجزاء بالنسبة إلى ما يعمل ، لأنّه جل جلاله أهلٌ للعبادة أو لتحصيل رضاه أو لتحصيل قربه ، وإن كان الأخيران أيضاً داخلين فيما يعمل للثواب ، ولكن هذا الثواب ليس كغيره من المثوبات فإنّهما أيضاً قريبان من الأول .
وبالجملة الأحرار العارفون بالله جل جلاله لا تكون أعمالهم غالباً من باب الطمع والخوف ، بل يكون باعثهم على العمل ما يتجلّى لهم من عظمة

المراقبات 71

ربهم وكبريائه أو نوره وبهائه ، فيعملون ويتواضعون ويعبدون ربّهم ومولاهم من غير رويّة وتردّد واختيار ، بل يشبه عملهم عمل المضطرّين كما قال في حقّهم علي عليه السلام في حديث الهمّام ، بل خامرهم من عظمة ربّهم ما طاشت به عقولهم ، أو عمل المجذوبين الوالهين من ظهور بهاء الحق تعالى ، وسطوع أنوار جماله ، فصاروا بين يديه حيارى متضرّعين ، وسكارى متملّقين ، فإذا جنّهم الليل ، واختلط الظلام ، ونصبت الأسترة وخلى كلّ حبيب مع حبيبه نصبوا بين يديه أقدامهم ، وافترشوا جباههم ، فهم بين متأوّه وباك ، ومتضرّع وشاك ، فبعين الله ما يتحمّلون لأجله ، وبسمع الله ما يشتكون من حبّه ، فيقبلهم ربّهم بقبول حسن ، يريهم جماله ، ويؤنسهم بحسن صنيعه ، ولطف فعاله .
وأمّا الذين لم يعرفوا من الله إلا جنّته وناره ، فيعملون خوفاً من النار وشوقاً إلى الجنة ، فلا يتأتّى منهم عمل العارفين ، المحبّين المشتاقين ، نعم لهم أن يقهروا أنفسهم بالتفكّر في عظمة خالقهم ، ونعمه السابغة التي لا تحصى ، ويسعوا في تخلية أنفسهم وقلوبهم من ذكر الجنة والنار ، فيصحّحوا بالتعمّل قصداً خالصاً من باعث الرغبة والرهبة ، ومجرّداً لكونه تعالى أهلاً للعبادة ، أو يتفكّروا فيما سمعوا من أخبار الأنبياء والأولياء أن لا مرتقى فوق قرب الله ولقائه ، ويقدّروا في أنفسهم لذلك معنى صحيحاً ويجهدوا ، فيستقيم لهم في بعض الأحيان باعث الشوق إلى قربه ولقائه .
وإن أمكن ذلك لغير العارفين في بعض الأحيان لا يتيسّر لهم ذلك إلا نادراً فضلاً عن الاستمرار ، بل لم ينقل من أحد من الأنبياء والأولياء دعوى الاستمرار إلا ما روي عن أمير المؤمنين ، وقدوة المشتاقين ، من قوله : «ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنّتك ، بل وجدتك أهلاً للعبادة

المراقبات 72

فعبدتك» فهو من خصائصه وخصائص أخيه رسول الله ، حبيب الله ، سيّد خلق الله أجمعين ولعلّه موجود في أولاده المعصومين أو في غيرهم من الأنبياء أيضاً من يقدر أن ينفي في كلّ عباداته أن يكون لرغبة أو رهبة ، أو لا يوجد والله تعالى أعلم .
وقد روي عن شعيب النبي على نبينا وآله وعليه السلام أنّه قال في جواب الله جل جلاله عند سؤاله عن بكائه : إنّه ما كان بكاؤه من خوف نار ولا جنّة ، بل كان شوقاً إلى لقاء الله ، ولكن لا تصريح فيه يشمل سائر عباداته كلها ، وكيف كان هذا مقام يشكل على أغلب العلماء فهمه وتصديقه ، فضلاً على غيرهم ، فالأهمّ للسالكين أن يصحّحوا ويخلّصوا نيّاتهم عن شوائب الرياء ، حتى يتخلّصوا بذلك عن فضيحة يوم القيامة ، وحياء العرض على الله حين يقال له : يا فاجر يا غادر يا مرائي أما استحيت إذا اشتريت بطاعة الله عرض الحياة الدنيا ؟ راقبت قلوب العباد ، استخففت بنظر سلطان المعاد ، وتحبّبت إلى المخلوقين ، بالتبغّض إلى رب العالمين ، وتزيّنت لهم بعمل الله ، وتقرّبت إليهم بالبعد عن الله ، وطلبت رضاهم وتعرّضت لسخطه ، أما كان أهون عليك من الله .
أقول : ورد عن الصادق عليه السلام : «أنّه لو لم يكن للحساب مهولة إلا حياء العرض على الله ، وفضيحة هتك الستر ، لحقّ للمرء أن لا يهبط من رؤوس الجبال ، ولا يأوي إلى عمران ، ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام إلا عن اضطرار متّصل بالتلف» فواغوثاه من أن تنكشف للانسان يوم القيامة عباداته ، ويرى أهل الحشر أنّه كان يراقب فيها نظر المخلوقين ، ويتزيّن بها لأمثاله من الضعفاء ، ويتحبّب إلى الناس بالتبغّض إلى الله جل جلاله ، لا سيما إذا كان

المراقبات 73

واعظاً للناس وناهياً لهم عن الرياء ، فلعمري إنّه لأشدّ من جهنّم وعذاب النار .
لا سيما إذا قال له الجليل : عبدي أما كُنت لك خالقاً رازقاً ، ومنعماً مراقباً أما كنت لك حافظاً ، كنت تنام على معصيتي وأحفظك في نومتك هذه عن أعدائك ومكارهك كلّها ، وأنت تعصيني بنعمي عليك ، وأنا أُنعمك بما تعصي به عليَّ ، فما وجه اختيارك غيري عليَّ ؟ أكان غير أنعم عليك منّي فمن جهة نفعك اخترته ؟ أو كان أقوى منّي فلأجل خوفك اتّقيته ؟ أو كان حاضراً عندك وكنتُ غائباً فمن حضوره استحييته ، أليست الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ، والنعم كلّها من فعلي ؟ ألست أنا أغنى الأغنياء ، ولا غنيّ غيري ، أو ليس الخلق كلهم فقراء وليس في الوجود غيرهم ؟
أما وهبت لك ما تعرف به الخطأ من الصواب ، أما أرست إليك رسلاً منذرين ومبشّرين ، وأولياء هادين (بعد هادين) ، أما أنزلت كتباً لهدايتك ، وحذّرتك من عدوّك إبليس ؟ فـ «يا حَسرةً على العباد ما يأتيهم مِن رسولٍ إلا كانوا به يستهزئون» (يس : 30) فما كان في ذلك كلّه ما يحبّني إليك أو ما يرضيك عنّي ؟ أو ما يلجئك إلى طاعتي ؟ أو ما وجدت أهون منّي فعصيتني بعين نعمي عليك في حضوري فيما هو صلاحك وسعادتك ؟ وأطعت لمن أطاع غيري بمعصيتي . فـ «يا حسرَتي على ما فَرّطتُ في جَنبِ الله» (الزمر : 56) ، ويا سوأتاه ، ووافضيحتاه ، فيا ليت السماء أطبقت على الأرض ، ولم نسمع هذه الخطابات ، ويا ليت الجبال تدكدكت على السهل ، ولم نبدّل موقف الكرام بموقف اللئام ، فأنا أُنادي إلهي وربّي وسيّدي من مهوى عوالم الطبيعة ، وذلّ هذه المخازي الفضيحة وأقول :
إلهنا وعزّتك وجلالك ، وبهائك وجمالك ، لو كان لي جَلَد على

المراقبات 74

عذابك ، وطاقة على انتقامك ، ما سألتك العفو عنّي عن هذه الفضائح الشنيعة ، والقبائح الفظيعة ، بل سألتك عذابي ونكالي ، ورضيت بشدّة وسوء حالي ، سخطاً على نفسي بما جنت في صفقتها ، وأقبلت عليها وأدبرت معرضةً عنك في طاعتها ، ولكنّك يا مولاي في سعة عفوك وطول أناتك وجميل سترك ، عوَّدت هؤلاء الطغاة اللئام من أمثالي أن يطمعوا في نجاتهم ، بعد هذه العظائم ، ويرجوا منك الستر عن هذه الجرائم ، لأنّ هذه الدنيا من ضيقها ، وبعدها عن مقام لطفك وعوالم قربك ، ظهر فيها من حلمك وسترك ما يسعنا ويشملنا ، فكيف بعوالم الآخرة التي جعلتها دار كرامتك ، وأشرقت فيها سبحات وجهك ، وتلألأ فيها أنوار جمالك ، بعظيم عفوك ، وواسع رحمتك ، وجميل صفحك ، نلتجئ إليك من هذه المهالك المردية ، والأحوال الرديّة .
وإن كانت ذنوبنا قد أخلقت وجوهنا عندك ، وعيوبنا قد سوّدتها لديك ، فبنور وجوه أوليائك نتوجّه إليك ، وبكريم مقامهم نتوسّل إليك ، في أن تعاملنا بعفوك العظيم ، وفضلك القديم ، لا تفضحنا على رؤوس الأشهاد ، فإنّك قد أحسنت إلينا في الدنيا إذ سترتنا عن عبادك الصالحين ، فأدم لنا ما به سترتنا يوم القيامة عن أنظار العالمين ، وقد بلغنا عن أوليائك في تفسير جميل الستر من صفاتك ، أنّك تستر فضائح أعمال عبادك عنهم ، لئلا يتنغّص عليهم التنعّم بنعمك من الخجل ، بلغنا في تحقيق «كريم العفو» إنّك تعفو عن الذنوب وتبدّلها بأضعافها من الحسنات ، فبكرمك وعفوك نرجوك ، وبجميل سترك نؤمّلك ، وأنت عند حسن ظنّ عبدك بك ، فلا تؤيسنا من رحمتك ، ولا تقطع رجائي من رأفتك ، وإن قلّ حيائي منك فارحمني ، وقد لزق بقلبي داء ليس له دواء إلا منك ، فصرت مضطرّاً إليك ، ومن يجيب المضطر غيرك ، ويكشف

المراقبات 75

السوء عنه سواك ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ما شاء الله لا قوّة إلا بالله العلي العظيم ، هذا .
وللصوم جهات أخرى يلزم رعايتها للسالك من جهة سحوره وفطوره كمّاً وكيفاً ، إجمال ذلك أن يكون طعامه في كلا الوقتين بقد القوت خالصاً من الشبهات ويتواضع مع ذلك عن الالتذاذ بالأطعمة اللذيذة لله تعالى ، فلا يأكل ولا يشرب إلا لقوّة العبادة ، ويتحرّز عن خصوص إكثار اللحوم وتقليله عمّا ورد به الشرع ، أو لا يترك فوق ثلاثة أيام ولا يؤكل في كل يوم ، ويراعي عند الأكل آدابه التي تقرّر في محلّه .
ثمّ إنّ هذا الذي ذكر في الخبر في بدل الصوم من الصدقة التسبيح فظاهره الترتيب مطلقاً ولكن السيد (قده) جعل التسبيح للمعسر ، والصدقة للموسر ، فالأولى أن يراعي المعسر أيضاً الصدقة في صورة الإمكان ، ويجمع المكثر الذي لا يرى هذه الصدقات في ماله معها التسبيح .
وأمّا صلاة سلمان ، روى السيد (قده) في «الإقبال» باسناده الى الشيخ في المصباح فقال : وروى سلمان الفارسي قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر يوم من جمادي الآخرة في وقت لم أدخل عليه في ذلك الوقت قبله ، قال : يا سلمان أنت منّا أهل البيت افلا أُحدّثك ؟ قلت : بلى فداك أبي وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا سلمان ما من مؤمن ومؤمنة صلى في هذا الشهر ثلاثين ركعة ـ وهو شهر رجب ـ يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة و«قل هو الله أحد» ثلاث مرات و«قل يا أيّها الكافرون» ثلاث مرات إلا محا الله تعالى عنه كلّ ذنب عمله في صغره وكبره وأعطاه الله سبحانه من الأجر كمن صام هذا الشهر كلّه ، وكتب عند الله من المصلّين إلى السنة المقبلة ، ورفع له في كلّ يوم عمل شهيد من شهداء بدر ، وكتب له بكلّ يوم يصوم منه عبادة

المراقبات 76

سنة ، ورفع له ألف درجة ، فإن صام الشهر كله أنجاه الله من النار ، وأوجب له الجنّة ، يا سلمان أخبرني بذلك جبرئيل وقال : يا محمد هذه علامة بينكم وبين المنافقين لأنّ المنافقين لا يصلّون ذلك .
قال سلمان : فقلت : يا رسول الله أخبرني كي أُصلي هذه الثلاثين ركعة ومتى أُصلّيها ؟ قال : يا سلمان تصلّي في أوّله عشر ركعات تقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة واحدة ، و«قل هو الله أحد» ثلاث مرّات و«قل يا أيّها الكافرون» ثلاث مرات ، وإذا سلّمت رفعت يديك وقلت : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حيٌ لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» ثم امسح بهما وجهك وتمام الرواية في وسط الشهر وآخره .
أقول : للمصدّق بالإسلام والمؤمن بالنبي الصادق لا بدّ أن يشتاق بالعمل بمثال هذه العبادات التي كشفت أخبار الرسالة فيها عن هذه المثوبات الجزيلة التي تُبهر العقول ، ولا يناقش في عدم صحة الاسناد لوجهين :
أحدهما : أنّ الأمر إذا صار بهذا الخطر والعظمة ، إنّما يكفي فيه الاحتمال عند العقول ، والحال أنّ هذه الأخبار مظنون الصدور .
والثاني : ما ورد في أخبار كثيرة موثّقة أنّ من سمع شيئاً من الثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كما سمعه . فهذه الأخبار المعتبرة قطع الأعذار من جهة إسناد الأخبار .
واجتهد أيها العاقل فإنّ العقلاء لا يكسلون عن تحصيل الفوائد الجليلة وقدّامك يوم عظيم مهول ، عظيم الأخطار ، كثير الأهوال ، وأحوج ما تكون في هذا اليوم ، ما تدري لعلّك تحتاج في هذا اليوم إلى حسن واحدة تعادل بها

السابق السابق الفهرس التالي التالي