عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 49

وأنّه من زخرف القول ، وباطل لم يصدر عنهم ، لأنّهم لا يخالفون القرآن (1) ، وهذا معنى قول أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام ) عندما رفع القرآن على الرماح في صفّين : « أنا القرآن الناطق » ، وهذا قرآن صامت مع ما له من الإكرام والعزّة، فإذا عرفنا هذا الكلام سيبدو بنا الشوق للقاء إمامنا الحجّة ( عليه السلام ) هذا الأمل الوحيد للشيعي الخالص المخلص ، بل اُمنية كلّ مؤمن أن يرى مولاه وإمام زمانه (عليه السلام ) ولكن إذا منعتك الموانع (2) من رؤيته فها هو شريكه بين يديك وهو كتاب الله العزيز عدل صاحب الزمان ، فلنشتاق إليه ونقوم له إجلالا كما نقوم عند ذكر صاحب الزمان ، فإذا كان مدلول قيامك لإمامك الحجّة ( عجّل الله فرجه الشريف ) هو أنّك منتظر خروجه ، فإنّ هذا القرآن لا بدّ من احترامه والقيام له ، فإنّه كتاب عزيز كريم ، ولذا نجد السيّد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان كان لا يبيت في مكان فيه قرآن ، ولا يمدّ رجله في مكان فيه قرآن أبداً في طوال حياته تعظيماً للقرآن الكريم . فإذا أردنا أن نحترم القرآن لا بدّ من تأدية حقّه، وهو أن نتلوا منه في كلّ يوم على أقلّ

(1) ورد عنهم أحاديث كثيرة تحثّ شيعتهم على عرض ما ورد عنهم على كتاب الله تعالى لكي يمتاز ما كان عنهم عن ما وضع من قبل الواضعين لأنّ حديثهم لا يختلف عن ما في القرآن الكريم ومن هذه الأحاديث عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نور، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه» ( بحار الأنوار 2 : 227 ) ، وهناك أحاديث ورد فيها كلمة « فاضربوا به عرض الجدار » « فهو زخرف لم نقله » ، والكلّ يؤدّي نفس المعنى .
(2) هذه الموانع هي الذنوب والمعاصي التي أشار إليها الإمام الحجّة (عج) في وصاياه لشيعته فقال في هذه الفقرة : « ولو أنّ أشياعنا وفّقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليمن بلقائنا » .
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 50

التقادير خمسين آية كما ورد في الروايات الشريفة (1) ، فنأنس بالقرآن وبأهله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وقد نزل الوحي في بيوتهم ، ألا وهم محمّد وآل محمّد ( عليهم السلام ) ، ومن آل محمّد زينب الكبرى روحي فداها ، ولا يزال الحديث عن مقام من مقاماتها الشامخة ، ألا وهي عصمتها ، وهذا ما سنذكره إن شاء الله تعالى .
والحمد لله ربّ العالمين .

(1)عن حريز عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : « القرآن عهد الله إلى خلقه ، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية » اُصول الكافي 2 : 582.
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 51

( المحاضرة الرابعة )

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلقه سيّد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعدائهم ومنكري فضائلهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
لا زلنا وإيّاكم في رحاب السيّدة زينب الكبرى في رحاب روضة العلم والنور.
ولقد كان الحديث عن أحد مقاماتها إلاّ وهو عصمتها، فهل إنّ زينب الكبرى معصومة ؟
وهل هناك فرق بين عصمتها وعصمة اُمّها الصدّيقة الكبرى فاطمة ( عليها السلام ) ؟
هذا ما سنتحدّث عنه اليوم إن شاء الله تعالى.
قبل الوصول في حديثنا إلى عصمة السيّدة زينب ( عليها السلام ) لا بدّ لنا أن نتحدّث عن عصمة اُمّها الصدّيقة الطاهرة إجمالاً . فنقول :
إنّ فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) تتجلّى فيها العصمة الإلهيّة الكبرى ، لأنّ الله تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، فعند خلقه للإنسان أشار إلى فلسفة خلقته ،

عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 52

وبيّن أنّ المراد من خلق الإنسان هو تكامل هذا الإنسان (1) ، وإنّ هذا التكامل لا يتمّ إلاّ بالرحمة والعلم والعبادة فيصير الإنسان خليفة الله تعالى في الأرض ويكون مظهراً لأسمائه وصفاته وقال تعالى :
« إنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً » (2).
وهذه الخلافة هي خلافة الأسماء والصفات (3).
فالخلافة تارةً تكون مادّية واُخرى أخلاقية، وخلافة الإنسان لله تعالى هي من القسم الثاني ونسمّيها بخلافة الأسماء والصفات لأنّ الله تعالى ذات محيطة بكلّ شيء ولا يحاط به ، فمعرفة ذاته محال ، بل تقود إلى الحيرة والضلال كما ورد في الحديث الشريف(4)، إلاّ أنّ لنا أن نعرفه من خلال أسمائه وصفاته، وأمرنا الشارع بذلك فلنا أن نتفكّر بصفاته الذاتية والفعلية وكونه عالماً وقادراً وحيّاً، وأنّ

(1) إشارة إلى الآية القرآنية الكريمة ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِـيَعْبُدُونِ ) ( الذاريات : 56 ) ، ومن تفاسير كلمة ( ليعبدون ) أي ليعرفون ، فإنّ المعرفة هي أساس العبادة لأنّ « أوّل الدين معرفته » وبالمعرفة يتكامل الإنسان .
(2) البقرة : 30 ، ( وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) ، وفي الآية 36 من سورة ص ما يدلّ على الخلافة الإلهية .
(3) مراده من خلافة الأسماء والصفات هو التخلّق بأخلاق الله تعالى كما ورد في الحديث الداعي إلى التخلّق بأخلاق الله تعالى وعكس صفاته وأسمائه فيكون الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يحمل كلّ صفات الله تعالى فاستحقّ أن يكون خليفته في ذلك.
(4) إشارة إلى الحديث الشريف: « عن أبي جعفر ( عليه السلام ) : تكلّموا في خلق الله ولا تتكلّموا في الله ، فإنّ الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلاّ تحيّراً » الكافي ، الجزء الأوّل ، باب التوحيد.
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 53

هذه الصفات تتجلّى في خلقه فترى الخلق كلّه يسبّح بحمده (1) ، فمثلا نرى صفة الحياة تتجلّى في خلقه، ولكن هذه الحياة لها مراتب متعدّدة، كالرتبة الجمادية والنباتية والحيوانية والإنسانية والملائكية والرتبة العليا هي الرتبة الإلهية ، وهكذا قدرته وكلّ أسمائه وصفاته تتجلّى وتظهر في هذا الكون الذي هو مرآة عاكسة لصفات الله تعالى، والذي يجمع هذه الصفات ويعكسها كلّها وتتجلّى فيه هو الإنسان الكامل فيسمّى بجامع الجمع(2)، لأنّ هناك من المخلوقات ما يتجلّى فيه صفة واحدة من صفات الله تعالى وبعضها أكثر من ذلك وكلّ بحسبه ، فالإنسان الكامل هو المخلوق الوحيد الذي تتجلّى فيه ألف وواحد من الصفات ، وتسعة وتسعون منها تسمّى بالأسماء الحسنى لورودهافي القرآن الكريم ، وهذه الأسماء لها الأثر التامّ عند الدعاء بها ، ولكن لا بدّ لنا أن نعرف من هو الإنسان الكامل ؟ فيكون الجواب هو من كانت له الرتبة العليا والسيادة المطلقة على الخلق ألا وهو النبيّ الأكرم محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله ) أي أنّ هذه الأسماء والصفات تتجلّى كاملةً في الحقيقة المحمّدية ، وهذه الحقيقة تتجلّى في الأنبياء والأئمة ( عليهم السلام ) ثمّ العلماء ثمّ الأمثل فالأمثل. فلهذا صار الإنسان خليفة الله تعالى في الأرض الذي يحمل

(1) إشارة إلى الآيات القرآنية الكثيرة التي تصرّح بأنّ كلّ ما في الوجود يسبّح لله تعالى : « وَإنْ مِنْ شَيْء إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » ( الإسراء : 44 ) ، وهذا ما ورد في سورة الحشر أيضاً « سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ »( الحشر : 1 ) ، وهذه الآية تكرّرت في سورة الصفّ ــ سورة الحديد ــ وسورة الجمعة بزيادة .
(2) سمّي بجامع الجمع لأنّه جامع لجميع الصفات الإلهية والأسماء الحسنى .
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 54

أسماء وصفات الله تعالى.
ومن أسماء وصفات الله تعالى اسم الطاهر والمعصوم أي المنزّه عن كلّ نقص وقبيح، مع أنّه قادر على فعل القبيح ، إلاّ أنّه لا يفعل القبيح وهذا ما يعتقده الشيعة في قبال اعتقاد الأشاعرة والمعتزلة (1) ; لأنّه بفعله للقبيح يكون محتاجاً أو جاهلا أو ناقصاً ، ولكنّه تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً . فالله تعالى هو الطاهر مطلقاً والمعصوم مطلقاً بالقياس إلى غيره أي الممكن الذي تحدّه بداية ونهاية، والذي تكون العصمة فيه أمراً نسبياً ، بينما تكون في الله تعالى مطلقة ، لأنّه أزلي أبدي سرمدي وهو الخالق للزمن وما وراء الزمن.
وبناءً على ما سبق فإنّ العصمة والطهارة تتجلّى في الأنبياء وفي الأئمة ( عليهم السلام ) ، لأنّ مسؤولية الجميع واحدة ووظيفتهم واحدة، فالنبيّ مسؤول عن هداية البشر والإمام مسؤول عن حفظ هذه الهداية وإدامتها ، فتتجلّى العصمة الإلهية في الأنبياء ، وتتجلّى العصمة الإلهية والنبوية في الأئمة ، فعلى هذا لا بدّ للخليفة الذي

(1) هناك ثلاثة أقوال في المسألة :
الأشاعرة : قالوا بأنّه تعالى فاعل لكلّ فعل حتّى القبيح ولا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون ، فتعالى الله عن ذلك .
المعتزلة: فراراً من هذا القول قالوا: القبيح فعل صادر من الإنسان وليس لله تعالى أيّ دخل فيه فعزلوا الله تعالى عن سلطانه، فلزم من ذلك النقص والنقص قبيح.
الإمامية : يقولون إنّ الله تعالى على كلّ شيء قدير حتّى على فعل القبيح، لكنّه لا يفعل القبيح لعدم وجود الداعي، لأنّه ليس بجاهل أو محتاج أو عابث أو مجبور على فعل القبيح، فإذا انتفى الداعي لفعل القبيح امتنع وقوعه.
(وهناك تفصيل في المسألة مذكور في محلّه ) .
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 55

يلي الرسول في مهمّته الإلهية وحفظ الرسالة ، أن يكون معصوماً ، لأنّه الحافظ للشريعة التي جاء بها النبيّ، ثمّ إنّ القرآن الذي هو كتاب الهداية معصوم من كلّ خطأ ، فلا بدّ لحافظه ومفسّره ومبيّنه أن يكون معصوماً ، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة التي أمرتنا أن نعتصم بحبل الله تعالى وقالت :
« وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا » (1) .
فلو لم يكن الحبل معصوماً لما طلبت الآية الاعتصام به ، ونحن نعلم أنّ القرآن الناطق هو الإمام فلا بدّ له أن يكون معصوماً .
وإلى ذلك أيضاً أشارت الآيات القرآنية في قصّة الطوفان وسفينة نوح ( عليه السلام ) وبيّنت أنّ السفينة هي المكان الوحيد للنجاة وكلّ ما سواها لا يعصم من الغرق حتّى الجبل بشموخه وصلابته ، فإنّه لا يستطيع أن يحمي ابن النبي نوح ( عليه السلام ) الذي التجأ إليه (2) ، ففي هذا دلالة واضحة على عصمة السفينة ومن يركبها ينجو ومن يتخلّف عنها يغرق ويهوى ، ولوجود مناسبة وتشابه بين سفينة نوح ( عليه السلام ) وأهل البيت ( عليهم السلام ) نرى النبيّ الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) يمثّل أهل بيته بسفينة نوح ويأمر الاُمّة في مواطن عديدة بالتمسّك بهم حيث أشرت إلى ما يقارب أربعين وجهاً بين آية السفينة وحديث السفينة (3) وهو قول الرسول الأعظم محمّد ( صلى الله عليه وآله ) في حقّهم : « مثل

(1) آل عمران: 103.
(2) إشارة إلى الآية القرآنية الكريمة : « قَالَ سَآوِي إلَى جَبَل يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أمْرِ اللهِ إلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ » ( هود : 43) .
(3) جاء بيان ذلك في (الإمام الحسين ( عليه السلام ) في عرش الله ) فراجع .
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 56

أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى » (1) ، فالعصمة الإلهية إذن تتجلّى في النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ثمّ تتجلّى في الوصيّ من بعده (عليه السلام)، وهذه العصمة عصمة ذاتيّة كلّية، فكما تتجلّى في النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) تتجلّى أيضاً في خلفاء النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) الاثني عشر ( عليهم السلام ) الذين كلّهم من قريش كما ورد في الصحيحين(2)، ولهذه العصمة النبويّة والولويّة جامع ألا وهي فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فهي جامعة للنور النبوي والنور العلوي، فلذا يعبّر عنها بالصدّيقة الكبرى ويعبّر عنها بعصمة الله تعالى، لأنّها جمعت بين العصمتين، ثمّ إنّ هذه العصمة منحها الله تعالى لعباده ناشئة عن اختبار وامتحان فامتحن الله تعالى الأنبياء بأن شرط عليهم العلم والزهد في هذه الدنيا الدنيّة، فشرطوا له ذلك، وعلم منهم الوفاء فقبلهم وقرّبهم إليه، وهذا ما أشار إليه الإمام في الدعاء، حيث يقول: «بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك وعلمت منهم الوفاء به فقبلتهم وقرّبتهم وقدّمت لهم الذكر العليّ والثناء الجليّ»(3) . إذن عصمهم الله تعالى بعد اختباره لهم في العوالم السابقة ــ كعالم الجبروت والملكوت والأرواح والمثال ــ على هذا العالم الناسوتي وهكذا بالنسبة لفاطمة

(1) السواعق : 135 ، مستدرك الحاكم ، الجزء 3 ، الطبراني ــ المراجعات : 17 .
(2) روى البخاري عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : كنّا اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : كلّهم من قريش ( صحيح البخاري 9 : 81 ) ، وفي صحيح مسلم : « لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش » (صحيح مسلم 6 : 4).
(3) مفاتيح الجنان ، دعاء الندبة : 606 .
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 57

الزهراء ( عليها السلام ) اختبرها الله تعالى بالصبر كما ورد في زيارتها يوم الأحد : « السلام عليكِ يا ممتحنة، امتحنكِ الذي خلقك قبل أن يخلقكِ ، وكنت لما امتحنكِ به صابرة » (1) ، فإذن اختبرها الله تعالى بالصبر الذي هو أساس الأخلاق ولم يختبرها بالزهد ، لأنّ الزهد فرع من فروع الأخلاق . فلو سأل سائل : لِمَ اختبر الله تعالى أنبيائه بالزهد ؟ فالجواب : إنّ الزهد في هذا الدنيا يؤهّل النبيّ لممارسة وظيفته التي بعث من أجلها، ألا وهي هداية الناس، فلا يكون غير الزاهد في الدنيا له القدرة على دعوة الناس للآخرة ، فزهد الأنبياء يؤهّلهم للخوض في المجتمعات وعدم التلوّث بالمحيط الكافر ، والبيئة المتلوّثة بالشرك والمعاصي .

نكتة أخلاقية :

إنّ العلماء ورثة الأنبياء كما ورد في الأخبار الشريفة ، وللنبيّ أكثر من عشرين مقاماً ومن هذه المقامات مقام الهداية والحكومة والزهد ، ولهذا فإنّ كلّ نبيّ زاهد حتّى النبيّ سليمان (عليه السلام) الذي ملك الدنيا بأسرها ، لأنّ الزهد جمع في كلمتين كما في القرآن الكريم:
« لِكَيْلا تَأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَـفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ » (2).
فإذا قلنا إنّ العالِم يرث النبيّ ، فلا بدّ أن يكون زاهداً بالإضافة إلى علمه ، وهذه اللابدّية أخلاقية وليست شرعيّة ، لأنّ الزاهد يحكم قلوب الناس ، فلهذا حكم الأنبياء على قلوب المؤمنين به ، وهكذا العالم الرباني فإنّه يحكم على قلوب

(1) مفاتيح الجنان : 96 ، زيارة فاطمة الزهراء يوم الأحد.
(2) الحديد: 23
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 58

المؤمنين إذا كان زاهداً ورعاً تقيّاً ، فإذا كان الزهد شرطاً للنبوّة في عالم الذرّ فهو شرط للعلماء في هذا العالم الناسوتي .
فإذن تبتني عصمة الأنبياء الذاتية الكلّية الواجبة على العلم والزهد، وأمّا النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته ابتنت عصمتهم على العلم والصبر .
« وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ » (1) .

الفرق بين العصمتين :

أقول : إنّ هناك فرق بين عصمة الأنبياء السابقين لنبيّنا ( عليهم السلام ) وبين عصمة خاتم الأنبياء وأهل بيته الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين ، ولكن هذا الفرق من حيث المبادئ والنتيجة ، أي أنّ عصمة الأنبياء يصدر معها ترك الأولى (2)، ولكن عصمة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته لا يصدر معها ترك الأولى، كما يلاحظ ذلك في قصّة آدم وداود (عليهما السلام)(3)، إلاّ أنّ ترك الأولى لا يضرّ بالعصمة.

(1) السجدة : 24 .
(2) مراده من ترك الأولى هو أنّ الأولى للإنسان أن يفعل كذا لأنّه في مصلحته ولائق بحاله ولكنّه لو لم يفعل فيسمّى تارك للأولى ، وترك ما هو أولى من غيره ليس بمعصية لأنّه مخالفة لأمر إرشادي وليس لأمر مولوي أي أمر واجب .
(3) في قصّة آدم (عليه السلام) عندما أكل من الشجرة التي نهاه الله تعالى عنها فكان الأولى أي الأحسن أن لا يأكل منها ولكنّه خالف الأمر الإرشادي وأكل وهذا ما ذكرته الآيات القرآنية، وقصّة داود ( عليه السلام ) الذي كان الأولى به أن يستمع إلى أصحاب الدعوى على حدّ سواء ولا يسمع أحدهما ويترك الآخر ولكنّه استمع إلى أحدهما دون الآخر، وهذا مذكور في الآيات القرآنية.
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 59

ثمّ إنّ العصمة التي تبتني على الصبر تجعل صاحبها على درجة من اليقين بحيث لو كشف له الغطاء لما ازداد يقيناً بينما نرى أنّ إبراهيم الخليل (عليه السلام) طلب من ربّه أن يرى ما يطمئنّ به القلب، وهذا لأنّ عصمته بنيت على العلم والزهد، في حين أنّ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) لم يطلب ذلك من ربّه لأنّ صبره أساس الأخلاق، واليقين جزء من الأخلاق، إنّ الزهد والتقوى جنديّان من جنود العقل وحبّ الدنيا من جنود الجهل كما هو مبيّن في محلّه(1).
فلا بدّ للعاقل من الاتصاف بالزهد والتقوى وباقي الصفات التي أعدّها الله من جنود العقل ، والصبر أساس لكلّ هذه الجنود ، كما عند علماء الأخلاق والعرفان أنّ مراحل التهذيب عبارة عن التخلية والتحلية والتجلية، وكلّها تبتنى على الصبر .
فبالصبر لم يصدر من عليّ (عليه السلام) ترك الأولى، فلا يقال لمثله (عليه السلام): كان الأولى له أن يفعل كذا في سياسته أو اقتصاده ، وأعماله وسلوكه ، وهكذا كان أولاده المعصومين (عليهم السلام) بالعصمة الذاتية المبتنية على العلم التامّ اللدنّي وعلى الصبر.
فإذا عرفنا أنّ العصمة التي عند النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) عصمة ذاتية ، أي ذاتاً عصمهم الله من كلّ شين ونقص وذنب وخطأ ونسيان وحتّى ترك الأولى في النبيّ محمّد وآله الطاهرين ( عليهم السلام ) ، وذلك باختبار وامتحان منه سبحانه في العوالم السابقة، فأعطاهم الله العصمة، فإذا عرفنا هذا، فإنّ التي عند زينب وأمثال زينب

(1) ذكر أهل البيت ( عليهم السلام ) أنّ للعقل جنوداً وللجهل جنوداً ، وهذا مفصّل في اُصول الكافي باب العقل والجهل ، فراجع .
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 60

الذين تربّوا في أحضان النبوّة والإمامة (1) عصمة أفعالية أي لم يرتكبوا الذنب في أفعالهم من حين ولادتهم وحتّى حين وفاتهم، فعصمتهم هذه تسمّى بالعصمة الأفعالية أو الكسبية وأنّها الجزئية وليست عصمة ذاتية فلاتجب عليهم عقلا، لأنّ العصمة الذاتية مختصّة بالأنبياء والأئمة وفاطمة (عليهم السلام).
ثمّ لا بأس من أجل توضيح العصمة الذاتية والعصمة الأفعالية والفرق بينهما أذكر هذا المثال الطبّي، ولا يخفى أنّ المثال كما يقال (يقرّب من جهة ويبعّد من ألف جهة ) وأنّه لا مناقشة في الأمثال، فالمقصود وهو تقريب المعقول بأمر محسوس .
ففي الطبّ العصري يلقّح الأطفال منذ الصغر بتلقيح عدم الشلل، فمن يُلقّح ـ من قبل الأبوين مثلا ـ في صغره فإنّه يعصم من الشلل، حتّى ولو وقع في محيط غير صحّي، فكأنّه يعصم من اليوم الأوّل على عدم التلوّث بالشلل ، ومن لم يلقّح فإنّه يمكن أن لا يتلوّث أيضاً إلاّ أنّه هو بأفعاله ووقايته يبتعد عن البيئة الملوّثة فينجو من الشلل أيضاً ، إلاّ أنّه بأفعاله ، لا بتلقيح الطبيب والوالدين.
فالعصمة الذاتية تلقيح إلهي للأنبياء والأئمة الأطهار بعد اختبارهم في العوالم السابقة ، ونجاحهم في الامتحانات الإلهيّة ، كنجاحهم في الدنيا ، كما ابتلي إبراهيم الخليل بكلمات فأتمّهن . وأمّا العصمة الأفعالية فتلقيح في الأفعال بأن يتّقي الذنوب وأن لا يتلوّث بها حفظاً لبقاء سلامته. وكلاهما بالاختيار والاختبار، فلا يقال: لو كانت العصمة

(1) من أمثال زينب الكبرى الذين تربّوا في أحضان النبوّة أو الإمامة كأبي الفضل العباس وعليّ الأكبر وفاطمة بنت موسى بن جعفر سلام الله عليهم وغيرهم.
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 61

ذاتية ، فلا فضل لمن اتّصف بها . ثمّ العصمة الذاتية كلّية تعمّ العصمة عن الذنوب والخطأ والنسيان وما يشين الإنسان، بخلاف الأفعالية فإنّها العصمة عن الذنوب والمعاصي، وأمّا القضايا الاجتماعية أو الاقتصادية فربما يخطأ فإنّه غير معصوم .
ثمّ العصمة الذاتية للأنبياء واجبة عقلا ونقلا، أي لا بدّ منها. ويدلّ على ذلك الأدلّة العقليّة، كعدم الاعتماد على قول من لم يكن معصوماً ، والأدلّة النقليّة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة كآيتي التطهير والولاية وحديث الثقلين والسفينة، وأمّا العصمة الأفعالية فلم تكن ضرورية ، وبهذا ربما يصدر من غير المعصوم ما يتنافى مع العصمة الذاتية.
والعصمة الذاتية المطلقة إنّما تكون بنصّ من الله سبحانه كما يقول الإمام السجّاد ( عليه السلام ) : « الإمام منّا لا يكون إلاّ معصوماً ، وليست العصمة في ظاهر الخلق لتعرف ، ولذلك لا يكون إلاّ منصوصاً » (1).
وكون النبيّ والعترة الطاهرة يمتازون بالعصمة الذاتية باعتبار علمهم اللدني الخاصّ من غير كسب متعارف ، كما في قوله تعالى :
« وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ » (2).
فاليقين عند الإمام المعصوم ( عليه السلام ) يختلف عن العلوم المتعارفة التي عند الناس ، فيؤيّد النبيّ والإمام ( عليهما السلام ) بروح القدس.
في حديث جابر عن أبي جعفر (عليه السلام ) قال : سألته عن علم العالم ؟ فقال لي : يا جابر ، إنّ في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح : روح القدس وروح الإيمان

(1) معاني الأخبار : 132 .
(2) السجدة : 24.
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 62

وروح الحياة وروح القوّة وروح الشهوة . فبروح القدس يا جابر عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى. ثمّ قال: يا جابر ، إنّ هذه الأربعة أرواح يصيبها الحدثان ، إلاّ روح القدس فإنّها لا تلهو ولا تلعب (1) . وفي صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ: «وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا»(2)، فقال أبو جعفر (عليه السلام): منذ أنزل الله ذلك الروح على نبيّه (صلى الله عليه وآله) ما صعد إلى السماء وإنّه لفينا (3) . وفي صحيح أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قول الله تبارك وتعالى : { وَيَسْأ لُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي }(4) ، قال : خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل ، كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو مع الأئمة وهو من الملكوت (5) . عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) قال : إنّ الله عزّ وجلّ أيّدنا بروح منه مقدّسة مطهّرة ، ليست بملك لم تكن مع أحد ممّن مضى إلاّ مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهي مع الأئمة منّا ، تسدّدهم وتوفّقهم ، وهو عمود من نور بيننا وبين الله عزّ وجلّ (6).

(1) الكافي 1: 272 .
(2) الشورى : 52.
(3) بصائر الدرجات : 457 .
(4) الإسراء : 85 .
(5) الكافي 1: 273 .
(6) بحار الأنوار 25 : 48 .
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 63

فقوله ( عليه السلام ) : « لم تكن مع أحد ممّن مضى إلاّ مع رسول الله وهي مع الأئمة منّا» يدلّ على أنّ علمهم وفضلهم وعصمتهم يختلف عمّا سبق وعمّا لحق ، فإنّه يختصّ بهم ، وإنّهم أفضل الخلق ، ولمثل هذه العصمة الأخصّ نقول بأنّهم ( عليهم السلام ) لا يصدر منهم ترك الأولى ، بخلاف بقيّة الأنبياء والأوصياء ، فإنّه لهم عصمة الخاصّ ، وعند زينب ( عليها السلام ) عصمة العامّ ، وما عند غيرها عصمة الأعمّ .
ومعنى العصمة في الأنبياء والأوصياء : لطف إلهي خاصّ باعتبار القوّة النورية الملكوتية الراسخة ، فتعصم الإنسان في حياته .
فالنبيّ والإمام ( عليهما السلام ) لهما العلم الخاصّ وبطريق خاصّ يمنح صاحبه ملكة العصمة الخاصّة والمطلقة بإذن الله تعالى. فيكون الاُسوة والقدوة المطلقة « لَـقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ »(1) ، ثمّ الأمثل فالأمثل بمقدار ما عندهم من العلم والعصمة، ولمثل هذا نقول : إنّ زينب الكبرى ( عليها السلام ) هي من الاُسوة والقدوة أيضاً .
ثمّ بهذه العصمة الكلّية تجب الطاعة المطلقة ، كما تجب المودّة والمحبّة.
قال أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام ) : « إنّما الطاعة لله عزّ وجلّ ولرسوله ولولاة الأمر ، وإنّما اُمر بطاعة اُولي الأمر لأنّهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصيته»(2).
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « الأنبياء وأوصيائهم لا ذنوب لهم لأنّهم

(1) الأحزاب : 21 .
(2) بحار الأنوار 25 : 200 .
عصمة الحوراء زينب (عليها السلام) 64

معصومون مطهّرون » (1).
وزبدة المخاض : يبدو لي من خلال المطالعة والمراجعة إلى مباحث العصمة في الكتاب والسنّة وعبائر الفلاسفة وعلماء الكلام، إنّما العصمة من الكلّي التشكيكي فلها مراتب طوليّة وعرضيّة، فبدايتها العدالة التي يشترط في كلّ مسلم وإمام جماعة: من إتيان الواجبات وترك المحرّمات وأن لا يأتي بما ينافي المروّة كما عند البعض، ونهايتها عصمة الله الكبرى التي بلا نهاية، ثمّ بينهما مراتب، فبعد عدالة إمام الجماعة كما في مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، يشترط العدالة في مرجع التقليد ، وعندي عدالته أعلى رتبة من عدالة إمام الجماعة، كما ذكرت تفصيل ذلك في كتاب (القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد ـ المجلّد الأوّل) ثمّ يأتي دور عصمة أمثال زينب الكبرى ( عليها السلام ) وهي التي نسمّيها بالعصمة الأفعالية العالية ، ثمّ عصمة الأنبياء والأوصياء وهي العصمة الذاتية الكلّية المطلقة الواجبة، ثمّ عصمة الأربعة عشر معصوم محمّد والأئمة الاثني عشر وفاطمة الزهراء (عليهم السلام)، والكلّ يشترك بالطهارة وبعدم ارتكاب الذنوب والمعاصي، إلاّ أنّه كلّ واحد يمتاز عن الآخر بخصائص ومميّزات ، كعصمة الأربعة عشر معصوم ( عليهم السلام ) ليس فيها ترك الأولى ، بخلاف عصمة الأنبياء فإنّه لا يضرّها ترك الأولى، وتفصيل الكلام يطلب من محلّه .
سؤال :
لو سئل من أين لنا أن نعلم بعصمة زينب ( عليها السلام ) ونحكم بأنّها معصومة بالعصمة الأفعالية ؟

(1) المصدر 25 : 199 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي