المراقبات 283

الخارجيّ فمن قال : الحمد لله مائة مرّة مثلاً يقبل ذلك منه بمائة حمد ، ويجزيه جزاء من حمده مائة مرّة .
ثمّ ليتفطّن أنّ تغيير الأسلوب في الفقرة الثالثة وهو قوله : لا إله إلا الله ورحمته خير ممّا يجمعون» حيث لم يقل : لا إله إلا الله عدد ما يجمعون لأنّه عبارة عن عروض هذه الدنيا الفانية ، وهي من جهة حقارتها عند الله ، بل من جهة كونها عدوّة لله ـ لأنّها تقطع طريق عباده إلى الوصول بقربه وكرامته ، لكونها شاغلة لهم عن ذكره وفكره وعبادته ـ فلذلك عدل عن التصريح بتهليله عدده بالاشارة بكلام فيه إشارة إلى علة الاستحقار والعدول ، وهو أنّ رحمة الله خير من عروض هذه الدنيا يعني الآخرة خير من الأولى والله خير وأبقى .
فإذا تفطّن لذلك فليستقلّ هم الدنيا في قلبه ، وليعلم أنّ من كثر همّها في قلبه يسقطه عن الشرف الذي لقلب المؤمن في عين الله .
ومن الأهم صوم هذه الأيّام التسعة لا سيّما اليوم الأول ، روي أنّ صومه يكتب ثمانين شهراً ، وصوم التسعة صوم الدهر ، وصوم التروية كفّارة ستّين سنة ، وكلّ ذلك للرواية .
وأمّا ليلة عرفة فروي أنّ ليلة عرفة يستجاب فيها ما دعا من خير ، وللعامل فيها بطاعة الله تعال أجر سبعين ومائة سنة ، وهي ليلة المناجاة وفيها يتوب الله على من تاب .
ويستحبّ فيها أن يدعو بالدعاء الذي أوّله : اللهمّ يا شاهد كلّ نجوى .
أقول : لا تغفل عن مضامين هذه المناجاة الفاخرة ، ولعمري لو كنت من أهلها لرأيت فيها علوماً ينبغي للمسلم أن يصرف عمراً في تحصيلها ، وادع بها حيّاً ، ولا تدع بها ميّتاً ، وتفكّر فيما تضمّنته من أسماء الله وصفاته وأفعاله ،

المراقبات 284

فإن انكشف لك شيء من حقائق بعضها أو انشرح صدرك بفهم بعض مراداتها لصدّقت ما قلناه بحقيقة التصديق .
وتفطّن أنّ المراد بالأسماء التي يقسم فيها على الله هل هو اسم لفظيّ أو اسم عينيٌّ لعلّك لو تفكّرت في مضامينها لا سيّما في مثل ما فيها : «وباسمك الذي رفعت به السماوات بلا عمد وسطحت به الأرض» الخ عرفت أنّ المقصود منه الاسم العينيّ وهكذا قوله :«وباسمك السبّوح القدّوس البرهان الذي هو نور على كلّ نور ، ونور من نور ، ونور يضيء منه كلّ نور إذا بلغ الأرض انشقّت» الخ لا يلائم بالأسماء اللفظية ، فإن هذه الصفات لا يتعقّل في الأسماء اللفظيّة إلا بتأويل يرجع إلى الأسماء العينيّة .
وأيضاً لا تغفل عن التصريح فيها وكذا في أغلب المناجاة الطوال أنّ وجود كلّ شيء وخلقه إنّما هو بأسماء الله ، فتفكّر في هذه المعاني لعلّك تعرف بنور التفكّر ما كنت غافلاً عنه من جواهر العلوم ، وأسرار الكون التي أُشير إليها في القرآن العزيز من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، واشكر نعمة من علّمك بها .
وروي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر تسبيحات من قرأها ألف مرّة لم يسأل الله عزّ وجلّ شيئاً إلا أعطاه ، إلا قطيعة رحم أو إثم ؛ ويستحبّ فيها زيارة الحسين عليه السلام .
ومن مهمّات الليلة مراجعة الحماة عليهم السلام في أوّلها وآخرها على ما كرّرنا ذكره في آمثالها من الأوقات الشريفة .
وأمّا يوم عرفة فمن قدر فيها إلى حضور عرفات أو كربلاء فذلك من أهمّ ما ينبغي فيها للدعاء ، وهو يوم كأنّه محّض للدعاء ، فللمراقب أن يستعدّ بكلّ ما يقدر عليه لهذا الموسم الجليل والعمدة في ذلك أن يحصّل شرائط استجابة

المراقبات 285

الدعاء ، وأهمية الدعاء في هذا اليوم بحيث منعوا من يضعّفه الصوم عن الدعاء عن الصوم فيه ، مع أنّ في بعض الأخبار الصحيحة المعتمدة أنّ صومه كفّارة تسعين سنة .
ثمّ إنّ ما ذكرناه من رجحان حضور عرفات وكربلاء ، أمّا عرفات فبالضرورة من تشريع الحجّ ، وأمّا كربلاء فبالأخبار الكثيرة الواردة في ثواب زيارته عليه السلام في يوم عرفة :
وفي رواية الصدوق عن أبي عبد الله عليه السلام أنّ الله تبارك وتعالى يتجلّى لزوّار قبر الحسين عليه السلام قبل أهل عرفات ، يقضي حوائجهم ، ويغفر ذنوبهم ، ويشفّعهم في مسائلهم ، ثمّ يأتي أهل عرفات فيفعل بهم ذلك .
وروي عنه عليه السلام أنّ من زار الحسين بن علي عليه السلام يوم عرفة كتب الله عزّ وجلّ له ألف ألف حجّة مع القائم عليه السلام وألف ألف عمرة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعتق ألف ألف نسمة وحملان ألف ألف فرس في سبيل الله ، وسمّاه الله عبدي الصدّيق آمن بوعدي .
قال السيد قدّس الله نفسه الزكيّة والأخبار في فضل زيارته عليه السلام في عرفة متواترة .
أقول : وأمّا اختلاف الأخبار في تعيين ثوابها بألف وألفين وألف ألف فلعلّه بالنسبة إلى درجات الزائرين ، أو بالنسبة إلى كيفيّة الزيارات ، مع الخوف أو عدمه أو غير ذلك من جهة الرجحانات .
ولكنّ الأولى للزائر العارف أن يغتسل للزيارة وليوم عرفة ، ويبتدئ بها بحيث يتمّها إلى الزوال ، فيشرع من حين الزوال إلى مقدّمات الصلاة والدعاء ، وأمّا آداب الزيارة فقد مضى في زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ينفع هنا ولكن

المراقبات 286

الأهمّ في زيارة الحسين عليه السلام أن يكثر في شعار العزاء من الأحزان والأشجان والبكاء ، ويكون أشعث أغبر ، ويتمنّى مكانة أصحابه عليه السلام في الوفاء بحقّه ، والشهادة بين يديه ، ويكثر من قوله : «يا ليتنا كنا معكم» عن حقيقة قلبه ، ويتوجّه بقلبه وسرّه إلى روحانية الحسين عليه السلام ويستمدّ من فضله وأنواره وبركاته في قبوله زيارته وسائر أعماله وإلحاقه بأصحابه .
وليعلم أنّ باب الحسين عليه السلام باب واسع الرحمة ، سريع القبول والرضا ، وكان عليه السلام يقول في حياته «مثل الإحسان مثل المطر يصيب البرّ والفاجر» .
ويعجبني أن أُشير في هذا المقام إلى ما حكى لي بعض أجلّة الثقاة من أهل العلم عن بعض الثقاة أنّه كان له رفيق في صغره من أهل بلده يعرفه ، ثمّ إذا كبر الرفيق صار عشّاراً ومضى عليه مدّة في هذا الشغل ، فمات ودفن في مقبرة فرآه في النوم في حال جيّد وعيش هنيء وسأله عن ذلك وعن سبب نجاته ، قال : إني كنت معذّباً [بعد موتي] بسوء أعمالي إلى أن دفنت في هذه المقبرة في اليوم الفلاني الامرأة الفلانية زوجة فلان فزارها الحسين عليه السلام في الليلة التي دفنت فيها ثلاث مرّات ، وإذا صار المرّة الثالثة أمر الملائكة أن يرفعوا العذاب من جيرانها ، فرفع عنّا العذاب وحسن حالنا وإذا استيقظ من نومه ، تفقّد زوجها فوجده ، وسأله عن زوجته وموتها ، ومكان دفنها وكان كما أخبره العشّار ، وسأل زوجها عن أحوالها وأعمالها ولم يجد لها عملاً مربوطاً بالحسين عليه السلام إلا مداومتها لزيارة عاشوراء .
فانظر يا أخي في ودّه ووفائه عليه السلام أنّه يزور امرأة في ليلة ثلاث مرّات ، ويوصل إليها من شفاعته وبركاته ما يكون حظّ جيرانها حتّى العشّار منهم ارتفاع العذاب وحسن الحال ، اللهمّ بلّغه عنّا في كلّ لحظة إلى أبد الآباد من

المراقبات 287

الصلوات والتحيّات والتسليمات ، عدد ما أحاط به علمك ، ومبلغ رضاك ، وما لا نفاد له .
وبالجملة إذا زاره عليه السلام على ما ينبغي وأراد الدعاء ، واقتضى حاله وتوفيقه فليصلّ اثنتي عشرة ركعة في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة ، وآية الكرسي و«قل هو الله أحد» مرّة ، ليقرأ ما تيسّر من القرآن ويخرّ ساجداً ويرفع (رأسه) ويقول : «سبحان من لبس العزّ» الخ ويدعو بما أحبّ .
وإن لم ينشط لذلك فليصل ركعتين قبل الخروج بارزاً تحت السماء ثمّ يأتي الحرم ويزوره ، وإن كان في غير كربلاء فليصلّ بعد الظهرين ونوافلها تحت السماء ثمّ يأتي محلّ دعائه ، فليبالغ في هاتين الركعتين فإنّها بمنزلة الهدية يهديها المتشرّف بحضور الملوك قبل الحضور .
ثمّ اعلم أنّ فتح أبواب الدعاء من ملك الملوك تعالى جلّ جلاله كرامة لا يمكن أن توجد من أحد المخلوقين ، وأنّه باب واسع يقابل كلّ أبواب السعادات ، أسهل مؤونة من جميع هذه الأبواب ، وليس في أبواب السعادات باب يكون طريقاً لكل مطلوب ممكن : جزئيّ وكلي ، دينيّ ودنيويّ ، من جميع وجوه الآمال ، ولا يكون له حدٌّ في ذلك ، وليس في شرائطه عمل يثقل على الأبدان .
نعم شرائطه متعلّقة بتصحيح العقائد والمعارف ، وسائر شرائطه الدائرة على الأعمال البدنيّة كلّها شرائط كماليّة قليلة المؤونة لا ثقل فيها ، مثل البكاء والتختّم والتلبّث والتمجيد والتحميد والصلاة على النبيّ وآله والإقرار بالذنوب ، وتشريك المؤمنين والختم بالصلوات وما شاء الله ولا قوّة إلا بالله ، وجامع شرائطه المعنويّة القلبيّة التحقّق بحقيقة الإيمان بالله وصفاته وأسمائه ، وإذا اتّصف قلب العبد بصفة الإيمان بالله ، وبقدرته وعلمه ، وعنايته وجوده ،

المراقبات 288

وكرمه وصدقه ، ودعوته عباده إلى دعائه [ودعاه] فالحاجة أو بدلها النعميّ بالباب ، ولا خلف .
وإذا جلست للدعاء فعليك بسكينة ووقار ، ولتبتدئ قبل الشروع بما ورد في ذلك من الذكر .
أقول : فليلاحظ العبد حاله فإن نشط لمفصّلات ما ورد فيه ، من حمد الله وتهليله وتمجيده والثناء عليه أولاً إجمالاً ثمّ يكبّر مائة مرّة ثمّ يحمد كذلك مائة ويسبّح كذلك ويهلّل كذلك ويقرأ «قل هو الله أحد» مائة مرّة وسورة القدر مائة مرّة في روايةٍ آية الكرسي مائة مرّة ، ويصلّي على النبي وآله مائة مرّة .
وإن وجدت في نفسك كسلاً عن ذلك فاقتصر بالتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح والصلوات ، ولتكن مع [الحضور و] الصدق والإخلاص .
ولا تنس عند التكبير ما في مصباح الشريعة عن الصادق عليه السلام قال : «إذ كبّرت فاستصغر ما بين العلى والثرى دون كبريائه ، فإن الله تعالى إذا اطّلع على قلب العبد وهو يكبّر ، وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره ، قال : يا كاذب أتخدعني وعزّتي وجلالي لأحرمنّك حلاوة ذكري ، ولأحجبنّك عن قربي والمسرّة بمناجاتي» .
قال : «فاعتبر أنت قلبك حين صلواتك ، فإن كنت تجد حلاوتها ، وفي نفسك سرورها وبهجتها ، وقلبك مسرور بمناجاته ، ملتذّ بمخاطباته ، فاعلم أنّه قد صدّقك في تكبيرك ، وإلا فقد عرفت من سلب لذّة المناجاة ، وحرمان حلاوة العبادة ، أنّه دليل على تكذيب الله لك ، وطردك عن بابه» .
أقول : هذا حقٌّ واقع صدق ، لأنّ التكبير له صورة في اللسان ، وهو

المراقبات 289

قولك «الله أكبر» وحقيقة في قلبك وعملك ، وهو أن يكون الله جلّ جلاله في نفسك أكبر من كلّ كبير ، وأكبر من أن يوصف ، وعلامة ذلك أن يكون قلبك وروحك وقالبك كلّها خاضعة له جلّ جلاله خضوعاً لا تخضع لأحد من الكبراء مثله ، وتشتاق إلى مجالسته ومؤانسته ومناجاته اشتياقاً لا تشتاق مثله في مؤانسة أحد من العظماء فحينئذ لا بدّ أن تتبرّك بذكره ، وتتشرّف بخدمته ، وتتمجّد من مجالسته وتلتلذّ من مناجاته ومؤانسته ، فوق ما تتأثّر بشيء من ذلك مع أحد من الملوك والشرفاء ، فإنّ العقل يلتذّ بالشرف والمجد والمجد فوق ما يلتذّ بسائر الملاذّ .
فإذا صدّق روحك وقلبك وعملك لسانك في التكبير فهو جلّ جلاله أشكر من كلّ شاكر ، سيكبّرك ويعظّمك وينزّهك في متنزهات دار الجلال ، كما أُشير إليه في الرواية ، وإذا خالف قلبك وحقيقتك وعملك لسانك ، فيكون إظهارك بلسانك تكبيرة خدعة فتستحقّ تكذيبه لك ، وطرده لك عن بابه ، فتخسر خسراناً مبيناً .
واذكر عند التهليل ما تلونا عليك في تفسيره عند ذكر أذكار العشر ، وهكذا عند التحميد ، ونزّهه حقّ تنزيهه ، ومن بعض تنزيهه ـ جلّ جلاله ـ أن تتّصف بالاخلاص له في عبادتك ، [ومنه تحقيق] معاني التنزيه في التوحيد كما في مصباح الشريعة ، ومنه أن تنزّهه عن الشريك في الإرادة كما هو المراد بتسبيح الركوع ومنه أن تنزّهه عن الشريك في حقيقة الوجود ، كما هو المراد بتسبيح السجود ، وهو مقام الفناء وحقيقة التوحيد .
أقول : هذه المراتب مراتب أهل الكمال ولا تتأتّى من أمثالنا أرباب الاهمال نواقص الألباب والأعمال ، فلا محال [من أنّ] لا نغفل عن ذكر هذه الألفاظ عن قصد معانيها بقدر فهمنا ، والتحقّق بما تيسّر لنا من حالنا ومقامنا ،

المراقبات 290

ولا نشغل عند ذكره تعالى عن ذكره بذكر غيره ، بل بذكر عدوّه ، فنستحقّ بذلك الخذلان ، وفوت الإحسان .
وتفكّر عند الصلوات على النبيّ وآله أنّ الله أوصل صلواته بصلواته ، وطاعته بطاعته وانظر لا يفوتك بركات معرفة حرمته فتحرم فوائد صلواته .
ثمّ اقرأ من الدعوات المأثورة ما يقتضيه نشاطك عن قلب حاضر ، وعن تدبّر وتفهّم لما تقول ، ولا تترك دعاء الحسين عليه السلام مع ما ألحق به العلامة ، والسيد (قده) فهو وإن لم يكن من دعاء الحسين عليه السلام ، ولكنّ مضامينه عالية ، وأكثر الجدّ في فهم معانيها فإنّها مثار للفكر الفاخر ، ولا تترك دعاء الصحيفة السجّاديّة .
وإن ضممت إليهما دعاء الصادق عليه السلام ثمّ دعوت بإنشاء نفسك في حوائجك ، قدّمت الدعاء على الإخوان المؤمنين لا سيّما من علّمك علوم الدين ، والوالدين والآباء والأمّهات ، وسائر الأرحام ، وذوي الحقوق [فهو أحسن] وبالغ في حال الدعاء أن تكون هيئتك أجلب الهيئات لرحمة أرحم الراحمين ، من البكاء والابتهال والضراعة ، ولبس المسوح ، وغلّ الأيدي ، وكلامك ألطف الكلمات في المبالغة في الاسترحام والاستعطاف .
وقد روي أنّ الله أوحى إلى الكليم عليه السلام : كن إذا دعوتني خائفاً مشفقاً وجلاً وعفّر وجهك في التراب واسجد لي بمكارم بدنك ، واقنت بين يديّ بالقيام ، وناجني حيث تناجيني بخشية من قلب وجل .
وإلى عيسى عليه السلام : يا عيسى صبّ لي من عينك الدموع ، فاخشع لي بقلبك ، يا عيسى استغث بي في حالات الشدّة فإنّي أُغيث المكروبين ، وأُجيب المضطرّين ، وأنا أرحم الراحمين .

المراقبات 291

وإذا وفّقت لهذه الأحوال ، وأردت أن تدعو الله في حوائجك ، فإن آثرت إخوان الصفا على نفسك ، وذكرتهم بأسمائهم ، ودعوت إليه في حوائجهم ، وذكرت ما تعرف من حوائجهم الخاصة حاجة حاجة ، ثم حوائجهم العامّة ، فاعلم أنّك لم تخسر ، بل وربحت أربح التجارات ، لأنّك إن قدّمتهم على نفسك في الدعاء لله ، دعوت لنفسك بلسان لم يعص الله طرفة عين ، بلسان الملائكة المعصومين ، بل بلسان الله ربّ العالمين ، بل عوّضت من دعاء واحد بدعوات غير محصورة لما روي عن ابن أبي عمير ، عن زيد النرسيّ قال :
كنت مع معاوية بن وهب في الموقف وهو يدعو فتفقّدت دعاءه فما رأيته يدعو لنفسه بحرف ، ورأيته يدعو لرجل رجل من الآفاق ، ويسمّيهم ويسمّي آباءهم حتّى أفاض الناس ، فقلت له يا عمّ : لقد رأيت منك عجباً ، فقال : فما الذي أعجبك ممّا رأيت ؟ قلت : إيثارك إخوانك على نفسك في هذا الموضع ، وتفقّدك رجلاً رجلاً ، فقال لي : لا يكون تعجّبك من هذا يا ابن أخي فإني سمعت مولاي ومولاك ، ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ، وكان والله سيّد من مضى ، وسيّد من بقي بعد آبائه عليهم السلام ، وإلا فصمّت أُذنا معاوية وعميت عيناه ، ولا نالته شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن لم أكن سمعت منه ، قول : من دعا لأخيه بظهر الغيب ، نادى ملك من السماء الدُنيا : ولك يا عبد الله مائة ألف ضعف ممّا دعوت .
وناداه ملك من السماء الثانية : يا عبد الله ولك مائتا ألف ضعف ممّا دعوت .
وناداه ملك من السماء الثالثة : يا عبد الله ولك ثلاثمائة ألف ضعف ممّا دعوت .

المراقبات 292

وناداه ملك من السماء الرابعة : يا عبد الله ولك أربعمائة ألف ضعف ممّا دعوت .
وناداه ملك من السماء الخامسة : يا عبد الله ولك خمسمائة ألف ضعف ممّا دعوت .
وناداه ملك من السماء السادسة : يا عبد الله ولك ستّمائة ألف ضعف ممّا دعوت .
وناداه ملك من السماء السابعة : يا عبد الله ولك سبعمائة ألف ضعف ممّا دعوت .
ثمّ ناداه الله عزّ وجلّ : أنا الغنيّ الذي لا أفتقر ، يا عبد الله ولك ألف ألف ضعف ممّا دعوت ، فأيّ الخطرين أعظم يا ابن أخي ؟ ما اخترته أنا لنفسي أو ما تأمرني به ؟ هذا .
وههنا دقيقة وهي أن تكون مع دعائك لأخيك محبّاً له واقعاً ، وأدّيت له سائر الحقوق أيضاً ، ولكن إذا لم تكن محبّاً له ، وفعلت في الدعاء ذلك ، أخاف أن لا يؤثّر هذا الدعاء الأثر المرويّ في هذه الرواية الجليلة .
ثمّ إنّ للداعي أن يتذكّر ما في مصباح الشريعة من قول الصادق عليه السلام : «احفظ أدب الدعاء ، وانظر من تدعو ؟ كيف تدعو ؟ وحقّق عظمة الله وكبرياءه ، عاين بقلبك علمه بما في ضميرك ، واطّلاعه على سرّك ، وما يكون فيه من الحقّ والباطل ، واعرف طريق نجاتك وهلاكك ، كيلا تدعو الله بشيء عسى أن يكون فيه هلاكك ، وأنت تظنّ أنّ فيه نجاتك ، قال الله تعالى : «وَيَدعُ الإنسانُ بالشرِّ دُعاءَهُ بالخيرِ وكانَ الإنسانُ عجولاً» (الإسراء : 11) .
«وتفكّر ماذا تسأل ؟ وكم تسأل ؟ ولماذا تسأل ؟ والدعاء استجابة الكلّ

المراقبات 293

منك للحقّ ، تذويب المهجة في مشاهدة الربّ ، وترك الاختيار جميعاً ، وتسليم الأمور كلّها ظاهراً وباطناً إلى الله تعالى ، فإن لم تأتِ بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة فإنّه يعلم السرّ وأخفى ، فلعلّك تدعوه بشيء قد علم من سرّك خلاف ذلك» .
والظاهر أنّ المراد بقوله : «استجابة الكلّ منك للحقّ» يعني يدعو الله جلّ جلاله إجابة لأمره ، حيث ندب عباده لدعائه في كتابه الكريم بقوله : «واسألوا الله» (النساء : 32) وبقوله : «فَليَستَجيبوا لي وَليُؤمِنوا بي» (البقرة : 186) بشرار وجوده .
وأمّا قوله : «في مشاهدة الرب» لعلّ وجهه أنّ الداعي لو لم يعرف المدعوّ لا يتحقّق دعاؤه ، ولعلّه لو لم يعرفه دعا غيره ، ويتخيّل أنّه دعا الله ، وهذا هو الأغلب في غير الكاملين من الداعين ، ومعرفته أن يكون معرفة حقيقيّة حتّى يشاهده بروحه وقلبه ، كما في دعائه عليه السلام : «اللهمّ نوّر ظاهرنا بطاعتك ، وباطننا بمعرفتك ، وقلوبنا بمحبّتك ، وأرواحنا بمشاهدتك» .
وأمّا قوله : «ترك الاختيار جميعاً» فالمراد منه أن يدعوه جلّ جلاله لمراده ولا يعيّن له طريقه وفرده ، مثلاً إذا أراد المال لا يعيّن عليه أن يعطيه من يد فلان أو شراء شيء ، أو بيع شيء ، إلا أن يكون هو أيضاً من أصل مراده ، أو يكون المراد أنّ الأصل في المرادات كلّها الخير والسعادة ، وأقصى كلّ خير وسعادة معرفة الله وقربه وجواره ، كما في قولهم : «يا غاية آمال العارفين» فليدع الداعي لكلّ مراداته ذلك ، ولا يختار السعادات المتفرّقة المتشتتة دونها ، فإن كان ما يعنيه للسعادة والخير موصلاً إلى هذه الغاية يعلمه الله ، وإلا فلا ثمرة في تعيينها بل قد يكون مضرّاً في الغاية القصوى من مراداته ، ولكن هذا مقام الكاملين من أهل المعرفة الذين أُشير إليهم في حديث المعراج

المراقبات 294

بقوله : «وأستغرق عقله بمعرفتي ، وأقوم له مقام عقله» فيا له من مقام ما أعلاه وعلوّ ما أسناه .
ثمّ إذا قرأت الأدعية المأثورة ، فكن في قراءتك متفهّماً بما تقول ، متحقّقاً بحقائق ما تذكره في دعائك ، وإيّاك وإيّاك أن تواجه ربّك بدعوى كاذبة ، وإظهار ما لست عليه من أحوال العبوديّة ومراسم التضرّع والابتهال والمسكنة .
مثلاً إذا قرأت في الدعاء : «يا ربّاه لا غناء لي عن نفسي ولا أستطيع لها ضرراً ولا نفعاً ، ولا رجاء لي ، ولا أجد أحداً أُصانعه ، تقطّعت أسباب الخدائع عنّي واضمحلّ عنّي كلّ باطل ، أفردني الدهر إليك ، فقمت بهذا المقام إلهي بعلمك ، كيف أنت صانع بي ؟ ليت شعري ولا أشعر كيف تقول لدعائي ، أتقول نعم أو تقول لا ؟ فإن قلت : لا ، فيا ويلتاه يا ويلتاه يا ويلتاه ، يا عولتاه يا عولتاه يا عولتاه ، يا شقوتاه يا شقوتاه ، يا شقوتاه ، يا ذلاه يا ذلاه ، يا ذلاه ، إلى من ؟ وعند من ؟ أو كيف ؟ أو بماذا ؟ أو إلى أيّ شيء أرجو؟ ومن يعود عليَّ إن رفضتني» .
يا أخي تفكّر في هذه الألفاظ من إظهار الانقطاع عن الكلّ ، واليأس عن الناس ، القيام إلى الله بين الخوف والرجاء ، والوحشة عن الردّ والدعاء بالويل والعويل والذلّ ، فإنّ صاحب هذا الحال مجاب عند الله ، ومرحوم لديه ، ومكرّم عنده قطعاً ، بل مقرّب محبوب ، وكيف بمن يقرأ هذه الألفاظ ولا يرى أثر الإجابة ولا يزيد في دعائه إلا يأساً وبُعداً ، نعوذ بالله ، لا يكون ذلك إلا من جهة النّفاق ، والكذب في الدعوى .
فمن كان رجاؤه إلى الفلوس أزيد من ربّ العالمين ، وإلى أبيه وابنه أكثر من جبّار السماوات والأرضين ، ومغروراً بماله ، ومطمئناً بتدبيره ، بل

المراقبات 295

متمسّكاً في تدبيره إلى ما نهاه الله جلّ جلاله عنه من المحرّمات ، وأخبره عن عدم نجاح مقصوده به ، قلبه مشغول عن الله بها وقرأ هذا الدعاء لا سيّما إذا التفت حين القراءة ولم يخجل من فضاحة حاله ، ولم يتأثّر من الكذب في مقاله ، فهو مستهين بعظيم جلاله جلّ جلاله ، ومستحقر لشديد سلطان الله ، وحقيق على الردّ والطرد والإبعاد ، بل الغضب والمقت والعقاب ، ولا يكون ذلك إلا من جهة ضعف الإيمان ، وفقدان المعرفة ، نعم لفساد القلب من جهة الاستهتار والاستغراق بمحبّة الدنيا وذكرها أيضاً مدخل في ذلك .
وكيف كان فمن قام في مثل هذا المقام وأتى بهذه الأعمال ، ودعا ربّه بهذه الألسنة ولم ينل بهبوبات نسيم الفضل والقبول ، وإنجاح المسؤول والمأمول ، ولم يشعر بذلك بآثار تغيّر الحال ، أو أحوال ترد على البال ، فليبك على هلاك قلبه ، وضعف إيمانه فإنّه عبد سقيم ذميم .
وبالجملة يجب للمراقب أن لا ينسى في حوائجه طلب توفيق ربّه في أعمال العيد لا سيّما حضور صلاة العيد وقبولها ، وأن يراجع في أوّل اليوم وآخره إلى خفراء اليوم كما مضى تفصيله في أمثال المقام .
وأمّا ليلة العيد روي عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام «أنّ علياً عليه الصلاة والسلام كان يعجبه أن يفرّغ نفسه أربع ليال في السنة وهي أوّل ليلة من رجب ، وليلة النصف من شعبان ، وليلة الفطر ، وليلة الأضحى» يمكن أن يكون المراد تفريغ النفس لعبادتها بإحيائها ، بل هو الظاهر بقرينة أخواتها ، والمراد من الإحياء تفريغ النفس والقلب والجوارح لخدمة الله جلّ جلاله بأن يكون قلبه مشغولاً بذكر الله وبدنه وقفاً لطاعة الله وعبادته ، ولا يغفل في شيء من ليلته بغير الله ، حتّى بالمباحات إلا لله وبالله ، وهذا أوّل درجة المراقبة .
ويستحبّ فيها وفي يومها زيارة الحسين عليه السلام لما روي عن

المراقبات 296

الصادق عليه السلام : «أنّه من زار الحسين عليه السلام ليلة من ثلاث غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر» ، قال الراوي : أيّ الليالي فذكر ليلة الأضحى .
وليكن من دعائك توفيق الفوز بمراضي الله جلّ جلاله في موقف عيدك فإنّه من المواقف الخطيرة التي ينبغي أن يذكر طول السنة .
وأمّا يوم العيد كما أشير إليه في عيد الفطر من مواسم نداء الله ـ جلّ سلطانه وعظمت آلاؤه ـ عبيده وإماءه بالإذن العامّ ، والفيض الخاصّ ، لمغفرة الذنوب ، وعلاج العيوب ، وإنجاح المسؤول ، والفوز بالمأمول ، وإعطاء الخلع والجوائز ، وأمان الأخطار عند الهزاهز .
فاغتنم يا مسكين إقبال ملك الملوك تعالى عليك بوجهه الكريم ، وذكره لك قبل وجودك بجعل هذا العيد العظيم ، وتفكّر بما فعل بك من الكرم والإحسان ، والعطف والحنان ، وذكرك بالعطاء والجود ، قبل أن تكون شيئاً مذكوراً ، فإنّه خلق أسباب قوّتك وقدرتك ، قبل وجودك ووجود ضعفك ، وهيّأ لك أصول نعمه قبل أن تكون قابلاً للتنعّم ، وبعث لهدايتك من أوليائه وأعزّته قبل أن يوجد آباؤك وأمرهم أن يدبّروا أمر هدايتك وتربيتك ، بسفك المهج وخوض اللجج ، والقتال مع الكفّار ، وإبادة الفجّار ، حتّى يسلم عليك دينك ، وتتفرّغ لعبادة ربك وتحصّل معرفة مولاك ، وتفوز بخدمة ربّ العباد ، إلى سلطنة يوم المعاد والنعم الباقية أبد الآباد .
فانظر كم من نبيّ كريم قد قتل في ترويج الدين ؟ وكم من وليّ لله ذبح في تشييد الإسلام المتين ؟ وكم من حريم قد هتكت ، وأموال قد نهبت ، وكريمات قد سبيت ؟ حتّى ظهر دين الله ، وعلت كلمة الله ، وأنت ولدت في زمان كفيت من هذه المجاهدات ، والمناقشات والمناقضات ، وأعلام الدين شاهرة ، ومبانيه ظاهرة ، وأركانه قائمة ، في هدنة وراحة ، وعزّة ونعمة ،

السابق السابق الفهرس التالي التالي