لقد شيعني الحسين (ع) 99


الفصل الرابع

من بؤس التاريخ إلى تاريخ البؤس! !


(حقائق جديدة = رؤية جديدة!)


(اضرب بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب وافحص الرأي فحص السقاء) .

أمير المؤمنين علي (ع)


لقد شيعني الحسين (ع) 100




لقد شيعني الحسين (ع) 101

رحلة جديدة مع التاريخ

أريد هنا ، أن أوقف التاريخ الإسلامي على قدميه ، بعد أن ظل في أذهاننا نقلبا على وجهه . وخطوة واحدة جديرة بإيقافه على رجليه ، هي أن نفتح أعيننا باشرة على كل ما وقع ، ونحكم الوجدان ، ليس إلا! وتاريخ الفتنة الكبرى أو قتل عثمان ، ليس بداية ، بل نتيجة لمقدمات اختصرت بفعل التزامن الاستمرارية ، لتنتج ما حصل .
و بذور الأزمة ، يمكن ضبطها في عصر النبي صلى الله عليه وآله ولا أنكر أنني سوف اتوصل بمجموعة من المعطيات العلمية ، الاجتماعية والسياسية والنفسية .
فالظاهرة التاريخية ، هي من صنع الإنسان . فهو حر في اختياراته ، مريد في مسالكه . وأحيانا تجده محاصرا ضمن محددات جغرافية وبيئية . لكن هذه الأخيرة لا تلغي (تحرره) على المستوى السياسي والاجتماعي والنفسي! .
ثم لا ننسى (العامل الاقتصادي) كأحد المحددات الأساسية لفهم الظاهرة الاجتماعية التاريخية . وذلك يمكن رصده من خلال التحولات الاجتماعية السياسية والعقدية في ظل التطور الاقتصادي في المجتمع الإسلامي إننا نتعامل مع بشر ، ذوي أبعاد مختلفة يعتريهم الضعف والقوة حسب التحولات التي تطرأ على تلك الأبعاد .
سوف نحفز في كل الاتجاهات ، وفي كل الأبعاد من أجل الوقوف على حقيقة الظاهرة التاريخية ، مجردة عن أوهامها ، وبذلك يمكن للتاريخ الإسلامي أن يتمثل واقفا على رجليه .

لقد شيعني الحسين (ع) 102




لقد شيعني الحسين (ع) 103

سيرة الرسول : المنطلق والمسيرة!

نحن إذ نتحدث عن الرسول صلى الله عليه وآله لا نريد أن نرسم له سيرة تفصيلية كما هي عادة (السير) . فهذا العمل لا يتناسب مع مقاصد الكتاب . ولكننا سنحاول قراءتها ضمن معطياتنا المنهجية ، مركزين على المحطات الحساسة ، التي تعتبر مفتاحا لفهم الظاهرات التي شهدها التاريخ الإسلامي فيما بعد .
مع ذلك وحين نمسك (سفرا) عن السيرة ، عادة لا نتجاوز بعض الأبعاد التي ذكرها في البداية . وهي الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية للمجتمع الذي ظهرت فيه (البعثة)! .
لقد جاء الرسول صلى الله عليه وآله مبشرا وهاديا ، إلى قومه ، ومعارضا لكل ما رزح به المجتمع العربي من أمراض اجتماعية وسياسية وأخلاقية . وأثناء ممارسته صلى الله عليه وآله الدعوة في المجتمع الجاهلي ، كان يتعرض لنمط من الأذى ، تقف وراءه نفوس ، هي خلاصة ما أنتجه مجتمع الجزيرة العربية ، وبكل المحددات التي تولدها البيئة الجاهلية ، والإنسان العربي قبل الإسلام ، كان يعاني انهيارا حضاريا يؤشر بالموت النهائي للمجتمع الجاهلي .
فسياسيا كانت أطراف الجزيرة العربية ، خاضعة للنفوذ الاستعماري ، من قبل قوتين عظيمتين ، تمارسان توازنهما الحربي والسياسي في حين أن الوسط بقي منفلتا من هاتين السلطتين ويعيش فراغا سياسيا قاتلا . وكانت تلكما القوتان ، هما ( فارس) و (الروم) .

لقد شيعني الحسين (ع) 104

وبينما استولى الفرس على الشرق (1) ، كان النفوذ الروماني في الشمال من الجزيرة العربية . وضمن هذا التمزق ، بين إمبراطوريتين عظيمتين . كانت هنالك تشكيلة لاهوتية تتحرك في الداخل . وتؤسس لها كيانها الخاص في مجتمع الجزيرة ، وتطمح إلى بناء مستقبلها البعيد ، بنفس هادئ ، ومخطط بعيد المدى ، وكانت تلك هي المجموعة اليهودية التي انتشرت في ربوع الجزيرة العربية ، وسيطرت على جزء من الاقتصاد فيها . مما خولها القدرة على السيطرة على القرار السياسي أحيانا .
وهذه الفئة بعكس النصارى (2) لم تكن لها جهة تسندها ، ولا قوة تدعمها سوى الاعتماد على قدراتها الذاتية . وبالتالي استطاعت الفئة اليهودية كسب نفوذها في قلب الجزيرة ، من خلال ممارستها لسلطتين؟ .
الأولى : - سلطة لاهوتية ، بحيث احتكر اليهود ، وخصوصا في المدينة ، الخطاب الديني - المغلق - .
ثانيا : - سلطة اقتصادية ، من خلال السيطرة اليهودية على الانتاج الزراعي .
هاتان السلطتان منحتا فرصة لليهود ، للسيطرة على جزء من المجتمع العربي ، وأحيانا توجيهه ، مستغلة بذلك وضع (التجزئة) العربية ، والتفكك القبلي السائد . وكان من سلوكهم المزدوج ، تجاه القضايا العربية يومها ، ما تعرض له القرآن : « ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظهرون عليهم بالإثم والعدوان ، وأن يأتوكم أسارى تفادوهم ، وهو محرم عليكم إخراجهم . أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض » (البقرة آية 85) وملخص الحالة إن اليهود في المدينة كانوا ثلاث فرق هم : بنو قريضة ، بنو

(1) عندما جاء الإسلام كان المنذر بن ساوى العبدي ، واليا على منطقة البحرين في شرق الجزيرة من أبناء المنطقة ، من قبل الفرس ، وفي فترة قبل ذلك حكم الفرس اليمن ، غير أنهم خرجوا منها بعد مجئ الأحباش المدعومين من الرومان . ثم ما لبثت المنطقة إن استقلت بعد ثورة (سيف بن ذي يزن)! .
(2) كان ذراع النصارى في الجزيرة العربية ، هم الرومان .
لقد شيعني الحسين (ع) 105

النضير ، وبنو قينقاع . وحيث إن الوضع التجزيئي الغالب على المجتمع العربي يومها ، أقتضى أن ينقسم إلى جبهتين متصارعتين على مدى السنين ، هما الأوس ، والخزرج . كانت هذه الفرق اليهودية تتمركز تكتيكيا ضمن الجبهتين . فبنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج ، وبنو قريظة حلفاء الأوس . وعندما يقع القتال بين الفريقين ، تجد كل فرقة من هؤلاء تقاتل إلى جنب حليفتها وبالنتيجة ، يتم قتل اليهودي من قبل اليهودي . وكان قتل اليهودي لليهودي محرما في ميثاقهم . ثم لما تنتهي الحرب وتهدأ حدتها ، ينظر اليهودي من كل الفرق إلى أخيه اليهودي الأسير في معسكره ، فيلجأ إلى فديه ، وذلك استجابة لنداء التوراة ولهذا عقب القرآن : « أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض » (البقرة آية 86) ولقد أغرق اليهود العرب بالأساطير والخرافات . فنتج عن ذلك واقع مجتمعي مستلب . يعيش على سبيل الكهانة والسحر والخرافة . حيث انشلت إمكانياته على الترقي . فراح نحو الأقوال ، واقترب من الغناء . وكان اليهود يمعنون في واقع التجزئة ويكرسون حالة التمزق القبلي لأنهم بذلك يحققون فرصتهم للبقاء والسيادة . وغالبا ما كانوا يصنعون الحروب الطوال بن القبيلة والأخرى ، فيما لو أحسوا بخطر هذه القبيلة أو تلك .
وكان للعاملين القبلي والتجاري ، دورهما في توجيه المجتمع العربي وبقي هذا هو السبب المانع لهم من السماع إلى دعوة الرسول ، بمكة . فمن جهة رفضوا ميزة (النبوة) في محمد صلى الله عليه وآله لا لأنه الشخص المحترم ، والأمين و . . ولكن لأنه ينتسب إلى عشيرة بني هاشم ، العريقة بنبالتها ، ومقامها في أرض الجريرة العربية . فأبوا عليها أن تجتمع لها كل الامتيازات التي ترفعها درجات ، حيث يتعسر على القبائل الأخرى . أن تكون الرفادة والسقاية ، ثم النبوة في بني هاشم ، لذلك كانوا يبرزون وجهة نظرهم القبلية . مجددين بها (طبيعة) النبوة .
ويدلنا على ذلك ما عاناه الرسول صلى الله عليه وآله في دعوته . فيروي بن هشام في السيرة ، أن النبي صلى الله عليه وآله عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة وشرح لهم دعوته ، وأجابه رجل منهم ، قائلا :
(أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون

لقد شيعني الحسين (ع) 106

لنا الأمر من بعدك . قال : الأمر لله يضعه حيث يشاء . فقال له : أفنهدي نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ، لا حاجة لنا بأمرك ، فأبوا عليه) وكان العامل القبلي ، حاجزا ضد إسلامهم . كما كان دافعا لهم للكيد بالإسلام . لقد ورد عن ابن الأثير ، إن أبي بن شريف التقى مع أبي جهل فقال له : (أترى محمدا يكذب؟ فقال أبو جهل : كيف يكذب على الله وقد كنا نسميه الأمين لأنه ما كذب قط . ولكن إذا اجتمعت في بني عبد مناف السقاية والرفادة والمشورة ثم تكون فيهم النبوة فأي شئ يبقى لنا . (وكان أبو سفيان يقول : كنا وبني هاشم كفرسي رهان ، كلما جاؤوا بشئ جئنا بشئ مقابل ، حتى جاء منهم من يدعي بخبر السماء ، فأنا نأتيهم بذلك)!! .
إنه المنطق الذي يحكم حياة العرب قبل الإسلام ، وبقي مسيطرا على أغلبية النفوس بعد الرسول صلى الله عليه وآله ولما عرض دعوته على بني عامر بن صعصعة ، قال رجل منهم : (والله لو أنني أخذت هذا الفتى من قريش ، لأكلت به العرب) (3) .
وشيئا فشيئا ، بدأ عمود الدين يقوى ، وباتت شوكة الكفر تضعف . وقامت الحروب الضارية بين المسلمين والمشركين .
وحيث إن الأغلبية الساحقة في النهاية لم تدخل طوعا في الدين ، ولا اعتقادا به . وإنما كرها وغلبة ، فإنها انطوت على النفاق وبيتت الشر لبني هاشم .
لمحمد صلى الله عليه وآله الذي جاءهم بالإسلام . ولعلي (ع) الذي قتل آباءهم وأجدادهم .
والفترة التي فصلت بين (الفتح) ووفاة النبي صلى الله عليه وآله لم تكن كافية لنرع الطبائع القبلية من هؤلاء الوافدين على الدين .
ونلاحظ أن المؤامرة على الرسول صلى الله عليه وآله قد بدأت بعد الفتح . حيث حاول المنافقون الذين كانوا يشكلون جزءا من المجتمع الإسلامي . أن يغتالوا الرسول صلى الله عليه وآله في اللحظات التي توفرت لديهم فيها الفرصة . وقد ذكر أبو بكر

(3) ابن هشام السيرة النبوية .
لقد شيعني الحسين (ع) 107

البيهقي في (دلائل النبوة) عن عدوة قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله قافلا من تبوك إلى المدينة ، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه فتآمروا أن يطرحوا من عقبه في الطريق وأرادوا أن يسلكوها معه ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله خبرهم فقال ، من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم فأخذ النبي صلى الله عليه وآله العقبة وأخذ الناس بطن الوادي إلا النفر أرادوا المكر به استعدوا وتلثموا وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ، فمشيا وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة وأمر حذيفة بسوقها بينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وأمر حذيفة أن يراهم ، فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم وضربها ضربا بالمجن وأبصر القوم وهم متلثمون فأرعبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر فأسرعوا حتى خالطوا الناس وأقبل حذيفة ، حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار ، فاسرعوا وخرجوا من العقبة ينتظرون الناس فقال النبي صلى الله عليه وآله يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط أحدا ، فقال حذيفة عرفت راحلة . فلان وفلان ، وكانت ظلمة الليل قد غشيتهم وهم متلثمون ، فقال عليه السلام ، هل علمتم شأن الركب وما أرادوا . قالوا لا يا رسول الله ، قال : فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا اظلمت لي العقبة طرحوني منها ، قالوا أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس تضرب أعناقهم ، قال أكره أن تتحدث الناس وتقول إن محمدا قد وضع يده في أصحابه فسماهم لهما ثم قال اكتماهم) .
هكذا ، إذن كان واقع المجتمع الإسلامي ، بعيد الفتح . حيث تبنت طبقة المشركين ، خيار (النفاق) والعمل في الظل . وتأسيس كيانها القوي داخل مجتمع الرسول صلى الله عليه وآله والتخطيط للمستقبل على المدى البعيد . وكان بنو أمية بزعامة (أبي سفيان) هم المناوئين الأوائل لحركة (النبوة) وعند الفتح ، كانوا من الذين عفى عنهم الرسول صلى الله عليه وآله فسموا بالطلقاء حيث ذكر اليعقوبي : (ثم قال : ما تظنون وما أنتم قائلون؟ قال سهيل : نظن خيرا ونقول خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم . وقد ظفرت . قال : فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم ، ثم قال : ألا لبئس جيران كنتم فاذهبوا ، فاذهبوا فأنتم

لقد شيعني الحسين (ع) 108

الطلقاء) (4) .
وعبارة (أنتم الطلقاء) تفيد معنى آخر ، يناقض مفهوم الإيمان والإسلام .
فهم دخلوا الإسلام كرها ، وخوفا من زحف الرسول صلى الله عليه وآله وما زال الأمويون يضمرون حقدهم وانتقامهم وتربصهم بمحمد ولذا أذاقوا آل البيت النبوي ، كؤوس المنايا! .
وحالة الانتقام بقيت ساكنة ، تتطور مع تطور الزمن ، لتخرج إلى دنيا الافصاح ، فتصنع أبشع جرائم التاريخ .
لقد جاء اليوم الذي تسلم فيه (يزيد بن معاوية) مسؤولية أمة محمد صلى الله عليه وآله وكان ، حتى ، كان ، رأس بن بنت رسول الله ، وحفيده الأكرم ، والإمام الحسين (ع) بين يديه ينكث ثناياه بقضيب .
روى ابن أعثم والخوارزمي وابن كثير وآخرون ، أن يزيد بن معاوية تمثل يومها بهذه الأبيات :
ليت أشيـاخي ببدر شهـدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلـوا و استهلـوا فرحـا ثم قـالوا يا يـزيد لا تشـل
قد قتلنـا القرم من ساداتهم و عدلنا مـيل بـدر فاعتدل
لسـت من عقبة إن لم أنتقم من بني أحمد مـا كان فعل
لعـبت هـاشم بالملك فـلا خبر جـاء ولا وحي نـزل

وستبدأ تجليات الروح القبلية ، والانتقامية ، تظهر ، فور رحيل النبي صلى الله عليه وآله لتتحرك النفوس صوب المطامع والمنافسة الخسيسة ، وبذلك تسهل على الفئة المنافقة فرصة ، لتقوية نفوذها ، وقد وقع ذلك ، وبدأ من السقيفة!
ولا بد ونحن ندرس (السقيفة) كحدث . يجب أن ندرك الجذور التاريخية التي تربطها بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وأن لها أي السقيفة أبعادها فينا إلى الآن ، وستبقى . ودون أن ننسى استحضار تلك المحطات التي أوجزناها سريعا ، أي

(4) تاريخ اليعقوبي (المجلد الثاني ص 60) دار صادر .
لقد شيعني الحسين (ع) 109

عن واقع الجزيرة العربية القبلية ، واليهود والمنافقين . وغيرهما مما أشرنا إليه من محطات .
وفي تلك الأثناء لم تغب قضية الوصاية والخلافة . وهي أمر يدرك بالوجدان .
في مجتمع يهتم بالقيادة ، وبخلافتها المرشحة . ذلك لأن المشروع الرسالي في عصر النبي صلى الله عليه وآله يقتضي الاهتمام ، ولفت الأنظار إلى لذلك الامتداد القيادي لرسالة الإسلام . حتى لا يطرأ على التصور المناوئ أن المشروع النبوي مشروع وقتي ينتهي ، بانتهاء صاحبه .
ولم يكن من منطق الرسالات السابقة - كما هو ليس من دأب نظم الحكم والقيادة في المجتمع النبيل الذي يملك نظرية أخلاقية حول الحاكم أن تغيب هذه المسألة المتصلة بواقع الرسالة الإسلامية ومستقبلها المصيري . ومن خلال (المسعودي) (5) نثبت أن فكرة الوصية ، من القضايا التي شهدتها كل رسالات السماء . بل إن الرسالة التي أتت إلى قوم معينين ، وفي إطار زمني محدود ، لم تغب فيها ، قضية الوصية ، فكيف يمكن تصور (إلغائها) بخصوص رسالة عالمية ، وفي إطار زمني ممتد ، وساحة الإنسان أينما كان وحيث حل . فأجدر بهكذا رسالة أن تحدد قضية الخلافة (6) وحيث إن الخلاف حول الخلافة ، نشأ فور وفاة الرسول صلى الله عليه وآله فهذا يعني أن المسألة ليست بذلك المستوى من (التفاهة) حتى لا يوفر لها الرسول صلى الله عليه وآله صيغة شرعية ، تحول دون مضاعفاتها . أو لعله لم يحط بذلك علما ، وبما سيحدث بعده من خلاف بسبب الصراع على أمر الخلافة ، وهذا ينافي عصمته ، وعصمة الوحي الذي كان يوجه الرسول صلى الله عليه وآله .
ثم إن الأصل في القيادة ، هي الوصية . ولم تكن الشورى ، سوى تبرير تاريخي لما وقع في (سقيفة) بني ساعدة . إذ أن التاريخ يفضح حقيقة الشورى التي اعتمدوها في السقيفة . بل إنها أي الشورى أثبتت (بؤسها) في انتخاب

(5) المسعودي في (إثبات الوصية) .
(6) إذا كان البعض يرى أن الخلافة في أمر الدنيا هي المقصود ، فنحن نتحدث عن الخلافة في الدين .
والخلافة في الدين هي نفسها الخلافة في أمور الدنيا ، لأن هذه الأخيرة مرتبطة بالتشريع الإلهي .
لقد شيعني الحسين (ع) 110

صيغة الحكم . وفي خلق الممانعة الشرعية والمطامع النفسية والقبلية التي كانت سائدة يومها وليس من السهولة التغاضي ، عما وقع حول الخلافة من خلاف وتضارب! (وما استل سيف في الإسلام ، مثل ما استل على الإمامة) كما يؤكد المؤرخون (7) .
إن الأخذ بشرعية الإمامة ، كمسألة خاضعة لأمر الشارع ، ستسقطنا في مأزق اتهام الكثير ممن حسبوا على الصحابة في تاريخ الإسلام . سيكون الخارج عنها يشكل الأغلبية . ولن يبقى إلا آل البيت وكبار الصحابة غير أننا لو سمعنا بشرعية الخلافة ، كمسألة اختيارية خاضعة لاختيار . أهل الحل والعقد . أولا ككل ، يلزم التقيد والالتزام بهذه الصيغة ، لأنها تشكل في حد ذاتها (أمرا شرعيا) أي أن الخارج عن قرار السقيفة ، سيكون مخالفا لتكليف شرعي . وهنا أيضا ، سنسقط في نفس المأزق ، هو مأزق اتهام الأغلبية الساحقة التي رفضت الشورى ، وقيدت إليها بالعنف ، ولن يبقى أمامنا من الملتزمين بالشرع إلا أبو بكر ، وعمر ، من الصحابة . وهذا مخالف للواقع . إذ أن التاريخ أحصى لهذين الرجلين مخالفات كثيرة لأمر النبي صلى الله عليه وآله ، مما لا ينطبق على سيرة علي (ع) والصحابة الذين تعسكروا في بيته كسلمان الفارسي ، وعمار ، وأبي ذر ، والمقداد . . وإذا كان علي (ع) والذين معه ، لم يسجل عليهم التاريخ تلك المخالفات المفضوحة ، فكيف يخالفون الرسول صلى الله عليه وآله بعد موته . وكيف لا يخالف الرسول صلى الله عليه وآله بعد موته أولئك الذين كفروا بالإمامة ، إذا كانوا ممن تعود على مخالفة النبي صلى الله عليه وآله في حياته ، بل ومجادلته بسوء الأدب . إننا سواء أخذنا (بالوصية) أو (الشورى) نضطر إلى اتهام قافلة ممن سموا بالصحابة ، بمخالفة الشرع . فتأمل! .
إن هذه الأهمية التي تلابس (قضية الإمامة) كما تؤكد ذلك النتائج والوقائع التي أسفر عنها غياب الرسول : تبين مدى أهميتها في عهد الرسول صلى الله عليه وآله والقرآن الذي فيه تبيان لكل شئ . والرسالة الإسلامية بشكل عام . حيث فيها كل حلول المجتمع بما فيها سفاسف الأمور . فلا بد أن يكون فيها حل لقضية الخلافة

(7) الشهرستاني في الملل والنحل .
لقد شيعني الحسين (ع) 111

التي هي أعظم قضية في التصور الإسلامي .
إن الأمر لو كان شورى مع افتراض أنها (شورى) لما كان من المنطقي ، عقلا وشرعا . أن يتمرد عليها جيل من السابقين في الإسلام ، ما كانوا يريدونها لأنفسهم بقدر ما أرادوها للإمام علي (ع) . الانقسام يدلنا على أن القضية فيها إما (غصب) أو (ادعاء) . فإما أن يكون علي (ع) ومن معه (يدعون) أمرا ليس لهم ، أو أن الآخرين (اغتصبوا) حقا ليسوا من أهله . ومن هنا سننطلق في معالجة المشكلة في نطاقها التاريخي الحقيقي! .
قلت بأن أثبات الوصية لازم حياة الرسول صلى الله عليه وآله فكان يحمل همها ضمن همه النبوي الأول . إذ فرض نفسه مع الإمام علي (ع) بشكل ملفت للنظر . فرض نفسه كنبي رسول . ونصب الإمام عليا كوصي وخليفة . وهذا منطق لا يمجه طبع له إدراك ، بفلسفة الحكم ، وتاريخه البشري . بل حتى في طبيعة الحكم الديمقراطي الراقي . لم يكن الإنسان يستغرب إذا أعلن عن رئيس أمريكي ومعه نائبه . ومنذ ترشيح (ريغان) عرف نائبه (بوش) وكذا (كلينتون) كان نائبه معه (غور) قبل أن يستلم الرئاسة من (بوش) . إنها تقاليد في الحكم الديمقراطي لا ترفضها روح القوانين . وكما لا تناقض أنماط السلطة والحكم الوضعي ، فهي أيضا لا تناقض مسار النبوة والرسالة (8) إذا سلمنا بأن موسى (ع) نبي الله وهارون (ع) خليفته ، عاشا معا . وقضى كلاهما في مجتمع بني إسرائيل ، من دون أن يكون ذلك معربا عن تناقض .
فرض الرسول صلى الله عليه وآله نفسه ، كواسطة رسالية ، لنقل الوحي من الله سبحانه ، إلى الناس ، وأقام عليا (ع) كمؤازر ووزير ووصي . ولست أدري هل في سنن الأولين والآخرين ، أن يعهد بالأمر إلى غير الوزير والوصي . علما أن اختيارات الرسول صلى الله عليه وآله كلها حكيمة ، ومعصوم بوساطة الوحي . وليس شئ .

(8) وهنا يثبت المسعودي في (إثبات الوصية) وصايا الأنبياء من آدم إلى محمد صلى الله عليه وآله وعد أوصياءهم جميعا حيث جعل لآدم ، شيث ، ولإبراهيم إسماعيل ، وليعقوب يوسف ، ولموسى يوشع بن نون ، ولعيسى شمعون ولمحمد علي (ع) والأحد عشر من ولده! .
لقد شيعني الحسين (ع) 112

يستوجب مدخلية (الوصي) كمسألة (مصير الأمة) كيف أوجد الرسول صلى الله عليه وآله خلافة علي (ع) في بداية الدعوة؟ .
ثم كيف نستطيع رصد تميزات الدور (الإمامي) أو (الوصائي) في زمن الرسول صلى الله عليه وآله والخصوصيات الرسالية التي انفرد بها الإمام علي (ع) في زمن الرسالة؟ .
سنحاول استنطاق التاريخ ، والكشف عن أعماقه ، ليتبين لنا ما إذا كان الأمر كذلك .
ذكر المؤرخون (9) إنه لما نزلت الآية « وأنذر عشيرتك الأقربين » (10) .
قام الرسول صلى الله عليه وآله يدعو أقرباءه ، وفيهم عمه أبو لهب فقال صلى الله عليه وآله :
(يا بني عبد المطلب ، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة . وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصي وخليفتي فيكم)؟ .
فسكت القوم ولم يجيبوا إلا علي (ع) قال : (أنا يا رسول الله أكون وزيرك على ما بعثك الله) وبعد أن كرر الرسول صلى الله عليه وآله دعوته لقومه ثلاث مرات ، التفت إليهم صلى الله عليه وآله وقال :
(أن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم (أو عليكم) فاسمعوا له ، وأطيعوا) فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب (قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع وجعله عليك أميرا) .
أولا : وفي رؤيتنا للحديث ، لا بد أن نعلم بأنه بلغ قدرا من التواتر واعتبر صحيحا ، لدى جميع المفسرين (11) إلى درجة جعلت الطبري وهو أحد رواته ،

(9) تاريخ الطبري ، مسند أحمد بن أبي الحديد في شرح النهج ، تاريخ الكامل .
(10) الحجر (94 95) .
لقد شيعني الحسين (ع) 113

يتصرف في صيغة الحديث . فيروي بهذا الشكل :
(فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر ، على أن يكون كذا وكذا) وبعدها قال للإمام علي (ع) إن هذا أخي وكذا وكذا) (12) .
إن هذه ال‍ (كذا وكذا) هي قمة التمويه والتلبيس (المبتذل) لأنها دليل في حد ذاتها على أهمية ما تخفيه عبارة ال‍ (كذا وكذا) .
وكيف أن الطبري الذي لم ينس صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها في تاريخه . كيف ينسى كلمتين فقط ظهرتا في نصوص الراوين الآخرين .
هناك بلا شك ، منطق يحكم فكر المؤرخ . هو منطق التضليل والتعتيم اللذين يقلبان التاريخ على وجهه .
ومثل ذلك اضطرب ابن كثير في تفسيره للآية الواردة في سورة (الشعراء) .
إذ أتى مرة برواية ، صيغتها : (فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي) وأورد رواية أخرى بصيغة (أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي) (13) .
وفي الرواية الثانية يبدو الخلط والتشويه معا . إذ أن موضوع إنذار العشيرة ، لا ينسجم مع (من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي) والتي في الظاهر إن صحت تبقى منسجمة مع ظروف الهجرة .
ولولا هذا التلبيس ، لما اضطر (الطبري) إلى إخفائه ب‍ (كذا وكذا) .
وقبل الشروع في تشريح الحديث ، يجب أن نقضي على هذه (الشطحة) الروائية التي أحاطت بحديث (الدار) فالطبري في تفسيره تعمد أسلوب التمويه والتظليل . والدليل على ذلك أن الحديث وجدت صيغته (الواضحة) والصريحة في أماكن أخرى .

(11) إلا واحد أراد أن يخالف الجمهور ، لينقص من فضائل الإمام علي (ع) كما هي عادته القبيحة في النصب وهو ابن تيمية .
(12) تفسير الطبري : (ج 19 ص 74) .
(13) تفسير بن كثير (ص 301 - 302) الجزء الثالث (دار القلم بيروت) .
لقد شيعني الحسين (ع) 114

ثانيا : لأنه أورده في تاريخه بصيغته الحقيقية بعبارة (حدثنا بن حميد حدثنا سلمة حدثنا محمد بن إسحاق عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب قال الحديث والغريب أنه أورده في (تفسيره) بنفس الصيغة والمتن غير ذلك التحوير في كلمة (أخي ووصي وخليفتي) (14) حيث استبدلها بما هو أبلغ وأبين (كذا وكذا) إذ تبين لنا مدى حقيقة التزوير التاريخي الذي احتكرته نخبة من رجال التحريف ، والذي انقلب عليهم (سحرهم) ليكون تضليلهم وثيقة ضدهم لا لهم .
لقد أورد الطبري في تفسيره الحديث بهذا السند والمتن (15) : حدثنا سلمة قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الغفار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب) لما نزلت هذه الآية (إلى أن قال) فأيكم يؤازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي وكذا وكذا؟ قال فأحجم القوم عنها جميعا وقلت : وإني لأحدثهم سنا ، وأرمصهم عينا ، وأعظمهم بطنا ، وأخمشهم ساقا ، أنا يا نبي الله ، أكون وزيرك ، فأخذ برقبتي ثم وقال . . الحديث) .
وبنفس الطريقة رواه في تاريخه حيث قال : حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب لما نزلت هذه الآية « وأنذر عشيرتك الأقربين » (إلى أن قال)

(14) إن نفس الحديث رواه مشاهير السنة أنفسهم ، بمتنه الواضح ، ومنهم النسائي في الخصائص ، والثعلبي في تفسيره والحلبي في سيرته .
(15) (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) أبي جعفر بن جرير الطبري (الجزء 19 ص 121 - 122) الأجزاء (19 20 21) دار الفكر .
لقد شيعني الحسين (ع) 115

فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، قال فأحجم القوم عنها جميعا وقلت وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا . الحديث) .
إذا تبين مدى التلبيس والتدليس ، آن لنا إذ ذاك شرح الحديث ، لنقف على الحقيقة التي يفيض بها متنه .
هناك أربع كلمات يمكن الوقوف عندها بتدبر وإمعان عميق :
1 أخي 2 وصيي 3 خليفتي 4 المؤازرة! .
وكل هذه الخصال ، تحققت في حياة علي (ع) إلا واحدة لم تتحقق وهي عبارة (وصيي) ذلك لأن الوصية ، تشير إلى حالة الاستخلاف بعد الموت . وكلمة (وصية) تفيد هذا المعنى (16) . ولو كان يريد بها خلافته في الحياة لما قرنها بعبارة (وخليفتي) لأننا لو سلمنا بأنها تفيد الخلافة في الحياة أثناء غياب الرسول صلى الله عليه وآله كما ذهب البعض إذا لكانت عبارة (خليفة) لغوا وهذا لا يجوز على من أوتي جوامع الكلم! .
ووجود عبارة (وصي) إلى جانب (خليفة) تعني أن المعنيين مختلفان .
ونعود إلى أغوار السيرة ، لنرى أن كل الخصال تحققت - باستثناء (الوصية) في نظر البعض وبعدم تحققها كان ما كان في تاريخ ما بعد السقيفة ، وكان المنعطف الكبير في حياة الأمة .

1 المؤاخاة : -

كان (التآخي) في الإسلام منهجا لرص صفوف المسلمين . ونظم الرسول بنفسه عملية (التآخي) فيما بين المهاجرين والأنصار . وكان صلى الله عليه وآله يراعي كل متطلبات التآخي . فأن التقريب بين شخصين لم يكن ليجري اعتباطا ، بقدر ما كانت تراعي فيه شروط الانسجام النفسي والروحي . وفي الوقت الذي آخى

(16) ومن رأى أنها تعني الخلافة في حياته أثناء غيبته بمعنى (الوكالة) فإنه يحتاج إلى عودة لقراءة اللغة العربية! .

السابق السابق الفهرس التالي التالي