لقد شيعني الحسين (ع) 131

التي استنكرها عليه بعض الصحابة . في الوقت الذي احتفظ فيه بالإمام علي (ع) وهو رمز الجيش الإسلامي . إن للتاريخ ثغرات يمكن أن تتسلل منها الفضائح وتنكشف! .
لقد علم عمر بن الخطاب أن الرسول صلى الله عليه وآله سيموت لا محالة (37) وبأنه كان مصرا على الحضور بعيد وفاته ، ليعرف كيف وإلى أين ستؤول الأوضاع . إنه سمع من الرسول صلى الله عليه وآله في حجة الوداع . وبغدير خم إن ولي المسلمين هو (علي بن أبي طالب) وكان قد تقدم إليه بالتهنئة قائلا (بخ بخ لك يا أمير المؤمنين) ولكنه أصر أن لا تؤول إليه . وأن ذلك رهين بحضوره المستمر . ولهذا أبي أن يجهز جيش أسامة ، إن تردد عمر بن الخطاب ، وتقنعه بالروح . وكان لإمارة الرسول صلى الله عليه وآله وعقده لأسامة درس للصحابة ، كي يعلموا أن الإمارة بالنص لا بالرأي . وبأن تشددهم برأيهم لم يقنع الرسول صلى الله عليه وآله بتغيير وجهة نظره . وفي ذلك ردع لكل من يتطلع لخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وإحباط معنوي كي لا تطمع نفوس بها . ولذلك حرصت هذه النفوس على الحفاظ على معنوياتها وأفشلت مسيرة جيش أسامة وتقولت فيه .
وهنالك رأي كسير ، يحتاج إلى جواب يجبره . هو أن بعض (مبررة) الخيانات التاريخية ، رأوا في ذلك دليلا على تعلق عمر ابن الخطاب وأبي بكر ، بالنبي صلى الله عليه وآله وأنهما فضلا البقاء إلى جوار الرسول صلى الله عليه وآله وعلى مقربة منه ليطمئنوا عليه .
وكسر هذا التبرير ، يمكن جبره : بثلاث مسائل :
أولا : لقد سبق أن ذكرنا الطريقتين اللتين كان يتعامل بهما الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وآله ولعل هؤلاء من الصنف الأول ، الذين اهتموا بشخص الرسول صلى الله عليه وآله ولم يهتموا برسالته . ولولا ذلك لكان عليهم الاستجابة لداعي الجهاد . خصوصا وأن الرسول صلى الله عليه وآله لعن من تخلف عن جيش أسامة . ثم إن

(37) الروايات السنية تثبت أن عمر وغيره من الصحابة بكوا في حجة الوداع وعيانهم بقرب وفاته! .
لقد شيعني الحسين (ع) 132

هؤلاء كانوا قد طعنوا ابتداء في إمارة أسامة وليس حبا في الرسول صلى الله عليه وآله .
ثانيا : إن عمر بن الخطاب رفض تجهيز جيش أسامة على وجه الاطلاق وإنه رفض أن يكون أسامة على رأس الجيش . ليس ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وآله بل حتى بعده . وقد ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه (38) ، أن عمر بن الخطاب طلب من أبي بكر عزل أسامة ابن زيد في خلافته ، فوثب بلحية عمر قائلا : (ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب ، استعمله رسول الله صلى الله عليه وآله وتأمرني أن أنزعه) .
فعمر بن الخطاب ، كان له موقف ثابت من إمارة أسامة وبقي ثابتا على هذا ؟ الموقف حتى بعد الرسول صلى الله عليه وآله .
ثالثا : إن تعامل الرجلين مع الرسول صلى الله عليه وآله في مرضه ، لا يدل على تعلقهما ؟ الشديد به . بل الواضح إنهما كانا مصدر إزعاج له في مرضه ، ونهى الرسول صلى الله عليه وآله عمر أكثر من مرة . ففي تخلفه وتقوله في جيش أسامة ، خرج الرسول صلى الله عليه وآله معصب الرأس غاضبا (لعن الله من تخلف عن جيش أسامة) .
ثم إن أبا بكر لم يكن حاضرا عند وفاة الرسول صلى الله عليه وآله ذكر ابن الأثير في تاريخه (ولما توفي صلى الله عليه وآله كان أبو بكر بمنزله بالسنح) (39) .
أما عمر بن الخطاب ، فقد وقف موقفا قمعيا ، إذ حال بين الرسول صلى الله عليه وآله في مرضه والكتابة . وهي أكبر لغز في تاريخ الإسلام ، ما تزال (المبررة) تغض الطرف عنه ، ولا تمعن فيه النظر . وهو ما سمي (برزية يوم الخميس) حيث أخرج مسلم في كتابه الوصية من الصحيح قال : عن سعيد بن جبير من طريق آخر عن ابن عباس ، قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله إئتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة ، أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ،

(38) وكذلك الدحلاني في السيرة والحلبي وغيرهما .
(39) التاريخ الكامل لابن الأثير (ج 2 ص 323) .
لقد شيعني الحسين (ع) 133

فقالوا : إن رسول الله يهجر) (40) .
وأخرجه الطبراني في الأوسط بهذا اللفظ لما مرض النبي صلى الله عليه وآله وقال : إئتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا . فقال النسوة من وراء الستر : ألا تسمعون ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله قال ، قال عمر : فقلت إنكن صويحبات يوسف (41) إذا مرض رسول الله عصرتن أعينكن ، وإذا صح ركبتن عنقه! قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : (دعوهن فإنهن خير منكم) (42) .
و (يهجر) هذه التي استخدمها عمر ، ليست أدبا يليق بمقام النبوة وعمر يعلم أن من راحة النبي صلى الله عليه وآله أن يقدم له ما يطلب . ولم يؤذن لعمر بن الخطاب أن يفتي في حضرة الرسول صلى الله عليه وآله وبأنه (حسابنا كتاب الله) والأحاديث تؤكد بأن الرسول صلى الله عليه وآله غضب لذلك غضبا شديدا وهو ما يفيد قولنا ، بأن حضور عمر بن الخطاب ، كان له هدف مرسوم وغاية محددة . ولو كان أطاع

(40) ذكره أحمد بهذا اللفظ ومسلم في صحيحه : (ص 75 ج 3) دار المعرفة بيروت .
(41) ترى من هن صويحبات يوسف . هل هي (زليخة) التي عشقت فتى غير زوجها وراودته عن نفسه . أم زائراتها اللائي قطعن أيديهن وسلمن (لزليخة) في رغبتها في (يوسف) أهكذا (عمر) شبه نساء النبي صلى الله عليه وآله فهل سلمان رشدي أتى بجديد؟ .
(42) لا أريد الإطالة في عرض الحديث وأسانيده وطرقه المختلفة التي اكتضت بها كتب الصحاح الستة وتواريخهم ومن بين أولئك البخاري في صحيحه في باب مرض الرسول وفي كتاب العلم . كما أخرجه مسلم في باب الوصية ، وأحمد والطبراني في الأوسط وكنز العمال الجزء الثالث ، ومن المؤرخين ذكره الطبري في التاريخ ، وسعد في الطبقات بسنده عن سعيد بن جبير عن بن عباس - وذكر البخاري في باب جواز . الوفد من كتاب الجهاد والسيرة من صحيحه : حدثنا بن عينية عن سلمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال يوم الخميس وما يوم الخميس إلى أن قال) فقالوا : هجر رسول الله .
قال صلى الله عليه وآله : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه . وأوصى عند موته بثلاث : اخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم قال ونسيت الثالثة .
قلت : وليس هذه (نسيت الثالثة) سوى الرديف الطبيعي ل‍ (كذا وكذا) التي سبق أن رأيناها عند الطبري في بحث حديث (الدار) وكأن المؤرخين والمحدثين فطروا على نسيان (الرزايا) التي تعتبر بؤرة لفهم ما حصل ولماذا! وحديث (الدواة) أشهر من نار على علم لدى كل المحدثين وهو بحق ، أعظم رزية على حد قول بن عباس .
لقد شيعني الحسين (ع) 134

النبي صلى الله عليه وآله في السير مع جيش أسامة لكان خيرا له ، وأقرب للتقوى كما يجب أن يتحلى بها صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وحماة العقيدة وأفضل له من قذف الرسول صلى الله عليه وآله بالهجران (34) .
أولا : - لأنه تخلف عن جيش أسامة ولم يجب أمر الرسول .
وثانيا : - لأن الرسول صلى الله عليه وآله لما رآه حاضرا طلب فورا . الدوات والقرطاس ، لأنه يعلم أن وجود عمر في المقام يهدف كسب الخلافة لصالح مخططه . والدليل على ذلك ، أنه هو نفسه الذي عارض طلب الرسول صلى الله عليه وآله بحجة أن الرسول صلى الله عليه وآله يهجر . بمعنى يهذي . أي أن النبي صلى الله عليه وآله فقد صلاحية النبوة في تلك اللحظة ، وهو لا يزال بين أظهرهم . وأعطى منذ ذلك الوقت ، عمر بن الخطاب نفسه ، صلاحية الاجتهاد والتقدير! .
وعمر هذا كان يدرك ماذا يمكن أن يكتب الرسول صلى الله عليه وآله في ذلك القرطاس ، ولم يكن ابن عباس ولا الآخرين يجهلون حقيقة الموقف لما قال :
الرزية كل الرزية لما حيل بين الرسول والكتابة . فهي رزية ، لأن دليلها تجلى في أحداث السقيفة وما بعدها . ويورد ابن أبي الحديد في شرح النهج عن ابن عباس قال : خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته . فانفرد يوما يسير على بعيره فقال لي : يا ابن عباس . أشكو إليك ابن عمك - أي الإمام علي (ع) سألته أن يخرج معي فلم يفعل ولا أزال أراه واجدا ، فما تظن موجدته؟ قلت : يا أمير المؤمنين إنك لتعلم ، قال : أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة . قلت : هو ذلك ، إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له . قال : يا ابن عباس وأراد رسول الله الأمر فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك . إن رسول الله أراد أمرا وأراد الله غيره فنفذ

(43) (الهجر) في اللغة ، هو القوم السئ وفي لسان العرب لابن منظور ، الهجر برفع الهاء - القبيح من الكلام . والهجر أيضا بمعنى الهذيان . والهجر ، بالضم الاسم من الاهجاء وهو الافحاش . وكذلك إذا كثر الكلام فيما لا ينبغي . وهجر في مرضه ، بمعنى هذى . وكان هذا ما أراده عمر بن الخطاب من كلمته مما زاد الرسول صلى الله عليه وآله ألما ووجعا . . وأمرنا لله! .
لقد شيعني الحسين (ع) 135

أمر الله ولم ينفذ مراد رسول الله أو كلما أراد رسول الله كان أراده الله) وهذه الكلمة التي أقل (قسوة) من (يهجر) تدل على مدى معرفة عمر بن الخطاب بمجريات الأمور ، ومدركا لكل الأبعاد . وأبى إلا أن يوقف الرسول صلى الله عليه وآله وعنده حده . ويقوم بقمع آل البيت حتى لا يحضروا له الدواة .
إن الحؤول دون (نص) جديد في تأكيد المسألة ، هو ما دفع عمر بن الخطاب لمنع الإتيان بالدواة والقلم . ولقد ألف عمر ابن الخطاب مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله في حياته وخلف له متاعب كثيرة ، كتلك التي في صلح الحديبية ، وكرفضه إمارة أسامة . ولقد مات الرسول صلى الله عليه وآله غاضبا وهو يعلم أن القوم حريصون على (إمارة) المسلمين ، وعلم بكل ما سيقع . فكان همه ، أن يسر إلى علي (ع) بما ينبغي أن يقوم به في الأحوال التي سيواجهها في المستقبل . وبقي معه ، حتى فاضت روحه الطاهرة وهو يتوسد صدر الإمام علي (ع) (44) .
وما أن فاضت روحه الطاهرة . حتى تفرقت الصفوف من حول الرسول صلى الله عليه وآله ولم يبق حوله إلا علي (ع) وآل بيته .
لم يرو التاريخ عن أن عمر بن الخطاب . هذا الذي أبى السير مع أسامة ، حبا

(44) من المفارقات العجيبة التي تروى لدى العامة ، أن الرسول صلى الله عليه وآله مات مستندا إلى عائشة . وهذا تلفيق تاريخي . اصطنعوه . فالظاهر من التاريخ إن الذي اهتم بمرضه ودفنه . هو الإمام علي (ع) وأورد بن سعد في الطبقات أكثر من رواية تقول بأنه توفي في حجر علي بن أبي طالب .
وروى الحاكم في المستدرك عن أحمد بن حنبل بسنده عن أم سلمة قالت : والذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وآله إلى أن قالت : فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وجعل يساره ويناجيه ، ثم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله من يومه ذلك فكان علي أقرب الناس عهدا به . وذكر من ذلك بن سعد ، وكذلك صاحب الكنز أنه قيل لابن عباس : أرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال : نعم توفي وإنه لمستند إلى صدر علي ، فقيل له : إن عروة يحدث عن عائشة أنها قالت :
توفي بين سحري ونحري ، فأنكر بن عباس ذلك ، قائلا للسائل : أتعقل؟ والله لتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وإنه لمستند إلى صدر علي وهو الذي غسله . . وذكر ذلك الحاكم في مستدركه وعلق على سنده قائلا : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه (أي البخاري ومسلم) ، وصححه الذهبي .
لقد شيعني الحسين (ع) 136

وتعلقا بالرسول صلى الله عليه وآله لم يرو عنه إنه اهتم بجنازة الرسول صلى الله عليه وآله وكل ما في الأمر أنه بدأ يقول كلاما غريبا عن منطق العقل ، لا سند له من الكتاب ، مفاده إن الرسول صلى الله عليه وآله لم يمت! .
وبقي الرسول صلى الله عليه وآله جثة هامدة بين يدي آل البيت ، يغسلونه ، في الوقت الذي راح الآخرون يتطاحنون على حق محسوم بالنص واستغلالا للظرف . وركوبا لفرصة (غياب) الإمام علي (ع) وآل البيت .
وإنني ما زلت إلى اليوم أتسأل - لا عن زهد عمر وأبي بكر وغيرهم في جنازة الرسول صلى الله عليه وآله بسبب التسابق إلى السقيفة - بل أتسأل عن أولئك الذين لا يزالون يبررون التاريخ المفضوح ، كيف لا يفهمون (اللعبة) التاريخية . وحال دونهم والحقيقة ، أنهم أعيد تركيبهم تاريخيا ، ليصبحوا أكثر أهمية من الرسول صلى الله عليه وآله والأمة . ذكر ابن سعد في الطبقات ، إنه غسل الرسول صلى الله عليه وآله علي ابن أبي طالب ، والفضل ابن العباس ، وأسامة ابن زيد .
وفي رواية ابن الأثير في التاريخ الكامل (ولما توفي صلى الله عليه وآله كان أبو بكر بمنزله بالسنخ ، وعمر حاضر ، فلما توفي قام عمر فقال : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله توفي وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ابن عمران ، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وآله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات . وأقبل أبو بكر وعمر يكلم الناس . إلى أن قال) فأقبل أبو بكر على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر .
الحديث) وهذا الحديث وثيقة قابلة للنقد ، والسؤال الذي يجب توجيهه لهذه الوثيقة : لماذا وبأي دليل ، يكون الرسول صلى الله عليه وآله ليس ميتا في ذهن عمر؟ وما هو الانسجام في قياس النبي صلى الله عليه وآله بموسى ابن عمران (ع) . إذ أن الثاني ذهب بروحه وجسده . بينما الرسول صلى الله عليه وآله بقيت جثته هامدة أمامهم!؟ .
ثم كيف تتحول وجهة النظر هذه إلى قمع وإرهاب واتهام بالنفاق وتهديد بالقتل الذي حرمه الله إلا بالحق؟ .
ولماذا نجد عمر الذي فقد وعيه وبدأ يقول الغرائب . ولم يستطع أحد الاقتراب

لقد شيعني الحسين (ع) 137

منه ، كيف يهدأ ويسلس ويحضر له الضمير والعقل لما جاء أبو بكر وقال ما قال؟! .
هذا لغز تاريخي يجب إخضاعه للحفر المنهجي ، وإزالة الملابسات التبريرية عنه ، لإظهار وجه الحقيقة من خلاله ، فلا عمر بن الخطاب كان يجهل (وفاة) الرسول صلى الله عليه وآله كيف ذلك وهو من أتهمه (بالهجران) واعترف بأنه افتقد الوعي ، وحسابنا كتاب الله! ولم يكن عمر يجهل الآية التي تلاها عليه أبو بكر :
« وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم » . فلقد كان يعرفها وهو الذي سمع الرسول صلى الله عليه وآله ينعى نفسه إليهم .
وإنما أمر آخر كان يشغل بال عمر . هو أن يصرف الناس عن التفكير فيما بعد (الوفاة) . حتى يربح الوقت لكي يأتي أبو بكر ، وتتم العملية . وما أن جاء أبو بكر حتى سمعوا بأمر الأنصار واجتماعهم في السقيفة ، فالتحقوا بهم مسرعين ، وانتهى محمد صلى الله عليه وآله ولم يبقى إلا أمر السقيفة . حيث يدخلها عمر بن الخطاب بكل قوة وتحضير من دون أن تتخلله رقة ، من أثر وفاة الرسول صلى الله عليه وآله .
دخل عمر السقيفة ليطرح رأيه ، ويلغي رأي الجميع . متذرعا بأن أبا بكر هو الوحيد الذي يصلح للأمة . وكأن محمد صلى الله عليه وآله لم يتمكن خلال هذه السنين الطوال . أن يصنع من هذ أصلح للأمة ، سوى أبي بكر . وبدأ أبو بكر مضطربا ، يريد الخلافة ولا يريدها! .
وكان عمر بن الخطاب ، يتشدد في تشجيع أبي بكر . لقد تركوا الرسول صلى الله عليه وآله طريح فراشه . وانشغلوا بأمر الخلافة . يقول ابن كثير :
(توفي صلى الله عليه وآله يوم الاثنين وذلك ضحى فاشتغل الناس ببيعة أبي بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة ثم في المسجد البيعة العامة في بقية يوم الاثنين وصبيحة الثلاثاء كما تقدم ذلك بطوله ثم أخذوا في غسل رسول صلى الله عليه وآله وتكفينه والصلاة عليه صلى الله عليه وآله تسليما بقية يوم الثلاثاء ودفنوه ليلة الأربعاء (45) .

(45) البداية والنهاية لابن كثير ص 305 5 - 6) دار الكتب العلمية بيروت .
لقد شيعني الحسين (ع) 138

وكان عمر وأبو بكر قد سمعا باجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة . فلحقوا بهم حتى لا يفوتا عليهما الفرصة . ومال جماعة من الأنصار إلى سعد ابن عبادة زعيم الخزرج ، وكان مريضا وفي تاريخ اليعقوبي : وبلغ أبا بكر وعمر وأبا عبيدة ابن الجراح الخبر فقالوا : يا معشر الأنصار ، منا رسول الله صلى الله عليه وآله ، وفي (الإمامة والسياسية) (47) فأجابوا جميعا (أي أجاب الأنصار سعد ابن عبادة) أنقد وفقت في الرأي ، وأصبت في القول . ولن نعدو ما رأيت توليانك هذا الأمر .
فأنت مقنع ولصالح المؤمنين رضا . قال فأتى الخبر إلى أبي بكر ففزع أشد الفزع .
فقام معه عمر فخرجا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة) .
لقد فزع أبا بكر لما رأى الأنصار مجتمعين في السقيفة . وما فزع لوفاة الرسول صلى الله عليه وآله ولم يحزن كما حزن آل البيت (ع) المنشغلون بتجهيز الرسول صلى الله عليه وآله لقد توفي الرسول صلى الله عليه وآله وأبو بكر ، في منزله بالسنخ مع أهله .
لقد ذكر ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق : لما كان يوم الاثنين خرج رسول الله صلى الله عليه وآله عاصبا رأسه (إلى أن قال) قال : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من كلامه . قال أبو بكر ، يا نبي الله إني أراك قد أصبحت ابنعمة من الله وفضل كما تحب ، واليوم يوم ابنت خارجة ، أفأتيها؟ قال : نعم : ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنخ) (48) (أخرجه الطبري) .
ولم يفزعه أمر (الوفاة) مثل ما أفزعه أمر (السقيفة) . وما أن رأى الأنصار أبا بكر وعمر ، وعلموا مدى حرصهما على الفوز بالخلافة حتى قالوا : منا أمير ومنكم أمير! ولم يستطع أبا بكر إقناعهم . فتقدم عمر بن الخطاب وقال :
(خشيت أن يقصر أبو بكر عن بعض الكلام . فلما تيسر عمر للكلام ، تجهز أبو بكر وقال له : على رسلك . فستكفى الكلام ، فتشهد أبو بكر ، وانتصب له

(46) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 123) دار صادر .
(47) تاريخ الخلفاء أو الإمامة والسياسة (ابن قتيبة) (1 - 2 ص 5) مؤسسة الوفاء بيروت لبنان .
(48) سيرة بن هاشم المجلد 4 ص 305) دار الكتاب العربي أقول : وأولى له أن يسير مع جيش أسامة بدل الذهاب إلى (بنت خارجة) .
لقد شيعني الحسين (ع) 139

الناس ، (إلى أن قال) والله ما زلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين ، وأنتم أحق الناس ألا يكون هذا الأمر واختلافه على أيديكم ، وأبعد أن لا تحسدوا إخوانكم على خير ساقه الله تعالى إليهم وإنما أدعوكم إلى أبي عبيدة أو عمر . وكلاهما قد رضيت لكم ولهذا الأمر ، وكلاهما له أهل . فقال عمر وأبو عبيدة : ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك يا أبا بكر) (49) .
كان المخطط الذي رسمه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ، وهم في طريقهم إلى السقيفة ، متكاملا . ولم يفصل لنا التاريخ فيما قيل بين الثلاثة وهم في طريقهم إلى الأنصار وليس من المنطق ، أن يسيروا كل هذه المسافة ، دون أن يتحدثوا في موضوع السقيفة . المخطط هو أن تكون الخلافة - لهؤلاء الثلاثة . على أن يؤازر بعضهم بعضا ، ويثني بعضهم على الآخر . وما دام أبو بكر هو المقرب في الحلف . قدموه على أن تكون الخلافة دولة بينهم ، فأقبل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة . فقالوا : (يا معشر الأنصار! منا رسول الله ، فنحن أحق بمقامه . وقالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير! فقال أبو بكر : منا الأمراء وأنتم الوزراء . فقام ثابت ابن قيس ابن شماس ، وهو خطيب الأنصار . فتكلم وذكر فضلهم . فقال أبو بكر ، ما ندفعهم عن الفضل ، وما ذكرتم من الفضل فأنتم له أهل . ولكن قريشا أولى بمحمد منكم . وهذا عمر بن الخطاب الذي قال رسول الله : (اللهم أعز الدين به . وهذا أبو عبيدة الذي قال رسول الله فيه : أمير هذه الأمة ، فبايعوا أيهما شئتم! فأبيا عليه وقالا : والله ما كنا لنتقدمك ، وأنت صاحب رسول الله وثاني اثنين فضرب أبو عبيدة على يد أبي بكر ، وثنى عمر ، ثم بايع من كان معه من قريش) (50) .
ولم يقتنع أغلبية الحاضرين بهذه (اللعبة) المكشوفة . فقد قام الحباب ابن المنذر وقال : (يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا

(49) ابن قتيبة (الإمامة والسياسة) (ص 5 - 6) مؤسسة الوفاء بيروت .
(50) تاريخ اليعقوبي .
لقد شيعني الحسين (ع) 140

وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر)(51) .
والذين بايعوا أبا بكر جريا على رأي عمر بن الخطاب من الأوس ، إنما فعلوا ذلك لأن حدة الصراع التاريخي بين الأوس والخزرج لا تزال حية في كثير من النفوس . وإنهم بايعوا أبا بكر فقط ، ليمنعوا الخزرج من هذا الامتياز . ذكر ابن الأثير : (ولما رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من تأمير سعد . قال بعضهم لبعض ، وفيهم أسيد ابن حضير ، وكان نقيبا ، والله لئن وليتها الخزرج مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم فيها نصيبا أبدا . فقوموا فبايعوا أبا بكر . فبايعوه . فانكسر على سعد والخزرج ما أجمعوا عليه ، وأقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب) .
غير أن سعد بن عبادة ، لم ينكسر أمام هيمنة أبي بكر وعمر . وأبى أن يبايع وأدرك بعض الأنصار طبيعة اللعبة ، وأحاطوا بأطرافها وعلموا أنها بداية لمسيرة طويلة ، وأنها ستحول إلى (دولة) بين أبي بكر وعمر . وفي تلك اللحظة قال أبو بكر للحباب : أمنا تخاف يا حباب؟ قال : ليس منك أخاف ، ولكن ممن يجئ بعدك . قال أبو بكر فإذا كان ذلك كذلك ، فالأمر إليك وإلى أصحابك . ليس لنا عليكم طاعة ، قال الحباب : هيهات يا أبا بكر ، إذا ذهبت أنا وأنت جاءنا بعدك من يسومنا الضيم) (52) .
إن معارضة سعد بن عبادة (رض) لبيعة أبي بكر ، تركت تحديا كبيرا لتيار (الرأي) وتشدده في الرفض لم يكن حبا في الإمارة ، بقدر ما هو رفض لأبي بكر وعمر بن الخطاب . وللطريقة التي ركبوها في إلغاء رأي الآخرين . وتثبيت أنفسهم . فقال يومها سعد ابن عبادة : أما والله لو أن لي ما أقدر به على النهوض ، لسمعتم مني في أقطارها زئيرا يخرجك أنت وأصحابك ، ولألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع . خاملا غير عزيز . فبايعه الناس جميعا ، حتى

(51) ابن الأثير (التاريخ الكامل) (ص 330) .
(52) الإمامة والسياسة (بن قتيبة ص 9) مؤسسة الوفاء بيروت .
لقد شيعني الحسين (ع) 141

كادوا يطئون سعدا . فقال سعد : قتلتموني . فقيل (وفي رواية أخرى قال عمر (53) . اقتلوه قتله الله . فقال سعد : احملوني من هذا المكان فحملوه داره وترك أياما ، ثم بعث إليه أبو بكر : أن أقبل فبايع ، فقد بايع الناس وقومك ، فقال : أما والله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي . وأخصب منكم سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي ، ولا والله لو أن الجن اجتمعت مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم حسابي) (54) وكان من المفترض أن يقتل سعد بن عبادة لتوها ، لولا أن عوامل كثيرة حالت دونه وعمر . والثابت في التاريخ ، والظاهر من الأحداث ، أن عمر ابن الخطاب هو الذي دبر عملية اغتيال سعد . وبتنفيذ هذه العملية يكون عمر بن الخطاب ، أول مشرع للاغتيال السياسي ، وأسلوب تصفية المعارضة جسديا في الإسلام . لقد كان رأي عمر بن الخطاب يرمي إلى إجبار سعد بن عبادة بالقوة إلى مبايعة أبي بكر . غير أن الأمر قد يسبب له خطورة . قال عمر لأبي بكر : لا تدعه حتى يبايعك ، فقال لهم بشير ابن سعد : إنه قد أبى ولج وليس يبايعك حتى يقتل ، وليس بمقتول حتى يقتل ولده معه ، وأهل بيته وعشيرته ، ولن تقتلوهم حتى تقتل الخزرج ، ولن تقتل الخزرج حتى تقتل الأوس ، فلا تفسدوا على أنفسكم أمرا قد استقام لكم ، فاتركوه فليس تركه بضاركم ، وإنما هو رجل واحد . فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد . وكان سعد لا يصلي بصلاتهم ، ولا يجتمع بجمعتهم ولا يفيض بإفاضتهم ولو يجد عليهم أعوانا لصال بهم ، ولو يبايعه أحد على قتالهم لقاتلهم . فلم يزل كذلك حتى توفي أبا بكر وولي عمر ، فخرج إلى الشام ، فمات بها ، ولم يبايع لأحد)(55) .
ويذكر التاريخ أن سعد بن عبادة ، مات مقتولا . وأثناء ذهابه إلى (حوران وبينما هو خارج ليلا ، إذا بسم يطلق على ظهره فقتله . وثبت لدى المؤرخين أن

(53) كاليعقوبي مثلا .
(54) الإمامة والسياسة (ابن قتيبة) .
(55) الإمامة والسياسة بن قتيبة .
لقد شيعني الحسين (ع) 142

المغيرة بن شعبة هو الذي قتله . ونحن نتسأل ، لماذا يقتل سعد بن عبادة ، وما الفائدة أن يقتله إنسان مجهول؟ لقد جاء غسالو صحون (البلاطات) ليثبتوا حقيقة (فكاهية) مفادها أن سعد بن عبادة ( قتله الجن) (56) ذلك لأنه بال في الماء الراكد . وقد أوردوا أبياتا كان قد قالها الجني الذي رماه بالسيف :
قد قتلنا سيد الخزرج سعـد بـن عبادة
و رمينـاه بسهميـن فلن تخـط فـؤاده

ويبدو لي إن الذي قتل سعدا ، كان من الجن السياسين . لأنه يفتخر بقتل (سعد بن عبادة) سيد الخزرج . ولأول مرة تفيض (عبقرة) الجان السياسي في أرض العرب . والظاهر أن الجني ، هو عميل عمر بن الخطاب وهو " جنب بلا شك ، " ما دام أنه متلبسا ومختفيا في جنح الظلام .
ولست أدري لماذا يقتل (سعد بن عبادة) لأنه رفض البيعة . إذا كان أمر البيعة في منطق السقيفة شورى! .
ولم تكن هذه هي الثغرة الوحيدة في أحداث السقيفة وما بعدها فلقد عارض لعبة السقيفة ، غفير من رموز الصحابة الكبار . الذين أشغلهم الخطب بوفاة الرسول صلى الله عليه وآله وعلى قمة المعارضين الإمام علي (ع) .
لقد ذكر المؤرخون إن عليا (ع) وبني هاشم وجماعة من الصحابة ، امتنعوا عن البيعة ، واعتصموا في بيت فاطمة .
(وتخلف قوم غفير عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار . ومالوا مع علي بن أبي طالب . منهم : العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب ، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة والمغيرة ابن شعبة

(56) إحياء علوم الدين الغزالي أبو حامد .
لقد شيعني الحسين (ع) 143

فقال . . الخ) وذكر ابن الأثير : قال الزهري : بقي علي وبنو هاشم والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتى ماتت فاطمة (رض) فبايعوه .
لم يكن عمر ليستريح وهو يرى عليا (ع) وبني هاشم وجماعة الصحابة معتصمين ببيت فاطمة . فأنطلق عمر وجماعة معه . وحثهم على الخروج . فأبوا أن يذعنوا . ويذكر بن قتيبة (فجاء فناداهم وهم في دار علي ، فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده : لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها . فقيل له يا أبا حفص : إن فيها فاطمة؟ فقال وإن ، فخرجوا فبايعوا إلا عليا ، فإنه زعم أنه قال : حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن فوقفت فاطمة (رض) على بابها ، فقالت ، لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله صلى الله عليه وآله جنازة في أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا ، ولم تردوا لنا حقا . . الخ) (57)وكان لهذا الموقف الذي وقفه عمر بن الخطاب ، أثر على بني هاشم وعلى أتباعهم . وخصوصا ذلك الموقف الذي وقفه عمر بن الخطاب يوم أراد أن يحرق على فاطمة الزهراء (ع) دارها ، حيث يتمثله شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدته الشهيرة :
و قولـة لعـلي قالهـا عمـر أكرم بسامعهـا أعظـم بملقيهـا
حرقت دارك لا أبقي عليك بها إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص بقائلها أمـام فـارس عدنـان وحاميها

وبقي علي (ع) رافضا لمبايعتهم . رغم كل المحاولات وفي رواية للطبري :
تزلف علي والزبير واخترط الزبير سيفه وقال لا أغمده حتى يبايع علي فقال عمر خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر فانطلق عليهم عمر فجاء بهما تعبا وقال لتبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان . فبايعا .

(57) - بن قتيبة الإمامة والسياسة (ص 12) . وحديث حرق دار فاطمة ، مجمع على وقوعه ومن رواته بن عبد ربه في العقد الفريد ، والإمامة والسياسة .
لقد شيعني الحسين (ع) 144

وذكر ابن الأثير في تاريخه : (الصحيح أن أمير المؤمنين لم يبايع إلا بعد ستة أشهر . وقيل للزهري حسب رواية الطبري - أفلم يبايع علي ستة أشهر قال لا ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي) .
إننا نريد أن نخرج من هذا الضباب الكثيف من المرويات . لنمسك بنتيجة شافية . فمأساة الإمام علي (ع) في المبايعة كانت من أشهر المآسي في تاريخ الإسلام . ولم يستضعف الإمام علي (ع) في جزيرة العرب يوما ، مثلما استضعف بعد السقيفة على يد من زعموا لأنفسهم مقامات كبيرة . وكان بإمكان الإمام أن يحولها إلى فتنة ضاربة . ولكنه خاف على العقول الصغيرة والقلوب المشوهة ، أن يشدها الكفر إليه مرة أخرى ، وتستكين إلى الردة بعد أن أسلمت تحت وقع الحراب . إنه بقي صامتا . وترك التاريخ يتحدث عنه بالوكالة وهو (ع) لم يكن إلى هذه الدرجة حتى يستطيع رجل مثل عمر بن الخطاب فرار أحد ، وجبان خيبر أن يقف أمام أبي الحسن (ع) أسد الحروب وعملاقها . ولكنه اختبأ في مجموعة من ضعاف الإيمان ، والطلقاء من أمثال (قنفذ) الذي اخترق الباب على حريم البيت الهاشمي ، ليرهب بضعة الرسول صلى الله عليه وآله فاطمة الزهراء (ع) فيفوز برضى برابرة السقيفة نحن هنا نتسأل عن هذا المفهوم الشورى الذي كان شعارا لفريق الرأي . إن الشورى كما فهمها الاجتماع البشري منذ النشوء الأول للاجتماع ، إنها استخلاص حر للآراء والقرارات من قبل المجتمع . وإن هذه الشورى جاءت لتحل معضلة الاستبداد الذي أرهق الاجتماع البشري ، إن مفهوم الشورى يعني معرفة رأي الآخر واحترامه . وليس الشورى إلا تعبيرا آخر عن احترام الآخر ورأيه في إطار الحرية . ليست الشورى طريقة إرهابية لاستطلاع الرأي ثم الحكم على صاحبه بالإعدام - كما الحال بالنسبة إلى سعد بن عبادة الخزرجي (رض) فهذه صورة أخرى للاستبداد . كما أن الشورى لا تعني إرهاب الآخر وإكراهه على الاعتراف بالرأي المقابل بالقوة والعنف . فحتى (الديمقراطيون) الذين مارسوا لفظا من الشورى في بعدها الوضعي ، كانوا يحترمون الرأي الآخر . وحتى لو كان ذلك الرأي ضدهم ، فهم يحاولون منع هذا عن تطبيق رأيه فقط! إن عمر لما جاء إلى بيت فاطمة (ع) وشرع في التحضير لحرقها ، لم ينسجم مع روح الشورى لا

لقد شيعني الحسين (ع) 145

في مفهومها الديني ولا الوضعي . بقدر ما هي همجية قبلية ، بدوية ، من أجل إكراه من في بيت فاطمة على المبايعة ، لأمر ما ناقشوه ، ولا أتيحت لهم الفرصة لمناقشته . وقف عمر بن الخطاب كصاحب قرار يجب على الإمام علي (ع) الاذعان له . من دون أن يعطي دليلا عمن خوله صلاحية إصدار القرارات .
وأراد من الإمام علي (ع) أن يكون منفذا ، لا مسائلا على الأقل . فعمر بن الخطاب فرض رأيا في السقيفة ، ومارس استبداده على الآخرين وطلب من الإمام علي الخضوع لهذا القرار الاستبدادي . ومن يا ترى الإمام (ع)؟ :
أولا : - هو أساس قيام الأمة الإسلامية بمؤازرته وبلائه و . .
ثانيا : - هو الأعلم ، والأحكم والأقضى .
ثالثا : - هو الأتقى ، والأحرص على وحدة الصف! والروايات المستفيضة بل المتواترة عن رسول الإنسانية الخالد دلت على ذلك بصريح العبارات وتكفي قولة الرسول صلى الله عليه وآله (علي مع الحق والحق مع علي) . لا بد من الاعتراف إن عمر بن الخطاب قد أخطأ ، وإن خطأه كان أساسا لكل المفاسد التي قامت فيما بعد .
والحلقة الأساسية في سلسلة الانحراف الذي شهدته الأمة . والذي يتحدث هنا عن الخطأ ، هو هو عمر - نفسه لما قال : إن بيعة أبا بكر يوم السقيفة ، فلتة وقانا الله شرها ، فمن عاد إليها فاقتلوه)(58) .
إن الذي يجعل عمر بن الخطاب يرى عقوبة (القتل) لمن سلك طريقة السقيفة . هو نفس التعليل الذي يمكن أن ينطبق عليه . وهو حكم على نفسه إنه أخطأ خطأ يوجب القتل . ولكنه عاد إليه في نهاية عمره . ليقتدي بأبي بكر في الوصية مع أن أبا بكر في حد ذاته هو صنيعة الوضع - المنفلت في السقيفة .
كان أبو بكر وعمر بن الخطاب ، مخطئين ، ومتجاوزين للنص ، والملابسات

(58) الطبري عن بن عباس .

السابق السابق الفهرس التالي التالي