موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 256

بني هاشم من غير آل أبي طالب: الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وحمزة بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، والعباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب، وبضع وتسعون رجلاً من سائر قريش، ومثلهم من الأنصار، وأربعة آلاف من سائر الناس ممّن أدركه الإحصاء دون من لم يعرف»(1).
ومن أعجب العجب بعد ما مرّ ذكره وغيره من جرائم جيش الأمويين في المدينة المنوّرة، نقرأ موقفاً عن ابن عمر، متهالكاً في طاعتهم، يرويه البخاري في صحيحه في (باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج خلافه) من كتاب التوحيد، بسنده عن نافع، قال: «لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر حشمه وولده، فقال: إنّي سمعت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: (ينصب لكلّ غادر لواء يوم القيامة)، وإّنا قد أيدنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإنّي لا أعلم غدراً أعظم

(1) مروج الذهب 3/79 تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 257

من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثمّ ينصب له القتال، وإنّي لا أعلم أحداً منكم خلعه، ولا بايع في هذا الأمر إلاّ كانت الفيصل بيني وبينه»(1).
وقد مرّ بنا آنفاً أنّه أشار على الحسين بمبايعة يزيد، فقال له الحسين (عليه السلام): (هيهات يا بن عمر... فاتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي، فوالذي بعث جدي محمداً بشيراً ونذيراً لو أنّه أباك عمر بن الخطاب أدرك زماني لنصرتي...).
ولو لم يجد يزيد في ابن عمر وأمثاله أنصاراً له على جرائمه في المدينة وغيرها، لما ارتكب موبقاته فيها فأباحها لجيشه ثلاثة أيام، ارتكبوا فيها كلّ قبيح.
وكان ابن عباس يقول: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة « وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا » (2) قال: لأعطوها، يعني ادخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة(3).
وهذا ما حذّر منه الإمام الحسين سلام الله عليه أمة جدّه ممّن زاغ عن الحقّ وراغ مع الباطل فقال في يوم عاشوراء في إحدى خطبه: (يا أمة السوء بئسما خلفتم محمّداً في عترته، أما إنّكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله الصالحين فتهابوا قتله، بل يهون عليكم عند قتلكم إياي).

فكلّ إناء بالّذي فيه ينضح:

روى أبو الفرج الاصبهاني بسنده عن ابن أبي مليكة قال: «رأيتهم ـ يعني بني أمية ـ يتتايعون(4) نحو ابن عباس حين نفر ابن الزبير بني أمية عن الحجاز، فذهبت معهم وأنا غلام، فلقينا رجلاً خارجاً من عنده، ودخلنا عليه فقال له عُبيد

(1) صحيح البخاري 9/57 ط بولاق سنة 1313هـ.
(2) الأحزاب /14.
(3) المعرفة والتاريخ للبسوي 3/327 ط أوقاف بغداد.
(4) التتايع: التتابع في الشر والتهافت والاسراع إليه، ويرمي بنفسه من غير تثبّت.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 258

ابن عُمير، ما لي أراك تذرف عيناك؟ فقال له: إن هذا ـ يعني عبد الرحمن بن الحكم ـ قال بيتاً أبكاني وهو:
وعبد مناف لم تغلها الغوائل وما كنت أخشى أن ترى الذل نسوتي

فذكر قرابةً بيننا وبين بني عمنا بني أمية، وإنّا إنّما كنا أهل بيت واحد في الجاهلية، حتى جاء الإسلام فدخل الشيطان بيننا أيّما دخل»(1).
وروى الطبري في تاريخه، وابن الأثير في الكامل: «أنّ مروان بن الحكم كلّم ابن عمر لمّا أخرج أهل المدينة عامل يزيد وبني أمية في أن يغيّب أهله عنده فلم يفعل، وكلّم عليّ بن الحسين وقال: يا أبا الحسن إنّ لي رحَماً وحُرمي تكون مع حُرمك، فقال: أفعل، فبعث بحُرمه إلى عليّ بن الحسين، فخرج بحُرمه وحُرَمِ مروان حتى وضعهم بينبع»(2).
قال أبو مخنف كما في الطبري: «وخرجت عائشة بنت عثمان بن عفان إلى الطائف فتمرّ بعلي بن حسين وهو بمال له إلى جنب المدينة قد اعتزلها، كراهية أن يشهد شيئاً من أمرهم، فقال لها احملي ابني عبد الله معك إلى الطائف، فحملته إلى الطائف حتى انفضّت أمور أهل المدينة»(3).
هذه بعض أيادي أهل البيت على الأمويين في محنتهم مع ما كان منهم من شرّ صدمة أوقعوها بهم بقتلهم الحسين وأهل بيته وسبي عياله و و.
فلم يمنعهم ذلك من إسداء المعروف إليهم والتعاطف معهم في المحنة، فهلم الآن لنقرأ بعض صور الجزاء المخزي المفزع، لتؤمنوا بأنّ الّذي خبث لا يخرج إلاّ نكدا.

(1) الأغاني 13/264 ط دار الكتب.
(2) تاريخ الطبري 5/485 ط دار المعارف، الكامل في التاريخ4/49 ط بولاق.
(3) تاريخ الطبري 5/485.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 259

قال ابن أعثم ـ في حديثه عن مسلم بن عقبة المري قائد الحملة التدميرية على المدينة المنورة، وما سفكه من دماء الأبرياء، وأخذه البيعة من الناس على أنّهم عبيد خول ليزيد.
قال: «ثمّ أتي بعليّ بن عبد الله بن عباس، فلمّا قدم إليه قامت قبائل كندة من كلّ ناحية فقالوا: أيها الأمير إنّ هذا الّذي قَدم عليك منا وإلينا، وذلك أنّ عبد الله بن العباس خطب إلينا، فزوجناه بنت عم لنا يقال لها زرعة بنت مشوح، فأولدها هذا الفتى ابن اختنا فخلّ سبيله، فقال: يا معشر كندة خلعتم أيديكم من الطاعة، فقالوا: ما خلعنا أيدينا من الطاعة، ولكنا لا نمكنك من ابن اختنا تقتله، فقال لهم: إذاً فيبايع أمير المؤمنين يزيد فقالوا: أمّا البيعة فانه يبايع، على أنّه والله أشرف من يزيد وأكرم منه أباً وأماً.
قال: فبايع عليّ بن عبد الله بن عباس يزيد بن معاوية، وتنحى ناحية من بين يدي مسلم بن عقبة»(1).
وقال: «وسمع مسلم بن عقبة صياحاً وصراخاً فقال: ما هذا؟ فقيل: إنّه قد أتي بعلي بن الحسين بين يديه وهؤلاء أقاربه يصيحون، فقال أعلموه انّه لا بأس عليه.
قال: فلمّا أتي بعليّ بن الحسين، وثب مسلم بن عقبة فصافحه وقبّل بين عينيه وأقعده معه على سريره ثمّ قال له: لا بأس عليك وأمير المؤمنين يزيد يقرأ عليك السلام ويقول لك: لا تلمني على حبس عطائي لك، إنّما شغلني عنك عبد الله بن الزبير، وأنا موجّه إليك بعطائك موفراً. قال: ثمّ أمر له مسلم بن عقبة بألف درهم، وقال: احملوه إلى منزله»(2).

(1) الفتوح 5/299 ط دار الندوة.
(2) نفس المصدر /300.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 260

وقال المسعودي: «ونظر الناس إلى عليّ بن الحسين السجاد وقد لاذ بالقبر وهو يدعو، فأتي به إلى مسرف وهو مغتاظ عليه، فتبرأ منه ومن آبائه فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد وقام له، وأقعده إلى جانبه، وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممّن قدّم إلى السيف الا شفّعه فيه، ثمّ انصرف عنه، فقيل لعلي: رأيناك تحرّك شفتيك فما الّذي قلت؟ قال: قلت: اللّهمّ ربّ السموات السبع وما أظللن، والأرضين السبع وما أقللن، ربّ العرش العظيم ربّ محمّد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شره، وأدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شرّه.
وقيل لمسلم: رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه، فلمّا أتي به إليك رفعت منزلته، فقال: ما كان ذلك لرأي مني، لقد مليء قلبي منه رعباً»(1).
وقال المسعودي أيضاً: وأمّا عليّ بن عبد الله بن العباس فإن أخواله من كندة منعوه وأناس من ربيعة كانوا في جيشه فقال عليّ في ذلك:
أبي العباس قرم بني لؤي وأخوالي الملوك بنو وليعه
هم منعوا ذماري يوم جاءت كتائب مسرف وبني اللكيعه
أراد بي الّتي لا عزّ فيها فحالت دونه أيدي ربيعه


لقد همّ يزيد بقتل ابن عباس؟

قال سبط ابن الجوزي: «ذكر الواقدي وهشام وابن إسحاق وغيرهم قالوا: لمّا قتل الحسين (عليه السلام) بعث عبد الله بن الزبير إلى عبد الله بن عباس ليبايعه وقال: أنا أولى من يزيد الفاسق الفاجر وقد علمت سيرتي وسيرته، وسوابق أبي الزبير مع

(1) مروج الذهب 3/80.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 261

رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسوابق معاوية، فامتنع ابن عباس وقال: الفتنة قائمة وباب الدماء مفتوح، وما لي ولهذا، إنّما أنا رجل من المسلمين. فبلغ ذلك يزيد بن معاوية فكتب إلى ابن عباس...»(1).
وروى الفسوي بسنده عن شقيق بن سلمة قال: «لمّا قتل الحسين بن عليّ ابن أبي طالب ثار عبد الله بن الزبير، فدعا ابن عباس إلى بيعته، فامتنع ابن عباس وظن يزيد بن معاوية أنّ امتناع ابن عباس تمسكاً منه ببيعته فكتب إليه...»(2).
وروى الطبراني في المعجم ـ وعنه الهيثمي ـ بسنده عن أبان بن الوليد قال: «كتب عبد الله بن الزبير إلى ابن عباس في البيعة فأبى أن يبايعه، فظن يزيد بن معاوية أنّه إنّما امتنع عليه لمكانه، فكتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس...»(3).
ولمّا كانت روايات الرواة لهذا الكتاب تتفاوت في بعض الألفاظ، فأنا اخترت للقارئ رواية الطبراني الّتي اختارها الهيثمي في مجمع الزوائد، ونقلتها بلفظه، لأنّ المطبوع من معجم الطبراني فيه تصحيف لبعض الألفاظ مخرج للمعنى، ولم يتنبه إليه محقق الكتاب، وإليك نسخة ما كتب به يزيد وما أجاب به ابن عباس برواية مجمع الزوائد بعد تصحيح الأخطاء المطبعية فيه:
قال: «فكتب يزيد بن معاوية أمّا بعد: إنّه بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته ليدخلك في طاعته فتكون على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً، فامتنعت عليه، وانقبضت، لما عرفك الله في نفسك من حقنا أهل البيت، فجزاك الله أفضل ما جزى الواصلين عن أرحامهم، الموفين بعهودهم، ومهما أنس من

(1) تذكرة الخواص /155 ط حجرية و247 ط منشورات الشريف الرضي بقم.
(2) المعرفة والتاريخ 1/531 ط الأوقاف ببغداد.
(3) المعجم الكبير 10/241 ط الأوقاف الثانية، مجمع الزوائد 7/250 ط القدسي.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 262

الأشياء فلن أنس برّك وصلتك وحسن جائزتك الّتي أنت أهلها، في الطاعة والشرف والقرابة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فانظر مَن قبلك من قومك ومن يطرأ عليك من أهل الآفاق ممّن يسحره ابن الزبير بلسانه وزخرف قوله، فخذّلهم عنه، فإنّهم لك أطوع، ومنك أسمع منهم للملحد والخارق المارق والسلام.
فكتب ابن عباس إليه: أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه دعاء ابن الزبير إياي للذي دعاني إليه، وإنّي امتنعت عليه معرفة لحقك، فإن يكن ذلك كذلك فلست برّك أرجو بذلك ولكن الله بما أنوي به عليم.
وكتبت إليّ أن أحثّ الناس عليك وأجذبهم عن ابن الزبير فلا، ولا سروراً ولا حبوراً، بفيك الكثكث(1) ولك الأثلب(2) إنك العازب إن منّتك نفسك، وانك لأنت المفقود المثبور.
وكتبت إليَّ بتعجيل بري وصلتي، فاحبس أيها الإنسان عني برّك وصلتك، فإنّي حابس عنك ودي ونصرتي. ولعمري ما تعطينا ممّا في يدك لنا إلاّ القليل، وتحبس منه الطويل العريض لا أباً لك.
أتراني أنسى قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطلب، مصابيح الدجى ونجوم الأعلام، وغادرتهم خيولك بأمرك، فأصبحوا مصرّعين في صعيد واحد، مزمّلين بالدماء، مسلوبين بالعراء، لا مكفّنين ولا موسّدين، تسفيهم الرياح، وتغزوهم الذئاب، وتنتابهم عوج الضباع، حتى أتاح الله لهم قوماً لم يشركوا في دمائهم فكفنوهم وأجنّوهم.
وبهم والله وبي منّ الله عليك فجلست في مجلسك الّذي أنت فيه.

(1) صغار الحجارة والتراب.
(2) الحصى والحجر.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 263

ومهما أنس من الأشياء فلست أنسى تسليطك عليهم الدعيّ ابن الدعي، الّذي كان للعاهرة الفاجرة، البعيد رحما، اللئيم أباً وأماً، الّذي اكتسب أبوك في ادعائه له العار، والمأثم، والذلة، والخزي في الدنيا والآخرة، لأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وإن أباك يزعم أنّ الولد لغير الفراش، ولا يضير العاهر ويلحق به ولده كما يلحق ولد البغي الرشيد، ولقد أمات أبوك السنة جهلاً، وأحيى الأحداث المضلّة عمداً.
ومهما أنس من الأشياء فلست أنس تسييرك حسيناً من حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى حرم الله، وتسييرك إليه الرجال. وإدساسك إليهم ان هو نذر بكم فعاجلوه، فما زلت بذلك وكذلك، حتى أخرجته من مكة إلى أرض الكوفة، تزأر إليه خيلك وجنودك زئير الأسد، عداوة مثلك لله ولرسوله ولأهل بيته، ثمّ كتبت إلى ابن مرجانة يستقبله بالخيل والرجال والأسنة والسيوف، ثمّ كتبت إليه بمعاجلته وترك مطاولته، حتى قتلته ومن معه من فتيان بني عبد المطلب أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
نحن أولئك لا كآبائك الأجلاف الجفاة أكباد الحمير، ولقد علمت أنّه كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّه بها حديثاً لو ثوى بالحرمين مقاما، واستحلّ بها قتالا، ولكنه كره أن يكون هو الّذي يستحل حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحرمة البيت الحرام، فطلب الموادعة، وسألكم الرجعة، فاغتنمتم قلة أنصاره واستئصال أهل بيته، كأنّكم تقتلون أهل بيت من الترك أو كابل.
وكيف تحدوني على ودّك وتطلب نصري، وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثاري، فإن يشأ الله لا يطلّ لديك دمي، ولا تسبقني

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 264

بثاري، وإن تسبقنا به، فقبلنا ما قُتلت النبيون وآل النبيين، فطلّت دماؤهم في الدنيا، وكان الموعد الله، وكفى بالله للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً.
والعجب كلّ العجب وما عشت يريك الدهر العجب، حملك بنات عبد المطلب وحملك أبناءهم أغيلمة صغاراً إليك بالشام، تُري الناس أنّك قد قهرتنا، وأنّك تذلّنا، وبهم والله وبي منّ الله عليك وعلى أبيك وأمك من السباء.
وأيم الله إنّك لتصبح وتمسي آمناً لجراح يدي، وليعظمن جرحك بلساني وبناني، ونقضي وإبرامي فلا يستعزّنك(1) الجذل، فلن يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ قليلاً، حتى يأخذك الله أخذاً أليماً، ويخرجك من الدنيا آثماً مذموماً، فعش لا أباً لك ما شئت فقد أرداك عند الله ما اقترفت.
فلمّا قرأ يزيد الرسالة قال: لقد كان ابن عباس مضبّاً(2) على الشرّ».
ولقد ذكر هذا الكتاب غير واحد من المؤرخين والمحدّثين، وبين رواياتهم تفاوت في الألفاظ فمن شاء مزيد الأطلاع فليرجع إلى المصادر التالية:
1- المعرفة والتاريخ للفسوي(ت277): 1/531 ط الأوقاف ببغداد.
2- أنساب الأشراف للبلاذري(ت279): 1ق4/305 تح ـ احسان عباس وذكر شطراً من الكتاب.
3- تاريخ اليعقوبي(ت بعد 292): 2/220 مط الغري بالنجف الأشرف.
4- المعجم الكبير للطبراني(ت360): 10/241 ط الثانية بالموصل.

(1) في جملة من المصادر تصحيف، والصواب ما أثبتناه، ومعناه لا يغلب عليك، يقال استعزّ به الحال أي غلب عليه.
(2) في جملة من المصادر تصحيف، والصواب ما أثبتناه، ومعناه أخفى غلّه في قلبه وأمسكه.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 265

5- مقتل الحسين للخوارزمي(ت568): 2/77 ط الزهراء في النجف الأشرف.
6- تاريخ ابن الأثير(ت630): 4/54 ط بولاق.
7- تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي(ت654): 155 ط حجرية و274ط منشورات الشريف الرضي.
8- مجمع الزوائد للهيثمي(ت807): 7/250 ط القدسي.
9- تطهير الجنان لابن حجر الهيتمي ـ بالتاء المثناة ـ (ت974): /135 بهامش الصواعق المحرقة.
10- بحار الأنوار للمجلسي(ت1111): 45/323.
فهذه عشرة كاملة وحسبي بها، فضلاً عن مصادر ثانوية كثيرة كالدرجات الرفيعة وأعيان الشيعة والمجالس السنية واقناع اللائم ومشكوة الأدب وناسخ التواريخ (فارسي) وغيرها. وقد ورد في جملة من المصادر الأولية أنّ يزيد لمّا وصلت إليه رسالة ابن عباس غضب غضباً شديداً وهمّ بقتل ابن عباس، ولكن الله شغله بأمر ابن الزبير ثمّ أخذه أخذ عزيز مقتدر، فمات السكران بحوارين.
وقد جاءت الرسالة في بلاغتها كأنّها مستقاة من نهج إمامه وابن عمه سيّد البلغاء في نهج البلاغة، في قوّة الحجة وبليغ الكلام.
كما أنّها تعتبر وثيقة تاريخية تدين يزيد بجرائمه، وتدمغ الّذين برؤوه من جريمة القتل وأدانوا بها ابن زياد، وأخيراً فقد كانت آخر ما عُرف عن ابن عباس من موقف سياسي مع يزيد، ولم يكد جور السلطة الأموية ينتهي بموته، فإنه سيأتي لابن عباس مع عبد الملك بن مروان ما سنذكره، ولقد أعجبت الرسالة بعضهم فقال:

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 266

نصرت ابن عباس حسين بن فاطم بحدّ لسان ما عن السيف ينقص
دعتك إليه شمية هاشمية لعمرك أنت الهاشمي المخلّص(1)
غداة ابن هند أسلس القول طامعاً بودّك حاشا الله ودّك ينكص
فلقّيته صعباً شديداً مراسه فتى ثأر أهليه به يتربّص
وتالله لولا حكمة الله لانثنت لكم غارة منها السماء تقلّص(2)

ويبقى هذا الكتاب خير شاهد على تفجّر غيظه جُملاً حمماً، تطاير حرفُها فصكّ بها وجه يزيد حتى همّ بقتله، لولا أنّه شُغل بأمر ابن الزبير. وهو في وضعه المؤثّر المعبّر عن عظم المأساة وشدة النكبة الّتي مُني بها المسلمون، لم يتعدّ عن الواقع يومئذ، كما أنّه في كتابه استبان عظيم حزنه المتصل، فهو في حداد مستمر وبكاء دائم، وهذا حال بقية الهاشميين والهاشميات حتى لقد روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت، ولا رؤي في دار هاشمي دخان خمس سنين، حتى قتل عبيد الله بن زياد»(3).
ويبقى كتاب ابن عباس يعطي المسلمين صورة واضحة عن مدى ما وصلت إليه الأمور من الشدة، والمشاعر من التوتر بالنسبة لأكثر الناس حكمة، وأوفرهم علماً، وأرجحهم عقلاً مثل ابن عباس، فكيف بمن هو دونه من عامة الناس.
ويبقى ابن عباس في موقفه الرافض والناقم على بني أمية، فقد جاءه رجل منهم فقال : أريد أن أسألك عن سؤال، فقال له : سل عمّا تريد ، فقال : يا عبد الله ما

(1) الدرجات الرفيعة /145 ط الحيدرية.
(2) زيادة في مجموع المرحوم السيّد جعفر الخرسان بخطه (عندي).
(3) أصدق الأخبار للسيّد الأمين /91 ط صيدا.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 267

تقول في دم البعوضة هل ينقض الوضوء أم لا؟ وهل هو طاهر أم نجس؟ فقال له: ثكلتك أُمك يا عديم الرأي تسأل عن دم البعوضة؟ فلِمَ لا سألت عن دم الحسين ابن بنت رسول الله، فكيف سفكتم دمه وقطعتم لحمه وكسرتم عظمه، وقتلتم أولاده وأطفاله وأنصاره، وسبيتم حريمه، ومنعتموه من شرب الماء، ألا لعنة الله على الظالمين.
ثمّ التفت عبد الله إلى جلسائه وقال: أنظروا إلى هذا اللعين كيف يسألني عن دم البعوضة ولا يخاف الله يسأله عن دم الحسين (عليه السلام) ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثمّ قال لأصحابه: والله إنّي سمعت بها بهاتي أذني من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول مراراً كثيرة: الحسن والحسين (عليهما السلام) ريحانتاي من الدنيا، وهما مني وأنا منهما، أحب الله من أحبهما، وأبغض الله من أبغضهما، وآذى الله من آذاهما، ووصل الله من وصلهما، وقطع الله من قطعهما، فإنّهما ابناي وسبطاي وقرتا عيني وسيّدا شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين.
قال ابن عباس: فقلت: يا رسول الله أي أهل بيتك أحب إليك؟ فقال: الحسن والحسين أحبّ الناس إليَّ(1).

(1) المنتخب للطريحي /119 ط الثالثة بالحيدرية سنة 1329 هـ ـ 1949 م.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 268




موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 269


الفصل الثالث


حبر الأمة أيام الزبير والمروانيين


موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 270




موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 271

أخرج أحمد والترمذي وغيرهم من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه، فان كان في دينه صلباً اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي وما عليه خطيئة)(1).
ولمّا كان أهل البيت (عليهم السلام) ومَن كان منهم ومعهم حسباً ونسباً، هم أهل البلاء والاصطفاء ارتضاهم الله سبحانه لمرضاته بنزول بلائه، لأنّهم أصدق الناس ايماناً وأرسخهم يقيناً، فلا بدع لو اكتنفتهم البأساء والضرّاء، فهم أولى الناس بمواقف الشرف والإباء، والبطولة والفداء.
وكان ابن عباس من أولئك الصفوة الّذين توالى عليهم البلاء، فكان صبوراً لم يجزع عند المحنة ولم يخنع من قلة أو ذلّة. ومن يقرأ التاريخ في أيام ابن الزبير وحكومة المروانيين، يقرأ تاريخاً مليئاً بالمآسي والآلام، طافحاً بجرائم الآثام، بما حلّ بالمسلمين من تشرذم في الأهواء وسفك للدماء.
ولابدّ لنا أن نذكر بعض ما قاساه ابن عباس من مرارة الحياة في تلك الفترة العصيبة، وما أصابه من طغاة الحكام وجورهم، حيث لم يخضع لواحدٍ منهم سواء ابن الزبير أو المروانيين.


أحداث متتابعة:

في فتنة ابن الزبير بمكة المكرمة، حدثت لابن عباس مع ابن الزبير أحداث متتابعة، عاش محنتها بقية السنين السبع العجاف من بعد مقتل سيّد الشهداء الحسين بن عليّ (عليه السلام).

(1) مسند أحمد 1/172، سنن الترمذي 4/28.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 272

حياة ضنك وضيق، مليئة بالتحديات والاعتداءات، وأشدها المعاناة النفسية ممّا كان يحسّه من شماتة ابن الزبير فقد كابد أذاه وقد خلا له الجوّ، كما كان يتوقعه من قبل حين مرّ به يوم خرج الحسين (عليه السلام) إلى العراق، فمرّ به وضربه على كتفه وتمثل برجز طرفة بن العبد:
يا لك من قنبرة بمعمر خلالك الجو فبيضي واصفري
ونـقـرّي مـا شـئـت أن تـنـقـري

ثمّ أردفه بقوله: هذا حسين خارج فاستبشري.
وقد صدقت نبوءته حين نصب ابن الزبير نفسه، ودعا الناس إلى مبايعته، بعد أن كان يختدع الناس ويخادعهم بأنّه زاهد في الحياة الدنيا، مردداً اكذوبته بقوله: «إنّما بطني شبر فما عسى أن يسع ذلك من الدنيا، وأنا العائذ بالبيت، والمستجير بالربّ»(1) فسمّي العائذ والمستجير.
ولكنه لمّا بدت بوادر انهيار الحكم الأموي بعد مقتل الحسين (عليه السلام)، وأكثر الناس في ثلب الأمويين وذكر معائبهم، استغل ابن الزبير ذلك الظرف، ورآه مواتياً فأنغض برأسه متطلباً الحكم. فاستجاب له كثيرون لا رغبة فيه بل مقتاً لبني أمية، حتى الخوارج تصافوا معه على بني أمية برهة من الزمان، لكنهم فارقوه حين ظهرت منه حسيكة النفاق وسمل منه جلباب الدين، وظهر حبّه للدنيا وتهالكه في سبيلها. فمقتوه وفارقوه بعد ما ناصروه في حربه مع جيش الأمويين بمكة المكرمة، مستحلين جميعاً حرمة البلد الحرام.
وبدت بوادر الاشمئزاز منه تتنامى وتظهر، والناس يسمعون من رجالات بعض الصحابة عن ذم المستحل للبيت الحرام أحاديث مرفوعة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويرون منهم مواقف شائنة وشانئة لابن الزبير.

(1) شرح النهج للمعتزلي 20/145 ط محققة.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 273

وأولئك أرجح ميزاناً وأعلى شأناً من ابن الزبير، فأين هو من ابن عباس أو ابن عمر أو عبد الله بن عمرو بن العاص أو أبي برزة الأسلمي وغيرهم، ممّن كانوا يتحدثون بما سمعوه من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المستحل لحرمة البيت فابن عباس يسمي ابن الزبير وبني أمية بالمستحلين لحرم الله، ويتمنى لو فسح له عن بصره لكان له مع ابن الزبير وبني أمية شأن كما سيأتي بيان ذلك. وكان يبخّل ابن الزبير ويبكّته على بخله، وستأتي شواهد ذلك أيضاً. وكان يغضّ منه على رؤوس الملأ المسلمين غير هيّاب له، ويضع من كبريائه حين يراه يشمخ ويستعلي على الناس بكلامه.
فقد روى الإمام يحيى بن الحسين المرشد بالله ـ أحد أئمة الزيدية ـ في كتابه الأمالي الخميسية بسنده عن الشعبي: «أنّ عبد الله بن عباس دخل المسجد الحرام وقد سار الحسين بن عليّ (عليه السلام) إلى العراق، فإذا هو بعبد الله بن الزبير في جماعة من قريش وقد استعلاهم بالكلام، فجاء ابن عباس حتى ضرب بيده على عضد ابن الزبير فقال: أصبحت والله كما قال الأوّل:
يا لك من قنبرة بمعمر خلالك الجو فبيضي واصفري
ونـقـرّي مـا شـئـت أن تـنـقـري

خلت والله يا بن الزبير الحجاز من الحسين بن عليّ، فأقبلت تهدر في جوانبها.
فغضب ابن الزبير وقال: والله يا بن عباس إنّك لترى أنّك أحق بهذا الأمر مني.
فقال ابن عباس: يا بن الزبير إنّما يرى من كان في شك، وأنا من ذلك على يقين.
قال ابن الزبير: بأي شيء استحق عندك أنّكم أحق بهذا الشأن مني؟

السابق السابق الفهرس التالي التالي