موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 54

الْمُفْلِحُونَ » (1) ولقد وقفك على ذكر مبين وآية متلوّة « وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا » (2) وهل كان يسوغ له أن يحكّم في دماء المسلمين وفيء المؤمنين مَن ليس بمأمون عنده، ولا بموثوق به في نفسه، هيهات هيهات، هو أعلم بفرض الله وسنّة رسوله، أن يبطن خلاف ما يظهر إلاّ للتقية، ولات حين تقية، مع وضوح الحقّ، وثبوت الجنان، وكثرة الأنصار، يمضي كالسيف المصلت في أمر الله، مؤثراً لطاعة ربّه والتقوى على آراء أهل الدنيا.
فقال يزيد: يا بن عباس إنك لتنطق بلسان طَلِق، تنبئ عن مكنون قلب حَرِق، فاطو ما أنت عليه كشحا، فقد محا ضوءُ حقنا ظلمةَ باطلكم.
فقال ابن عباس: مهلاً يزيد، فوالله ما صفت القلوب لكم منذ تكدّرت بالعداوة عليكم، ولا دنت بالمحبة لكم مذ نأت بالبغضاء عنكم، ولا رضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمس من أفعالكم، وإن تدل الأيام نستقضي ما شُذّ عنا، ونسترجع ما ابتُزّ منّا، كيلاً بكيل ووزناً بوزن، وإن تكن الأخرى فكفى بالله ولياً لنا ووكيلاً على المعتدين علينا.
فقال معاوية: إنّ في نفسي منكم لحزازات يا بني هاشم، وإنّي لخليق أن أدرك فيكم الثأر، وأنفي العار، فإن دماءنا قِبلكم، وظلامتنا فيكم.
فقال ابن عباس: إن رمت ذلك يا معاوية لتثيرن عليك أسُداً مخدّره، وأفاعي مطرّقة، لا يفثؤها كثرة السلاح، ولا تعضّها نكاية الجراح، يضعون أسيافهم على عواتقهم، يضربون قُدماً قُدماً من ناوأهم، يهون عليهم نباح الكلاب، وعواء

(1) المجادلة /22.
(2) الكهف /51.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 55

الذئاب، لا يُفاتون بوتر، ولا يُسبقون إلى كريم ذكر، قد وطّنوا على الموت أنفسهم، وسمت بهم إلى العلياء هممهم، كما قالت الأزدية:
قوم إذا شهدوا الهياج فلا ضربٌ ينهنههم ولا زجر
وكأنّهم أساد غينةَ قد غرثت وبلّ متونها القطر

فلتكوننّ منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك، وكان أكبر همّك سلامة حشاشتك، ولولا طغام من أهل الشام وقوك بأنفسهم، وبذلوا دونك مهجهم، حتى إذا ذاقوا وخز الشفار وأيقنوا بحلوله الدمار، رفعوا المصاحف مستجيرين بها، وعائذين بعصمتها، لكنت شلواً مطروحاً بالعراء، تسفي عليك رياحها، ويعتورك ذبابها، وما أقول هذا أريد صرفك عن عزيمتك، ولا إزالتك عن معقود نيّتك، لكن الرحم الّتي تعطف عليك، والأواصر الّتي توجب صرف النصيحة إليك.
فقال معاوية: لله درّك يا بن عباس، ما تكشف الأيام منك إلاّ عن سيف صقيل ورأي أصيل، وبالله لو لم يلد هاشم غيرك لما نقص عددهم، ولو لم يكن لأهلك سواك لكان الله قد كثّرهم. ثمّ نهض، فقام ابن عباس وانصرف»(1).
فهذه المحاورة زماناً كانت في سنة 42 أو 43 حيث ورد ذكر زياد فيها وهذا أتى معاوية في سنة 42، كما ورد ذكر عمرو بن العاص فيها وهذا مات ليلة الفطر 43، فالمحاورة وقعت في تلك الفترة ما بين 42 و43، ومكانها في الشام، ولم يكن ابن عباس قد أتى معاوية بالشام قبل ذلك فيما أحسب، لأنّ تاريخ الصلح كان في سنة 41 كما مرّ، وابن عباس لم يحضر الصلح ولم يجر معه صلح

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 6/298 - 303 ط دار إحياء الكتب العربية.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 56

ولا معه أمان من معاوية كما مر في كتاب معاوية إليه وهو بالبصرة، ولم يذكر أنّه بعد مغادرته لها في سنة 41 أتى الشام، فلا أستبعد أن تكون المحاورة المذكورة هي الأولى في لقاءاته مع معاوية، وفي صدرها ما يشير إلى ذلك حيث قال معاوية لجلسائه: «انّه قد طال العهد بعبد الله بن عباس وما كان شجر بيننا وبينه وبين ابن عمه...».
وفي رواية عند ابن عساكر في ترجمة ابن عباس ورواها عنه ابن كثيرعن ابن عباس قال: «دخلت على معاوية حين كان الصلح وهو أوّل ما التقيت أنا وهو، فإذا عنده أناس فقال: مرحباً بابن عباس ما تحاكت الفتنة بيني وبين أحد كان أعزّ عليّ بُعداً ولا أحب إليَّ قرباً (منك) الحمد لله الّذي أمات عليّاً، فقلت له: ان الله لا يغلب (يذمّ) في قضائه، وغير هذا الحديث أحسن منه. قال ما هو؟ قلت له: أحب أن تعفيني من ذكر ابن عمي وأعفيك من ذكر ابن عمك. قال: ذلك لك»(1).
وفي لفظ البلاذري قال معاوية: «ما حالت الفتنة بيني وبين أحد كان أعز عليّ فقداً وأحبّ إليّ قرباً منك، فالحمد لله الّذي قتل عليّاً.
فقال ابن عباس: أو غير هذا، تدع لي ابن عمي وأدع لك ابن عمك. قال: ذاك لك.
ثمّ قال: أخبرني عن أبي سفيان؟ قال اللّهمّ انّه تجر فأربح، وأسلم فأفلح، وكان رأس الشرك حتى انقضى.
فقال: يا بن عباس في علمك ما تسرّ به جليسك، ولولا أن اقارضك الثناء لأخبرتك عن نفسك»(2).

(1) البداية والنهاية 8/301 ط السعادة.
(2) أنساب الأشراف 1ق 4/130 تح ـ احسان عباس.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 57

فظهر ممّا مرّ في رواية ابن عساكر أنّه أوّل لقاء كان بين ابن عباس ومعاوية هو الّذي جرى فيه ذكر معاوية للإمام وحمده الله على قتله، وهذا ما أثار في ابن عباس الحمية فقال له ما مرّ، وفي الخبر انّه دخل عليه وعنده أناس، فمن هم أولئك الأناس غير جلسائه وخلطائه، وهم الّذين مرّ ذكرهم في المحاورة السابقة .
يبقى الكلام حول فصول المحاورة مع شخوصها إلى الحلقة الثالثة إن شاء الله، إلاّ أنّا ننبّه القارئ إلى أنّ ابن عباس كان حقّاراً لمعاوية وجريئاً عليه كما يقول بعض الرواة عنه في صدر محاورة رواها ابن عبد ربه في العقد الفريد والحلواني في نزهة السامع وهي طويلة نتركها إلى الحلقة الثالثة، ونذكر ما هو أخصر منها وفيه من الجرأة على معاوية ما بلغ حتى التهديد.
فقد روى ابن عبد ربه في العقد الفريد(1) والجاحظ في أمل الآمل(2) والابشيهي في المستظرف(3) والحموي في ثمرات الأوراق(4) وأنساب الأشراف للبلاذري(5).
قال أبو عثمان الحرامي: «اجتمعت بنو هاشم عند معاوية فأقبل عليهم فقال: يا بني هاشم والله إنّ خيري لكم لممنوح، وإنّ بابي لكم لمفتوح، فلا يقطع خيري عنكم علة، ولا يوصد بابي دونكم مسألة، ولمّا نظرت في أمري وأمركم، رأيت أمراً مختلفاً، إنّكم لترون أنّكم أحق بما في يدي مني، وإذا أعطيتكم عطية فيها قضاء حقكم، قلتم أعطانا دون حقنا، وقصّر بنا عن قدرنا،

(1) العقد الفريد 2/317 ط الأولى و4/9 تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.
(2) أمل الآمل /28 ـ 29 تح ـ رمضان ششن ط دار الكتاب الجديد بيروت سنة 1387.
(3) المستظرف 1/58.
(4) ثمرات الأوراق بهامش المستظرف 1/135.
(5) أنساب الأشراف 1ق 4/111 ـ 113.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 58

فصرت كالمسلوب، والمسلوب لا حمد له، وهذا مع إنصاف قائلكم وإسعاف سائلكم.
قال: فأقبل عليه ابن عباس فقال: والله ما منحتنا شيئاً حتى سألناه، ولا فتحتَ لنا باباً حتى قرعناه، ولئن قطعتَ عنا خيرك، الله أوسع منك، ولئن أغلقتَ دوننا بابك، لنكفنّ أنفسنا عنك.
وأمّا هذا المال فليس لك منه إلاّ ما لرجل من المسلمين، ولنا في كتاب الله حقّان: حقّ في الغنيمة، وحقّ في الفيء، فالغنيمة ما غُلبنا عليه، والفيء ما احتبيناه، ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك منا زائر، يحمله خفّ ولا حافر. أكفاك أم أزيدك؟
قال: كفاني فإنّك لا تفرّ ولا تشج. (وفي لفظ البلاذري: فإنّك تكوي ولا تغوي).
فقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب:
ألا أبلغ معاوية بن صخر فإنّ المرء يعلم ما يقول
لنا حقان حقّ الخمس وافٍ وحقّ الفيء جاء به الرسول
فكلّ عطية وصلت الينا وإن سحبت لخدعتها الذيول
ففي حكم القران لنا مزيد على ما كان لا قال وقيل
أنأخذ حقنا وتريد حمدا له هذاك تأباه العقول
فقال له ابن عباس مجيبا فلم يدر ابن هند ما يقول
فلا تَهجِ ابنَ عباس مجيبا فإنّ جوابه جدع أصيل»

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 59

وفي أخبار الدولة العباسية تفاوت يسير في المحاورة والشعر(1).
ومن هذه المحاورة يعرف القارئ رأي ابن عباس وسائر بني هاشم بما فيهم الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) في مسألة الأموال الّتي كان يبعث بها معاوية إليهم أو يفدون عليه لأخذها، إنّما هي من حقوقهم المفروضة كما بيّنه ابن عباس، بل هي دون ما يستحقونه لكن معاوية يريد التطوّل والمنّة إلاّ أنّ ابن عباس أسكت نامته، وأبطل حجته، حتى استكفاه معاوية واعترف له بأنّه يكوي ولا يغوي.
وكان معاوية يوصي أصحابه باجتناب محاورة رجلين الحسن بن عليّ وعبد الله بن عباس لقوة بداهتهما(2).
إلاّ أنّ ابن العاص فيما يبدو لم يلتزم بوصية صاحبه. فقد روى البلاذري: «انّ عمرو بن العاص قال لعبد الله بن عباس: يا بني هاشم أما والله لقد تقلدتم من دم عثمان كفرم الإماء العوارك، وأطعتم فسّاق أهل العراق في عيبه، وأجزرتموه مرّاق أهل مصر، وآويتم قتلته، وإنّما نظر الناس إلى قريش ونظرت قريش إلى بني عبد مناف، ونظر بنو عبد مناف إلى بني هاشم.
فقال ابن عباس لمعاوية: ما تكلم عمرو الا عن رأيك، وإن أحق الناس أن لا يتكلم في قتل عثمان لأنتما. أمّا أنت يا معاوية فزيّنت له ما صنع، حتى إذا حُصر طلب نصرك، فأبطأت عنه وتثاقلت، وأحببت قتله، وتربّصت لتنال ما نلت.
وأمّا أنت يا عمرو فأضرمتَ المدينة عليه ناراً، ثمّ هربت إلى فلسطين، فأقبلت تحرّض عليه الوارد والصادر، فلمّا بلغك قتله دعتك عداوة عليّ إلى أن لحقت بمعاوية، فبعت دينك منه بمصر.

(1) راجع أخبار الدولة العباسية /54 - 56.
(2) أنظر الأعلام للزركلي سنة 230.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 60

فقال معاوية: حسبك يرحمك الله، عرّضني لك ونفسه فلا جزي خيراً»(1).
وسيأتي في الحلقة الثالثة مزيدٌ ممّا جرى بين ابن عباس وابن العاص في الحجاز وفي الشام، غير أنّا نذكر الآن ما رواه عبد الملك بن مروان:
«قال: كنا عند معاوية ذات يوم وقد اجتمع عنده جماعة من قريش، وفيهم عدة من بني هاشم.
فقال معاوية: يا بني هاشم بم تفخرون علينا؟ أليس الأب والأم واحداً؟ والدار والمولد واحداً؟
فقال ابن عباس: نفخر عليكم بما اصبحت تفخر به على سائر قريش، وتفخر به قريش على الأنصار، وتفخر به الأنصار على سائر العرب، وتفخر به العرب على العجم، برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وبما لا تستطيع له إنكاراً ولا منه فراراً.
فقال معاوية: يا بن عباس لقد أعطيت لساناً ذلقاًً تكاد تغلب بباطلك حقّ سواك.
فقال ابن عباس: فان الباطل لا يغلب الحقّ، ودع عنك الحسد، فلبئس الشعار.
فقال معاوية: صدقت، أما والله إنّي لأحبّك لخصال أربع مع مغفرتي لك خصالاً أربعاً، فأمّا ما أحبّك: فلقرابتك من رسول الله. وأمّا الثانية: فانك رجل من أسرتي وأهل بيتي ومن مصاص عبد مناف. وأمّا الثالثة: فإنّ أبي كان خلاً لأبيك، وأمّا الرابعة: فإنك لسان قريش وزعيمها وفقيهها.

(1) أنساب الأشراف 1 ق 4/94 تح ـ احسان عباس، تاريخ الإسلام للذهبي 2/238 سير أعلام النبلاء للذهبي 3/49.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 61

وأمّا الأربع الّتي غفرت لك: فعدوك عليّ بصفين فيمن عدان، وإساءتك في خذل عثمان فيمن أساء، وسعيك على عائشة أم المؤمنين فيمن سعى، ونفيك عني زياداً فيمن نفى. فضربت أنف هذا الأمر وعينه حتى استخرجت عذرك من كتاب الله (عزّ وجلّ) وقول الشعراء.
أمّا ما وافق كتاب الله (عزّ وجلّ) فقوله « خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا » (1)
وأمّا ما قالت الشعراء فقول أخي بني دينار.
ولست بمستبق أخاً لا تلمّه على شعث أيّ الرجال المهذّب

فاعلم انّي قبلت فيك الأربع الأولى، وغفرت لك الأربع الأخرى، وكنت في ذلك كما قال الأوّل:
سأقبل ممّن قد أُحبّ جميلَه واغفر ما قد كان من غير ذالكا

ثمّ أنصت.
فتكلم ابن عباس فقال بعد حمد الله والثناء عليه. أمّا ما ذكرت أنّك تحبني لقرابتي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فذلك الواجب عليك وعلى كلّ مسلم آمن بالله ورسوله، لأنّه الأجر الّذي سألكم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على ما أتاكم به من الضياء والبرهان المبين، فقال (عزّ وجلّ): « قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى » (2) فمن لم يجب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى ما سأله خاب وخزي وكبا في جهنم.
وأمّا ما ذكرت أنّي رجل من أسرتك وأهل بيتك فذلك كذلك، وإنّما أردتَ به صلة الرحم، ولعمري إنّك اليوم وَصول مع ما قد كان منك فيما لا تثريب عليك فيه اليوم.

(1) التوبة /102.
(2) الشورى /24.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 62

وأمّا قولك إنّ أبي كان خلاً لأبيك فقد كان ذلك كذلك، وقد علمت ما كان من أبي إليه يوم فتح مكة، وكان شاكراً كريماً، وقد سبق فيه قول الأوّل:
سأحفظ من آخى أبي في حياته وأحفظه من بعده في الأقارب
ولست لمن لا يحفظ العهد واقعاً ولا هو عند النائبات بصاحبي

وأمّا ما ذكرت أني لسان قريش وزعيمها وفقيهها، فإنّي لم أعط من ذلك شيئاً إلاّ وقد أوتيته، غير انّك قد أبيت بشرفك وكرمك إلاّ أن تفضّلني وقد سبق في ذلك قول الأوّل:
وكلّ كريم للكرام مفضّلٌ يراه له أهلاً وإن كان فاضلا

وأمّا ما ذكرت من عدوي عليك بصفين فوالله لو لم أفعل ذلك لكنت من شر الأم العالمين. أكانت نفسك تحدثك يا معاوية إنّي كنت أخذل سيدي وابن عمي أمير المؤمنين وسيّد المسلمين وقد حشد له المهاجرون والأنصار والمصطفون الاخيار؟ ولِم يا معاوية أشكاً في ديني؟ أم جبناً؟ أم حيرة في سجيتي؟ أم ضناً بنفسي؟ والله إن لو فعلت ذلك لاختبأته فيَّ وعاتبتني عليه.
وأمّا ما ذكرت من خذلان عثمان، فقد خذله مَن كان أمسّ رحماً به مني، وأبعد رجاءً مني، ولي فيه الأقربين والأبعدين أسوة، وإنّي لم أعد عليه فيمن عدا، بل كففت عنه كما كفّ أهل المروءات والحجى.

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 63

وأمّا ما ذكرت من سعيي على عائشة، فإن الله تبارك وتعالى أمرها أن تقرّ في بيتها وتحتجب في سترها، فلمّا عصت ربّها، كشفت جلباب الحياء، وخالفت نبيّها (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسعنا ما كان منّا إليها.
وأمّا ما ذكرت من نفيي زياداً فإني لم أنفه بل نفاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذ قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) وإنّي من بعد هذا لأحب ما يراك في جميع أمورك»(1).
أقول: إلى هنا أخرج المحاورة صاحب كتاب مختصر تاريخ الخلفاء وقال: «وإنّما أوردنا هذه الحكاية على وجهها، لأنّ فيها مسائل يقع الشك فيها لكل من تأمّلها ويشتهي المخرج منها، والمظنون أن من جعل عبد الله ابن العباس قدوة في ذلك، مع علمه وحلمه وقرباه برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكونه في الفتن واختياره لنفسه، وسار بسيرته وحكم بمثل حكمه كان من الفايزين... اهـ»(2).
ونعود إلى بقية المحاورة برواية الشيخ ابن بابويه الصدوق وقد رواها في كتابه الخصال فقال: «فتكلم عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين والله ما أحبَّك ساعة قط، غير أنّه قد أعطي لساناً ذربا يقلّبه كيف شاء، وان مثلك ومثله كما قال الأوّل (وذكر بيت شعر).
فقال ابن عباس: إن عمراً داخل بين العظم واللحم، والعصا واللحا، وقد تكلم فليستمع فقد وافق قرنا. أما والله يا عمرو إنّي لأبغضك في الله وما اعتذر منه، انك قمت خطيباً فقلت: إنا شانئ محمّد، فأنزل الله (عزّ وجلّ) « إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر » (3)

(1) أنساب الأشراف 1 ق4/94 تح ـ احسان عباس.
(2) مختصر تاريخ الخلفاء ط موسكو سنة 1967 من ورقة 240ب إلى ورقة 241 ب.
(3) الكوثر /3.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 64

فأنت أبتر الدين والدنيا، وأنت شانئ محمّد في الجاهلية والإسلام، وقد قال الله تبارك وتعالى: « لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ » (1) وقد حاددتَ الله ورسوله قديماً وحديثاً، ولقد جهدتَ على رسول الله جهدك، وأجلبتَ عليه بخيلك ورجلك، حتى إذا غلبك الله على أمرك، وردّ كيدك في نحرك، وأوهن قوتك، وأكذب أحدوثتك، نزعت وأنت حسير، ثمّ كدت بجهدك لعداوة أهل بيت نبيّه من بعده، ليس بك في ذلك حبّ معاوية ولا آل معاوية إلاّ العداوة لله (عزّ وجلّ) ولرسوله، مع بغضك وحسدك القديم لأبناء عبد مناف، ومثلك في ذلك كما قال الأوّل:
تعرّض لي عمرو وعمرو خزاية تعرّض ضبع القفر للأسد الورد
فما هو لي ندّ فاشتم عرضه ولا هو لي عبد فأبطش بالعبد

فتكلم عمرو بن العاص فقطع عليه معاوية وقال: أما والله يا عمرو ما أنت من رجاله، فإن شئت فقل، وإن شئت فدع، فاغتنمها عمرو وسكت.
فقال ابن عباس: دعه يا معاوية فوالله لأسمنّه بميسم يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة، تتحدث به الإماء والعبيد، ويتغنى به في المجالس ويتحدث به في المحافل.
ثمّ قال ابن عباس: يا عمرو ما تبدأ في الكلام، فمدّ معاوية يده فوضعها على في ابن عباس وقال له: أقسمت عليك يا بن عباس إلاّ أمسكت، وكره أن يسمع أهل الشام ما يقول ابن عباس، وكان آخر كلامه، إخسأ أيها العبد وأنت مذموم، وافترقوا»(2).

(1) المجادلة /22.
(2) الخصال 1/99 ـ 101 بتقديمي ط الحيدرية.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 65

إنّك لا تشاء أن تَغلِب إلاّ غَلبَت:

ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد(1) والنويري في نهاية الإرب(2): «إنّ عبد الله بن عباس قدم على معاوية وعنده زياد، فرحّب به معاوية وألطفه وقرّب مجلسه، ووسّع إلى جنبه، وأقبل عليه يسائله ويحادثه وزياد ساكت ولم يكلّمه شيئاً. فابتدأ ابن عباس وقال له: ما لك أبا المغيرة كأنّك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجرة؟ قال: لا، ولكن لا يسلّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين، فقال له ابن عباس: ما أدركت الناس الا وهم يسلّمون على إخوانهم، ما ترك الناس التحية بينهم وبين يدي أمرائهم. فقال له معاوية: كفّ عنه يا بن عباس فإنّك لا تشاء أن تغلب إلاّ غلبت».
ولا شك أنّ هذا الموقف الجاف من زياد الّذي أثار ابن عباس فقال له ما قال، قد ترك في نفسه حقداً صار معه يتحيّن الفرصة بالإيقاع بابن عباس، وقد مرّت بنا في أوائل حديثنا عن وفادة ابن عباس إلى الشام ولعلها الأولى كانت، وقد جرى فيها حوار ساخن دار بين معاوية وجلسائه بمن فيهم زياد وبين ابن عباس، وكانت الغلبة له حتى قال له معاوية: لله درّك يا بن عباس ما تكشف الأيام منك إلاّ عن سيف صقيل ورأي أصيل...
كما مرّ بنا أنّ ابن عباس كان معلناً بنفي زياد ـ فيما يبدو من كلام معاوية معه في ذلك، وردّ ابن عباس عليه ـ. ولجميع ذلك تراكمات في نفس زياد، وكلّما كانت مواقف ابن عباس مع معاوية أشدّ كلما حاول زياداً أن ينفذ من خلالها بحجة الإنتقام لمعاوية، لكن معاوية كان أبعد نظراً من زياد في ذلك، فقد

(1) العقد الفريد 1/19 و 2/459 تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.
(2) نهاية الارب 6/14.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 66

ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد قال: «وفي كتاب زياد إلى معاوية يخبره بطعن عبد الله بن عباس في خلافته»، وكرر ذكره في مكان آخر(1) وانّه كتب إليه: «انّ عبد الله بن عباس يُفسد الناسَ عليّ، فإن أذنت لي أن أتوعّده فعلتُ.
فكتب إليه: انّ أبا الفضل وأبا سفيان كانا في الجاهلية في مسلاخ واحد وذلك حلفٌ لا يحلّه سوء رأيك (أدبك) »(2).
أقول: إنّ من معاني المسلاخ: الإهاب، وهو الجلد، والثوب، ومنه سلخت المرأة ثوبها نزعته، ومن المجاز: فلان حمار في مسلاخ إنسان، وفي حديث عائشة ما رأيت امرأة أحبّ اليَّ أن أكون في مسلاخها من سودة، وتمنت أن تكون في هيئتها وطريقتها، ورجل سليخ مليخ شديد الجماع ولا يلقح(3).
فيا هل ترى أنّ معاوية أشار على استحياء، ومن طرف خفي إلى أنّ العباس وأبا سفيان كانا في الجاهلية في مسلاخ واحد، يعني بذلك كناية عن إتيانهما معاً إلى هند أمه؟ والّذي يقرّب الينا هذا المعنى الكنائي ـ وربّ كناية أبلغ من تصريح ـ ما صرح به لابنه يزيد حين جرى بينه وبين إسحاق بن طابة بن عبيد كلام بين يدي معاوية وهو خليفة فقال يزيد لاسحاق: إن خيراً لك أن يدخل بنو حرب كلّهم الجنة ـ أشار يزيد إلى أنّ أم إسحاق كانت تتهم ببعض بني حرب ـ فغالطه إسحاق: إن خيراً لك أن يدخل بنو العباس كلّهم الجنة، فلم يفهم يزيد قوله وفهم معاوية، فلمّا قام إسحاق قال معاوية ليزيد: كيف تشاتم الرجال قبل أن تعلم ما يقال فيك؟ قال: قصدت شين إسحاق قال: وهو كذلك أيضاً، قال:

(1) العقد الفريد 5/11.
(2) نفس المصدر 4/206.
(3) تاج العروس 2/262 سلخ.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 67

وكيف؟ قال: أما علمت ان بعض قريش في الجاهلية يزعمون أنّي للعباس، فسقط في يدي يزيد(1).
وممّا يؤكد هذا المعنى حديث بيعة النساء يوم فتح مكة ومنهنّ هند أم معاوية، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مشترطاً عليهنّ شرائط الإسلام: (وان لا تزنينّ) فقالت هند: «وهل تزني الحرّة» فنظر إلى عمه العباس وتبسم(2).
وذكر الزمخشري: «انّ معاوية كان يعزى إلى أربعة: مسافر بن عمرو وعمارة بن الوليد والعباس بن عبد المطلب والصباح مغنٍّ أسود كان لعمارة»(3).


إنّا كتبنا في الآفاق:

لقد مرّت بنا في أولى محاوراته في الحرمين قول معاوية له: «فإنّا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته، فكفّ لسانك يا بن عباس واربع على نفسك». فأجابه ابن عباس وحاوره حتى خصمه وانتهت المحاورة يقول معاوية وقد بان عليه الفشل والخجل أمام جموع المسلمين الّذين كانوا يستمعون إلى النقض والإبرام، بين المتحاورين في المسجد الحرام فقال: يا بن عباس اكفني نفسك، وكفّ عني لسانك، وإن كنت لابدّ فاعلاً فليكن ذلك سراً ولا يسمعه أحد منك علانية. ثمّ تقول الرواية فرجع معاوية إلى منزله فبعث إليه بخمسين ألف درهم، وثمة روايات زاد فيها الرقم إلى مائة ومائتين. وليس معرفة الرقم الصحيح بذي بال. إنمّا المهم أن نعرف موقف ابن عباس بعد هذه المحاورة هل استجاب لطلب معاوية فلم يتحدث إلى الناس بفضائل الإمام أمير

(1) المثالب للكلبي نسخة المرحوم الشيخ السماوي بخطه.
(2) الفخري في الآداب السلطانية لابن الطقطقي /104ط صادر.
(3) ربيع الأبرار 3/551 باب القرابات والأنساب.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 68

المؤمنين (عليه السلام)؟ وهل كان للمال تأثيره في تغيير المواقف؟ مع أنّ الجواب عن مسألة أخذ ابن عباس للمال قد تبيّن ممّا مرّ في محاورته الّتي لخصها الفضل بن العباس اللهبي في أبياته فراجع. لكن يبقى الجواب عن مدى استجابة ابن عباس لطلب معاوية في عدم ذكره مناقب عليّ (عليه السلام) وأهل بيته. تحت تأثير الترغيب بالمال أو الترهيب بالقوة فنقول: من خلال متابعتي لمواقف ابن عباس مع أعداء الإمام تبيّن لي إنّه كان ابن جلاها وطلاع ثناياها في تحدي السلطة وإعلان معارضته، عن طريق التحدث بفضائل الإمام (عليه السلام)، وكلّ تلك المواقف تنتهي بفوزه على خصومه، وجملة منها كانت في أيام حكم معاوية، فهو لم تلن له قناة، ولم تقرع له صفاة، بل كان مثجاً يسيل غربا، واذا أردت عرض جميع ما وقفنا عليه فاحتاج إلى وقت طويل يعيقنا عن متابعة تاريخه ونحن بهذا السبيل، إلاّ أني أعرض بعض نماذج فيها تحدٍ تسافر لبيان السلطة وصاحبها، ولم أقف على مورد واحد فيه عقاب أو عتاب جوبه به، وهذا يعني أنّ ابن عباس في هذا الميدان كان أقوى من سلطة معاوية، وسلاحه فيه أمضّ وأمضى.
فإلى نماذج من مرويّاته ومواقفه في هذا الباب:


1- تسعة رهط يفسدون في الأرض:

قد روى هذه الواقعة أحمد في مسنده، والنسائي في الخصائص، والحاكم في المستدرك، والذهبي في تلخيصه وآخرون نيّفوا على العشرة كما سيأتي ذكرهم وموارد رواياتهم في مصادرهم جميعاً في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى.
أمّا الآن فإلى الحديث برواية عمرو بن ميمون قال: «إنّي لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط. فقالوا: يا بن عباس إمّا أن تقوم معنا وإمّا أن يخلونا هؤلاء؟ ـ وأشاروا إلى جلسائه ـ فقال ابن عباس: بل أقوم معكم ـ وهو يومئذ

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 69

صحيح قبل أن يذهب بصره ـ فانتبذوا وابتدأوا فتحدثوا فلا ندري ما قالوا. قال عمرو: فجاء ابن عباس، وهو ينفض ثوبه وهو يقول: أفّ وتفّ، وقعوا في رجل له بضعة عشرة فضيلة ليست لأحد غيره، وقعوا في رجل قال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لأبعثنّ رجلاً يحبّ الله ورسولَه ويحبّه اللهُ ورسولهُ، لا يخزيه الله أبداً. قال: فاستشرف لها من استشرف فقال: أين ابن أبي طالب؟ قالوا هو في الرحى يطحن، قال: وما كان أحدكم ليطحن، فدعاه وهو أرمد لا يكاد يبصر، فنفث في عينيه وهزّ الراية ثلاثاً ثمّ دفعها إليه. فجاء بصفية بنت حي.
وبعث أبا بكر بسورة التوبة، وأرسل عليّاً خلفه فأخذها منه، فقال أبو بكر للنبيّ: أنزل فيَّ شيء؟ فقال: لا ولكن لا يذهب بها رجل إلاّ مني وأنا منه.
وقال لبني عمه أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ ـ قال: وعليّ معهم جالس ـ فقال عليّ: أنا أواليك في الدنيا والآخرة فقال له: أنت أخي في الدنيا والآخرة.
وجمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاطمة وعليّاً وحسناً وحسيناً فقال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، وقال: « إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا » (1).
وكان ـ عليّ ـ أوّل من آمن (أسلم) من الناس بعد خديجة.
وشرى عليّ نفسه، فلبس ثوب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ نام مكانه، فجعل المشركون يرمونه كما كانوا يرمون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو على فراش النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فجعل يتضور، وجعلوا يستنكرون ذلك، فجاء أبو بكر وعليّ نائم وهو يظنه رسول الله فقال: يا نبيّ الله، فقال انّ نبيّ الله قد انطلق إلى بئر ميمون فأدركه، فاتبعه ودخل معه الغار، وبات عليّ يُرمى بالحجارة كما كان يُرمى نبيّ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يتضوّر، وقد لفّ

(1) الأحزاب /33.

السابق السابق الفهرس التالي التالي