المراقبات 107

هذه الصلاة يريد بها وجه الله تعالى جعل الله له نصيباً في أجر جميع من عبد الله في تلك الليلة ، ويأمر كرام الكاتبين بأن يكتبوا له الحسنات ، ويمحوا عنه السيئات حتى لا تبقى له سيّئة ، ولا يخرج من الدنيا حتى يرى منزله في الجنّة ، يبعث الله إليه ملائكة يصافحونه ويسلّمون عليه ، ويحشر يوم القيامة مع الكرام البررة فإن مات قبل الحول مات شهيداً ، ويشفّع في سبعين ألفاً من الموحّدين ، فلا يضعف عن القيام في تلك الليلة إلا شقيٌّ .
وقال : قال السيد يحيى بن الحسين في كتاب «الأمالي» حديثاً أسنده إلى مولانا علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى ليلة النصف من شعبان مائة ركعة بألف مرّة «قل هو الله أحد» لم يمت قلبه يوم تموت فيه القلوب ، ولم يمت حتّى يرى مائة ملك يؤمّنونه من عذاب الله ، ثلاثون منهم يبشرونه بالجنّة ، وثلاثون كانوا يعصمونه من الشيطان ، وثلاثون يستغفرون له آناء الليل وأطراف النهار ، وعشرة يكيدون من كاده .
أقول : ارحم يا مسكين نفسك المرهونة ، بما أسلفت في الأيّام الخالية ، وعالج هذه العظائم من الأوزار ، التي احتطبتها على ظهرك بالأعمال القبيحة الماضية فسيأتيك يوم تقول فيه : «أينَ المَفَرُّ * كلاّ لا وَزَر * إلى ربّكَ يومَئذٍ المُستَقرُّ * يُنَبَّأُ الإنسانُ يومئذٍ بِما قَدّم وأخّر» (القيامة : 10 ـ 13) وأنصف من نفسك هل لك إيمان بمواعيد الله ، اليوم الآخر وجزاء الأعمال ؟ وهل ترى قدّامك موقفاً تبكي منه عيون الأنبياء وترتعد منه فرائص الأولياء ، وغشي عليهم عند ذكره الأتقياء ، فما بالك تأمن ممّا يخاف منه الأنبياء المعصومون ، والملائكة المطهّرون ، هل ترى ما لا يرون ؟! أو عملت من الخير ما لم يعملوا ؟! أو اتّقيت ممّا لم يتّقوا ؟ أم تأمن مكر الله ولا «يأمَنُ مَكرَ الله إلاّ القَومُ الخاسِرون» (الأعراف : 99) .

المراقبات 108

وتفكّر في أمرك «يوم يَقومُ الرّوح والملائكةُ صَفّاً لا يتكَلّمونَ إلاّ مَن أذِنَ لهُ الرّحمنُ وقالَ صواباً» (النبأ : 38) وقدِّر نفسك من المأذون في الكلام ، وانظر هل لك جواب صواب لخطاب الله جلّ جلاله ؟ والحال أنّك لا تعلم أن يؤذن لك في الكلام ، أو يقال : اخسؤوا ولا تكلّمون .
ثمّ تفكّر فيما وعد الله جلّ جلاله لهذا العمل القليل ـ عمل ليلة صلاة مائة ركعة ـ فهل يسامح العاقل في ذلك ؟ وخاطب نفسك العوّاد ، وقل : أين أنت يا أيّها الذي تدّعي الإيمان بمواعيد الله جلّ جلاله ، من هذه المنافع الجليلة الفاخرة ، هل تقدّر لها قيمة من أمور الدنيا ، ومتاعها الدنيا وما فيها ؟
قوّم في نفسك قصراً من قصور الجنّة التي وعدك بتسبيحة في تلك الليلة هل تعلم قيمتها ؟ ثمّ ترقَّ وقوّم في قسطاس عقلك نظرة الله ، هل يقدر أحد أن يعلم ما فيها من الكرامة ؟
ثمّ انظر إلى حالك وحرصك في أمر الدنيا كيف تموت من حسرة ضياع الأمتعة النفيسة ، الفانية الحقيرة ، في جنب أصغر متاع الآخرة منها ، وتأمّل هل تجد علّة زهدك ورغبتك فيها إلا أن تكون ضعيف الإيمان بعالم الغيب ومتعلّقاتها فإن كان كذلك فادع لنفسك الويل والثبور بأنّك لم تؤمن بعدُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأنت بعد في الضلال البعيد ، والخسران المبين ، واستعدّ لما أوعد الله من النار ، لمن لم يؤمن بالله العزيز الحميد ، لأنّ هذا الايمان الضعيف قد ينصرم بسبب ضعيف ، وهول قليل من الأهوال ، لا سيّما عند اغتشاش الحواسّ من المرض عند الموت ، فما لم يكن الإيمان مستقرّاً راسخاً لا يؤمن أن يكون من المستودع ويبدّل عند شدائد الموت بالكفر ، فتجهّز لبلائك من عافيتك ويوم سقمك من صحّتك ، وانتهز الفرصة في أيّام المهلة قبل أن يأتيك رسل الله فتستدعي تأخير ساعة وتجاب

المراقبات 109

قد فنيت ، وترضى بلحظة ولا تعطي ، فبادر للتمسّك بهذه الأسباب القويّة ، وتمسّك من العرى بأوثقها ، ومن الحبال بأمتنها ، ادع الله في هذه الأوقات الشريفة ، دعاء الغريق ، وتوسّل إليه بأوليائه توسّل من ابتلى بالحريق ، فإنّه كريم يحبّ الكرامة لعباده المضطرّين المحترفين على بابه ، والمتوسّلين إليه بأوليائه ، فانظر من أيّ باب تدخل على موائد هذه الليلة ، قد سمعت الأبواب المفتّحات ، أمن باب الرحمة ؟ أو الرضوان ؟ أو المغفرة ؟ أو التوبة ؟ أو الفضل ؟ أو الاحسان ؟ أو باب النعمة ؟ أو [باب] الجود ؟ فإنّ لكلّ من هذه الأبواب أهلاً ، وأهله من كان له حظٌّ من صفة هذا الباب بقدر ما يمكن له .
وحظّك من باب الرحمة أن ترحم عباد الله الغافلين ، فتصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله بالوعظ والنصح بطرق اللطف دون العنف ، وأن تنظر إلى العصاة بعين الرحمة لا بعين الإيذاء ، وأن يكن كلّ معصية تجري في العالم كمعصية لك في نفسك ، فلا تألو جهداً في إزالتها بقدر وسعك ، رحمة لهذا العاصي أن يتعرّض لسخط الله ، ويستحقّ المنع عن جواره ، وأن لا تدع فاقة لمحتاج إلا تسدّها بقدر طاقتك ، وأن لا تترك فقيراً في جوارك إلا وتقوم بتعهّده ودفع فقره بمالك وجاهك ، فإن عجزت عن جميع ذلك فبالدعاء وإظهار الحزن من جهة ابتلائه .
وحظك من باب الرضوان أن تكون راضياً من ربّك ، بل ومرضيّاً له ، لأنّهما متلازمان وسهّل الرضا عن خلقه لا فظّاً غليظاً .
وحظّك من باب المغفرة أن تستغفر ربّك بقدر معصيتك بشروط الاستغفار وتعتذر إلى من له الحق من خلقه بقدر إساءتك وظلمك وبغيك وجفائك في حقّهم وتغفر لمن عليه الحقّ منك وتقبل عذر المعتذر .

المراقبات 110

وحظّك من باب التوبة أن لا ترجع إلى ذنب ومكروه وإساءة لخلق ولا خالق وتتدارك ما يمكنك التدارك .
وحظّك من باب الفضل أن لا ترضى في حقوق الله بقدر الواجب ولا في حقّ الناس بالعدل والمساواة ، بل تجهد أن يكون لك الفضل ، ومن ذلك أن تجيب التحيّة بأحسن منها ولا ترضى بردّها .
وحظّك من باب الاحسان أن تعبد الله كأنّك تراه ، وإن لم تكن تراه فهو يراك ، وأن تحسن إلى من أساء إليك وتعفو عمّن ظلمك ، وتصل من قطعك .
وحظّك من باب الجود أن تبذل كلّك لله لأنّك أهل لذلك ، وأن يكثر فوائدك للناس لا لغرض تصيبه منهم ، فإنّ هذه أبواب مفتّحة عموماً ، وخصوصاً في هذه الليلة ، انظر من أيّها تدخل على ربّك ، فكرّم بقدر فضيلة الباب وبقدر حظّك واجتهد في تحصيل هذه الحقائق أكثر ممّا تجتهد في تكثير صور العبادات ، فإنّ ركعة من العبد المتحلّي نفسه بهذه الصفات ، يزيد نوره على صلاة ألف ركعة وأزيد ممّن لم يتّصف بها ، فإنّ المتّصف بصفة الفضل ـ مثلاً ـ أترى أنّ الله المتفضّل المنّان واهب الفضل يعامله بعدله ؟ حاش لله بل يعامله بفضله ، ومن عامله الله بفضله يشكر بقليله الكثير ، ويضاعف عليه بغير حساب ، ويبدّل سيئاته بأضعافها من الحسنات .
ومن المهمات سجدات بدعوات مخصوصة ، وفي بعضها إشارة إلى المراتب الثلاثة للإنسان حيث قال فيه : «سجد لك سوادي وخيالي وبياضي» وهو كالنصّ بعالمه المحسوس فإنّه مركّب من مادّة ومقدار وعالمه المثال ، هو مركّب من صورة وروح وعالمه الحقيقيّ الذي به صار إنساناً يعني حقيقة نفسه وهو عالمه الذي لا صورة فيه ولا مادّة ، وهو حقيقته العالمة اللطيفة

المراقبات 111

الربّانيّة التي من عرفها فقد عرف ربّه ، أي تكون معرفته وسيلة لمعرفة الرب تعالى .
ثمّ من المهمات التقرّب بإمام زماننا ، ووليّ الأمر ، والناموس الأكبر ، صاحب الغيبة الإلهيّة ، والدعوة النبويّة ، وارث الأنبياء ، وخليفة الخلفاء ، خاتم الأوصياء ، مظهر عدل الله الأعظم ، وناشر رايات الهدى ، ومبيد العتاة وجحدة الحقّ ، ومستأصل أهل العناد والتضليل والإلحاد ، وطامس آثار الزيغ والأهواء ، وجامع الكلم على التقوى ، والسبب المتّصل بين أهل الأرض وأهل السماء ، حجّة الله الكبرى ، وآيته العظمى ، نصر الله العاجل وفتحه القريب ، مؤدب العالمين ، والسلطان الأعظم ، والمولى الأكرم ، سيّدنا وإمامنا وعصمتنا وملاذنا ومولانا الامام المهديّ القائم أرواحنا وأرواح العالمين فداه بزيارة ومناجاة ، وعرض شوق وبثّ شكوى ، ودعاء وصلاة ، واحتراق قلب من فراق ، شكر نعم وإهداء قربات ، وبذل روح ، وفداء مهجة ، وتوسّل ، وتعلّق ، اعتصام ، وتظلّم ، واستغاثة ، وانتصار ، واستفاضة ، واستشفاع .
ويتفكّر فيما فاته من سعادات زمن ظهوره وسلطنته ، وينظر إلى غيره كيف يتصرّفون في ملكه ، ويغصبون حقّه وسلطانه ، ويتأمّرون على أوليائه بغير حقّ ، يسوقونهم بغير عدل إلى أهوائهم ، ويتألّم من ذلك كلّه ، ويشتكي إلى الله ممّا وقع فيه ، ويدعوه عن ظهر القلب واحتراقه ، ويطلب فَرَجَه ـ صلوات الله عليه وآله ـ ويرغب إليه ليلاً ونهاراً في أن يمنّ عليه بزيارة جماله ، وكمال طاعته ، بلوغ رضاه والاهتد اء بهداه ، ويتذكّر في الحوادث كلّها وجوده وظهوره وتصرّفه وسلطانه ، ويكون في ذلك مثل من غاب عنه أبوه قبل ولادته ولم يره ، يتوقّع مجيئه وتوليه لأموره .

المراقبات 112

وقد كان لي أخ ولد بعد أبي وسمع بعد شعوره أنّ أباه مات ، وكان يدع ويتوقّع حياته ، ويذكر في كلّ أمر صغير وكبير مجيئه ، وأنّه يجيء ويفعل كذا وكذا ، فلا يكون أبوك أحبّ إليك من إمامك وهو أبوك الروحانيّ الحقيقيّ ، وعلّة إيجاد روحك وجسمك ونعمك كلّها ، وخليفة ربّك .
وبالجملة فليظهر من حركاتك في أفعالك وأقوالك أنّك فاقد إمامك ، منتظر ظهوره ، ومتوقّع وصاله ، ويظهر من حقّ وفاء زمن غيبته ما يصدّق دعوى تعلّقك به فإنّ الكرام يظهرون من الوفاء في الغيبة ما لا يظهرونه في الحضور . ولا يكن لك في تمنّي ظهوره وزيارته غيره من المقاصد فإنّ زيارته وقربه المقصد الأسنى ، وهو مقصد المقاصد ، ومعرفته وقربه ورضاه غاية الغايات ، ونهاية الآمال .
ومن المهمات أيضاً أن يقرأ الدعاء الذي أوله : اللهم بحقّ ليلتنا ومولودها .
ثمّ من أهمّ أعمال الليلة زيارة الحسين عليه السلام وحضور مرقده الشريف فقد ورد في الأخبار حثٌّ أكيد بذلك ، وليزره عليه السلام بالزيارة المخصوصة بهذه الليلة .
ومن أعماله المخصوصة دعاء كميل ـ عليه الرحمة ـ يقرأه في السجدة تأسّياً بأمير المؤمنين عليه السلام روى في «الإقبال» عن الشيخ أنّه روى أنّ كميلاً رأى أمير المؤمنين يقرأه في السجدة في ليلة النصف من شعبان ، وقال : ووجدت في رواية أخرى ما هذا لفظه : قال كميل بن زياد : كنت جالساً مع مولاي أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد البصرة ومعه جماعة من أصحابه ، فقال بعضهم : ما معنى قول الله عزّ وجلّ : «فيها يُفرَقُ كلُّ أمرٍ حَكيم» ؟ (الدخان : 4) قال عليه السلام : هي ليلة النصف من شعبان ، والذي نفس عليّ بيده

المراقبات 113

إنّه ما من عبد إلا وجميع ما يجري عليه من خير وشرّ مقسوم له في ليلة النصف من شعبان إلى آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة ، وما من عبد يحييها ويدعو بدعاء الخضر عليه السلام إلا أُجيب له .
فلمّا انصرف طرقته ليلاً فقال عليه السلام : ما جاء بك يا كميل ؟ قلت : يا أمير المؤمنين دعاء الخضر ، فقال : اجلس يا كميل ، إذا حفظت هذا الدعاء فادع به كلّ ليلة جمعة ، أو في الشهر مرّة ، أو في السنة مرّة ، أو في عمرك مرّة تكفُّ وتنصر وترزق ، لن تعدم المغفرة ، يا كميل أوجب لك طول الصحبة لنا أن نجود لك ما سألت ثم قال : اكتب : «اللهم إنّي أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء» إلى آخر الدعاء .
وللسالك أن لا يقرأ هذا الدعاء عن قلب ساه حتى يعلم ما يقول ، ولا يتكلم بما ليس مناسباً موافقاً لحاله الحاضر ويجدّ حين يقول : «وهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي وربّي صبرت على عذابك ، فكيف أصبر على فراقك» ؟ أن يكون صادقاً في دعوى أنَّ فراق ربّه أشدّ عليه من عذاب جهنّم ، ولا يرضى أن يكذب مع الله العالم بالخفيّات في مثل هذا الحال ، فيكون بذلك مهيناً لسلطان الله العظيم .
وللصادق في هذه الدعوى أن يعرف معنى وصال الله ولو إجمالاً لا محالة حتّى يدَّعي أنَّ مفارقة هذه النعم والبهجة أشدّ عليه من عذاب الله ، وأيضاً له أن يتفكّر في حقائق كلّ ما يسأله من الله في دعائه ومناجاته حتّى يكون دعاؤه مناجاة لا مستطراً يقرأ لفظه ولا يعلم معناه ، ولا يغفل عن قوله في أواخر الدعاء «وأجتمع في جوارك مع المؤمنين» والغافل الساهي في مناجاته عمّا يسأل ويدعو في خطر عظيم .
ومن أهمّ أعمال الليلة زيارة الحسين عليه السلام في مرقده الشريف ،

المراقبات 114

ولزيارته صلاة وعمل مخصوص مرويّ في «الإقبال» ، أو في غيره من الأمكنة البعيدة ، وقد ورد في فضل زيارته أمر عظيم ، وعلّل ذلك بأنّ زائره بمنزلة من زار الله في عرشه ، وللعبد المراقب أن يعتبر هذه العبادة اعتبارات فاخرة :
منها أن يعتبر في جليل ثواب الله للحسين عليه السلام بحيث جعل زيارته في مرقده كمن زار الله في عرشه ، هذا أمر عظيم لا تطيقه عقول العامّة .
ومن عظمته ، حكي أنّ السيد الجليل ، والعالم النبيل ، السيد مهدي الملقّب ببحر العلوم جاء إلى الشيخ العارف الشيخ حسين المعروف بنجف وسأله عن مشكلاته ، وكان منها أن سأله عن عظم ما ورد في الأخبار من مثوبات ما يتعلّق بالحسين عليه السلام لزائره وللباكي عليه ونحوهما كيف يستقيم عند العقل هذه الأمور العظام بهذه الأعمال الجزئيّة الحقيرة ؟ فأجابه الشيخ بأنّ الحسين عليه السلام مع جميع ما فيه من الشؤون إنّما كان مخلوقاً ممكناً عبداً لله ، وهو مع كونه ممكناً عبداً أعطى في محبّة الله ورضاه كلّه من المال ، والجاه ، والعرض ، والأخوة ، والأولاد الصغير والكبير ، والروح ، حتى بدنه بعد القتل وكيف تستكثر أن يعطيه الكريم الجواد أيضاً كلّه للحسين عليه السلام ؟ فرضي عليه الرحمة بالجواب واستحسنه .
ومنها أن يعرف ما في قضاء الله وتقديره في شهادة الحسين عليه السلام من الحكم سوى ما أعطاه من المثوبات ، ووسيلة لهم إلى الفوز بدرجات عالية ، وسبباً قريباً لمعرفة شأن إمامهم .
ومنها أن يعرف أنّ من المثوبات الجليلة ، والمقامات العالية المعدّة لأولياء الله ، زيارة الله ، فيشتاق إليه ويقصده ويهتمّ لتحصيله ، ويشتدّ شوقه إليه حتّى يصدق في دعائه : «وهبني صبرت على عذابك ، فكيف أصبر على فراقك» ؟

المراقبات 115

ثمّ من المهمّات في أعمال الليلة أن يسجد بما روي من سجدات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقرأ ما قرأه صلوات الله وسلامه عليه وآله فيها ، عن ظهر القلب ، غير ساه عن قصد معانيها ، وغير كاذب في قصدها .
ومن المهم أن يقرأ ما ورد في صلاة الليل من الدعوات بين الركعات على ما روي في «الإقبال» ولا يغفل عن الدعاء المرويّ في الوتر أو بعده فإنّه دعاء جليل ، ثمّ إذا صار آخر الليل فليجلس هنيئة لمحاسبة عمل الليلة ، وأظنّ أنّه إن حاسب عمله على علم ، ولم يحف في حسابه لا سيّما إذا كان مستعيناً بهداية الله تعالى لاستغفر من عمله أكثر من استغفاره لو فرض نفسه نائماً ليلته لأنّه لا يسلم من آفات العمل إلا المخلصون والمخلصون في خطرعظيم .
ثمّ لو فرض سلامة عمله من الآفات فليقوّمه ويقابله بأصغر نعم الله عليه . ويرى أنّه لا يؤدي شكر الله بالأعمال بميزان العدل ، ولو رأى أنّ أعماله لا تخلو من الآفات والتقصير ، فليعالج ذلك بالتوسل إلى خفير ليلته من المعصومين عليهم السلام ويسلّم عليه ويقول :
«يا من اختاره الله من عباده ، وجعله خفيراً وحامياً لهم فبحقّ هذه الخيرة أُقسم عليك أن تنظر إلى سوء حالي بعين الرحمة ، وترحم ضعفي وجهلي ومسكنتي وإفلاسي وفاقتي وابتلائي ، وترغّب إلى الله جلّ جلاله أن يعاملني بفضله وكرم عفوه ، ويبدّل سيئات أعمالي بأضعافها من الحسنات ، وترغب إليه أن يكرمني بقبوله ورضاه ، وأن تدخلني في تلك الليلة في همّك ودعائك ، وشفاعتك وشيعتك ، وتدعو الله في ثوابي وخيري وهدايتي وإرشادي ، وتأييدي ، تسديدي ، توفيقي ، وكلّ خير لديني ودنياي وآخرتي فإنّك يا مولاي كريم تحبّ الكرامة ، ومأمور من الله بالاجارة ، واجعل تمام قراك في خفارتك أن تسأل الله لي بمعرفته ومحبّته وقربه ورضاه ، وأن يلحقني

المراقبات 116

بكم في الدنيا والآخرة ، ويجعلني من شيعتكم المقرّبين وأوليائكم السابقين ، فإنّه وليّ ذلك ، صلى الله عليكم ما شاء الله ولا قوّة إلا بالله» .
ثم إن شاء أن يختم ليلته بالسجود ، فليفعل . وصلى الله على محمد وآله .
ثم من المواقف الشريفة من منازل شعبان للسالك إلى الله جل جلاله آخر جمعة منه روي عن «العيون» باسناده عن عبد السلام بن صلاح الهرويّ قال : دخلت على أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام في آخر جمعة من شعبان ، فقال لي : يا أبا صلت إن شعبان قد مضى أكثره وهذا آخر جمعة فيه ، فتدارك فيما بقي تقصيرك فيما مضى منه وعليك بالاقبال على ما يعنيك ، وأكثر من الدعاء والاستغفار ، تلاوة القرآن ، وتب إلى الله من ذنوبك ، ليقبل شهر رمضان إليك وأنت مخلص لله عزّ وجلّ ، ولا تدعنّ أمانة في عنقك إلا أدّيتها ، وفي قلبك حقداً على مؤمن إلا نزعته ، ولا ذنباً أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه ، واتّق الله وتوكّل عليه في سرائرك وعلانيتك «ومَن يتوكّل على الله فهو حَسبُهُ إنَّ الله بالِغُ أمرِهِ قد جَعَلَ الله لكلّ شيءٍ قدراً» (الطلاق : 3) وأكثر من أن تقول فيما بقي من هذا الشهر : «اللهمّ إن لم تكن غفرت لنا في ما مضى من شعبان ، فاغفر لنا فيما بقي منه» فإن الله تعالى يعتق في هذا الشهر رقاباً من النار لحرمة شهر رمضان .
أقول : إنّ في هذا الذي أفاض عليه السلام لبلاغاً لأهله في هذا المقام ، وكلّ مقام مثله ، احفظه واغتنم واعمل به في أمثال المقام .
ثمّ إنّ في صوم ثلاثة أيّام من آخر شعبان لمن لم يصم كلّه لفضلاً لا يليق للمراقب أن يتركه ، وقد روى الصدوق عليه الرحمة عن الصادق عليه السلام أنَّ من

المراقبات 117

صام ثلاثة أيّام من آخر شعبان ووصله بشهر رمضان كتب الله له صيام شهرين متتابعين ، هذا .
ومراقبات أواخر الشهور من جهة استصلاح ما أتلفه في الشهر كلّه غيرما ذكرنا كما أشرنا في كلّ شهر .
ثم من جملة مهمات ما يعمل به في آخر ليلة من شعبان لشهر رمضان دعاء رواه في الإقبال ، لهذه الليلة والليلة الأولى من شهر رمضان ويعرف منه ـ من كان أهلاً له ـ تفصيل تكليف الاستعداد لدخول ضيافة الله جلّ جلاله .

* * *

المراقبات 118




المراقبات 119

الفصل التاسع


في مراقبات شهر رمضان المبارك


روى في الجعفريات عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : لا تقولوا رمضان فإنكم لا تدرون ما رمضان ؟ فمن قاله فليتصدّق وليصم كفّارة لقوله ، ولكن قولوا كما قال الله : شهر رمضان .
ومن مهمّات السالك في أمر هذا الشهر العظيم معرفة حقه ، وأنّ هذا المنزل أكرم الله فيه السائلين إليه بالدعوة إلى ضيافته ، وهو دار ضيافة الله ، وأن يعرف معنى الصوم ومناسبته بمعنى ضيافة الله ، وأن يجهد بعد هذه المعرفة في تحصيل وجود الإخلاص في حركاته وسكناته على وفق رضا صاحب الدار .

مقدمة :

الجوع فيه فوائد للسالك في تكميل نفسه ومعرفته بربّه لا تحصى ، وقد وردت في فضائله أشياء عظيمة في الأخبار لا بأس بالإشارة إليها أوّلاً ثمّ الكشف عن لمّه ، الاشارة إلى حكمته .
روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش ، فإنّ

المراقبات 120

الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله وإنّه ليس من عمل أحبّ إلى الله من جوع وعطش .
وقال لأسامة : إن استطعت أن يأتيك ملك الموت وبطنك جائع ، وكبدك ظمآن فافعل ، فإنّك تدرك بذلك أشرف المنازل ، وتحلّ مع النبيّين ، وتفرح بقدوم روحك الملائكة ، ويصلّي عليك الجبّار .
وقال : أجيعوا أكبادكم ، وأعروا أجسادكم لعلّ قلوبكم ترى الله عزّ وجل .
وفي حديث المعراج قال : قال : يا أحمد هل تعلم ميراث الصوم ؟ قال : لا ، قال : ميراث الصوم قلّة الأكل ، وقلّة الكلام ، ثمّ قال في ميراث الصمت : إنّها تورث الحكمة وهي تورث المعرفة ، وتورث المعرفة اليقين ، فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح ؟ بعسر أم بيسر ؟ فهذا مقام الراضين ؟
فمن عمل برضاي أُلزمه ثلاث خصال : شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي حبّ المخلوقين ، فإذا أحبّني أحببته وحبّبته إلى خلقي ، وأفتح عين قلبه إلى جلالي وعظمتي فلا أُخفي عنه علم خاصّتي خلقي ، أُناجيه في ظلم الليل ونور النهار ، حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم ، وأُسمعه كلامي وكلام ملائكتي وأُعرّفه سرّي الذي سترته من خلقي ـ إلى أن قال ـ :
وأستغرقنّ عقله بمعرفتي ، ولأقومنّ له مقام عقله ، ثمّ لأهوّننّ عليه الموت وسكراته ، وحرارته وفزعه ، حتى يساق إلى الجنّة سوقاً ، فإذا نزل به ملك الموت يقول : مرحباً بك وطوبى لك ثمّ طوبى لك ، إنّ الله إليك لمشتاق ـ إلى أن قال ـ يقول : هذه جنّتي فتبحبح فيها ، وهذا جواري فاسكنه .

المراقبات 121

فيقول الروح : إلهي عرّفتني نفسك فاستغنيت بها عن جميع خلقك ، وعزّتك وجلالك ، لو كان رضاك في أن أُقطّع إرباً إرباً أو أُقتل سبعين قتلة بأشدّ ما يقتل الناس ، لكان رضاك أحبّ إلي ـ إلى أن قال ـ فقال الله عزّ وجل : وعزّتي وجلالي لا أحجب بيني وبينك في وقت من الأوقات حتى تدخل عليّ أيّ وقت شئت ، كذلك أفعل بأحبّائي .
أقول : في هذه الأخبار إشارة وتصريح بحكمة الجوع وفضيلته ، وإن شئت أبسط من ذلك فانظر إلى ما ذكره علماء الأخلاق أخذاً من أخبار الباب من خواصّه وفوائده وقد ذكروا له فوائد عظيمة :
منها : صفاء القلب لأن الشبع يكثر البخار في الدماغ ، فيعرضه شبه السكر ، فيثقل القلب بسببه عن الجريان في الأفكار ، وعن سرعة الانتقال ، فيعمى القلب ، الجوع بخلاف ذلك فيصير سبباً لصفاء القلب ورقّته ، ويهيّئ القلب لإدمان الفكر الموصل إلى المعرفة ، وله نور محسوس ، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من أجاع بطنه عظمت فكرته ، وقد سمعت مواريث المعرفة .
ومنها : الانكسار والذل ، وزوال الأشر والبطر ، والفرح الذي هو مبدأ الطغيان فإذا ذلّ النفس يسكن لربّه ويخشع .
ومنها : كسر سورة الشهوات والقوى التي تورث المعاصي وتوقع في الكبائر المهلكات لأنّ أغلب الكبائر تنشأ من شهوة الكلام ، وشهوة الفرج ، وكسر الشهوتين سبب للاعتصام من المهلكات .
ومنها : دفع النوم المضيّع للعمر الذي هو رأس مال الإنسان لتجارة الآخرة ، وهو سبب لدوام السهر الذي هو بذر كلّ خير ، ومعين للتهجّد الباعث لوصول المقام المحمود .

المراقبات 122

ومنها : تيسّر جميع العبادات من وجوه ، أهونها قلّة الاحتياج إلى التخلّي وتحصيل الطعام ، وقلّة الابتلاء بأمراض شتّى ، فإنّ المعدة بيت الداء ، والحمية رأس كلّ دواء ، وكلّ ذلك محوج للإنسان لعروض الدنيا من مالها وجاهها اللذين فيهما هلك من هلك .
ومنها : التمكّن من بذل المال والإطعام والصلة والبرّ والحجّ والزيارة وبالجملة العبادات الماليّة كلّها .
أقول : هذه فوائد لا تحيط عقول البشر بتفصيلها ، لا سيّما الفائدة الأولى ، فإنّ الفكر في الأعمال بمنزلة النتيجة ، وغيره بمنزلة المقدّمات فإنّه نفس السير ، وغيره مقدّمات ومعدّات للسير ، ولذا ورد فيه : «تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة» .
وإذا تمهّد لك هذه المقدّمة ينتج لك فوائد عظيمة :
منها : أنّك تعلم بالعلم القطعيّ وجه اختيار الله لضيفه الجوع لأنّه لا نعمة أنعم وأسنى من نعمة المعرفة والقرب واللقاء ، والجوع من أسبابها القريبة .
وتعلم أنّ الصوم ليس تكليفاً بل تشريف يوجب شكراً بحسبه ، وترى أنّ المنّة لله تعالى في إيجابه ، وتعرف مكانة نداء الله لك في كتابه في آية الصوم وتلتذّ من النداء إذا علمت أنّه نداء ودعوة لك لدار الوصول ، وتعلم أنّ الحكمة في تشريعه قلّة الأكل وتضعيف القوى وتضنّ أن تأكل في الليل ما تركته في النهار بل وأزيد .
ومنها : أنّك إذا عرفت شرف ما أُريد منه لك تجتهد في تصحيحه والاخلاص فيه لتسلم لك فوائده .

السابق السابق الفهرس التالي التالي