وهذا المنزل من منازل العمر للسالك إلى الله تعالى ، له شأن عظيم ، وفضل كثير ، فيه ليلة من ليالي القدر ، وقد ولد مولود فيه وعد الله به النصر لكلّ مظلوم من أوليائه ، وأنبيائه وأصفيائه ، مذ هبط أبونا آدم على نبيّنا وآله وعليه السلام على الأرض ، وأن يملأ به الأرض قسطاً وعدلاً ، بعدما ملئت ظلماً وجوراً ، على ما يأتي تفصيله في محلّه . وكفى في شأنه أنّه شهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال فيه : «شعبان شهري ، رحم الله من أعانني على شهري» ومن عرف منزلة هذه الدعوة العظمى ، فلا بدّ أن يكون اهتمامه في اشتمالها عليه ودخوله فيها ، وذلك خليفته وأخوه أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال : «ما فاتني صوم شعبان مذ سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينادي في شعبان فلن يفوتني أيّام حياتي صوم شعبان إن شاء الله» . هذا في صومه وقس عليه إعانته صلى الله عليه وآله وسلم من سائر الجهات من الصلاة والصدقة والمناجاة ، ووجوه البرّ كلّها .
ومناجاته الشعبانية معروفة وهي مناجاة عزيزة على أهلها يحبّونها ، ويستأنسون بشعبان لأجلها ، بل ينظرون ويشتاقون لمجيء شعبان وفيها علوم جمّة في كيفيّة معاملة العبيد مع الله جلّ جلاله ، وبيان وجوه الأدب في طريق معرفة حقّ السؤال ، الدعاء والاستغفار ، من الله جل جلاله ، واستدلالات لطيفة تليق بمقام العبودية ، لاستحكام مقام الرجاء ، المناسب لحال المناجاة ، ودلالات صريحة واضحة في معنى لقاء الله وقربه والنظر إليه ، ترفع شبهات السالكين وشكوك المنكرين ، ووحشة المرتابين ، وإشارة إلى معرفة النفس وأنّها طريق معرفة الربّ على ما فَسّرَ بعض فقراته شخص جليل من اهل المعرفة . وبالجملة هذه المناجاة من مهمّات أعمال هذا الشهر بل للسالك أن لا يترك بعض فقراتها في تمام السنة ، ويكثر المناجاة بها في قنوتاته ، وسائر حالاته السنية ولا تغفل عن قولك حين تقول : «وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة ، وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك» وليتأمّل هل بقلبه بصر يدرك به النور ؟ وما حجب النور ؟ وما المحتجب بالنور المتّصف بمعدن العظمة ؟ حتى يعلم ما يقول ، وما يستدعي من ربّه أن يعطيه ، فإن الإنسان إذا لم يعرف ما يسأل ربّه أصلاً لا يصدق عليه أنّه سأل ربّه ، بل يصدق أنّه قرأ الألفاظ ، والقارئ للألفاظ غير الداعي والسائل ، والله تعالى يقول : «أمّن يُجيبُ المضطرّ إذا دعاه» (النمل : 62) ويقول : «ادعوني أستَجِب لكم» (غافر : 60) ويقول : «واسألوا الله من فضلِهِ» (النساء : 32) «إنّ الله كانَ بكم رَحيماً» (النساء : 29) ولا يقول : اقرأ الألفاظ . وكيف كان هذه مناجاة جليلة ، ونعمة عظيمة من بركات آل
محمد عليهم السلام يعرف قدر عظمتها «لِمَن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد» (ق : 37) والغافلون بمعزل عن معرفته ، وعن عظم فوائده وأنواره . ولعمري إن الأغلب لا يعرفون شأن نعمة المناجاة ، وأنّ من شأنها علوم عزيزة ، معارف جليلة ، لا يطّلع عليها وعلى حدودها ، إلا أهله من أولياء الله الذين نالوا بها عن طريق الكشف والشهود ، وأنّ الوصول بحقائق هذه المقامات عن وجه المكاشفة إنما هو من أجلّ نعم الآخرة ، ولا يقاس بشيء من نعيم الدنيا . وإليه أشار الصادق عليه السلام بقوله : لو علم الناس ما في فضل معرفة الله ما مدّوا أعينهم إلى ما متّع به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ، وكانت دنياهم أقلّ عندهم ممّا يطأونه بأرجلهم ، وتنعّموا بمعرفة الله ، وتلذّذوا بها تلذّذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله الخ . ومن مهمات هذا الشهر الصوم بقدر ما يناسب حاله ، أفضله إن لم يمنعه مانع ـ ولو مانع من جهة الترجيح ـ أن يصوم كله إلا يوماً أو يومين في آخره يفصل بإفطاره بينه وبين شهر رمضان فالأفضل أن يكثر من الصوم بحيث يدخل في مقدّس دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإعانة ، وذلك لا أظنّ أن يصدق بيوم أو يومين . ثمّ إنّه قد وردت أخبار مفصّلة في جزء جزء منه ، وأنا أقتصر على ذكر رواية منها [ما] رواه الصدوق ـ عليه الرحمة ـ في كتاب «من لا يحضره الفقيه» ، عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن حزم الأزدي ، قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : «من صام أوّل يومٍ من شعبان وجبت له الجنّة البتّة ، ومن صام يومين نظر الله إليه في كلّ يوم وليلة في دار الدنيا ودام نظره إليه في الجنّة ، ومن صام ثلاثة أيام زار الله في عرشه وجنّته كلّ يوم» .
في «الإقبال» : لعلّ المراد بزيارة الله في عرشه أن يكون لقوم من أهل الجنّة مكان من العرش من وصل إليه يسمّى زائر الله ، كما جعل الله الكعبة الشريفة بيته الحرام من حجّها فقد حجّ الله انتهى . وأنا أقول : لم يعلم مراده (قده) وأنّه تأويل أيّ جزءٍ من الرواية أيريد تأويل كون الزيارة في العرش أو أصل الزيارة ؟ وإن كان ظاهره الثاني إلا أنّه ليس هو (قده) من المستوحشين من بعض مراتب المعرفة واللقاء ، فراجع ما ذكره في «فلاح السائل» في ذيل قول الصادق عليه السلام في سبب غشوته : «كرّرتها حتّى سمعتها من قائلها ولم يثبت جسمي» فإنّ في كلامه (قده) تصريحاً على تصوير الزيارة والملاقاة بوجه من الوجوه المعنويّة التي لا يخالف تنزيهه تعالى عن الشوائب الجسمانيّة . وأنا أقول : الأولى أن يقال : المراد : الزيارة بعينه [و] هو الذي فصّل في المناجاة الشعبانيّة بأن تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة وتصير الروح معلّقة بعزّ قدسه الأقدس ، ولا خلف في ذلك أبداً يحتاج إلى التأويل ولعلّ مراده (قده) تأويل تقييد الزيارة بكونها في العرش . ومن مهمّات الأعمال : الصلاة الواردة عند الزوال كل يوم منه أوّلها : اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد ، شجرة النبوّة . ومن أعمال الشهر الصلوات الواردات في الليالي على التفصيل الذي في «الإقبال» ، والسالك يجتهد في ذلك ويعمل بما فيه له نشاط في العمل به ، من هذه ومن الذكر والفكر ، مع ملاحظة الترجيح بينها ، ومع ملاحظة العمل بأخبار ذلك من باب المسامحة وببالي أنّ الأولى ـ على الغالب ـ أن يعمل بما فيه خفّة وسهولة يمكن أن يفعله بالنشاط ، ويجمع بينه وبين ورده من سائر أعماله وفكره على حسب حاله .
ومن ذلك أن يعمل بما رواه في «الإقبال» عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «تتزيّن السماوات في كلّ خميس من شعبان ، فتقول الملائكة : إلهنا اغفر لصائمه وأجب دعاءهم . فمن صلّى فيه ركعتين يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة و«قل هو الله أحد» مائة مرّة ، فإذا سلّم صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة مرّة ، قضى الله كلّ حاجة من أمر دينه ودنياه ، ومن صام فيه يوماً واحداً حرَّم الله جسده على النار» . واليوم الثالث منه يوم ولادة الحسين عليه السلام وهو يوم يتقدّر شرفه بمقدار شرف صاحبه عليه السلام فللسالك أن يأتي من شكره بما تيسّر له من الصوم والزيارة والدعاء الوارد وغيره من القربات ، ومن أجله أنَّ من خصائص اليوم أمر فطرس ، فيمكن للسالك أن يجعله عليه السلام في هذا اليوم معاذه في تحصيل نجاته ، وجناحي روحه وعقله حتّى يطير مع الروحانيّين في سماوات القرب والرضوان ، ويكون فرحه في هذا اليوم مشوباً بمراسم العزاء والحزن ، كما كان الشأن كذلك لأهله المطهّرين ، صلوات الله عليهم أجمعين ، ويختم يومه بما يختم به كلّ يوم شريف . ثمّ بعد اليوم الثالث ليلة النصف ويومها ، وهو موسم شريف جدّاً عظيم المنزلة كثير البركات ، ساطع الأنوار ، اجتمعت فيها من جهات الشرف والخير أمور عظيمة كل واحد منها يكفي في الحثّ على الجدّ والسعي غايته . منها : أنّها من ليالي القدر ، وليلة قسمة الأرزاق والآجال ، كما ورد في الأخبار المستفيضة ، وفي بعضها أنّ الله تعالى جعل الليلة للأئمّة كما جعل ليلة القدر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإشكال في كون ليلة القدر أزيد من واحد يتصوّر ذلك بمراتب التقدير . ومنها أنّها من مواقف زيارة الحسين عليه السلام ، يزوره فيه مائة ألف نبيّ
سوى الملائكة ، هذا موقف جليل يكشف عن أمر عظيم يكون فيه . ومنها : أنّها من الليالي المؤكّد فيها الإحياء ، ووردت فيها أعمال وعبادات فاخرة جدّاً يمكن أن يقال : إنّه لم يرد في شيء من الليالي ـ ليلة القدر وغيرها ـ مثلها أو أزيد منها . ومنها : أنّها ليلة ولد فيها مولود لم يولد مثله في تطهير الأرض والفرج العامّ للمؤمنين من الأمم ، ونشر رايات عدل الله على أهل الأرض ، وكمال الجمع بين سياسة الدين والدنيا ، والسالك إذا بلغ هذا المنزل (عليه) أن يقطع أولاً نظره في هذه الليلة من اللذّة بالدنيا ومن الراحة فيها ، ويوطّن نفسه أنّه ليلة وداعه للدنيا ، وإن قدّر نفسه فيها أنّها مثل ليلة يقوم في صبيحتها يوم القيامة ، يخفّ عليه ثقل الأعمال بل يثقل عليه مضيّ الليلة وتامها ، ويودّ أن يكون أطول من هذا الكائن وإن عمل فيها وهومقدّر نفسه أنّه مودَّع لكلّ واحد من الأعمال ، وهو آخر عمله من عمر الدنيا ، يكون جدُّه في تصحيح الأعمال أزيد ، وإذا أحضر نفسه وقلبه بهذا الميزان للعمل ، فله أن ينظر قبل دخول الليلة في اختيار الأعمال ، وترتيبها بما يناسب حاله ، وإن رأى عملين متساويين في الفضل والمناسبة فليؤثر ما هو الأشقّ على النفس . ومن مهمّات أعمالها الصلوات الواردات لا سيّما مائة ركعة بألف «قل هو الله أحد» ، قال السيد (قدس) قال راوي الحديث : ولقد حدثني ثلاثون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى آخر ما نرويه آنفاً ودونه في الفضل ، ومثله في الاعتبار أربع ركعات في كلّ ركعة مائة «قل هو الله أحد» . وعن الشيخ أنّه رواه عن أبي عبد الله وأبي جعفر عليهما السلام ثلاثون رجلاً ممّن يوثق به . وروى أيضاً التخيير منها وبين قراءة خمسين في كلّ ركعة وقراءة مائتي
وخمسين ، فإذا فرغت قلت الدعاء الذي أوَّله : اللهمّ إنّي إليك فقير إلخ . وأيضاً روى الشيخ عن أبي يحيى قال لسيّدنا الصادق عليه السلام : فأيّ شيء أفضل الأدعية ؟ فقال : إذا أنت صلّيت العشاء الآخرة فصلّ ركعتين تقرأ في الأولى الحمد وسورة الجحد وفي الثانية الحمد والإخلاص ، فإذا أنت سلّمت قلت : سبحان الله ثلاثاً وثلاثين مرّة الحمد لله ثلاثً وثلاثين مرّة والله أكبر أربعاً وثلاثين مرّة ثمّ قل : يا من إليه يلجأ العباد إلخ ثمّ تسجد وتقول عشرين مرّة يا ربّ يا الله سبع مرّات ، لا حول ولا قوة إلا بالله سبع مرات ، ما شاء الله [عشر مرات] لا قوة إلا بالله عشر مرّات ثم تصلّي على النبي وتسأل الله حاجتك فوالله لو سألت بها بعدد القطر لبلّغك الله عزّ وجل إيّاه بكرمه وفضله ، وفي بعض الروايات اختلاف في السجدة فمن أراد الاستظهار فليراجع «الإقبال» هذا . ولو كان في الليلة سعة وجمع الموفّق بين هاتين الركعتين ومائة ركعة بألف «قل هو الله أحد» لكان له شأن من الخير فإنّ في روايات هذه المائة مع اعتبارها فضلاً عظيماً يبهر العقول . منها : ما رواه في الإقبال قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كنت نائماً ليلة النصف من شعبان فأتاني جبرئيل عليه السلام فقال : يا محمّد أتنام في هذه الليلة ؟! فقلت : يا جبرئيل ما هذه الليلة ؟ قال : ليلة النصف من شعبان ، قم يا محمّد ، فأقامني ثمّ ذهب بي إلى البقيع ثمّ قال لي : ارفع رأسك فإنّ هذه ليلة يفتح فيها أبواب السماء ، فيفتح فيها أبواب الرحمة ، وباب الرضوان ، وباب المغفرة ، وباب الفضل ، وباب التوبة ، وباب النعمة ، وباب الجود ، وباب الإحسان ، يعتق الله فيها بعدد شعور النعم وأصوافها ، ثبت فيها الآجال ، ويقسّم فيها الأرزاق من السنة إلى السنة ، وينزل ما يحدث في السنة كلّها .
يا محمد من أحياها بتكبير وتسبيح وتهليل ودعاء وصلاة وقراءة ، وتطوُّع واستغفار ، كانت الجنّة له منزلاً ومقيلاً ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر . يا محمد من صلّى فيها مائة ركعة يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة و«قل هو الله أحد» عشر مرّات ، فإذا فرغ من الصلاة قرأ آية الكرسي عشر مرّات وفاتحة الكتاب عشراً ، وسبّح الله مائة مرّة غفر الله له مائة كبيرة موبقة موجبة للنار ، وأعطاه بكل سورة وتسبيحة قصراً في الجنة ، وشفّعه الله في مائة من أهل بيته وأشركه في ثواب الشهداء ، وأعطاه ما يعطي صائمي هذا الشهر ، وقائمي هذه الليلة ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء . فأحيها يا محمد وأمر أمّتك بإحيائها والتقرّب إلى الله بالعمل فيها ، فإنّها ليلة شريفة ، ولقد أتيتك يا محمد وما في السماء ملك إلا وقد صفّ قدميه قائم يصلّي وقاعد يسبّح وراكع وساجد وذاكر ، وهي ليلة لا يدعو فيها داع إلا استجيب له ولا سائل إلا أُعطي ، ولا مستغفر إلا غفر له ، ولا تائب إلا تيب عليه ، من حرم خيرها يا محمد فقد حرم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو فيها ويقول : اللهمّ اقسم لنا من خشيتك الخ . وفي رواية أخرى قال راوي الحديث : حدّثني ثلاثون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : من صلّى هذه الصلاة في هذه الليلة نظر الله إليه سبعين نظرة ، وقضى الله له بكلّ نظرة سبعين حاجة أدناها المغفرة ، ثمّ لو كان شقيّاً فطلب السعادة لأسعده الله «يَمحو الله ما يشاءُ ويُثبِتُ وعندهُ أمُّ الكتاب» (الرعد : 39) ولو كان والداه من أهل النار أُخرجا من النار بعد أن لا يشركا بالله شيئاً ، ومن صلّى هذه الصلاة قضى الله كلّ حاجة طلب وأعدّ له في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً من صلّى
|