لقد شيعني الحسين (ع) 278

قالوا : (الحمد لله الذي أخرجه من بيننا) (212) .
وتولى بعد ذلك قيس مهمة القيادة في جيش الحسن (ع) وبعث برسالة إليه ، يخبره بما وقع من أمر عبيد الله بن عباس . وكان ذلك بمثابة دليل ملموس على مدى اهتزاز جيشه . فازداد يقينا ، وخف اعتماده على هذا الجيش . أما معاوية ، فدامت عملياته الدعائية داخل الجيش ، بحثا عن العناصر الأخرى ، ذات الأطماع الرخيصة . فزاد في نشر العيون ، وإشاعة البلبلة . خصوصا لما رأى مخططه قد نجح ، وكان مما أذاعه في (المدائن) إن قيس بن سعد قد صالح معاوية ، ودخل صفه ، كما أذاع - حسب اليعقوبي خبر مقتل (قيس بن سعد) .
وسار على ذلك النهج ، ينشر الرعب والذعر في العراقيين ، ويغريهم بالمال والمناصب أحيانا .
وكانت كل إشاعة تنشر تجد لها من يصدقها ، فليس مستحيلا أن يغدر قيس جيشه ويخونه ، ما دام عبيد الله قد فعلها وهو من هو في ولائه وقربه من الإمام الحسن (ع) بل وقد صدق بعضهم إشاعة أن الحسن قد صالح معاوية ، فكل شئ وارد ، لقد اختلطت الأوراق ، والكل بات متهما حتى تثبت له البراءة! وقد عانى الإمام الحسن (ع) الأمرين من جيشه أكثر من معاوية ، فماذا يفعل الإمام الحسن (ع) بجيش مريض . لقد أغدق معاوية أمواله ورشاويه ، ولم يغرهم الإمام الحسن (ع) إلا بالجهاد والجنة ، فكان إن هرب عبيد الله مع ثمانية آلاف إلى معاوية ، وهرب الكندي إليه مع مائتي رجل بعد أن أغراه معاوية بخمسمائة ألف درهم ، وكان الإمام الحسن قد وجهه قائدا على أربعة آلاف ليعسكر بالأنبار (213) .
وعمت السرقة في صفوف الجيش ، فراح ينهب بعضهم بعضا ، لما سمعوا أن

(212) نفس المصدر السابق .
(213) البداية والنهاية .
لقد شيعني الحسين (ع) 279

قيسا قد قتل ، ولما أذاع المغيرة بن شعبة وعبيد الله بن عامر وعبد الرحمن بن الحكم أن الحسن (ع) قبل الصلح ، ويذكر الطبري أنهم نهبوا بعضهم بعضا حتى انتهبوا سرادق الحسن ، واستلبوا منه رداءه (214) ، وراح بعضهم يكفره على غرار ما فعل الخوارج بأبيه ، فقال بعضهم وأراه من الخوارج المندسين (أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل) .
وتعرض الإمام الحسن (ع) إلى عمليات اغتيال من قبل عناصر جيشه ، فجاءه مرة واحد من بني أسد - الحراح بن سنان - وأخذ بلجام بغلته ، وطعن الإمام في فخذه فاعتنقه الإمام وخرا إلى الأرض . حتى انبرى له عبد الله بن حنظل الطائي ، فأخذ منه (المغول) وطعنه به . وطعن مرة أخرى في أثناء الصلاة (215) .
ماذا يفعل الإمام بعد كل هذا ، إنه رغم الإشاعات وما فعلته في جيش الإمام ، رأى أن ينبه جيشه إلى مضاعفات السلام مع معاوية ، لعلهم يفهمون .
إن معاوية يواجه الإمام الحسن (ع) بنفوذ قوي ، له عناصره داخل جيشه نفسه ، فلا بد من قبول الصلح ، حفاظا على الحد الأدنى من مصلحة الأمة ، التي كانت يومها في حقن الدماء . وما دام إن الإمام الحسن (ع) يرى أن معاوية بلغ من العمر ما يكفيه ، فإنه فضل الانتظار ، بأن تكون الخلافة لبني هاشم من بعد معاوية .
فبدأ يهئ أصحابه للقبول بالصلح ، قائلا : (إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناع) . ثم قال : أيها الناس : إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إنما هو حق أتركه لإصلاح أمر الأمة ، وحقن دمائها (216) .
عرف إن قتال معاوية قد يؤدي إلى سفك الدماء ، ومحو الصلحاء ، وإذلال

(214) اليعقوبي .
(215) ينابيع المودة .
(216) الأعيان ، للسيد الأمين .
لقد شيعني الحسين (ع) 280

المؤمنين :
(والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما ، والله لئن أسالمه وأنا عزيز ، أحب إلى من أن يقتلني وأنا أسير أو يمن علي فتكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر ولمعاوية لا يزال يمن بها هو وعقبه على الحي منا والميت) (217) .
لقد تمثل الإمام ، مشهد الحديبية ، يوم قبل الرسول صلى الله عليه وآله بالصلح مع المشركين ، فرأى أن ذلك أمر ضروري أيضا مع أبنائهم اليوم ، لأن ميزان القوى غير متكافئ ، وما كان للإمام الحسن أن يرضخ للصلح إلا بعد أن نادى به معاوية ونشر في الناس من يشيعه .
وكان معاوية قد بعث إلى الحسن سرا ، ليصالحه فأبى الحسن (ع) حتى أجابه بعد ذلك (218) .
ألفى الإمام نفسه لدى معضلة تستلزم شجاعة في الاختيار والقرار ، فإما أن ينازع معاوية في السلطان ، ليكون له ، أو يتركه على أن يكون له من بعده ، فالإمام الحسن ، لم يكن يعدو خلف الملك والحطام ، ولا أحد من أئمة أهل البيت (ع) كان كذلك ، ولو كان الأمر كذلك ، لنازع معاوية الملك وزج بالجيش في معركة شاملة ، أو طلب اللجوء إلى معاوية ، ليوليه على أحد البلدان أو ينظر في أمره .
إن الأمر كان يختلف تماما ، تماما . فهو نظر إلى المستقبل . فليربح القدر القليل من مصلحة المسلمين ، ويعود الأمر إلى أهله . فلو دخل في حرب مع معاوية ، فربما سيبقى الأمر كذلك ، وربما خلف معاوية من يسير أكثر منه في طلب الملك والفتنة في أمة الإسلام .
فما كان له (ع) إلا أن يستجيب للصلح وهو يدرك أهداف الأمويين ، مثلما

(217) الإمام الحسن بن علي : باقر شريف القرشي / ج 2 - ص 133 مؤسسة الوفاء ، بيروت - لبنان .
(218) تذكرة الخواص سبط بن الجوزية .
لقد شيعني الحسين (ع) 281

استجاب جده للصلح مع المشركين وهو يعلم نفوسهم .
وذكر ابن عبد البر ، في الإستيعاب ، بأن وثيقة الإمام في الصلح كانت تتضمن شروطا معينة ، قال :
(إن الإمام كتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشئ كان في أيام أبيه ، فأجابه معاوية وكاد يطير فرحا إلا أنه قال : أما عشرة أنفس فلا أؤمنهم ، فراجعه الحسن فيهم فكتب إليه يقول : إني قد آليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده ، فراجعه الحسن إني لا أبايعك أبدا وأنت تطلب قيسا أو غيره بتبعة ، قلت أو كثرت! فبعث إليه معاوية حينئذ برقا أبيض وقال : أكتب ما شئت فيه وأنا ألتزمه ، فاصطلحا على ذلك ، واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده ، فالتزم ذلك كله معاوية) .
ويذكر أبو الفداء في تاريخه إن الإمام الحسن اشترط على معاوية هذه الشروط :
(وكتب الحسن إلى معاوية واشترط عليه شروطا وقال : إن أجبت إليها فأنا سامع مطيع ، فأجاب معاوية إليها ، وكان الذي طلبه الحسن أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة ، وخراج دار ابجرد من فارس ، وأن لا يسب عليا ، فلم يجبه إلى الكف عن سب علي فطلب الحسن أن لا يشتم عليا وهو يسمع فأجابه إلى ذلك ، ثم لم يف له به) .
ويؤكد على ذلك أيضا ، كل من ابن الأثير ، والطبري ، إذ قال الحسن : وأنا قد اشترطت حين جاء كتابك وأعطيتني العهد على الوفاء بما فيه ، فاختلفا في ذلك ، فلم ينفذ للحسن من الشروط شيئا) .
ثم كان الشئ المركزي في شروط الصلح ، أن ترجع الخلافة بعده للحسن (219) ، فإذا لم يكن الحسن ترجع إلى الحسين (ع) .

(219) تهذيب التهذيب ، الإمامة والسياسة ، الإصابة ، الطبقات الكبرى ، الشعراني .
لقد شيعني الحسين (ع) 282

هناك منطقان كانا يواجهان الإمام الحسن (ع) الأول : منطق الثورة والثاني منطق الاصلاح . وعندما يفشل في الثورة على الواقع الأموي . فإنه لا يفرط في منطق الاصلاح ، ووثيقة الصلح تضمنت ذلك ، فهناك من قتل أبوه مع علي (ع) في الجمل وصفين ، ويدرك الحسن أن معاوية آخذهم لا محالة بالانتقام ، بأن يمنع عنهم العطاء ، لذلك طلب ضمن المعاهدة بأن يوزع عليهم ألف ألف درهم ، ويجعلها من خراج دار ابجرد . فلم يكن طلبه لخراج (دارابجرد) كما أورد أبو الفداء ، سابقا ، بطمع في الحطام من قبل الحسن ، وإنما من أجل ضمان مورد مادي ليتامى شهداء صفين والجمل ، الذين قد يواجهون حالة البؤس في حكومة معاوية .
كما أن الحسن يعرف أن أصحابه وشيعته المقربين قد تطالهم يد معاوية ، للانتقام ، فكان لا بد أن يشترط عدم إلحاق أي أذى بهم .
واشترط عدم سب الإمام علي (ع) لأن ذلك يحرف فضائل الصالحين ورموز الأمة في عين الناس . ولأن ذلك مخالف للإسلام ، وكيف لا يخالفه والإمام علي (ع) أحد الأركان الذين قام الإسلام على أكتافهم .
هذه باختصار ، هي خلفيات الصلح ، التي يمكن تلخيصها في الآتي :
1 - تماسك كامل في جيش معاوية ، يقابله انشطار في جيش الإمام الحسن (ع) .
2 - دعم مالي قوي وهائل لعناصر الجيش الأموي ، مقابل الفقر والحاجة في صفوف الجيش العراقي .
3 - جهل مطبق في جيش الشام ، يقابله وعي أعرج ومبتور في أغلبية الجيش العراقي ، الجهل الشامي الذي يؤدي إلى التمحور المضاعف حول معاوية ، والوعي المبتور الذي يؤدي إلى هروب الجيش العراقي وعدم استجابته للإمام الحسن (ع) (220) .

(220) الإمامة والسياسة ، تاريخ ابن عساكر .
لقد شيعني الحسين (ع) 283

طاعة مطلقة في جيش الشام ، تقابلها انشقاقات وتجزئات داخل جيش العراق .
كل هذا وأكثر منه ، جعل معنويات الجيش العراقي تنهار ، وتلتمس الاستقرار ، وحطام الدنيا .
أدرك معاوية أن الإمام الحسن بقي وحده في الميدان ، وأن جيشه لا يعدو كونه نمور من ورق ، يعشعش الرعب والتمزق في أعماقها . وأدرك أن صلح الحسن إنما كان لأن هذا الأخير لم يجد عليه عونا (221) ، فهو صلح من موقف ضعف ، ضعف في الأمة! لذلك مزق معاوية الوثيقة ، ونقض العهد ، وتلاعب بالأوراق . استمر معاوية في سب الإمام علي (ع) ولعنه على المنابر ، وصارت سنة لأهل الشام يرددونها بعد كل صلاة ، وكأن الصلاة لا تقبل إلا بسب علي (ع) . هذا الذي قام الإسلام به ، وبه كان الصحابة يميزون بين منافق مبغض له ومؤمن محب له ، حتى قال الشاعر :
أعلى المنابر تعلنون بسبه وبسيفه نصبت لكم أعوادها

وذكر صاحب العقد الفريد - إن أبا عبد الله الجدلي قال : دخلت على أم سلمة - زوجة الرسول صلى الله عليه وآله فقالت لي : أيسب رسول الله صلى الله عليه وآله فيكم؟ فقلت :
معاذ الله ، أو سبحان الله ، أو كلمة نحوها فقالت :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : من سب عليا فقد سبني .
وقال يومها مروان بن الحكم : لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك - أي بسب علي (ع) (223) .
ثم رفض معاوية أن يسلم للحسن ، خراج دار ابجرد ، لدعم الفقراء من

(221) يذكر ابن مسكويه في تجاربه إن الإمام الحسن قال : يا أهل العراق ، إنه سخي بنفسي عنكم ثلاث : قتلتم أبي ، وطعنكم إياي ، وانتهابكم متاعي .
(222) كما في مستدرك الصحيحين : عن أبي عبد الله الجدلي .
(223) الصواعق المحرقة ص 33 .
لقد شيعني الحسين (ع) 284

شيعته ، ونقض هذا الشرط أيضا حسب ابن الأثير والطبري وأبي الفداء . وبدلا من ذلك عمد معاوية إلى محو آثار الشيعة ، وسحقهم عن آخرهم ، وجعل عليهم عمالا بطاشين ، جبابرة ، عاثوا فيها فسادا ، وشردوهم وقتلوهم ، وخطب فيهم معاوية (انظروا إلى من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه) . وكان من الذين سقطوا ضحايا على مذبح العقيدة والولاء الهاشمي ، الصحابي الجليل (حجر بن عدي) ، ذلك الذي ما زال سيفه ذابا عن الإسلام وتحت راية الرسول صلى الله عليه وآله وما قتلوه إلا لأنه رفض عليهم سب الإمام علي (ع) ولعنه من على المنابر وفي الصلوات ، وضاقت به الطغمة الأموية . ونظرت في أمره ، بعد أن أصبح له أنصار يرومون التصحيح والنهي عن المنكر ، فما كان إلا أن عزموا على معاقبته ، فراح زياد ، يطلبه . وقد التف حجر بجماعة من أنصاره الكوفيين ، التي دهش منها زياد فقال موجها خطابه لأهل الكوفة :
(يا أهل الكوفة ، أتشجون بيد ، وتأسون بأخرى ، أبدانكم علي وأهواءكم مع حجر الهجهاجة ، الأحمق المذبوب ، أنتم معي وإخوانكم وأبناؤكم وعشائركم مع حجر ، هذا والله من دحسكم (أي : افسادكم) وغشكم والله لتظهرن لي براءتكم أو لأتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم) (224) .
ثم ما فتئ أن سلمه الكوفيون إلى الشرطة الأموية ، لينفذوا فيه جريمة الإعدام .
ولم يكن دافع حجر ، سوى إيمانه ، ومن هو حجر (ع) حتى لا يخونه أهل الكوفة ، ولا يقتله معاوية صبرا . لقد خان الكوفيون الإمام عليا (ع) وبنيه ، وقتل الأمويون خيرة آل البيت (ع) فدعا ربه :
(اللهم إنا نستعديك على أمتنا فإن أهل الكوفة شهدوا علينا وإن أهل الشام يقتلوننا ، أما والله لئن قتلتموني بها فإني لأول فارس من المسلمين هلك في واديها

(224) الإمام الحسن / باقر شريف القريشي .
لقد شيعني الحسين (ع) 285

وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها) .
ثم قال : لا تطلقوا عني حديدا ، ولا تغسلوا عني دما ، فإني ملاق معاوية على الجادة (الإستيعاب 1 / 256) .
وكان من المنكرين لذلك عائشة إذ قالت لمعاوية : أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه (225) .
وقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء (226)

(225) الطبري .
(226) مروج الذهب - أقول إن قاتلة الحسن ، أغراها ترف الأمويين ، فلو صدق (حي) فيما ذهب إليه من أن الحسن كان يميل إلى الترف والبذخ ، إذن لما اضطروا (جعدة) إلى قتله لقاء مائة ألف درهم .
لقد شيعني الحسين (ع) 286




لقد شيعني الحسين (ع) 287

قتل الحسن . . المؤامرة الكبرى

لقد قويت شوكة الأمويين ، وركعت الجزيرة تحت أقدامهم ، فأرهبوا أهلها ، وقتلوا خيرتها ، فما قام لهم قائم يردهم ، ولا ممانع يزجرهم . ونظروا في وثيقة الصلح فوجدوها مثقلة بشروط لا تتفق ومشروعهم التخريبي . وأي دين ، وأي ضمير ، يمنعهم من مخالفة العهد ونقض الميثاق ، وقد قتلوا خيرة المسلمين وأفسدوا في الأرض فسادا عريضا . إلا أن معاوية أدهى من أن يتسرع في اتخاذ القرار .
وفضل أن يتخلص من الحسن ، لأن في التخلص منه تخلص من الوثيقة .
ولكن يجب أن يتم القتل في ظروف غامضة ، فنظر إلى أقرب الناس إلى الإمام الحسن (ع) وأكثرهم عداء له ، فوقع نظره على (جعدة بنت الأشعث) إحدى أزواج الحسن (ع) وكان لهذا الاختيار أسبابه التي أدركها معاوية بدهائه البشع ، وهي :
1 - إن أباها (الأشعث بن القيس) وهو الذي فرض على الإمام علي (ع) التحكيم ، ورفض عليه انتداب ابن عباس والأشتر .
2 - كانت تعاني عقدة النقص ، لأنها لم تنجب من الحسن أبناء ، بخلاف نسائه الأخريات .
3 - هي من عائلة مهيأة للتآمر على آل البيت ، فقد كان أبوها قد شرك في دم الإمام علي (ع) وابنه شرك في دم الحسين - فيما بعد - .

لقد شيعني الحسين (ع) 288

فأغراها معاوية بالمال وبمستقبل زاهر حيث بشرها بالزواج من ابنه يزيد ، ومائة ألف درهم ، ولماذا لا تختار يزيد ، فأبوها وأخوها لم يصمدا أمام دنيا معاوية وبنيه ، وما ردهم الضمير عن إلحاق الأذى بالعترة الطاهرة . ولماذا لا تختاره والدنيا كلها معه . وليس لها من الحسن إلا الشرف والدين والورع ، فهي في حاجة إلى زوج يلاعب القرود مثل يزيد ، ويشرب الخمر ، فيمرح ، ويدع الصلاة فيلهو ، فأولى لها ذلك من الحسن ، الذي يضيق على متعتها بالصلاة والقيام والزهد .
إنه يزيد القصور والدنيا . فهل المرأة من هذا النوع الذي يسمو على الدنيا .
راح الإمام الحسن ضحية زهده ، وورعه ، فليس له من الدنيا إلا التهجد والعبادة وإحقاق الحق . وهذا زاد لا يستهوي النساء ، فقبلت الصفقة ، وكان مروان بن الحكم ، هو عراب المخطط بينها ومعاوية .
وفيما كان الإمام الحسن (ع) صائما ، إذا بها تقدم له إفطارا وقد دست فيه السم الذي أرسله إليها معاوية عبر مروان بن الحكم ، فتناوله (ع) فتقطعت أمعاؤه ، واشتد عليه الألم ، واستبشر بالجنة ولقاء الأحبة ونظر إليها وقال :
(يا عدوة الله ، قتلتيني قتلك الله ، والله لا تصيبين مني خلفا ، ولقد غرك معاوية ، وسخر منك يخزيك الله ويخزيه) (227) .
ونفذت الخطة ، وانتهى أمر الحسن ، وكان على مسممة الأزواج (228) أن تلتمس الأجر .
وخسرت زوجها ، ورفض معاوية تزويجها بيزيد ، إذ كيف يزوج من قد خانت أشرف زوج تمنته النساء . ومعاوية يدرك كل ذلك فهو يعرف إن الناس إنما انقادوا له لماله وسلطانه .
فقال لها : إنا نحب حياة يزيد ، ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه) (229) .

(227) تحف العقول .
(228) هذا هو الاسم الذي كان يطلق عليها - أعيان الشيعة - .
(229) مروج الذهب .
لقد شيعني الحسين (ع) 289

وذكر بعض المؤرخين - مثل أبي الفداء إن يزيد هو الذي سمه وليس أباه ، بل وعارض بعض المؤرخين (الكاريكاتوريون) أن يكون معاوية قد سم الحسن ، وعلى رأسهم ابن خلدون ، ومن رجع إليه ، من أمثال د . فيليب حتى وعبد المنعم في - التأريخ السياسي - وحجتهم في ذلك التي عارضوا بها المؤرخين الموثقين ، إن ذلك لا يمكن صدوره عن معاوية ، فهي وجهة نظر قائمة وصادرة عن موقف نفسي معين ، يقول ابن خلدون :
(وما ينقل من أن معاوية قد دس السم إلى الإمام الحسن على يد زوجته جعدة بنت الأشعث فهو من أحاديث الشيعة ، وحاشا لمعاوية ذلك) (230) .
ابن خلدون كغيره ، كان يؤرخ لعصبيته ، وللبلاط ، وإلا كيف يرفض حدثا وهو الذي أخذ (فكرة السبئية) على علتها من تاريخ الطبري . أما عن أن الشيعة هم الذين وضعوا الرواية ، فإن الرواية تثبت عند أهل السنة ، وذكرت في تذكرة الخواص ، والإستيعاب وتأريخ أبي الفداء والنصائح الكافية ومروج الذهب وابن أبي الحديد .
وكيف يستبعد ابن خلدون أن يأتي معاوية بذلك ، وهذا التاريخ يعلن الأخبار مجلجلة ، حول جرائم معاوية . وماذا يمنع معاوية من الحسن ، وقد رام قتل أبيه ، وخيرة الصحابة . لقد دافع ابن خلدون عن طواغيت التاريخ ، وحرف الكثير من الحقائق تزلفا للبلاط . ثم ما أن التحق الإمام الحسن (ع) بالرفيق الأعلى ، حتى جاء الخبر إلى معاوية ، ففرح وسر ، ثم سجد وسجد من كان معه (231) .
ورفض بنو أمية أن يدفن الإمام الحسن بجوار النبي صلى الله عليه وآله ، واتصل كل من مروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص بعائشة وحرضاها على ذلك ، فمنعت أن يدفن بجوار جده وقالت : لا تدخلوا بيتي من لا أحب ، إن دفن الحسن في بيتي

(230) تاريخ ابن خلدون .
(231) ابن قتيبة : التاريخ : ص 175 .
لقد شيعني الحسين (ع) 290

لتجز هذه - وأومأت إلى ناصيتها - وذكر كل من ابن أبي الحديد ، والسبط الجوزي واليعقوبي وأبو الفداء ، منع عائشة لدفن الحسن (ع) بجوار جده . بل وذكر ابن عساكر ، إنه حدث بين لواء مروان ولواء الحسين رمي بالسهام بخصوص مسألة (الدفن)! وشاع خبر الفاجعة ، وبكت الحسن ، البلدان ، وكانت تلك بمثابة محطة ، أعاد فيها الناس نظرهم وصوبوه في قضية البيت الهاشمي ، فرقت قلوبهم ، وأرهفت مشاعرهم تجاه المأتم .

لقد شيعني الحسين (ع) 291

واشرأب الملك بنفسه

كان موت وثيقة الصلح بالنسبة لمعاوية أمرا ضروريا ، لذلك كان قتل الحسن!.
وأهم شرط ظل معاوية يدرس إمكانية نقضه ، هو إرجاء الخلافة إلى الحسن أو إلا الحسين في حالة موت الحسن ، لقد انتهى الحسن ، وانتهت معه الوثيقة ، فدبر معاوية أمر المستقبل فرأى أن يأخذ البيعة لابنه يزيد . ليتحول أمر الخلافة إلى ملك عضوض ، ولتبدأ رحلة المسخ في الأمة ، وسار معاوية يفرض على كل البلاد ، البيعة لابنه يزيد ، ويأمر عماله بممارسة القمع والبطش لإرغام المسلمين على قبول بيعة يزيد وكان أهل المدينة ممن رفض ، وكان عليها سعيد بن العاص (232) وكانت بنو هاشم في مقدمة الرافضين للبيعة .
أبعد هذا كله ، كيف يأتي مؤرخة البلاط ، ليجدوا الأعذار لمعاوية بن أبي سفيان ، وأي عذر بعد قتله للمسلمين ، وتحريفه لمسيرة الحكم في الإسلام ، لقد وجدوا الأعذار لمعاوية في إراقة دماء آل البيت وفي تخريب الأمة وتفريغ الإسلام من محتواه ، ولم يجدوا عذرا واحدا للمختار الثقفي إذ يخرج على بني أمية طلبا للتغيير! .

(232) مروج الذهب .
لقد شيعني الحسين (ع) 292

وقف معاوية متحديا جماهير الإسلام ، ووجه كلمته القارصة إلى أهل الكوفة :
(يا أهل الكوفة! أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج ، وقد علمت أنكم تصلون ، وتزكون ، وتحجون؟ ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم وقد أتاني الله ذلك ، وأنتم كارهون ، ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين (233) .
ثم بايع ليزيد بالشام ، عقب وفاة الحسن (ع) وبعث لعماله يطلب منهم تهيئة الناس لبيعة يزيد ، فتمردت الأغلبية ، غير أن قوة السلطان قد أجبرتهم على الاذعان فما بقي إلا مجموعة من المتمردين ، اعتصموا بالحسين (ع) .
فقام معاوية خطيبا في الناس بخطبته الشهيرة :
فإني قد أحببت أن أتقدم إليكم إنه قد أعذر من أنذر ، إني كنت أخطب فيكم فيقوم إلى القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح وإني قائم بمقالة فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه فلا يبقين رجل إلا على نفسه (235) .
ودعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال له : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيفه فإن ذهب رجل منهم يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما ثم خرج وخرجوا معه حتى رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال :
إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبرم أمر دونهم ولا يقضي إلا عن مشورتهم وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد فبايعوا على اسم الله .

(233) المصدر نفسه انظر أيضا : العدالة الاجتماعية : سيد قطب .
(234) ابن قتيبة .
(235) ابن الأثير .
لقد شيعني الحسين (ع) 293

بايع الناس تحت ظروف القمع والبطش الشديدين ، وبقي الإمام الحسين وجماعة لم تبايع .
واتفق أن أخذت المنية معاوية بعد أن وغل في السبعين . وبعد أن ترك مقاليد السلطة لمجموعة من الغلمان على رأسهم ابنه الفاسق ، يزيد ، حيث أذلت بيعته المؤمنين .

لقد شيعني الحسين (ع) 294




لقد شيعني الحسين (ع) 295

وملك يزيد

دخل يزيد معمعة السلطة في بداية رجب من سنة 60 حسب اليعقوبي ، وكان لا بد أن يرسي عرشه على كل الرؤوس ، لتذل له ، حتى لو كانت رؤوسا هاشمية ، فبادر بالكتابة إلى عامله بالمدينة ، والوليد بن عتبة بن أبي سفيان وقال له : إذا أتاك كتابي هذا ، فأحضر الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير ، فخذهما بالبيعة لي ، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما ، وابعث لي برؤسهما ، وخذ الناس بالبيعة ، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم ، وفي الحسين وعبد الله بن الزبير ، والسلام (236) .
لقد اقتصر يزيد الطريق متذ البداية ، إذ رام قتل الحسين (ع) بمجرد الامتناع عن البيعة . كان القدر حليف القضية الحسينية ، لم يدعها تغتال في جنح الظلام ، بل أراد أن يهئ لها أسباب الانفجار الفاضح ، كان بود الوليد أن يقتله إذ جاءه وابن الزبير ، فقالا :
نصبح ونأتيك مع الناس ، وأشار مروان على الوليد بعدم السماح لهما بالخروج ، غير أن الأقدار أعمت بصيرة الوليد فتركهما يخرجان ، فخرج بذلك الحسين إلى مكة ، فلبث فيها بضعة أيام وكاتب منها أهل العراق ، فكان ردهم بزعامة ابن أبي هانئ وسعيد بن عبد الله :

(236) نفس المصدر .
لقد شيعني الحسين (ع) 296

بسم الله الرحمن الرحيم ، للحسين بن علي من شيعته المؤمنين المسلمين ، أما بعد فحي هلا فإن الناس ينتظرونك ، لا إمام لهم غيرك ، فالعجل ثم العجل والسلام .
وبعث إليهم بعد ذلك رسوله (مسلم بن عقيل) فأخذ منهم البيعة للإمام الحسين (ع) .
فكان ذلك الخيار الصعب والوحيد للحسين ، لينطلق إلى العراق . إلا أن عيون يزيد قد أخبرته بمسير الحسين (ع) إلى العراق ، فوكل به عبيد الله بن زياد ، لقتاله.
كان عبيد الله بن زياد قد قتل مسلم بن عقيل ، رسول الإمام الحسين إلى أهل الكوفة ، ووصل الخبر إلى الحسين (ع) وقد بلغ إلى (القطقطانه) ، فبعث عبيد الله بن زياد بالحر بن يزيد الرياحي في مجموعة لمنع الحسين (ع) من أن يعدل ، فبعث بعمر بن سعد في جيش جرار ، يهدفون إلى قتل الإمام الحسين (ع) فكان ميدان القتال بكربلاء حيث كان الإمام الحسين (ع) في مقدمة اثنين وسبعين رجلا من أهل بيته وشيعته الخلص . بينما جيش يزيد بلغ أربعة آلاف جندي .
حاول يزيد منذ البداية قتل الحسين (ع) إذا استعصى عن مبايعته ، وما كان الإمام الحسين يرى أن يبايع رجلا من أكبر فساق بني أمية ، فكان الخيار الوحيد أمام الإمام الحسين ، أن يستقبل الموت مع آل بيته الذين أبوا إلى الخروج معه ، إنه التاريخ يعود من جديد ، ليشهد معركة الحق كله ضد الباطل كله إذ ليس الآن أمام جيش بني أمية سوى الحسين (ع) وآل البيت وشيعته القلائل ، وهم بقية الرسول صلى الله عليه وآله .

السابق السابق الفهرس التالي التالي