موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 274

فقال ابن عباس: لأنّا أحق بحق من تدلي بحقه. وبأيّ شيء استحقّ عندك أنّك أحق بهذا من سائر العرب إلاّ بنا؟
قال ابن الزبير: استحق عندي أنّي أحق بها منهم لشرفي عليهم قديماً وحديثاً لا ينكرون ذلك.
قال ابن عباس: فأنت أشرف أو من شرفت به؟
فقال ابن الزبير: مَن شرفت به زادني شرفاً إلى شرف قد كان لي قديماً.
قال ابن عباس: يا بن الزبير فالزيادة أشرف أم المزيد عليه؟ والزيادة مني أو منك؟
فأطرق ثمّ قال: منك ولم أبعد.
قال: صدقت يا بن الزبير.
قال ابن الزبير: دعني من لسانك يا بن عباس هذا الّذي تقلّبه كيف شئت، والله لا تحبونا يا بني هاشم أبداً.
فقال ابن عباس: صدقت نحن أهل بيت مع الله لا نحب من أبغضه الله أبداً.
وكان مع ابن الزبير ابن اخيه فنازع ابن عباس، فأخذ ابن الزبير نعله فعلا به رأس ابن أخيه وقال: ما أنت والكلام لا أم لك، ألابن عباس تنازع؟
فقال ابن عباس: لم يستحق الضرب من صدق، وإنّما يستحقه من مرق ومزق.
فقال ابن الزبير: يا بن عباس أما ينبغي أن تصفح عن كلمة، كأنّك قد أعددت لها جواباً.
فقال ابن عباس: إنّما الصفح عمّن أقر، وأمّا عمن هرّ فلا.
فقال ابن الزبير: فأين الفضل؟

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 275

فقال ابن عباس: عندنا أهل البيت لا تصرفه عن أهله فتظلِم، ولا تضعه في غيرهم فتندَم.
فقال ابن الزبير: بلى إن نبذت الحسد، ولزمت الجدد، ثمّ تفرقا»(1).
وفي رواية ابن أبي الحديد: «واعترض بينهما رجال من قريش فأسكتوهما».
وهذه المحاورة أخرجها البيهقي (كان حياً قبل320)(2)، وابن أبي الحديد(3)، والسيّد المدني الشيرازي(4)، وأشار إليها فرهاد ميرزا(5).
وستأتي أمثال هذه المحاورة بين ابن عباس وبين ابن الزبير، تصل في عنفها إلى حدّ المنافرة، وكلّها كانت بمثابة تنبيه للناس بحقيقة ابن الزبير. وساعده عن غير قصد مواقف صحابة آخرين، كانوا يرون زيف دعوى ابن الزبير.
فمنهم ابن عمر الّذي يصفه لزوجته صفية بنت أبي عبيد بأنّ ابن الزبير يقاتل على البغلات الشهب الّتي كان يركبها معاوية. وسيأتي حديثه.
وعبد الله بن عمرو بن العاص يحذره أن يكون الملحد في البيت الّذي ذكره النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأبو برزة يقول عن بني أمية وعن ابن الزبير إنّما يقاتلون على الدنيا، وسيأتي حديثه.
فهذه الأحاديث كانت بمثابة توعية لمن اختدعهم ابن الزبير بزهده مرائياً، سرعان ما انفضّ من حوله الخوارج بعد أن قاتلوا جيش يزيد معه، لما ظهر منه من تهالك على حب الدنيا، والخوارج كانوا قوة لا يستهان بها، فقاطعوه واعتزلوه

(1) الأمالي الخميسية 1/189 ط عالم الكتب بيروت مكتبة المتنبي بالقاهرة.
(2) المحاسن والمساوي 1/66 ط النعساني بمصر سنة 1325 هـ.
(3) شرح النهج 4/491 ط دار الكتب العربية بمصر.
(4) الدرجات الرفيعة /130 ط الحيدرية و /138 مخطوطة الشيخ السماوي رحمه الله.
(5) قمقام (فارسي) /279.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 276

وصاروا يراجعون في أحكامهم ابن عباس، فكان نجدة بن عامر رئيس النجدات يكاتبه في مسائله، وكان هو ونافع بن الأزرق ـ رئيس الأزارقة ـ يأتون إليه بمكة فيسألونه، ومسائل نافع بن الأزرق في غريب القرآن مشهورة وهي مسائل حظيت بالجمع والشرح من بعض الدارسين وستأتي في الحلقة الثالثة ان شاء الله تعالى.
ومن الطبيعي أن تثير تلك المراجعة حفيظة ابن الزبير وتزيد من حنقه على ابن عباس، مضافاً إلى عوامل أخرى أجّجت في نفسه نار البغضاء، سنأتي على ذكرها. فصار يخشى الثورة عليه من جانب ابن عباس لو أراد ذلك، فتجسّس عليه وتحسس رأيه على لسان ابن أبي مليكة قاضيه ومؤذنه ـ كما سيأتي حديثه، وهكذا بقي ابن الزبير يترقّب الفرصة للوقيعة بابن عباس، وقد وافته في أخريات أيام ابن عباس، وسيأتي خبر ما جرى بتفصيل.
والآن إلى بيان ما أشرنا إليه من الأحداث المتتابعة:

آراء صحابية في تفسيق صحابي:

لقد أسرف كثيرون في القول كثيراً حين قالوا بعاصمية الصحبة لكل الصحابة، كما أفرط آخرون فقالوا بعكس ذلك، والوسط خير من جميع ذلك، فالصحابة أناس من البشر يجري منهم وبينهم كما يجري من وبين سائر الناس من حب وبغض، وطاعة ومعصية، وأحاديث الحوض الّتي رواها الشيخان البخاري ومسلم في أكثر من مكان في صحيحهما، تكفي في إدانة من يقول بعصمة الصحابة أجمعين. فبعد هذا لا غرابة إذا ما قرأنا عن الصحابة ابن عباس وابن عمر وعبيد الله بن عمرو بن العاص وأبي برزة ما يفسق ابن الزبير المعدود من الصحابة، وأنّهم جميعاً على حجتهم الواضحة في ذلك التجريح، فقد وصفوه بالمستحل لحرم الله تعالى، وحسبنا ما رواه الحاكم بإسناده عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ستة لعنتهم ولعنهم الله وكلّ نبيّ مجاب: المكذّب بقدر الله،

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 277

والزائد في كتاب الله، والمتسلّط بالجبروت ليذلّ ما أعزّ الله ويعزّ ما أذل الله، والمستحل لحرم الله والمستحل من عترتي ما حرّم، والتارك لسنتي). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرّجاه»(1).


فماذا قال ابن عباس في ابن الزبير؟

أ- روى البلاذري في أنسابه عن المدائني بسنده عن مجاهد عن ابن عباس أنّه قال: «إنّ هذا الأمر بدأ بنبوة ورحمة وخلافة، وإنّه اليوم ملك عقيم، فمن سمع مقالتي فليهرب من بني أمية وآل الزبير فإنهم يدعون إلى النار(2).
ب- وروى أخطب خوارزم الحنفي: «إنّ ابن عباس كان يقول: أيّها الناس لو فسح لي عن بصري لكان لي ولابن الزبير ولبني أمية شأن، ألا وإنّ الله (عزّ وجلّ) قد حرّم هذا الحرم منذ خلق السموات والأرض، وهؤلاء القوم قد أحلّوه، ولكن انظروا متى يقصمهم الله ويغيّر ما بهم.
فقيل: أتعني ابن الزبير أم الحصين بن نمير السكوني؟ فقال: بل أعنيهما وأعني يزيد بن معاوية»(3).
ج- روى البلاذري في أنسابه بسنده عن أبي حمزة، قال: «قلت لابن عباس إنّي بايعت ابن الزبير، فأعطاني وحملني على فرس أفأقاتل معه؟ قال: لا تقاتل معه وردّ عليه ما أعطاك، واشتر بغلاً أو بغلين وغلاماً واغز المشركين، فإن قُتلت على ذلك كنت شهيداً ان شاء الله تعالى.
قال: فرددت على ابن الزبير ما أخذت منه»(4).

(1) مستدرك الحاكم 4/90.
(2) أنساب الأشراف 5/195 أفست المثنى.
(3) مقتل الحسين (عليه السلام) 2/252 مط الزهراء في النجف الأشرف.
(4) أنساب الأشراف 5/196 ط أفست المثنى.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 278

وماذا قال ابن عمر في ابن الزبير؟

أ- روى ابن سعد في الطبقات بسنده عن الحنتف بن السجف قال: «قلت لابن عمر ما يمنعك من أن تبايع هذا الرجل ـ أعني ابن الزبير ـ قال: إنّي والله ما وجدت بيعتهم إلاّ ققّة، أتدري ما ققة؟ أما رأيت الصبي يسلح ثمّ يضع يده في سلحه فتقول له أمه: ققّة»(1).
ب- وروى أيضاً بسنده عن عبد الله بن عُبيد بن عمير قال: «قال ابن عمر: انّما كان مثلنا في هذه الفتنة، كمثل قوم كانوا يسيرون على جادة يعرفونها، فبينا هم كذلك إذ غشيتهم سحابة وظلمة، فأخذ بعضنا يميناً وبعضنا شمالاً فأخطأ الطريق وأقمنا حيث أدركنا ذلك حتى تجلّى عنّا ذلك، حتى أبصرنا الطريق الأوّل، فعرفناه فأخذنا فيه، إنّما هؤلاء فتيان قريش يتقاتلون على هذا السلطان وعلى هذه الدنيا، والله ما أبالي ألاّ يكون ما يقتل فيه بعضهم بعضاً بنعلي»(2).
وروى ذلك الذهبي وقال في آخره: «بنعلي هاتين الجرداوين»(3).
ج- روى الذهبي عن الزهري عن حمزة بن عبد الله قال: «أقبل ابن عمر علينا فقال: ما وجدت في نفسي شيئاً من أمر هذه الأمة ما وجدت في نفسي، من أن أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله.
قلنا: ومن ترى الفئة الباغية؟ قال: ابن الزبير بغى على هؤلاء القوم، فأخرجهم من ديارهم، ونكث عهدهم»(4).

(1) الطبقات الكبرى 4 ق 1/126 ط ليدن.
(2) نفس المصدر 4 ق 1/126 ط ليدن.
(3) سير أعلام النبلاء 4/371 ـ 372 في ترجمة ابن عمر ط دار الفكر.
(4) سير أعلام النبلاء 4/365 ط دار الفكر.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 279

د- روى أبو الفرج قال: «كانت صفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفي تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب فمشى ابن الزبير إليها، فذكر لها أنّ خروجه كان غضباً لله (عزّ وجلّ) ولرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وللمهاجرين والأنصار من إثرة معاوية وابنه بالفيء، وسألها مسألة زوجها عبد الله ابن عمر أن يبايعه، فلمّا قدّمت له عشاءه ذكرت له امر ابن الزبير وعبادته واجتهاده وأثنت عليه وقالت: انّه ليدعو إلى طاعة الله (عزّ وجلّ) وأكثرت القول في ذلك.
فقال لها: ويحك! أما رأيت البغلات الشهب(1) الّتي كان يحجّ معاوية عليها وتقدم إلينا من الشام؟ قالت: بلى قال: والله ما يريد ابن الزبير بعبادته غيرهن»(2).

(1) لقد روى ابن عبد ربه في العقد الفريد 4/420 بتحـ أحمد أمين وأحمد الزين وابراهيم الأبياري، عن هشام بن عروة قال قال عبد الله بن عباس للجائز به جنبني خشبة ابن الزبير فلم يشعر ليلة حتى عثر فيها فقال: ما هذا؟ فقال خشبة ابن الزبير، فوقف ودعا له، وقال: لئن علّتك رجلاك لطالما وقفت عليها في صلاتك. ثمّ قال لأصحابه: أما والله ما عرفته إلاّ صوّاماً قوّاماً، ولكنني ما زلت أخاف عليه منذ رأيته (أن) تعجبه بغلات معاوية الشهب، قال: وكان معاوية قد حج فدخل المدينة وخلفه خمس عشرة بغلة شهباء عليها رحائل الأرجوان، فيها الجواري عليهن الجلابيب والمعصفرات، ففتن الناس.
أقول: لقد نبّه المحققون في الهامش رقم /1 إلى اختلاف الأصول في كلمة للجائز به أو (للجائزة) وكأن الواجب عليهم هذا فحسب، فهذا منهم أمر حسن، ولكن كان الواجب عليهم والأحسن، أن يتنبّهوا إلى كذب الخبر فينبّهوا عليه، لأن وفاة ابن عباس قبل مقتل ابن الزبير بأربع سنين أو بخمس فقد مات سنة /68 بالطائف وقد أخرجه ابن الزبير إليه كما سيأتي تفصيل ذلك، ومقتل ابن الزبير كان سنة /72 - 73 فكيف يصح الخَبر؟ وأحسبه على نحو خبر ابن أبي مليكة الآتي، فيه تزيد كثير لا يخفي على الناقد البصير، والّذي أراه صحيحاً من خبر هشام بن عروة هو تعريض ابن عباس بابن الزبير وما كان يريده بقيادته هو البغلات الشهب، على نحو ما قاله ابن عمر. ولا يفوتني التنبيه على أن المحقق محمّد سعيد العريان حقق أيضاً العقد الفريد في طبعة أخرى ولم يتنبّه هو الآخر لينبّه على كذب الخبر.
(2) الأغاني 1/22 ـ23 ط دار الكتب.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 280

هـ - روى أبو القاسم الكعبي للبلخي في كتابه قبول الأخبار سنده عن عمير ابن هاني قال: «كنت أسمع ابن عمر يقول: لَعبد الملك بن مروان ولابن الزبير دُيّان النار...»(1).
و- أخرج نعيم بن حماد في كتاب الفتن بسنده عن ابن عمر قال لرجل يسأله عن القتال مع الحجاج أو ابن الزبير فقال له ابن عمر: «مع أي الفريقين قاتلت؟ فقتلت: ففي لظى»(2).
ز- وأخرج أيضاً (بسند صحيح كما في الهامش) عن عمير بن هانىء قال: «رأيت ابن عمر (رض) يقول ابن الزبير ونجله والحجاج يتهافتون في النار تهافت الذبان في المرق، فإذا سمع المنادي أسرع إليه»(3).


وماذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص في ابن الزبير؟

روى أحمد في مسنده بسنده عن سعيد بن عمرو قال: «أتى عبد الله بن عمرو ابنَ الزبير وهو جالسٌ في الحجر فقال: يا بن الزبير إياك والإلحاد في حرم الله، فإنّي أشهد لَسمعتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: يُحلّها ويَحُلّ به رجل من قريش، لو وُزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها، قال: فانظر أن لا تكون هو يا بن عمرو، فإنّك قد قرأت الكتب وصحبت الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: فإنّي أشهدك أنّ هذا وجهي إلى الشام مجاهداً»(4).
وهذا الخبر رواه أحمد أيضاً في مسند ابن عمر غير أنّ محقق الكتاب رجّح أنّه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال في الهامش: اسناده

(1) قبول الأخبار ومعرفة الرجال 1/234 نشر دار الكتب العلمية بيروت.
(2) الفتن /136 برقم 424.
(3) نفس المصدر /145 برقم 469 بسند صحيح كما في الهامش.
(4) مسند أحمد 12/9 برقم 7043 تح ـ أحمد محمّد شاكر.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 281

صحيح، وذكره الهيثمي(1) وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، وذكره الألباني في الصحيحة برقم 2462.


وماذا قال أبو برزة الأسلمي في ابن الزبير؟

أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي المنهال قال: «لمّا كان ابن زياد ومروان بالشام ووثب ابن الزبير بمكة، ووثب القرّاء بالبصرة، فانطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي حتى دخلنا عليه في داره وهو جالس في ظل عليّة له من قصب، فجلسنا إليه، فأنشأ أبي يستطعمه الحديث، فقال: يا أبا برزة ألا ترى ما وقع فيه الناس؟ فأول شيء سمعته تكلم به: إنّي احتسبت عند الله إنّي أصبحت ساخطاً على أحياء قريش، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الّذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وان الله أنقذكم بالاسلام ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى بلغ بكم ما ترون، وهذه الدنيا الّتي أفسدت بينكم، إن ذاك الّذي بالشام والله إن يقاتل إلاّ على الدنيا. وإن هؤلاء الّذين بين أظهركم والله إن يقاتلون إلاّ على الدنيا. وإن ذاك الّذي بمكة والله إن يقاتل إلاّ على الدنيا»(2).
هذه أقوال بعض الصحابة ممّن لهم مكانة مرموقة عند المسلمين، ولم نذكرهم إلاّ للتدليل على انحراف ابن الزبير عن جادة الصواب، ومع ذلك نجد الذهبي وابن كثير وأضرابهما يصفونه بأمير المؤمنين!؟!

(1) مجمع الزوائد 3/284ـ285.
(2) صحيح البخاري 9/57 باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج بخلافه، وأخرج الحديث أيضاً البخاري في التاريخ الصغير / الأوسط 1/138 ط دار الوعي مكتبة التراث، ونعيم بن حماد في الفتن/123 (المتوفى 229) تح ـ أبو عبد الله أيمن محمّد محمّد معرفة انتشارات المكتبة الحيدرية، وأخرجه أحمد في المسند4/424 ط مؤسسة قرطبة بمصر، وابو يعلى في مسنده 6/323 ط دار المأمون للتراث دمشق سنة 1404، والروياني في مسنده 2/341 مؤسسة قرطبة بمصر سنة 1416 وفيها تسمية عبد الملك بالشام وابن الزبير بمكة وذكر نافع بن الازرق رأس الأزارقة من الخوارج.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 282

ولسنا في مقام الردّ عليهما، يكفينا بيان عدم أهليته للخلافة قول ابن عبد البر في ترجمته في الاستيعاب قال: «... إلاّ أنّه كانت في ابن الزبير خلال لا تصلح معها الخلافة، لأنّه كان بخيلاً ضيّق العطن سيء الخلق حسوداً كثير الخلاف أخرج محمّد بن الحنفية ونفى عبد الله بن عباس إلى الطائف»(1).
والأنكى من ذلك أنّه كان يتطلب الخلافة في مبايعته بني هاشم له، ويتطلب بيعة ابن عباس وابن الحنفية بشتى وسائل الترهيب مع ما يكنّه لهما من بغض وحقد دفين منذ يوم الجمل، وهو بذلك الهوى والهوس صار يتعرّض لهم بالأذى، وقد مرّت بنا مطالبته ابن عباس بالبيعة فامتنع عليه، وبلغ ذلك يزيد بن معاوية فكتب إلى ابن عباس يستميله ويخادعه، فأجابه بكتابه الّذي ذكرناه آنفاً، ومع ذلك الحال فقد كان ابن عباس يدفع عنه شرّ الأمويين ما استطاع بقدر ما يسمح له الدين حفاظاً على حرمة البيت الحرام.
فقد روى البلاذري في أنسابه: «انّ عمرو بن سعيد الأشدق قدم المدينة والياً عليها وحج في تلك السنة في جماعة من مواليه وهو خائف من ابن الزبير، وكان يزيد قد ولاه الموسم، فأتاه ابن الزبير فسكن لذلك. وأتى عمرو ابن عباس فشكا ابن الزبير، فقال: عليكم بالرفق، فإن له قرابة وحقاً»(2).
وأخرج الطبري في تفسيره بسنده عن عطاء قال: «أخذ ابن الزبير سعداً مولى معاوية ـ وكان في قلعة بالطائف ـ فأرسل إلى ابن عباس مَن يشاوره فيه فإنهم لنا عين ـ عدو ـ فأرسل إليه ابن عباس: لو وجدتُ قاتل أبي لم أعرض له.

(1) الاستيعاب 3/906 تح ـ البجاوي، وط حيدرآباد 1/353.
(2) أنساب الأشراف 1 ق 4/309 تح ـ احسان عباس.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 283

قال: فأرسل إليه ابن الزبير: ألا نخرجهم من الحرم؟ قال: فأرسل إليه ابن عباس، أفلا قبل أن تدخلهم الحرم؟
قال الطبري: أبو السائب ـ أحد شيوخه ـ في حديثه: فأخرجهم فصلبهم، ولم يصغ إلى قول ابن عباس»(1).
وروى الأزرقي أخبار مكة بسنده عن عطاء: «انكر ابن عباس قتل ابن الزبير سعد مولى عتبة وأصحابه...»(2).
ولكن الّذي خبُث لا يخرج إلاّ نكدا، فإنّه اشتد على بني هاشم بالرغم من مبايعة بعضهم له فقد روى المدائني بسنده انّ عبيد الله بن عليّ بن أبي طالب بايعه... وبايعه عبد الله ابن جعفر، وأراد ابن الحنفية على البيعة فلم يبايع(3).
وكان ذلك كلّه بعد موت يزيد واضطراب أمر بني أمية فيما بينهم، حيث استغل ذلك الظرف، فبسط عمّاله في الحجاز والعراق، وصار يحمل الناس على البيعة له بالإكراه فمقته ـ كما مرّ ـ الخوارج وكثير من الناس، وأخذ بالعنف والشدة والاكراه مَن لم يبايعه، ونال بأذاه بني هاشم عموماً، وابن عباس ومحمّد ابن الحنفية خاصة لأنّ كثيراً من المسلمين انحازوا إليهما، خصوصاً الخوارج الّذين صار بعضهم يأخذون العلم من ابن عباس.


هدم ابن الزبير للكعبة وموقف ابن عباس منه:

قال اليعقوبي: «وهدم ابن الزبير الكعبة في جمادى الآخرة سنة 64 حتى ألصقها بالأرض، وذلك أنّ الحصين بن نمير لمّا أراد ابن الزبير هدمها امتنع

(1) تفسير الطبري 4/12 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1373 و 7/31 بتحـ محمود شاكر وأخيه أحمد.
(2) أخبار مكة 2/111.
(3) أنساب الأشراف 1 ق 4/352.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 284

وامتنع الناس من الهدم، فعلا عبد الله بن الزبير على البيت فهدم، فلمّا رآه الناس يهدم هدموا، فلمّا ألصقها بالأرض خرج ابن عباس من مكة ـ إلى الطائف ـ إعظاماً للمقام بها وقد هدمت الكعبة وقال له: اضرب حوالي الكعبة الخشب لا تبق الناس بغير قبلة»(1).
وقال الأزرقي في أخبار مكة: «دعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم وشاورهم في هدم الكعبة فأشار عليه ناس غير كثير بهدمها، وأبى أكثر الناس هدمها، وكان أشدهم عليه إباءً عبد الله بن عباس وقال له: دعها على ما أقرّها عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّي أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها فلا تزال تهدم وتبنى، فيتهاون الناس في حرقها ولكن أرقعها»(2).
وقال: «ولم يقرب ابن عباس مكة حين هدمت الكعبة حتى فرغ منها، وأرسل إلى ابن الزبير: لا تدع الناس بغير قبلة وأنصب لهم حول الكعبة الخشب واجعل عليها الستور، حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها، ففعل ذلك ابن الزبير»(3).
وقال الفاسي في شفاء الغرام: «رأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويبنيها فوافقه على ذلك نفر قليل وكره ذلك نفر كثير منهم ابن عباس (رضي الله عنهما). وكان هدم ابن الزبير لها يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة 64...»(4).
وقال: «فقال له ابن عباس (رضي الله عنهما): إنّي أرى أن تصلح ما وهى منها، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه، وحجارة أسلم الناس عليها وبعث عليها النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم...»(5).

(1) تاريخ اليعقوبي 3/6 ط الغري.
(2) أخبار مكة 1/ ط الماجدية بمكة المكرمة سنة 1352.
(3) نفس المصدر/ 134، وراجع نفس المصدر /142- 143 فثمة نحو ذلك بأسانيد أخرى.
(4) شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/97 ط دار إحياء الكتب العربية سنة 1956.
(5) نفس المصدر/98، وقارن تفسير ابن كثير 1/183 ط دار الفكر بيروت.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 285

أقول: ولا يبعد أن يكون نظر ابن عباس إلى كون درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وهي قاعدة مشهورة ومعتمدة، ولمّا خالفه ابن الزبير فهدمها فقد خرج إلى الطائف، وهذه الخرجة هي أوّل مرة خرج فيها أيام ابن الزبير، وكان خروجه باختياره إعظاماً لهدم الكعبة، بخلاف المرة الثانية فإنّها كانت تحت ضغط ابن الزبير المتعسّف، فخرج هو ومحمّد بن الحنفية ومن معهما بحماية جند المختار الّذين أرسلهم بقيادة أبي عبد الله الجدلي. ثمّ عاد منها إلى مكة.
كما أنّ المرة الثالثة هي الّتي أخرجه ابن الزبير إخراجاً قبيحاً ـ كما يقول اليعقوبي في تاريخه(1) وهي بعد مقتل المختار فأقام بها حتى مات كما سيأتي الحديث عنها.
وفيما أحسب أنّ ما رواه الشعراني من استنكار تركه مكة وسكناه الطائف، قد كان في المرة الأولى لما في جوابه ولو كان بضغط ابن الزبير لذكره، لكنه ذكر في كتابه لواقح الأنوار القدسية: «وقالوا لابن عباس لمّا سكن الطائف لم لا تقيم بمكة؟ فقال: لا أقدر على حفظ خاطري من إرادة ظلمي للناس، أو ظلمي لنفسي، فكيف لو وقعت في الفعل؟ فإنّ الله تعالى لم يتوعد أحداً على مجرّد إرادته السوء دون الفعل له إلاّ بمكة»(2).
أقول: يشير بذلك إلى قوله تعالى: « وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ » (3)، وقد روي نحو هذا عن ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن

(1) تاريخ اليعقوبي 3/9.
(2) لواقح الأنوار القدسية للشعراني /59 ط الأولى نشر البابي الحلبي سنة 1380.
(3) الحج /25.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 286

زيد، فقد قالوا انّ هذه الآية تدل على أنّ الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله(1).
ولهم في ذلك حجة شرعية من الكتاب المجيد قوله تعالى: « وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ » فقد جعل إرادة الفعل سبباً للعذاب. كما أنّ قوله تعالى في سورة القلم (17-20) دالة على ذلك، قال تعالى: « إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ » .
فقد عوقبوا بمجرّد العزم على أن يفعلوا وهم بعدُ لم يفعلوا، وسيأتي مزيد بيان حول ذلك في الحلقة الثالثة في تفسيره إن شاء الله تعالى. فابن عباس إنّما خرج من مكة خشية أن يرى من ابن الزبير مزيداً من التهاون بأمر الكعبة، فهو لا يقدر على حفظ خاطره من إرادة ظلمه للناس أو ظلمه لنفسه، فكيف لو وقع في الفعل من مشادة ابن الزبير وكثير من الناس يَرون رأيه، فربّما أدّى ذلك الجدال إلى الجلاد، وهذا ما حمل ابن عباس إلى سكنى الطائف تلك الفترة. وبقي هناك كما يبدو من نص في كتاب المناسك وأماكن طريق الحج جاء فيه: «عن مجاهد قال ابن عباس: أفرغوا منها؟ ـ يعني الكعبة ـ قلت: نعم، قال: كأني أنظر إليها كرجل أبيض، أما إنّهم لو تركوها كما كانت على عهد محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كان خيراً»(2).

(1) راجع تفسير القرطبي 12/35 ط دار احياء التراث العربي.
(2) المناسك وأماكن طريق الحج ومعالم الجزيرة /490 تح حمد الجاسر ط دار اليمامة - الرياض.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 287

وإذا عرفنا أنّ الراوي هو مجاهد وهو من المكيين وكان من تلامذة ابن عباس المبرزّين، فكان يأتي الطائف لزيارة استاذه فيسأله هو عن بناء الكعبة، وأحسبه رجع إلى مكة بعد هذا الحديث.
وقد استغل عبد الملك بن مروان الموقف بالشام، فمنع أهل الشام من الحج وذلك ان ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة، فلمّا رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة، فضجّ الناس وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله الحرام وهو فرض من الله علينا.
فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدّثكم أنّ رسول الله قال: (لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي ومسجد بيت المقدس)، وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام، وهذه الصخرة الّتي يروي أنّ رسول الله وضع قدمه عليها لمّا صعد إلى السماء تقوم لكم مقام الكعبة، فبنى على الصخرة قبة وعلّق عليها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة، وأقام أهل الشام يأتون بذلك أيام بني أمية(1).


مواقف ابن الزبير العدائية لبني هاشم:

لقد مرّ بنا قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) للزبير حين تواقفا في يوم الجمل: «قد كنّا نعدّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرّق بيننا وبينك»(2).

(1) أنظر تاريخ اليعقوبي 3/7 ـ 8.
(2) تاريخ الطبري 5/204 حوادث 36 ط الحسينية بمصر.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 288

واشتهر عنه (عليه السلام) قوله: «ما زال الزبير منا حتى نشأ ابنه المشؤم عبد الله»(1).
وقال أيضاً فيه: «خبّ ضبّ يروم أمراً لا يدركه، نصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا، وهو بعدُ مصلوب قريش»(2).
وهذا من بعض ما كان يخبر به قبل وقوعه من الحوادث، وهو ممّا علّمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من لدن عليم حكيم.
روى الذهبي عن الواقدي قال: «حدثنا ربيعة بن عثمان وابن أبي سبرة وغيرهما قالوا: جاء نعي يزيد في ربيع الآخر سنة أربع وستين فقام ابن الزبير فدعا إلى نفسه، وبايعه الناس، فدعا ابن عباس وابن الحنفية إلى بيعته، فامتنعا، وقالا: حتى يجتمع لك الناس، فداراهما سنتين ثمّ أنّه أغلظ لهما ودعاهما فأبيا»(3).
وقد ذكر المؤرخون له مواقف عدائية تنمّ عن كامنٍ حقد ونُصب بغيض.
وإلى القارئ بعض ما ذكروه فقد روى ابن سعد في الطبقات بسنده عن عطية العوفي قال: «فلمّا جاء نعي يزيد بن معاوية وبايع ابن الزبير لنفسه ودعا الناس إليه، دعا ابن عباس ومحمّد بن الحنفية إلى البيعة فأبيا يبايعان له، وقالا حتى يجتمع لك البلاد ويتسق لك الناس، فأقاما على ذلك ما أقاما، فمرة

(1) شرح النهج للمعتزلي 4/480 ط الأولى بمصر، وشرح النهج محمّد عبده 3/260 حكمة 354 ط الاستقامة، وقد روى أبو عمر في الاستيعاب هذه الكلمة في ترجمة ابن الزبير بدون لفظ المشؤم، وأحسب أنها ثقلت عليه فحذفها.
ورواها ابن الأثير في أسد الغابة 3/162 في ترجمة ابن الزبير. كما ذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد 5/72 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر، وفي 3/96 طبعة أخرى، وذكرها المفيد في الجمل /192، وهي في نهج البلاغة نسخة جديدة محققة وموثقة، تحقيق وتوثيق دكتور صبري إبراهيم السيّد، جامعة عين شمس وجامعة قطر.
(2) أنظر سفينة البحار 3/33.
(3) سير أعلام النبلاء 4/465 ط دار الفكر، مختصر تاريخ دمشق 12/190 هامش المصدر.

السابق السابق الفهرس التالي التالي