موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 70

رأسه بالثوب لا يخرجه حتى أصبح، ثمّ كشف عن رأسه، فقالوا: إنك للئيم، كان صاحبك نرميه فلا يتضوّر وأنت تتضوّر وقد استنكرنا ذلك.
قال ابن عباس: وخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالناس في غزوة تبوك فقال له عليّ: أخرج معك؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا، فبكى عليّ فقال له: أما ترضى بأن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إلاّ إنّك لست بنبيّ، إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي.
قال: وقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أنت وليي في كلّ مؤمن بعدي.
قال ابن عباس: وسدّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبواب المسجد غير باب عليّ فكان يدخل المسجد جنباً وهو طريقه ليس له طريق غيره.
قال: وأخذ بيد عليّ فقال: من كنت مولاه فان مولاه عليّ، وقال: من كنت وليّه فعلي وليّه. وقال: اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.
قال: وأخبرنا الله (عزّ وجلّ) في القرآن أنّه قد رضي عن أصحاب الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، هل حدثنا أحد انّه سخط عليهم بعدُ، قال: وقال نبيّ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعمر حين قال: إئذن لي فلأضرب عنقه، قال: أو كنت فاعلاً؟ وما يدريك لعل الله اطلّع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم»(1).
وسيأتي إن شاء الله في الحلقة الثالثة تخريج هذه الفضائل من مصادرها والتعليق عليها بما يسرّ المؤمنين ويكبت المعاندين(2). غير أنّا نود لفت نظر القارئ إلى أدب حبر الأمة مع جلسائه وزواره، فحين طلب التسعة رهط منه إما

(1) مسند أحمد 1/331 ط مصر الأولى وخصائص النسائي /50 تح ـ محمّد الكاظم وفي الهامش مجموعة من مصادره.
(2) راجع نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 16/175 ـ 227 حول هذا الحديث ومن أخرجه وما يتعلق به.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 71

القيام معهم أو يخلوهم جلساؤه، فاختار القيام معهم إكراماً لجلسائه، لأنّه يرى جليسه أكرم الناس عليه ـ كما سيأتي كلامه في ذلك في أدبيات حكمه في الحلقة الثالثة ـ لذلك اختار القيام مع أولئك الرهط، ولمّا انتبذ معهم مكاناً قصياً وجلسوا نديا ليوفّر لهم حرية الكلام، ولكن عناصر الشرّ أسمعوه في الإمام ما أثار حفيظته، فلم يتمالك على نفسه دون أن قام عنهم ينفض ثوبه مغضباً وهو يقول: (أف وتف). وهما كلمتا تضجر وتأفف، أي قذَراً وبعداً عليهم. ولم يحدّث جلساءه بما قالوه إلاّ أنّه ذكر أنّهم وقعوا في رجل له... وأخذ يعدّد فضائل الإمام كما مرّ، ولم يذكر الرواة لنا عن مصير أولئك النفر بعد سماعهم حديث ابن عباس.

2- أيكم السابّ لله؟

روى ابن المغازلي المالكي في مناقبه(1) والخوارزمي الحنفي في مناقبه(2) وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول(3) وغيرهم وقد نيّفوا على العشرين كما سيأتي بيانهم في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى.
وإليكم الحديث بلفظ الخوارزمي الحنفي: «عن سعيد بن جبير قال: بلغ ابن عباس أنّ قوماً يقعون في عليّ (عليه السلام) فقال لابنه عليّ بن عبد الله: خذ بيدي فاذهب بي اليهم، فأخذه ولده بيده حتى انتهى اليهم فقال: أيكم السابّ لله؟
فقالوا: سبحان الله من سبّ الله فقد أشرك.
فقال: أيكم السابّ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟

(1) مناقب ابن المغازلي /394.
(2) مناقب الخوارزمي /81.
(3) مطالب السؤول /105.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 72

فقالوا: سبحان الله من سبّ رسول الله فقد كفر.
فقال: أيكم السابّ لعليّ بن أبي طالب؟
فقالوا: قد كان ذلك.
فقال لهم: فاشهدوا لقد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: من سب عليّاً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله، ومن سبّ الله فقد أكبّه يوم القيامة على وجهه في النار، ثمّ ولى عنهم فقال لابنه: كيف رأيتهم؟ فأنشأ يقول:
نظروا إليك بأعين محمّرة نظر التيوس إلى شفار الجازر

قال: زدني فداك أبوك يا بني، فأنشأ يقول:
خزر الحواجب ناكسوا أذقانهم نظر الذليل إلى العزيز القاهر

قال: زدني فداك أبوك، قال: ما أجد مزيداً قال: لكني أجد:
أحياؤهم عار على أمواتهم والميّتون فضيحة للغابر»

أقول: يوجد بين مرويات المصادر لهذه الواقعة تفاوت غير قليل، سنأتي على ذكره في الحلقة الثالثة إن شاء الله، ولعل أهمّ ما وجدته في بعض المصادر المتأخرة تعيين هوية النفر الّذين كانوا يسبّون الإمام وأنّهم من بني أمية.
وعندي لا استبعاد في ذلك وإن لم يرد في المصادر التاريخية الأولى، كما لا استبعاد أيضاً أن يكون أولئك التسعة رهط الّذين تقدم حديثهم أيضاً منهم، والّذي لا شك فيه إنّهم إن لم يكونوا من بني أمية نسباً فهم منهم ذَنَبا.
وستأتي بصورة أوسع ممّا هنا في زيادة الأبيات(1).

(1) نقلاً عن منتخب الطريحي /157 ـ 158 ط الحيدرية الثالثة سنة 1369 هـ ـ 1959 م.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 73

3- لقد سبقت لعليّ سوابق:

روى العاصمي في زين الفتى(1)، وروى فرات بن إبراهيم في تفسيره عن ميمون بن مهران قال: «كنت مع عبد الله بن عباس في الطواف، فإذا هو بشاب متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من عليّ بن أبي طالب، وممّا أحدث في الإسلام.
فقال لي ابن عباس: ادع لي ذلك الشاب. قال: فدعوته إليه، فجاء فجلس عن يمين ابن عباس.
فقال له ابن عباس: من أنت؟ وما أسمك؟ قال: أنا زمعة بن خارجة الخارجي.
قال: فقال له ابن عباس: يا زمعة وما أحدث عليّ في الإسلام؟ قال: إنّه قتل المسلمين يوم الجمل وصفين.
فقال له ابن عباس: إّنك لغبيّ الرأي مخذول الرأس، إن عليّ بن أبي طالب شهر سيفه على من خرج على الأمة وقاتل الأئمة، لو لم يكن لعلي إلاّ أربع خصال كانت له سوابق فوالله لقد سبقت لعليّ سوابق لو قسمت واحدة منهنّ على جميع الخلائق (أهل الأرض) لوسعتهم.
قال الرجل: وما هي يا بن عباس أعددها على لأتوب إليك، إخبرني بواحدة منهن.
قال: أمّا أولاهن أنّه كان أوّل الناس إسلاماً، فانّه صلّى مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) القبلتين وهاجر معه، ولم يعبد صنماً قط، ولم يشرب خمراً.
قال: يا بن عباس زدني فإني تائب.

(1) زين الفتى /43 مخطوطة مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) العامة.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 74

قال: والثانية: إنّه كان يسمع حسّ جبرئيل على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالوحي دوننا.
والثالثة: لمّا أراد الله أن يزوّج كريمته فاطمة من عليّ أمر الحور العين أنّ يتزيّنَّ وأمر طوبى أن تنثر فنثرت الدرّ مثل القِلال، فكنّ يلقطن وهن يتهادين إلى يوم القيامة، ويقلن هذه هدايا فاطمة بنت محمّد.
قال: ولمّا فتح النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكة دخلها فإذا هو بصنم لخزاعة على الكعبة يُعبد من دون الله، فقال النبيّ لعليّ: يا عليّ انطلق بنا حتى نكسر صنم بني خزاعة ـ وكان لبني خزاعة صنم عند الميزاب ـ فانطلقا فلمّا انتهيا إليه، فقال عليّ (عليه السلام) للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أطمئن لك فترقى عليّ، ثمّ انحنى عليّ وقال: ارق يا رسول الله، فوضع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجله على كتف عليّ فكاد عليّ يتكسر فاستغاث بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: ألا تأنّ يا رسول الله فقد كادت أعضائي يختلف بعضها في بعض، فرفع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجله عن كتف عليّ وقال: يا عليّ ذلك ثقل النبوة، لو أنّ أمتي اطمأنوا لي لم يُعلوني لموضع الوحي، ثمّ قال: ولكن أطمئن لك فترقى عليّ، فاطمأن له فرقى عليٌ وكان طول الكعبة أربعين ذراعاً فقال له النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا عليّ هل وصلت؟ قال: يا رسول الله لو أردت أن أمس السماء لمسستها، فأخذ الصنم فضرب به الصفا فصار إرباً إربا ثمّ وثب إلى الأرض وهو ضاحك، فقال له ما أضحكك يا عليّ؟ قال: عجبت لسقطتي ولم أجد لها ألما، قال: وكيف تألم منها، وإنّما حملك محمّد وأنزلك جبرئيل.
قال: فتاب زمعة الخارجي ووالى عليّاً (عليه السلام).
قال محمّد بن حرب ـ أحد رواة الخبر ـ وزادني فيه إبراهيم بن محمّد التميمي عن عبد الله بن داود عنه ـ ميمون بن مهران ـ انّه قال: قال عليّ: لقد رفعني رسول الله يومئذ، ولو شئت أن أنال السماء لنلتها.

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 75

قال فقال الرجل لابن عباس زدني فإنّي تائب.
قال: أخذ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيدي ويد عليّ بن أبي طالب فانتهى إلى سفح الجبل، فرفع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يده فقال: اللّهمّ اجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً اشدد به أزري.
فقال ابن عباس للرجل: ولقد سمعت منادياً ينادي من السماء: لقد أعطيت سؤلك يا محمّد. قال النبيّ لعلي: ادع فقال عليّ (عليه السلام): اللّهمّ اجعل لي عندك عهداً، اللّهمّ اجعل لي عندك ودّا. فأنزل الله تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا » (1)»(2).


4- فرّجت عني:

روى البيهقي في المحاسن والمساوي(3)، والقاضي نعمان في كتاب الهمة في آداب أتباع الأئمة(4)، وابن شاذان في الفضائل(5)، وابن طاووس في اليقين(6)، قالوا:
«كان عبد الله بن عباس بمكة يحدّث الناس على شفير زمزم ونحن عنده، فلمّا قضى حديثه قام إليه رجل من الملأ.
فقال: يا بن عباس إنّي امرؤ من أهل الشام. فقال: أعوان كلّ ظالم إلاّ من عصمهم الله منهم، فسل عمّا بدا لك.

(1) مريم /96.
(2) تفسير فرات /90.
(3) المحاسن والمساوي 1/30.
(4) الهمة في آداب اتباع الأئمة /75.
(5) الفضائل /160.
(6) اليقين /106 و 129.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 76

قال: يا بن عباس إنّي رجل من أهل حمص إنّهم يتبرأون من عليّ بن أبي طالب ويلعنونه.
فقال ابن عباس: بل لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهينا، أَلِبُعد قرابته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ أو أنّه لم يكن أوّل ذكران العالمين إيماناً بالله ورسوله، وأوّل من صلّى وركع وعمل بإعمال البرّ؟
فقال الشامي: انّهم والله ما ينكرون قرابته وسابقته، غير أنّهم يزعمون أنّه قتل الناس، وإنّما جئتك لأسألك عن عليّ وقتاله أهل لا إله إلاّ الله، لم يكفروا بقبلة ولا قرآن ولا بحج ولا بصيام رمضان.
فقال ابن عباس: ثكلتك أمك سل عمّا يعنيك ولا تسل عمّا لا يعنيك.
فقال: يا بن عباس ما جئت أضرب إليك من حمص لحج ولا لعمرة، ولكني جئتك لأسألك لتشرح لي من أمر عليّ وقتاله أهل لا إله إلاّ الله.
فقال ابن عباس: ثكلتكم أمهاتكم إنّ عليّاً أعرف بالله (عزّ وجلّ) وبرسوله وبحكمهما منكم، فلم يقتل إلاّ من استحق.
قال يا بن عباس: إنّ قومي جمعوا لي نفقة وأنا رسولهم إليك، وأمينهم ولا يسعك أن تردني بغير حاجتي فإن القوم هالكون في أمره ففرّج عنهم فرّج الله عنك.
فقال ابن عباس: ويحك إنّ علم العالم صعب ولا يحتمل ولا تقبله القلوب إلاّ قلب من عصمه الله، ولا تقرّبه قلوب أكثر الناس. يا أخا أهل الشام إنّما مثل عليّ في هذه الأمة في فضله وعلمه كمثل موسى والعالم، وذلك ان الله تبارك

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 77

وتعالى يقول في كتابه: « إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ » (1).
قال: « وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ » (2).
فكان موسى يرى أنّ جميع الأشياء قد أثبتت له كما ترون أنتم أنّ علماءكم أثبتوا لكم جميع الأشياء، فلمّا انتهى موسى إلى ساحل البحر لقي العالِم فاستنطقه، فأقرّ له بفضل علمه، ولم يحسده كما حسدتم أنتم عليّاً في علمه، فقال له موسى: « هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا » (3) فعلم العالم أنّ موسى لا يطيق صحبته ولا يصبر على علمه، فقال له العالم: « إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا » (4) قال موسى وهو يعتذر: « سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا » (5) فعلم أنّ موسى لم يصبر على علمه فقال له: « فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا » (6) وكان خرقها لله (عزّ وجلّ) رضىً ولأهلها صلاحاً. وكان عند موسى (عليه السلام) سخطاً وفساداً، فلم يصبر (عليه السلام) وترك ما ضمن له فقال: « أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا » (7) فكفّ عنه العالم « فَانطَلَقَا

(1) الأعراف /144.
(2) الأعراف /145.
(3) الكهف /66.
(4) الكهف /67 - 68.
(5) الكهف /69.
(6) الكهف /70 - 71.
(7) الكهف /71.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 78

حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ » (1) وكان قتله لله (عزّ وجلّ) رضىً ولأبويه صلاحاً، وكان عند موسى (عليه السلام) ذنباً عظيماً، قال موسى ولم يصبر: « أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا » (2) قال العالم: « أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا » (3) قال: « إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا » (4)،« فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ » (5) وكانت إقامته لله (عزّ وجلّ) رضىً وللعالمين صلاحاً، فقال: « لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا » (6)، « قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ » (7)،وكان العالم أعلم بما يأتي من موسى (عليه السلام) وكبر على موسى الحقّ وعظم إذ لم يكن يعرفه، هذا وهو نبيّ مرسل من أولى العزم ممّن قد أخذ الله (عزّ وجلّ) ميثاقه على النبوة، فكيف أنت يا أخا أهل الشام وأصحابك؟
إنّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لم يقتل إلاّ من كان يستحل قتله ولله رضىً ولأهل الجهالة من الناس سخطاً. إجلس أخبرك الّذي سمعته من رسول الله وعاينته. أخبرك إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تزوج زينب بنت جحش فأولم، وكانت في وليمته الحبشة، فكان يدعو عشرة عشرة من المؤمنين فكانوا إذا أصابوا طعام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) استأنسوا لحديثه واشتهوا النظر إلى وجهه، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يشتهي

(1) الكهف /74.
(2) الكهف /74.
(3) الكهف /75.
(4) الكهف /76.
(5) الكهف /77.
(6) الكهف /77.
(7) الكهف /78.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 79

أن يخففوا عنه فيخلوا له المنزل، لأنّه كان حديث عهد بعرس، وكان محباً لزينب وكان يكره أذى المؤمنين فأنزل الله تبارك وتعالى فيه قرآناً قوله (عزّ وجلّ): « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ » (1) الآية، فكانوا إذا أصابوا طعاماً لم يلبثوا أن يخرجوا...
قال: فمكث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثلاثة أيام ولياليهن ثمّ تحوّل إلى أم سلمة بنت أبي أمية وكانت ليلتها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وصبيحة يومها، فلمّا تعالى النهار انتهى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إلى الباب يريد الدخول على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنقر نقراً خفيّاً، فعرف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نقره فقال: يا أم سلمة قومي فافتحي الباب، فقالت يا رسول الله مَن هذا الّذي يبلغ خطره أن أفتح له الباب وقد نزل فينا بالأمس حيث يقول: « وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ » (2) من هذا الّذي يبلغ من خطره أن استقبله بمحاسني ومعاصمي؟
فقال لها نبيّ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كهيئة المغضب يا أم سلمة إن طاعتي طاعة الله، الله (عزّ وجلّ) قال: « مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ » (3) قومي يا أم سلمة وافتحي له الباب، فإنّ بالباب رجلاً ليس بالخرق ولا النزق ولا بالعجل في أمره، يحب الله ورسوله. يا أم سلمة انّه آخذ بعضادتي الباب إن تفتحي له الباب فليس بفاتحه حتى تتواري ولا

(1) الأحزاب /53.
(2) الأحزاب /53.
(3) النساء /8.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 80

داخل البيت حتى يخفى عليه الوطء ان شاء الله، فقامت أم سلمة وهي لا تدري من بالباب غير أنّها قد حفظت المدح فمشت نحو الباب وهي تقول: بخ بخ لرجل يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، ففتحت، وأمسك عليّ بعضادتي الباب فلم يزل قائماً حتى غاب عنه الوطء، ودخلت أم سلمة خدرها ففتح الباب ودخل فسلّم على النبيّ فردّ عليه السلام وقال: يا أم سلمة هل تعرفين هذا؟ قالت نعم فهنيئاً له هذا عليّ بن أبي طالب.
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): نعم صدقت هو عليّ سيط لحمه بلحمي ودمه بدمي، وهو مني بمنزلة هرون من موسى إلاّ انّه لا نبيّ بعدي، يا أم سلمة إسمعي واشهدي هذا عليّ سيّد مبجّل مؤمل المسلمين وأمير المؤمنين، وموضع سري وعيبة علمي، وبابي الّذي أؤتى منه يؤى إليه، وهو الوصي على الأموات من أهل بيتي، والخليفة على الأحياء من أمتي، وهو أخي في الدنيا والآخرة، وهو معي في السنام الأعلى، إشهدي يا أم سلمة إن عليّاً يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.
قال ابن عباس: وقتلهم لله رضىً وللأمة صلاح ولأهل الضلالة سخط.
قال الشامي: يا بن عباس مَن الناكثون؟ قال: الّذين بايعوا عليّاً بالمدينة ثمّ نكثوا فقاتلهم بالبصرة أصحاب الجمل، والقاسطون معاوية وأصحابه، والمارقون أهل النهروان ومن معهم.
فقال الشامي: يا بن عباس ملأت صدري نوراً وحكمة، وفرّجت عني فرّج الله عنك، وأشهد أنّ عليّاً (رضي الله عنه) مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة».

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 81

5- انّه من أهل بيت النبوة:

عن عكرمة قال: «بينا ابن عباس يحدّث الناس، إذ قام إليه نافع بن الأزرق(1).
فقال: يا بن عباس تفتي في النحلة والقملة، صف لي إلهك الّذي تعبده.
فأطرق ابن عباس إعظاماً لقوله، وكان الحسن (عليه السلام) جالساً في ناحية، فقال: إليّ يا بن الأزرق، قال: لست إياك أسأل.
قال ابن عباس: يا بن الأزرق انّه من أهل (بيت) النبوة، وهم ورثة العلم(2) فأقبل نافع نحو الحسن (عليه السلام).
فقال له الحسن: يا نافع إنّه من وضع دينه على القياس لم يزل دهره في التباس قابلاً غير المنهاج، ظاعناً في الإعوجاج، ضالاً عن السبيل، قائلاً غير الجميل.
يا بن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه، وأعرّفه بما عرّف به نفسه: لا يدرك بالحواس ولا يُقاس بالناس، فهو قريب غير ملتصق، وبعيد غير متقصّي، يُوحَّد ولا يبعّض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال.
قال: فبكى ابن الأزرق وقال: يا حسن ما أحسن كلامك! أمّا والله يا حسن لئن كان ذلك لقد كنتم منار الإسلام ونجوم الاحكام، حتى بدّلتم فاستبدلنا بكم.

(1) رأس فرقة الأزارقة من الخوارج، وهو صاحب المسائل في غريب القرآن الّتي سأل ابن عباس عنها وطلب منه أن يأتيه بشاهد على ذلك من شعر العرب، وسيأتي في الحلقة الثالثة مزيد بيان عنها.
(2) ستأتي من ابن عباس كلمة له مشابهة قالها لمعاوية في الإمام الحسين (عليه السلام) حين أرادهما على بيعة يزيد فانتظر وانظر: إنها لذرية الرسول وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهر.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 82

فقال الحسن: إنّي أسألك عن مسألة قال: سل، قال: هذه الآية « وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ » (1) يا بن الأزرق، من حفظ في الغلامين؟ قال: أبوهما، قال الحسن: فأبوهما خيرٌ أم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ قال ابن الأزرق: قد أنبأنا الله بأنّكم قوم خصمون»(2).


6- لو كان رسول الله حياً لآذيته:

روى الحاكم بسنده عن أبي مليكة قال: «جاء رجل من أهل الشام فسبّ عليّاً عند ابن عباس، فحصبه ابن عباس وقال: يا عدو الله آذيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) « إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا » (3) لو كان رسول الله حياً لآذيته»(4).
وأخرجه الذهبي في التلخيص وقال: «أنّه صحيح»(5).
هذه نماذج من مواقف ابن عباس في مقاومته السلطة الغاشمة الّتي فرضت التعتيم الإعلامي على فضائل الإمام وأهل بيته وهو بنشاطه المستمّر، وكفاحه المستمر كان يشكل عنصراً مهماً في تحدي معاوية لا يوازيه فيه غيره، وفي كلّ مواقفه الّتي مرّت والّتي سوف تأتي في الحلقة الثالثة كان الوحيد الّذي حفظ التاريخ له مواقفه الكثيرة، فكان ابن عباس رجل الساعة والساحة بتحديه الصارخ لمعاوية مع شدة إجراءاته التعسفية.

(1) الكهف /82.
(2) الحدائق الوردية 1/154 مط مكتبة مركز بدر العلمي والثقافي في صنعاء.
(3) الأحزاب /57.
(4) المستدرك على الصحيحين 3/121.
(5) تلخيص الذهبي بهامش المستدرك.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 83

ولعل أشد أثر تلك المواقف على معاوية، وأكثرها إيلاماً له ما كان أشدها جرأة وتحدياً، حتى بلغ امتلاك ابن عباس لرصيد شعبي في الشام كوّنه في وفاداته، فصار يهدد كيان معاوية في عاصمة ملكه، فقد كان يجلس في الجامع فيحدث الناس بفضائل الإمام، وينقد معاوية، فنفذ إلى أعماق سامعيه بحديثه، واحتل مكانة في نفوسهم توازي هيبة معاوية في سلطانه.
وأخاله اتخذ من السفر إلى الشام وطول المكث فيها وسيلة من وسائل الإعلام المضادّ للإعلام السلطوي الكاذب، وغزواً فكرياً ثقافياً في عقر داره، وبذلك تمكن من أداء رسالته في نصرة الحقّ وإنكار الباطل. فلقد حدث المؤرخون عن مدى استقطابه جماهير الشاميين حتى التفوا حوله يحضرون مجلسه ويستمعون حديثه، ما تبيّن لمعاوية أثر ذلك في خلوّ مجلسه منهم. فضاق به ذرعاً.


7- أرحني من شخصك:

ولقد بلغ الحسد والحقد من معاوية في نفسه مبلغاً لم يكتمه في موقف آخر فقال لابن عباس أرحني من شخصك شهراً، وذلك حين بلغ من ازدراء ابن عباس بمعاوية أنّ وصمه أمام أهل الشام بميسم عاره، وذكّره بماضي أصله الأسود وشناره، والّذي كان في ذمة جده وجواره، فقال له كلمة أخرجته من اهابه وانقطع عن جوابه فلم يملك سوى كلمته الرعناء.
فلنقرأ ما رواه الجاحظ في المحاسن والأضداد(1)، والبيهقي في المحاسن والمساوي(2)، وغيرهما، قالا:

(1) المحاسن والأضداد /116 ط المعاهد بمصر سنة 1350.
(2) المحاسن والمساوي 1/67 ط النعساني.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 84

«قدم عبد الله بن عباس على معاوية وعنده جمع من بني أمية ووفود العرب، فدخل وسلّم وقعد فسأله معاوية مَن الناس؟ فقال ابن عباس: نحن، قال معاوية: فإذا غبتم؟ قال: فلا أحد، فقال معاوية: فإنك ترى أني قعدت هذا المقعد بكم؟ فقال ابن عباس: نعم، فبمن قعدت؟ فقال معاوية: بمن كان مثل حرب بن أمية. فقال ابن عباس: بل بمن أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه، فغضب معاوية. وقال: أرحني من شخصك شهراً فقد أمرت لك بصلتك وأضعفتها لك.
فخرج ابن عباس وهو يقول لمن معه: ألا تسألونني ما الّذي أغضب معاوية؟ فقالوا: بلى فقل بفضلك. فقال: إن أباه حرب لم يلق أحداً من رؤساء قريش في عقبة ولا مضيق إلاّ تقدّمه حتى يجوزه، فلقيه يوماً رجل من بني تميم في عقبة فتقدمه التميمي، فقال حرب: أنا حرب بن أمية، فلم يلتفت إليه وجازه، فقال: موعدك مكة، فخافه التميمي، ثمّ أراد دخول مكة فقال: من يجيرني من حرب بن أمية، فقيل له عبد المطلب، فقال: عبد المطلب أجل قدراً من أن يجير على حرب، فأتى ليلاً إلى دار الزبير بن عبد المطلب، فدقّ بابه، فقال الزبير لعبده: قد جاءنا رجل إمّا طالب قِرى وإمّا مستجير، وقد أجبناه إلى ما يريد، ثمّ خرج الزبير إليه فقال التميمي:
لاقيت حرباً في الثنية مقبلاً والصبح أبلج ضوؤه للساري
فدعا بصوت واكتنى ليروعني وسما عليَّ سموّ ليث ضاري
فتركته كالكلب ينبح ظِله وأتيت قرم معالم وفخار
ليثاً هزبراً يستجار بعزّه رحبَ المباءة مكرماً للجار
ولقد حلفت بمكة وبزمزمٍ والبيت ذي الأحجار والأستار
إنّ الزبير لمانعي من خوفه ما كبّر الحُجّاج في الأمصار

السابق السابق الفهرس التالي التالي