لقد شيعني الحسين (ع) 116

الرسول صلى الله عليه وآله بين المسلمين ، اختار له الإمام علي (ع) أخا . وفي ذلك أورد أهل السيرة أخبارا كثيرة ، كما جاء في السيرة الحلبية إن الرسول صلى الله عليه وآله آخى بعد الهجرة بين أبي بكر وخارجة بن زيد وبين عمر وعتبان بن مالك وبين أبي رويم الخشعي وبلال ، وبين أسيد بن خضير وزيد بن حارثة ( . ) قال ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب وقال هذا أخي . فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي أخوين) .
ولم يكن الرسول صلى الله عليه وآله اعتباطيا في هذا الاختيار حاشاه وإنما هي عصمة الوحي السديد ، الذي كان الرسول صلى الله عليه وآله يتحرك في خطه لا يحيد! « وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى » .

2 الخلافة :

والمراد بها هنا ، الاستخلاف . وهي جامعة لمعنيين . الاستخلاف في الغيبة ، والاستخلاف بعد الموت . ووجودها في نفس المقام مع (الوصاية) يجعلها تأخذ (المعنى الأول : ) وهو القيام بأعمال بالوكالة عن الرسول صلى الله عليه وآله وهذا النوع من الاستخلاف كان واضحا في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله لما كان يختار الإمام عليا (ع) لخلافته في أمور جسام . ويتجسد ذلك في :
1 - استخلاف الرسول صلى الله عليه وآله إياه في مكة لقضاء ديونه عند الهجرة . حيث أدى عنه الديون ، ورعى آل البيت (ع) بعده صلى الله عليه وآله .
2 - وفي تبوك حيث لم يكن من عادة الرسول صلى الله عليه وآله أن يستخلف عليا (ع) وراءه لما تقوم الغزوات . وهو أنفع للإسلام في المعركة يومها ، منه في حراسة المدينة . وهو بهذا الجهاد أقام أركان الدين ، وقد قال فيه الرسول صلى الله عليه وآله (لولا سيف علي ومال خديجة ، لما قام للإسلام قائمة)! . غير أن غزوة (تبوك) على إثر اتساع الرقعة الإسلامية المجتمعية . فقد دخل في الإسلام (الغث والسمين) واندس المنافقون وكثروا . وأغلبهم كان من المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا مقابل جعل مالي مخصص لتأليف قلوبهم .
وخروج الرسول صلى الله عليه وآله في هكذا ظروف ، حيث تحيط بالمدينة جموع من المنافقين الذين يخشى انقلابهم على أهله ، استغلالا للظروف . فكان يومها

لقد شيعني الحسين (ع) 117

علي (ع) أصلح للبقاء في المدينة . والأجواء المحيطة بها تتطلب خلافة محكمة .
فكان الرسول صلى الله عليه وآله يخلف وراءه الإمام عليا (ع) لأنه الأكفأ لخلافته .
ولست أدري كيف يظن البعض ، إن هذا مجرد اختيار اعتباطي . كيف يمكن للرسول أن يزهد في حضور الإمام علي (ع) المعركة ، وهو مفتاح النصر ، في كل معارك الرسول صلى الله عليه وآله اللهم إذا كان ثمة سر موضوعي ، يقتضي أن تكون الخلافة لعلي (ع) على أهله في المدينة أيام تبوك . وفي ذلك يروي الطبري عن ابن إسحاق : خلف رسول الله : علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم .
وذكر ابن هشام : استعمل صلى الله عليه وآله على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري وخلف علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون وقالوا ما خلفه إلا استثقالا له ، وتخففا منه ، فلما قالوا ذلك أخذ علي سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله : وهو نازل في الجرف فقال يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني فقال كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي فارجع فأخلفني في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة (هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، فرجع علي (ع) إلى المدينة .
3 - وبخصوص (سورة براءة) يروي النسائي في خصائصه ، عن سعد قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر ببراءة حتى إذا كان ببعض الطريق أرسل عليا فأخذها منه ثم سار بها فوجد أبو بكر في نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني (17) .
وهذه الرواية التي أجمع على صحتها نقلة الأخبار من كلا المذهبين ، تشير إلى واقع تحقق (الخلافة) للإمام علي (ع) في زمن الوحي . وهذه لفتة تاريخية كافية ، كدليل على الخصوصية التي تميز بها الإمام علي (ع) وإذا كان الإمام علي (ع) بالتبليغ الإلهي أهلا أن يبلغ عن الرسول صلى الله عليه وآله فكيف لا يكون أهلا لخلافة الأمة من بعده! وهناك أكثر من مثال في السيرة على هذه الميزات التي

(17) روى الحديث بأسانيد مختلفة عن النسائي في الخصائص ، وكذلك روى الحديث الطبري في تفسيره والحاكم في مستدركه .
لقد شيعني الحسين (ع) 118

اختص بها الإمام علي (ع) دون غيره فيما يرتبط بخاصية الخلافة .

3 - المؤازرة :

وثبتت مؤازرته للنبي صلى الله عليه وآله ولم يأل جهدا إلا وأنفقه في سبيل مؤازرة النبي صلى الله عليه وآله ونصرته . والإمام علي (ع) هو من وقف مع الرسول صلى الله عليه وآله يوم لم يقف معه الناس . ونصره يوم خذلوه والأمثلة على ذلك في السيرة لا تكاد تحصى ، ويمكن إيراد بعض منها على سبيل المثال لا الحصر .

1 - ليلة المبيت أول ليلة فداء

لولا ما تم ليلة المبيت لما ترتبت هجرة الرسول صلى الله عليه وآله على تلك الشاكلة . لقد عزم المشركون على قتل النبي صلى الله عليه وآله وأعدوا لذلك خطة . وتوجب ساعتئذ عليه صلى الله عليه وآله أن يهاجر . علانية ، إذ أن القوم وزعوا عيونهم ، وهم يتربصون به . ولكي يموه عليهم الرسول صلى الله عليه وآله رتب أمر مبيت علي (ع) في فراشه .
وذلك المبيت يعكس خطورة الموقف . فلو كان الرسول صلى الله عليه وآله في خيار ، لما ضحى بالإمام علي (ع) . وليس إلا علي يقدر على هذه التضحية .
نام الإمام علي (ع) في فراش الرسول صلى الله عليه وآله وهو ينتظر الحراب كي تتوالى عليه ليستقبلها بروح استشهادية إيمانية . غير أن الخالق لم يرد بذلك سوى الاختيار ، وتغذية التاريخ بالمثل العليا في التضحية والفداء فنجا الإمام علي (ع) ويومها نزل قوله تعالى(18)« ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، والله رؤوف بالعباد » (البقرة : 207) .

2 - في أحد :

واجه الإسلام مصيرا مأساويا يوم أحد . وزاد من تلك الخطورة ، إن تفرق المسلمون ، وشردوا من سيوف الكفار . ولم يبقى في المعركة سوى الرسول صلى الله عليه وآله وعلي (ع) وبقية قليلة من الصحابة الذين قر الإيمان في صدورهم . وكان أبو بكر

(18) أجمع على ذلك المفسرون .
لقد شيعني الحسين (ع) 119

وعمر من أولئك الفارين في المعركة . وتمسك عمر ، بمقتل الرسول صلى الله عليه وآله كورقة لتبرير فراره من الزحف . في هذا الأثناء كان سيف علي (ع) يمخر الأعناق ببسالة أسطورية .
ذكر الطبري : (لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الألوية . أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله جماعة من المشركين فقال لعلي : إحمل عليهم فحمل عليهم ، ففرق جمعهم وقتل عمر بن عبد الله الجمصي ( . . ) فقال جبريل : يا رسول الله إن هذه للمواساة ، فقال رسول الله : (إنه مني وأنا منه) ، فقال جبرائيل : وأنا منكما فسمعوا صوتا :
لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار(19)

3 - في وقعة الخندق :

كانت هذه المعركة التي لم يشترك فيها المسلمون وجها لوجه مع الكفار ، إحدى المعارك الاستراتيجية في تاريخ الإسلام . وخفف عن ذلك ما اقترحه سلمان الفارسي (رض) من حفر الخندق لغاية الدفاع . غير أن تجرأ عمرو بن ود العامري ، واقتحامه الخندق طلبا للمبارزة ، قد أوقع الإسلام كله أمام تهديد مصيري . وفيها كان عمرو بن ود يطلب المبارزة ويقول :
ولقد بححت من النداء بجمعهم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن الشجاع موقف العز المناجز

ولم يستجب أحد لهذا الصوت ، وفي الصحابة أبو بكر ، وعمر . . لم يستجب إلا علي بن أبي طالب ، فلقد كان يقف ويطلب من الرسول صلى الله عليه وآله الخروج إليه ، حتى أذن ودعا له . وبعد أن نصر الله المسلمين في الأحزاب بعلي (ع) قال الرسول صلى الله عليه وآله كلمته الشهيرة : (لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة) (20) .

(19) ذكره الطبري (ج 2 ص 514) .
لقد شيعني الحسين (ع) 120

4 - يوم خيبر : -

كانت هذه المعركة ضد يهود خيبر . وكانت حصونهم مانعتهم من المحاربين .
وكان الرسول صلى الله عليه وآله قد أعطى الراية لرجلين . الأول أبي بكر والثاني عمر . .
فالأول انهزم وولى منكسرا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وبلا نتيجة . والثاني : انهزم أيضا ، ورجع يجبن الذين معه ، ويجبنونه وساعتئذ قال صلى الله عليه وآله لأعطين الراية رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله . فاشرأبت أعناق الناس إليها . وفي الغد دعا عليا (ع) وكان به رمد . فمسح على عينيه فبرئ ، وحمل الراية ، وفتح حصن خيبر وسجل فيها أروع نماذج البطولة وقتل بطل الأبطال (مرحب) .
أن يوصي الرسول صلى الله عليه وآله بمن يخلفه في أمته فذلك هو الأقرب إلى منطق العقل والشريعة . إذ كيف يعقل أن يترك الرسول صلى الله عليه وآله أمر الأمة للشورى في الوقت الذي لا يزال المجتمع فيه ، غارقا في البداوة والجهل . فإذا لم يكن من الضروري - افتراضا أن يوصي بالخلافة في الحكم الدنيوي . فهل يعني هذا أنه ليس من من الضروري أن يوصي بمن يخلفه في مسؤولية (الدعوة والتوجيه) علما أن شعوبا أخرى - مات الرسول صلى الله عليه وآله وهي لم تفتح بعد ، ولها مشاكل تختلف عن تلك التي واجهها عرب الجزيرة العربية في تعقدها وعمقها . وكانوا يحتاجون لفتوى من الشريعة . وهذا الفراغ الذي ظهر فيما بعد ، كان سببه تغييب دور الأئمة عليهم السلام . ولذلك اضطرا المناوئون إلى خلق نمط من التفكير ، لفهم الأحكام وتأصيلها . استلهموا روحه من الفكر الإغريقي ، كما هو شأن (القياس) والمفهوم بالمخالفة ، وما أشبه . وفي زمن الخلفاء ، تبين هذا الفراغ وكان الإمام علي (ع) هو الوحيد بعد الرسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال : (اسألوني قبل أن تفقدوني) والوحيد الذي لم يستفت الآخرين في القضايا التي تواجهه . ورجوع

(20) لقد كبر هذا الحديث على بعض النواصب من أمثال ابن تيمية . محاولا النيل منه لأن فيه فضيلة لعلي (ع) لا يشاركه فيها غيره . وابن تيمية يجهل المأزق الذي انوجد فيه الإسلام يوم الخندق . وكان على ابن تيمية أن يبحث في تبرير لأبي بكر وعمر . وعدم استجابتهما لدعوى المبارزة ودعوى الرسول صلى الله عليه وآله . . إنه اللهو بالحقائق وسوف يلقون غيا! .
لقد شيعني الحسين (ع) 121

الخلفاء إليه في الأحكام دليل على أنهم هم أيضا في حاجة إلى توجيهه وإرشاده .
وكل ما تتطلبه مسؤولية الخلافة ، كان متوفرا في شخص الإمام علي (ع) . فالفقه والقضاء اللذان شكلا روح الدولة الإسلامية . كانتا ميزتين للإمام علي (ع) وبعد ذلك لم يكن هناك قطاع أهم في مجتمع الإسلام من القطاع العسكري ، والإمام علي (ع) لا شك ، كان أكبر ، وأعلى رجل عسكري في دولة الإسلام .
ولم يثبت التاريخ أن أحدا من الصحابة أو غيرهم كان أشجع منه وأقوى! ولا يمكن قياس أبي بكر أو عمر أو عثمان أو أي كان بالقدرة العسكرية للإمام علي (ع) .
لقد اكتملت كل مؤهلات الخلافة لدى الإمام علي (ع) والذين يحرصون على نجاح مشروع الأمة ، هم أولئك الذين اختاروا لها عليا (ع) لأنه الوحيد الذي يستطيع تطوير هذا المشروع والذهاب به بعيدا في خط التقدم . ولكن ، لا بد أن نتذكر العوامل الأخرى ، التي يمكنها أن تعرقل مشروع الإمامة . وهي ذاتها التي كانت عقبة في وجه مشروع النبوة . إنه العامل (القبلي) الذي بقي راسخا في نفوس الأغلبية الساحقة . فرفضت على علي (ع) (الإمامة) مثلما رفضت على محمد صلى الله عليه وآله النبوة ، لا لشئ إلا لأنهما من (بني هاشم) وكل ذلك رؤية قبلية محضة لقضايا إسلامية مجردة! .
وبذلك يكون الرسول صلى الله عليه وآله قد أثبت للإمام علي (ع) الوصية . فمن كان راضيا بولاية الرسول صلى الله عليه وآله وجب عليه القبول بولاية الإمام علي (ع) .
وأكمل الله دينه يوم تمت الرسالة واكتملت بالولاية . وهي آخر ما نزل من القرآن .
وظل النفاق يختمر في النفوس ، ينتظر الفرصة كي تسنح ، ليقلب للرسالة المجن فتولي نفوس أدبارها باتجاه الضلالة من جديد . ويفتح الملف المثقل بكل الحسابات القديمة . فاليوم يوم الحساب وآن لبني هاشم أن يدفعوا ثمن الانتصار المحمدي . ولترفع ثياب المشركين المقتولين بسيف علي (ع) في نفوس المنافقين ، فيتربصوا الدوائر بعترة محمد الطاهرة (ع) .

لقد شيعني الحسين (ع) 122

ستأتي الرزية ، ويبدأ المنعطف ، ويبدأ أول مؤتمر في تاريخ (البدو) حيث يزاح الإسلام ، وتطرح قشوره ، بحثا عن المنافع الشخصية . وسيبدأ التاريخ المفضوح من جدول أعمال السقيفة ، ليكون ما بعدها أتراما وأتراما على آل البيت النبوي .
ولذلك تتبلور الصفة المتميزة للإمام علي (ع) أيام النبي صلى الله عليه وآله ويدل هذا أيضا على أن الإمام عليا (ع) اختير لمؤازرة الوحي ، بينما غيره كان موضوعا للرسالة والوحي . أي أن الوحي كان ينقل بواسطة محمد صلى الله عليه وآله وبمؤازرة علي (ع) لينتهي إلى العامة من الناس الذين من بينهم عناصر معينة اختصت بصحبة النبي (21) .
وصحبته ليست سوى حالة من التمحور حول الرسول صلى الله عليه وآله وتلقي الوحي عنه من دون أن تكون ملزمة لعصمتهم بمعنى عدم تبدلهم وتراجعهم عنه! ولم تكن الصحبة تعني بالضرورة (الخلافة) أو فيها ما يؤشر إلى ذلك . بعكس ما يبعث به مفهوما (الوصية) و (الوزارة) اللذان أختص بهما الإمام علي (ع) وبذلك تكون كل الخصال متحققة في شخص علي (ع) سوى (الوصية) وفعلا لقد أوصى صلى الله عليه وآله بالإمامة لعلي من بعده بحيث بلغ حد التواتر ، وحضره جمع غفير من الصحابة ، وسمعوه ووعوه ، وعلقوا عليه ب‍ (بخ بخ لك) أو ما شابهها من العبارات . وكان هذا الحديث هو ورقة المعارضة منذ أن أحيلت الخلافة إلى (الرأي)! .
لم يغادر الرسول صلى الله عليه وآله الحياة ، حتى وقف تلك الوقفة التاريخية الكبرى بحجة الوداع ، ليعلن بصريح النص (إن عليا ولي للمؤمنين) بعده وقصة الخبركالتالي : (22)

(21) ولهذا يجب أن نميز عليا (ع) عن الصحبة . فهو ليس صحابيا فحسب . إذ له ألف وألف رابطة ووظيفة في هذا الدين ، وكلها كانت تجري بعين الوحي! .
(22) استطاع أحمد الأميني النجفي في كتابه العملاق : الغدير . إحصاء رواة الحديث من الصحابة والتابعين والعلماء ، فكان أن أثبت بالأسانيد الموثقة أن : =
لقد شيعني الحسين (ع) 123

كان يوم الثامن عشر من ذي الحجة في سنة عشرة من الهجرة ، حيث وصل الرسول صلى الله عليه وآله من حجة الوداع . وكان اسم المكان (غدير خم) يقع على مقربة من الجحفة بناحية رابغ بين مكة والمدينة وذكر اليعقوبي في تاريخه ، إنه صلى الله عليه وآله قام خطيبا (بغدير خم) وأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : بلى يا رسول الله! قال : فمن كنت مولاه ، فعلي مولاه .
اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .
ثم قال : أيها الناس إني فرطكم وأنتم واردي على الحوض ، وإني سائلكم حين تردون علي ، عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما . وقالوا : وما الثقلان يا رسول الله؟ قال : الثقل الأكبر كتاب الله ، سبب طرفه بيد الله ، وطرف بأيديكم ، فاستمسكوا به ولا تضلوا ، ولا تبدلوا ، وعترتي أهل بيتي (23) .
وذكر ابن كثير في تاريخه ، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي والحسن بن سفيان بن هدبة بن حماد بن سلمة عن علي بن زيد وأبي هارون عن عدي بن ثابت عن البراء قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع فلما أتينا على غدير خم فسح لرسول الله صلى الله عليه وآله تحت شجرتين ونودي في الناس الصلاة جامعة ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله عليا وأخذ بيده فأقامه عن يمينه فقال ألست أولى بكل امرئ من نفسه قالوا بلى قال هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . فلقيه عمر بن الخطاب فقال هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة) .
وذكره النسائي في خصائصه (24) حيث قال : أخبرنا محمد بن المثنى قال : حدثنا يحيى بن حماد . قال : أخبرنا أبو عوانة عن سليمان (الأعشر) قال : حدثنا

=عدد رواة الحديث من الصحابة (110) .
- عدد رواته من التابعين (84) .
- عدد رواته من العلماء (359) .
(23) تاريخ اليعقوبي (المجلد الثاني ص 109) دار صادر .
(24) النسائي - الخصائص (ص 150) تحقيق وتعليق : الشيخ محمد باقر المحمودي الطبعة الأولى (1403 - 1983 م) .
لقد شيعني الحسين (ع) 124

حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل (عامر بن وائلة) عن زيد بن أرقم قال : لما رجع النبي صلى الله عليه وآله من حجة الوداع ونزل (غدير خم) أمر بدوحات فقصمن ثم قال : كأني دعيت فأجبت وإني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض .
ثم قال : إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن . ثم إنه أخذ بيد علي (رض) فقال : من كنت وليه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) (25) ولم يجد خصوم (الولاية) دليلا قوي العود ، ليسندوا به خصومتهم وبعضهم ممن عرف بنقص الحياء لجأ إلى التحايل على النص ، و (الشطح) في تأويله بما يعرقب أطرافه . ظانين أنهم أمام أميين لا يعلمون الكتاب . فذكر ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة : (لا نسلم أن معنى الولي ما ذكروه ، بل معناه الناصر ، لأنه مشترك بين معان كالمعتق والعتيق ، والمتصرف في الأمر ، والناصر والمحبوب ، وهو حقيقة في كل منها ، وتعيين بعض معاني المشترك من غير دليل يقتضيه تحكم لا يعتد به ، وتعميمه في مفاهيم كلها لا يسوغ) (26) .
وقد تلقف هذه بعض المهرجين (ورددوها من دون استحياء ولم أكن لأتصور كيف أن الرسول صلى الله عليه وآله يوقف المسلمين بغدير خم ، ويقول لهم (ألست أولى بكم من أنفسكم) ثم يقول ما قال ، فتنزل الآية : « اليوم أكملت لكم دينكم » كل هذا فقط ، ليقول للمسلمين ، إن عليا قريبكم ، أو غيرها من المعاني التي نعتوها .

(25) نفس الحديث رواه النسائي بأسانيد وطرق مختلفة ، وكذلك رواه جمع غفير من المحدثين كابن حنبل في المسند والحاكم في المستدرك ، والحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب . والطبري في مؤلفه الخاص ، والطبراني في المعجم الأوسط والسيوطي في الدر المنثور وغيرها من كتب الحديث . ورجاله رجال الصحاح على شرط البخاري ومسلم على حد قول (الحاكم) وغيرها من الموثقات التي يضيق بها المقام .
(26) مثل هذه (الجهالات) استنسخها صاحب الرد على أباطيل المراجعات بجهل أوسع ونصب كثير! .
لقد شيعني الحسين (ع) 125

السقيفة

كنا قد عرفنا إن الرسول صلى الله عليه وآله لم يكن حاشاه غافلا عن قيمة الخلافة والاستخلاف . وكانت خطبة الوداع ، برنامجا لهم ، يقيهم عثرات المستقبل .
وأكد فيها على آل بيته (ع) وولى فيها الإمام عليا (ع) بقوله (ألا من كنت مولاه ، فهذا علي مولاه) كررها ثلاث مرات . (27)وحذرهم من مغبة التجاوز للنص ، ابتغاء الرأي والباطل . كما حذرهم من مغبة التضليل الافتتان والردة والافتان . ذكر اليعقوبي في تاريخه : (لا ترجعوا بعدي كفارا مضللين يملك بعضكم رقاب بعض إني خلفت فيكم الثقلين ما أن تمسكتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي) ثم أمر الناس بالالتزام بما أعلنه وأودعه فيهم قائلا : (إنكم مسؤولون فليبلغ الشاهد الغائب) (28)وكان الإمام علي (ع) هو المرشح ، لولاية المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وبعد أن تبين أمر الولاية . نزلت الآية الكريمة « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا »(29)وحيث إن الوضع يومئذ لا يسمح بالمعارضة . فإن المجموعة المنافقة لم تعلق - باستثناء بعض الحالات واستمرت في صمتها تترقب الفرصة . وفي وفاة النبي صلى الله عليه وآله بدأت المؤامرة تتبلور ، وتنعكس على أرض الواقع الإسلامي .

(27) وفي لفظ أحمد بن حنبل (كررها أربع مرات) .
(28) تاريخ اليعقوبي (903 - 93) .
(29) المائدة . وذكر السيوطي في الدر المنثور والخطيب البغدادي في التاريخ ، نزولها في الغدير .
لقد شيعني الحسين (ع) 126




لقد شيعني الحسين (ع) 127

الوفاة وملابساتها

هناك أمران أساسيان في تناولنا لوفاة النبي صلى الله عليه وآله والأجواء التي أحاطت بهذا النبأ التاريخي العظيم .
الأول : - إن محمدا صلى الله عليه وآله الذات ، البشري ، الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . . (شئ) .
الثاني : - إن محمدا صلى الله عليه وآله بما هو همزة الوصل بين السماء والأرض وبما هو الرسول المرسل . . (شئ آخر) .
والنبي صلى الله عليه وآله كذات ، كبشر . ترك أثرا بالغا في نفوس الكثير من الناس .
إثر موت قريب بشري . وهؤلاء هم الذين ارتبطوا بشخصية الرسول صلى الله عليه وآله كبطل ، وكعبقري . فتشكل وجدانهم على غرار هذا الاعجاب بالرسول صلى الله عليه وآله وعليه ، فإنهم لا يرون الأهمية الجوهرية التي كانت تميز شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وكان صلى الله عليه وآله هو لها وليست هي له . لذلك تراهم ، سرعان ما فكروا في مستقبل حياتهم وطرق التكيف مع الأوضاع الجديدة . حيث غاب الرسول صلى الله عليه وآله وبالتالي غاب معه الوحي .
وفي نفس الأثناء ، كانت هناك فئة تؤمن بمحمد صلى الله عليه وآله النبي ، بما هو رسول الوحي . وبما هو الرسالة . فهل ذهاب محمد صلى الله عليه وآله الذات ، يعني بالضرورة

لقد شيعني الحسين (ع) 128

ذهاب الرسالة؟ فهؤلاء هم الذين والوا عليا (ع) امتداد طبيعي في شخصية الإمام (ع) بما هو الشخص المرشح لمواصلة المسيرة بحكم ما يملكه من مؤهلات الإمامة ، وما أورثه إياه الرسول صلى الله عليه وآله من علم ضروري للقيام بهذه المهمة الرسالية . وقد رد الله سبحانه في القرآن عن أولئك الذين يحيدون ، عن أوامر الرسالة ، فور اعتقادهم ، بوفاة النبي صلى الله عليه وآله فقال : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) .
وقد حدث ذلك في معركة (أحد) حيث فر جميع الصحابة باستثناء علي (ع) وأفراد معدودين . ووضع الفارون سيوفهم في الأغماد لما سمعوا إن محمدا صلى الله عليه وآله قد مات . حتى نزل عليهم التوبيخ الإلهي .
هذان التصوران كانا سائدين في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وبعده . وقد تجلت صورتهما لما رفع عمر بن الخطاب سيفه ، يهدد من قال بموت رسول الله صلى الله عليه وآله .
ورأى أنه حي ، وسوف (يرجع) كما رجع موسى (ع) وأعتقد به الكثير منهم .
وذلك دليل على أن هذا التصور موجود عند البعض ، حتى ورد من قال : إن محمدا قد مات .
هذان التصوران هما أساس الاختلاف في زمن الوفاة ، ووقائعها كالتالي : بعد قدومه إلى المدينة بأيام قلائل . جهز الرسول صلى الله عليه وآله جيشا لفتح تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، على حد تعبير ابن الأثير . وعقد في ذلك لأسامة بن زيد على هذا الجيش الذي اجتمع فيه المهاجرون والأنصار . وكان فيهم أبو بكر وعمر . . كما ذكر اليعقوبي . وكان قد ابتدأ الرسول صلى الله عليه وآله المرض في أواخر صفر (30)وكان أسامة يوم اشتكى الرسول صلى الله عليه وآله مرضه (بالجرف) فتأخر ، مما أغضب الرسول صلى الله عليه وآله وجعله يحث على المسيرة . (31) لقد توفي الرسول صلى الله عليه وآله

(30) التاريخ الكامل لابن الأثير (ص 317 المجلد الثاني) .
(31) لنا مع أسامة وجيشه جولة خاصة! .
لقد شيعني الحسين (ع) 129

يوم الاثنين (12 من ربيع الأول ، (32) ودفن من الغد نصف النهار ، (33) وذكر اليعقوبي (إن وفاته صلى الله عليه وآله كان طالع سنتها الجدي ثماني عشر درجة) (34) .
وفي أثناء مرضه واحتضاره صلى الله عليه وآله كما بعد وفاته ، جرت أحداث خلفت وراءها محنا سياسية واجتماعية رهيبة . ولكي نفهم مشكلة الخلافة وملابساتها ، لا بد من استحضار هذه المشاهد . واستنطاق الفواصل الحساسة فيها ، من أجل الخروج بمخطط فكري وسياسي ، يمكننا فهم الحالة الإسلامية بعد الرسول (ص) .
لقد ابتدأ على الرسول صلى الله عليه وآله المرض ، وهو قد جهز جيش أسامة بن زيد ، وكان من المنطقي - حسب النظرة التي نحملها نحن الآن عن الصحابة الكبار وميزاتهم كأبي بكر وعمر وعثمان . أن يعقد الرسول صلى الله عليه وآله لأحد كبار الصحابة .
لكنه عقد لأسامة ، وهو يومها فتى صغيرا . وكثر الطعن في ذلك ، وتكلم بعض الصحابة في إمارة أسامة ، وقالوا كلاما يمجه منطق الصحبة والإيمان .
ذكر ابن سعد في الطبقات ، إن سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى أهل (ابني) وهي أرض السرات ناحية البلقاء . وقال (فلما كان يوم الأربعاء بدء برسول الله صلى الله عليه وآله المرض ، فحم وصدع فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده ثم قال : اغز بسم الله في سبيل الله فقاتل من كفر بالله فخرج وعسكر بالجرف فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار انتدب في تلك الغزوة فيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وغيرهم ، فتكلم قوم وقالوا يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله غضبا شديدا فخرج وقد عصب على رأسه عصابة فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال (أما بعد ، أيها الناس ، فما مقالة بلغني عن بعضكم في إمارة أسامة . ولئن طعنتم في إمارة أسامة لقد طعنتم

(32 - 33) ابن الأثير : (323) وحسب التقويم الإسلامي الشيعي ، إن الرسول صلى الله عليه وآله توفي في28 من صفر .
(34) اليعقوبي - التاريخ - (ج 3 ص 113) .
لقد شيعني الحسين (ع) 130

في أمارة أبيه من قبله وأيم الله إنه كان للإمارة خليق وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة ثم نزل فدخل بيته وذلك يوم السبت لعشرة خلون من ربيع الأول . وثقل رسول الله صلى الله عليه وآله فجعل يقول انفذوا بعث أسامة .
وفي الملل والنحل (جهزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلف عنه) (35) . وعلى الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وآله حرص على تجهيز الجيش . وتبين من خلال إصراره صلى الله عليه وآله على بعثه . فإن الصحابة لم يطيعوا ورجعوا بعد أن وصلوا إلى الجرف . وهناك لفتة يجب الوقوف على أطلالها . نحن في البداية نختار لأنفسنا منهجا برهانيا علميا . لنجعله برهانا غير مباشر . سنفترض أن الخلافة لعلي (ع) ونحلل على أساس هذا الغرض . فإذا أوقفنا تناقض أوقفنا (الدور) وكان افتراضنا خاطئ . واختيارنا لهذا البرهان لا يعني إنه لا برهان له بطرق أخرى .
دائما لأن هذا النمط من الاستدلال هو أقرب إلى الوجدان ، وأكثر انسجاما مع العقل العلمي .
لقد سبق أن قلنا إن وجود الخلاف بعد الرسول صلى الله عليه وآله حول (الخلافة) يقتضي أن يكون أحد الفريقين على خطأ . أو بتعبير أدق ، أن يكون أحد الفريقين (مدعيا) حقا ليس له أو أن الفريق الآخر (مغتصبا) لحق ليس له أيضا .
لنفترض طبقا - لأسلوبنا البرهاني المتقدم ، إن الإمامة ثبتت وإن المسألة محض اغتصاب (26) وعلى هذا الأساس ننطلق .
الأجواء التي أحاطت بالصحابة والمسلمين عند وفاة الرسول صلى الله عليه وآله كانت تتخللها بعض نقاط الاستفهام . تشكل لغزا فيما لو ربطناها بما جرى بعد ذلك من أحداث .
فالرسول صلى الله عليه وآله قد علم منذ حجة الوداع - أنه سيستقبل الآخرة . وهو يعلم بذلك كما تثبت الروايات الصحيحة . فكيف يجهز جيش أسامة ، وبتلك الطريقة

(35) المقدمة الرابعة (من الملل والنحل) الشهرستاني .
(36) اقترحت هذه الطريقة من البرهان ؟؟ وإلا فلو افترضت (الادعاء) فليس بيني وبين النتيجة السلبية سوى نص أو نصين صريحين ينهيان المسألة من الأساس .

السابق السابق الفهرس التالي التالي