المراقبات 91

والأولى أن يصلّي أربع ركعات التي صلاها عليٌّ عليه السلام ويقرأ بعدها الدعاء الذي قرأه وأوّله : [اللهمّ] يا مذلّ كل جبّار . ويدعو بعده بحوائجه ويتذكّر في خلال اليوم أنّ هذا اليوم من خصائص هذه الامّة ويشكر هذا التخصيص ، ومن لأجله الاختصاص ، وكثر الصلاة والدعاء عليه صلى الله عليه وعلى آله المعصومين ، يختم يومه أيضاً كما مرّ مراراً بما يختم به أمثاله من الأيّام الشريفة . لسيّد المراقبين (قده) في هذا المقام تفصيل في ذكر رواية دعاء الاستفتاح وعنايات هذه الواقعة الميمونة ، ومراقبات جليلة ، فليطلب الطالب ذلك من كتاب «الإقبال» ، ولا يزهد فيه فإنّ فيه فوائد جليلة عند أهله ، وإن كان غير عزيز على الغافلين .
ثمّ بعد ذلك من منازل رجب وأشرفها بل أشرف من كلّ يوم .
يوم السابع والعشرين وليلتها :
أمّا الليلة فقد روى في «الإقبال» عن محمد بن عليّ الطرازيّ في كتابه باسناده إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام قال : قال «في رجب ليلة هي خير للناس ممّا طلعت عليه الشمس ، وهي ليلة سبع وعشرين منه ، بعث النبيّ في صبيحتها ، وإنّ للعامل فيها ـ أصلحك الله ـ من شيعتنا مثل أجر عمل ستّين سنة .
قيل : وما العمل فيها ؟ قال : إذ صلّيت العشاء الآخرة ، وأخذت مضجعك ثمّ استيقظت أيّ ساعة من ساعات الليل كانت قبل زواله أو بعده صلّيت اثنتي عشرة ركعة باثنتي عشرة سورة من خفاف المفصل من بعد يس إلى الحمد ، فإذا فرغت من كلّ شفع جلست بعد التسليم وقرأت الحمد سبعاً ، والمعوذتين سبعاً ، و«قل هو الله أحد» سبعاً ، و«قل يا أيّها الكافرون» سبعاً ، و«إنّا أنزلناه» سبعاً ، وآية الكرسيّ سبعاً ، وقلت بعد ذلك

المراقبات 92

من الدعاء : «الحمدُ لله الذي لَم يَتّخِذ صاحِبةً ولا ولداً إلخ» ، ادع بما أحببت ، فإنّك لا تدعو بشيء إلا أُجبت ما لم تدعُ بمأثم ، أو قطيعة رحم ، أو هلاك قوم مؤمنين .
وتصبح صائماً فإنّه يستحبّ لك صوم سنة ، وإن عاقه مانع من هذا التفصيل صلّى ما رويناه في ليلة النصف . وهي أيضاً واردة في هذه الليلة .
والأهمّ معرفة حقّ الليلة ويومها ، ويعرف (ذلك) إجمالاً ممّا ذكرناه في يوم ولادة أمير المؤمنين عليه السلام من نعمة وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونعمة بعثته ، فإنّه لا مرتقى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشرف فإنّه سيّد خلق الله أجمعين . وأشرفهم وأقربهم وأحبّهم إلى الله ، وهو النور الأوّل ، والحجاب الأقرب ، والعقل الأوّل ، والاسم الأعظم ، ولا مطمع لأحد في هذه الصفات من نبيّ مرسل ، وملك مقرّب .
وهو رحمة للعالمين ، فبقدر شرف وجوده الأشرف ، وخيرات مبعثه الشريف يعظم شرف هذا اليوم ونوره وخيره وبركاته ، وبقدر ذلك يعظّم عند العقول حق شكره لأمّته ولشيعته ، فتفكّر يا عاقل هل تصدّق لما ذكرناه ؟ فلا بدّ من الجدّ ولا تحتاج في ذلك إلى ترغيب ، والخير نفسه مرغّب فيه ، وإن لم تصدّق فإمّا أن ترضى بالخروج عن عقائد أهل الإسلام ، وإمّا تعالج نفسك وقلبك ، حتى تحصّل الإيمان ، ولكنّ الذي أظنّ لأغلب المسلمين أن ليس مسامحتهم في هذه المقامات من جهة عدم التصديق والايمان رأساً ـ العياذ بالله منه ـ ولكن من كثرة ابتلائهم وافتتانهم بزخارف هذه الدنيا الدنيّة ، قد ألهاهم التكاثر حتّى يزوروا المقابر ، وأشغل قلوبهم ذكر الدنيا عن ذكر ربّهم ، وفهم مبدئهم ومعادهم .
وبالجملة للسالك أن يسعى بتمام سعيه وجدّه في ذكر حقّ تعظيم

المراقبات 93

اليوم ، ومعرفة حقّ نعمته ، وما أتى به من السعادة العظمى ، والخير الأعظم ، والبركات والنور ، يختبر قلبه كيف فرحه بهذا اليوم وسروره ؟ ولو رأى قلبه أنّ يوماً من أيّام المسار الدنيويّة عنده بمثابة هذا اليوم أو أزيد في الفرح والسرور ، فليعالج نفسه فإنّه من لئامة النفس وخسّتها ، والأنس بعوالم الطبيعة ، والصفات البهيميّة والبعد عن عالم النور ، وانعكاس القلب وانتكاسه .
ومن مهمّات هذا اليوم الصوم والغسل وزيارته صلى الله عليه وآله وسلم ، وزيارة أمير المؤمنين عليه السلام بالزيارة المخصوصة العظيمة الشأن الواردة في هذا اليوم ، وأن يصلّي قبل الزوال ما رواه في «الإقبال» عن محمد بن عليّ الطرازيّ في كتابه باسناده إلى التوقيع الخارج من جهة أبي القاسم الحسين بن روح ـ قدّس روحه ـ أنّ الصلاة يوم سبعة وعشرين من رجب اثنتا عشرة ركعة تقرا في كل ركعة فاتحة الكتاب وما تيسّر من السور ، وتسلّم وتجلس وتقول بين كلّ ركعتين : «الحمدُ لله الذي لَم يتّخذ الخ» ، فإذا فرغت من الصلاة والدعاء قرأت الحمد ، و«قل هو الله احد» ، و«قل يا أيها الكافرون» ، المعوذتين ، و«إنّا أنزلناه في ليلة القدر» ، وآية الكرسيّ سبعاً سبعاً ثم تقول : «لا إله إلا الله والله أكبرُ وسبحان الله ولا حَولَ ولا قوّة إلا بالله» سبع مرّات ، وتقول : «الله الله ربّي لا أُشركُ به شيئاً» سبع مرّات ثمّ ادع بما أحببت .
ثمّ [إنّ] من مهمّات أعمال اليوم الدعاءين الواردين أوّل .
إحداهما : «يا من أمر بـ [العفو و] التجاوز .
وثانيهما : «اللهم إنّي أسألك بالتجلّي الأعظم الخ» .
إن السيّد ـ قدس الله روحه ـ ضرب في «الإقبال» مثلاً للفاقدين لنعمة البعثة ثمّ للواجدين لها، وعرّف بذلك الإشارة إلى قدر عظمة النعمة ، فراجع .

المراقبات 94

وأنا أقول : فليتفكّر الإنسان في أيّام الجاهليّة ، وأيّام الفترة قبل البعثة ، ولينظر إلى ما آل إليه أمر الناس ، فبعض تهوّدوا ، وأُخر تنصّروا ، وعموم الناس عبدوا الأصنام ، وهجروا أحكام الإسلام ، وفارقوا أخلاق الإنسانية ، وأنسوا بطبائع الحيوانيّة ، البهيميّة والسبعيّة .
حتّى أدّى حالهم إلى أن دفنوا البنات ، وهاجروا بذلك الصلوات ، وافتخروا بالمحالات ، وفارقوا العدل ، وتركوا الحقوق بين الملل ، وغلّبوا الأقوياء [على] الضعفاء واستأصلوا الشرفاء ، وعاندوا العلماء ، واستوحشوا من الحكماء ، وطووا بساط العلم ، وأنكروا حسن الحلم ، وقطعوا الأرحام ، وتشبّهوا بالأنعام ، اقتسموا بالأزلام ، وشربوا الخمور ، وتركوا العقول ، وقتلوا الأولاد ، وخرّبوا البلاد ، ونسوا الصنائع ، وأبطلوا الشرائع ، وأهلكوا البضائع ، وارتكبوا الشنائع .
وشاعت الخيلاء والكبر ، وافتخروا بعدم الصبر ، وسنّوا الفحشاء والمنكر وجاؤوا بقول الزور ، وقتلوا الأنبياء ، وأخرجوا الأولياء ، وأحكموا الأشقياء وأطاعوا الأدعياء ، وعبدوا الشيطان ، وأسخطوا الرحمن ، وسجّروا النيران ، فتلاطم من ذلك أمواج غضب الرب وقرب أمر العالم من الهلاك والفناء ، وأن يسوقهم سياط غضب الله إلى جهنم وبئس المصير ، أو يأخذهم في تقلّبهم إلى الهلاك والتدمير ولم يبق شيء من نزول العذاب بنار تحرقهم عن آخرهم ، أو خسف في الأرض ، أو رمي بالحجارة ، أو مسخ بالخنازير ، أو غير ذلك من العذاب والنكال ، البلاء وسوء الحال ، فسبقت عناية الربّ بحكم الحلم والأناة ، لإتمام الحجّة ، وإكمال الرحمة .
فبعث الله خاتم النبيّين بما أشرنا إليه من الفضائل والفواضل ، رحمة للعالمين وعلماً للهداية ، وبصراً من العماية ، فيخرجهم من الظلمات إلى

المراقبات 95

النور ، وأبدل جهلهم بالعلم ، وضلالتهم بالهدى ، وهلاكهم بالنجاة ، وظلمهم بالعدل وحمقهم بالعقل ، وفقرهم بالغنى ، وذلّهم بالعزّ ، وخرابهم بالعمران ، وهوانهم بالسلطان ، وكفرهم بالإيمان ، وجحيمهم بالجنان ، وظلمتهم بالنور ، وخوفهم بالأمن ، ويأسهم بالرجاء واسارتهم بالإطلاق ، وعبوديّتهم بالحريّة .
وبالجملة بعث إليهم من «الأُمّيّينَ رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتِهِ ويُزَكّيهم ويُعلّمهم الكتابَ والحكمةً وإن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين» (الجمعة : 2) .
فالناس بعد بعثته على أقسام وأحزاب :
حزب كفروا برسالته ودعوته ، فاستحقّوا بذلك الحرب والقتل والعذاب الخالد .
وحزب أسلموا ظاهراً ونافقوا ولم يسلموا بقلوبهم ، فاستحقوا بالإسلام (الظاهر) حقن الدماء ، وأحكام الإسلام في الدنيا ، وخلّدوا بنفاقهم أسفل الدركات .
وحزب أسلموا ظاهراً وباطناً ، وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وكان مرجواً في حقهم الجنة بغير عذاب .
وحزب عملوا مع ذلك الصالحات ، وزادوا في الحسنات ، ووعدهم ربّهم جنّات تجري من تحتها الأنهار ، لا يرون نكالاً وعذاباً ، وغفر لهم ذنوبهم ، وبدّل سيئاتهم بأضعافها من الحسنات .
وحزب زادوا مع ذلك تزكية النفس من الأخلاق الرذيلة ، وتحليتها

المراقبات 96

بالأخلاق الكريمة ، وتقرّبوا بذلك إلى الله جل جلاله ، فقرّبهم ورفع لهم الدرجات .
وحزب زادوا مع ذلك تحصيل معرفة ربّهم بإكثار الذكر والفكر ، والمجاهدة الشديدة ، واشتغلوا بذكر ربّهم عمّا سواه ، حتّى عرفوه ووحّدوه بالتوحيد الخالص عن جميع وجوه الشرك ، وأحبّوه فتقرّبوا إليه ببذل كل ما سواه ، واشتاقوا إلى لقاه ، فقبلهم ربّهم بقبول حسن ، فقرّبهم وأدناهم ، وكشف عنهم الحجب كلّها ، وأراهم جماله فرأوه بأبصار قلوبهم بغير حجاب ، وألحقهم بنبيهم وآله ، أقعدهم مقعد صدق في جوارهم عند مليك مقتدر ، أولئك هم السابقون المقرّبون ، رفقاء الأنبياء والشهداء وحسن أولئك رفيقاً .
وكيف كان فمن عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعرف نعمة بعثته ، وفوائدها وأنوارها ، بركاتها ، خيراتها ، يعظم عنده يوم المبعث ، ويعظم فرحه به ، وسروره وشكره ، ويكثر من الصلوات والثناء على المبعوث فيه عليه وآله جميع صلوات الله المباركات التامّات الخالدات ، وهديّة الأعمال اللائقة بحضرة قدسه .
ثمّ يجتهد في آخر النهار في التوسّل بخفراء الأيّام بتسليم عمله واستصلاحه وتلطيف مناجاته معهم ، ليقع في موقع القبول والزيادة ، فإنّ لتلطيف الأعمال والأقوال لشأناً في التأثير ، هذا .
والمنزل المهمّ الآخر للسالك من هذا الشهر بعد المبعث يوم آخره ، فليجتهد وليتلطّف في عرض الأعمال ، والقصور والتقصيرات ، مع اعتراف صادق ، وحياء خالص ، واحتراف واستعلاج كامل من باب فضله العظيم ، والتوسل إليه بأحبّائه ووجوه أوليائه ، فإنّه كريم يحبّ الكرامة لأوليائه ،

المراقبات 97

وعباده المحترفين على بابه المضطرّين إلى رحمته ، وقد أنزل في كتابه : «أمّن يُجيبُ المضطرّ إذا دعاهُ ويَكشِفُ السّوء» (النمل : 62) وأنّه كريم العفو ، وقد فسّر بأنّه يعفو عن السيئات ، ويبدّلها بأضعافها من الحسنات ، فلينظر أن لا يخرج بخروج الشهر عن حمى مولاه ، يتضرّع إلى الله جلّ جلاله أن يجعله دائماً في حماه ، ولا يكون ذلك في شهر دون شهر ، وحال دون حال ، ومكان دون مكان وليهتمّ بذلك ولا يكن فيه من الغافلين .

* * *




المراقبات 98




المراقبات 99


الفصل الثامن


في مراقبات شهر شعبان المعظم


وهذا المنزل من منازل العمر للسالك إلى الله تعالى ، له شأن عظيم ، وفضل كثير ، فيه ليلة من ليالي القدر ، وقد ولد مولود فيه وعد الله به النصر لكلّ مظلوم من أوليائه ، وأنبيائه وأصفيائه ، مذ هبط أبونا آدم على نبيّنا وآله وعليه السلام على الأرض ، وأن يملأ به الأرض قسطاً وعدلاً ، بعدما ملئت ظلماً وجوراً ، على ما يأتي تفصيله في محلّه .
وكفى في شأنه أنّه شهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال فيه : «شعبان شهري ، رحم الله من أعانني على شهري» ومن عرف منزلة هذه الدعوة العظمى ، فلا بدّ أن يكون اهتمامه في اشتمالها عليه ودخوله فيها ، وذلك خليفته وأخوه أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال :
«ما فاتني صوم شعبان مذ سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينادي في شعبان فلن يفوتني أيّام حياتي صوم شعبان إن شاء الله» . هذا في صومه وقس عليه إعانته صلى الله عليه وآله وسلم من سائر الجهات من الصلاة والصدقة والمناجاة ، ووجوه البرّ كلّها .

المراقبات 100

ومناجاته الشعبانية معروفة وهي مناجاة عزيزة على أهلها يحبّونها ، ويستأنسون بشعبان لأجلها ، بل ينظرون ويشتاقون لمجيء شعبان وفيها علوم جمّة في كيفيّة معاملة العبيد مع الله جلّ جلاله ، وبيان وجوه الأدب في طريق معرفة حقّ السؤال ، الدعاء والاستغفار ، من الله جل جلاله ، واستدلالات لطيفة تليق بمقام العبودية ، لاستحكام مقام الرجاء ، المناسب لحال المناجاة ، ودلالات صريحة واضحة في معنى لقاء الله وقربه والنظر إليه ، ترفع شبهات السالكين وشكوك المنكرين ، ووحشة المرتابين ، وإشارة إلى معرفة النفس وأنّها طريق معرفة الربّ على ما فَسّرَ بعض فقراته شخص جليل من اهل المعرفة .
وبالجملة هذه المناجاة من مهمّات أعمال هذا الشهر بل للسالك أن لا يترك بعض فقراتها في تمام السنة ، ويكثر المناجاة بها في قنوتاته ، وسائر حالاته السنية ولا تغفل عن قولك حين تقول : «وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة ، وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك» وليتأمّل هل بقلبه بصر يدرك به النور ؟ وما حجب النور ؟ وما المحتجب بالنور المتّصف بمعدن العظمة ؟ حتى يعلم ما يقول ، وما يستدعي من ربّه أن يعطيه ، فإن الإنسان إذا لم يعرف ما يسأل ربّه أصلاً لا يصدق عليه أنّه سأل ربّه ، بل يصدق أنّه قرأ الألفاظ ، والقارئ للألفاظ غير الداعي والسائل ، والله تعالى يقول :
«أمّن يُجيبُ المضطرّ إذا دعاه» (النمل : 62) ويقول : «ادعوني أستَجِب لكم» (غافر : 60) ويقول : «واسألوا الله من فضلِهِ» (النساء : 32) «إنّ الله كانَ بكم رَحيماً» (النساء : 29) ولا يقول : اقرأ الألفاظ .
وكيف كان هذه مناجاة جليلة ، ونعمة عظيمة من بركات آل

المراقبات 101

محمد عليهم السلام يعرف قدر عظمتها «لِمَن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد» (ق : 37) والغافلون بمعزل عن معرفته ، وعن عظم فوائده وأنواره .
ولعمري إن الأغلب لا يعرفون شأن نعمة المناجاة ، وأنّ من شأنها علوم عزيزة ، معارف جليلة ، لا يطّلع عليها وعلى حدودها ، إلا أهله من أولياء الله الذين نالوا بها عن طريق الكشف والشهود ، وأنّ الوصول بحقائق هذه المقامات عن وجه المكاشفة إنما هو من أجلّ نعم الآخرة ، ولا يقاس بشيء من نعيم الدنيا .
وإليه أشار الصادق عليه السلام بقوله : لو علم الناس ما في فضل معرفة الله ما مدّوا أعينهم إلى ما متّع به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ، وكانت دنياهم أقلّ عندهم ممّا يطأونه بأرجلهم ، وتنعّموا بمعرفة الله ، وتلذّذوا بها تلذّذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله الخ .
ومن مهمات هذا الشهر الصوم بقدر ما يناسب حاله ، أفضله إن لم يمنعه مانع ـ ولو مانع من جهة الترجيح ـ أن يصوم كله إلا يوماً أو يومين في آخره يفصل بإفطاره بينه وبين شهر رمضان فالأفضل أن يكثر من الصوم بحيث يدخل في مقدّس دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإعانة ، وذلك لا أظنّ أن يصدق بيوم أو يومين .
ثمّ إنّه قد وردت أخبار مفصّلة في جزء جزء منه ، وأنا أقتصر على ذكر رواية منها [ما] رواه الصدوق ـ عليه الرحمة ـ في كتاب «من لا يحضره الفقيه» ، عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن حزم الأزدي ، قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : «من صام أوّل يومٍ من شعبان وجبت له الجنّة البتّة ، ومن صام يومين نظر الله إليه في كلّ يوم وليلة في دار الدنيا ودام نظره إليه في الجنّة ، ومن صام ثلاثة أيام زار الله في عرشه وجنّته كلّ يوم» .

المراقبات 102

في «الإقبال» : لعلّ المراد بزيارة الله في عرشه أن يكون لقوم من أهل الجنّة مكان من العرش من وصل إليه يسمّى زائر الله ، كما جعل الله الكعبة الشريفة بيته الحرام من حجّها فقد حجّ الله انتهى .
وأنا أقول : لم يعلم مراده (قده) وأنّه تأويل أيّ جزءٍ من الرواية أيريد تأويل كون الزيارة في العرش أو أصل الزيارة ؟ وإن كان ظاهره الثاني إلا أنّه ليس هو (قده) من المستوحشين من بعض مراتب المعرفة واللقاء ، فراجع ما ذكره في «فلاح السائل» في ذيل قول الصادق عليه السلام في سبب غشوته : «كرّرتها حتّى سمعتها من قائلها ولم يثبت جسمي» فإنّ في كلامه (قده) تصريحاً على تصوير الزيارة والملاقاة بوجه من الوجوه المعنويّة التي لا يخالف تنزيهه تعالى عن الشوائب الجسمانيّة .
وأنا أقول : الأولى أن يقال : المراد : الزيارة بعينه [و] هو الذي فصّل في المناجاة الشعبانيّة بأن تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة وتصير الروح معلّقة بعزّ قدسه الأقدس ، ولا خلف في ذلك أبداً يحتاج إلى التأويل ولعلّ مراده (قده) تأويل تقييد الزيارة بكونها في العرش .
ومن مهمّات الأعمال : الصلاة الواردة عند الزوال كل يوم منه أوّلها : اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد ، شجرة النبوّة .
ومن أعمال الشهر الصلوات الواردات في الليالي على التفصيل الذي في «الإقبال» ، والسالك يجتهد في ذلك ويعمل بما فيه له نشاط في العمل به ، من هذه ومن الذكر والفكر ، مع ملاحظة الترجيح بينها ، ومع ملاحظة العمل بأخبار ذلك من باب المسامحة وببالي أنّ الأولى ـ على الغالب ـ أن يعمل بما فيه خفّة وسهولة يمكن أن يفعله بالنشاط ، ويجمع بينه وبين ورده من سائر أعماله وفكره على حسب حاله .

المراقبات 103

ومن ذلك أن يعمل بما رواه في «الإقبال» عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «تتزيّن السماوات في كلّ خميس من شعبان ، فتقول الملائكة : إلهنا اغفر لصائمه وأجب دعاءهم . فمن صلّى فيه ركعتين يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة و«قل هو الله أحد» مائة مرّة ، فإذا سلّم صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة مرّة ، قضى الله كلّ حاجة من أمر دينه ودنياه ، ومن صام فيه يوماً واحداً حرَّم الله جسده على النار» .
واليوم الثالث منه يوم ولادة الحسين عليه السلام وهو يوم يتقدّر شرفه بمقدار شرف صاحبه عليه السلام فللسالك أن يأتي من شكره بما تيسّر له من الصوم والزيارة والدعاء الوارد وغيره من القربات ، ومن أجله أنَّ من خصائص اليوم أمر فطرس ، فيمكن للسالك أن يجعله عليه السلام في هذا اليوم معاذه في تحصيل نجاته ، وجناحي روحه وعقله حتّى يطير مع الروحانيّين في سماوات القرب والرضوان ، ويكون فرحه في هذا اليوم مشوباً بمراسم العزاء والحزن ، كما كان الشأن كذلك لأهله المطهّرين ، صلوات الله عليهم أجمعين ، ويختم يومه بما يختم به كلّ يوم شريف .
ثمّ بعد اليوم الثالث ليلة النصف ويومها ، وهو موسم شريف جدّاً عظيم المنزلة كثير البركات ، ساطع الأنوار ، اجتمعت فيها من جهات الشرف والخير أمور عظيمة كل واحد منها يكفي في الحثّ على الجدّ والسعي غايته .
منها : أنّها من ليالي القدر ، وليلة قسمة الأرزاق والآجال ، كما ورد في الأخبار المستفيضة ، وفي بعضها أنّ الله تعالى جعل الليلة للأئمّة كما جعل ليلة القدر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإشكال في كون ليلة القدر أزيد من واحد يتصوّر ذلك بمراتب التقدير .
ومنها أنّها من مواقف زيارة الحسين عليه السلام ، يزوره فيه مائة ألف نبيّ

المراقبات 104

سوى الملائكة ، هذا موقف جليل يكشف عن أمر عظيم يكون فيه .
ومنها : أنّها من الليالي المؤكّد فيها الإحياء ، ووردت فيها أعمال وعبادات فاخرة جدّاً يمكن أن يقال : إنّه لم يرد في شيء من الليالي ـ ليلة القدر وغيرها ـ مثلها أو أزيد منها .
ومنها : أنّها ليلة ولد فيها مولود لم يولد مثله في تطهير الأرض والفرج العامّ للمؤمنين من الأمم ، ونشر رايات عدل الله على أهل الأرض ، وكمال الجمع بين سياسة الدين والدنيا ، والسالك إذا بلغ هذا المنزل (عليه) أن يقطع أولاً نظره في هذه الليلة من اللذّة بالدنيا ومن الراحة فيها ، ويوطّن نفسه أنّه ليلة وداعه للدنيا ، وإن قدّر نفسه فيها أنّها مثل ليلة يقوم في صبيحتها يوم القيامة ، يخفّ عليه ثقل الأعمال بل يثقل عليه مضيّ الليلة وتامها ، ويودّ أن يكون أطول من هذا الكائن وإن عمل فيها وهومقدّر نفسه أنّه مودَّع لكلّ واحد من الأعمال ، وهو آخر عمله من عمر الدنيا ، يكون جدُّه في تصحيح الأعمال أزيد ، وإذا أحضر نفسه وقلبه بهذا الميزان للعمل ، فله أن ينظر قبل دخول الليلة في اختيار الأعمال ، وترتيبها بما يناسب حاله ، وإن رأى عملين متساويين في الفضل والمناسبة فليؤثر ما هو الأشقّ على النفس .
ومن مهمّات أعمالها الصلوات الواردات لا سيّما مائة ركعة بألف «قل هو الله أحد» ، قال السيد (قدس) قال راوي الحديث : ولقد حدثني ثلاثون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى آخر ما نرويه آنفاً ودونه في الفضل ، ومثله في الاعتبار أربع ركعات في كلّ ركعة مائة «قل هو الله أحد» .
وعن الشيخ أنّه رواه عن أبي عبد الله وأبي جعفر عليهما السلام ثلاثون رجلاً ممّن يوثق به .
وروى أيضاً التخيير منها وبين قراءة خمسين في كلّ ركعة وقراءة مائتي

المراقبات 105

وخمسين ، فإذا فرغت قلت الدعاء الذي أوَّله : اللهمّ إنّي إليك فقير إلخ .
وأيضاً روى الشيخ عن أبي يحيى قال لسيّدنا الصادق عليه السلام : فأيّ شيء أفضل الأدعية ؟ فقال : إذا أنت صلّيت العشاء الآخرة فصلّ ركعتين تقرأ في الأولى الحمد وسورة الجحد وفي الثانية الحمد والإخلاص ، فإذا أنت سلّمت قلت : سبحان الله ثلاثاً وثلاثين مرّة الحمد لله ثلاثً وثلاثين مرّة والله أكبر أربعاً وثلاثين مرّة ثمّ قل : يا من إليه يلجأ العباد إلخ ثمّ تسجد وتقول عشرين مرّة يا ربّ يا الله سبع مرّات ، لا حول ولا قوة إلا بالله سبع مرات ، ما شاء الله [عشر مرات] لا قوة إلا بالله عشر مرّات ثم تصلّي على النبي وتسأل الله حاجتك فوالله لو سألت بها بعدد القطر لبلّغك الله عزّ وجل إيّاه بكرمه وفضله ، وفي بعض الروايات اختلاف في السجدة فمن أراد الاستظهار فليراجع «الإقبال» هذا .
ولو كان في الليلة سعة وجمع الموفّق بين هاتين الركعتين ومائة ركعة بألف «قل هو الله أحد» لكان له شأن من الخير فإنّ في روايات هذه المائة مع اعتبارها فضلاً عظيماً يبهر العقول .
منها : ما رواه في الإقبال قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كنت نائماً ليلة النصف من شعبان فأتاني جبرئيل عليه السلام فقال : يا محمّد أتنام في هذه الليلة ؟! فقلت : يا جبرئيل ما هذه الليلة ؟ قال : ليلة النصف من شعبان ، قم يا محمّد ، فأقامني ثمّ ذهب بي إلى البقيع ثمّ قال لي : ارفع رأسك فإنّ هذه ليلة يفتح فيها أبواب السماء ، فيفتح فيها أبواب الرحمة ، وباب الرضوان ، وباب المغفرة ، وباب الفضل ، وباب التوبة ، وباب النعمة ، وباب الجود ، وباب الإحسان ، يعتق الله فيها بعدد شعور النعم وأصوافها ، ثبت فيها الآجال ، ويقسّم فيها الأرزاق من السنة إلى السنة ، وينزل ما يحدث في السنة كلّها .

المراقبات 106

يا محمد من أحياها بتكبير وتسبيح وتهليل ودعاء وصلاة وقراءة ، وتطوُّع واستغفار ، كانت الجنّة له منزلاً ومقيلاً ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر .
يا محمد من صلّى فيها مائة ركعة يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة و«قل هو الله أحد» عشر مرّات ، فإذا فرغ من الصلاة قرأ آية الكرسي عشر مرّات وفاتحة الكتاب عشراً ، وسبّح الله مائة مرّة غفر الله له مائة كبيرة موبقة موجبة للنار ، وأعطاه بكل سورة وتسبيحة قصراً في الجنة ، وشفّعه الله في مائة من أهل بيته وأشركه في ثواب الشهداء ، وأعطاه ما يعطي صائمي هذا الشهر ، وقائمي هذه الليلة ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء .
فأحيها يا محمد وأمر أمّتك بإحيائها والتقرّب إلى الله بالعمل فيها ، فإنّها ليلة شريفة ، ولقد أتيتك يا محمد وما في السماء ملك إلا وقد صفّ قدميه قائم يصلّي وقاعد يسبّح وراكع وساجد وذاكر ، وهي ليلة لا يدعو فيها داع إلا استجيب له ولا سائل إلا أُعطي ، ولا مستغفر إلا غفر له ، ولا تائب إلا تيب عليه ، من حرم خيرها يا محمد فقد حرم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو فيها ويقول : اللهمّ اقسم لنا من خشيتك الخ .
وفي رواية أخرى قال راوي الحديث : حدّثني ثلاثون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : من صلّى هذه الصلاة في هذه الليلة نظر الله إليه سبعين نظرة ، وقضى الله له بكلّ نظرة سبعين حاجة أدناها المغفرة ، ثمّ لو كان شقيّاً فطلب السعادة لأسعده الله «يَمحو الله ما يشاءُ ويُثبِتُ وعندهُ أمُّ الكتاب» (الرعد : 39) ولو كان والداه من أهل النار أُخرجا من النار بعد أن لا يشركا بالله شيئاً ، ومن صلّى هذه الصلاة قضى الله كلّ حاجة طلب وأعدّ له في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً من صلّى

السابق السابق الفهرس التالي التالي