موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 446

إلاّ أنا سنذكره الآن برواية أبي نعيم في كتابه ذكر أخبار اصبهان: فقد روى بسنده عن عطاء عن ابن عباس أنّه كان معتكفاً ودخل عليه رجل فسلّم عليه، فقال له ابن عباس: أراك حزيناً كئيباً؟ قال: نعم يا بن عم رسول الله، لفلان عليَّ حقّ، لا وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه. قال: أولا اُكلّمه لك؟ قال: إن أحببت، قال: فانتعل ابن عباس وخرج من المسجد، وقال له الرجل: أنسيت ما كنتَ فيه؟ قال: لا ولكن سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب ـ يقول: (من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان أفضل من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد ممّا بين الخافقين)(1).
كما روى البيهقي أيضاً في شعب الإيمان عن محمّد بن عطاء قال: «دخل ابن عباس حجرة خالته ميمونة بعد الجمعة فجاء سائل فقام على الباب فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته وصلواته ومغفرته، فقال ابن عباس: انتهوا بالتحية إلى ما قال الله (عزّ وجلّ): (و) « رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ » (2).
ثمّ قال ابن عباس: ما آسي على شيء فاتني من الدنيا إلاّ أني لم أحج ماشياً حتى أدركني الكبر، أسمع الله تعالى يقول: « يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ » (3)»(4).
وقد أخرج الطبراني في معجمه عنه قوله لبنيه: «يا بني أخرجوا من مكة حاجين مشاة فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول: (إنّ

(1) ذكر أخبار اصبهان لأبي نعيم 2/89 ط أفست عن ليدن.
(2) هود /73.
(3) الحج /27.
(4) شعب الإيمان 2/ورقة 30 / أ.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 447

للحاج الراكب بكلّ خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة، والماشي بكلّ خطوة سبعمائة حسنة) »(1).

ما روي عنه من الدعاء وآدابه:

لقد روي عنه في هذا الباب كثيراً مرفوعاً عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ونجد بعض ذلك روي موقوفاً، وفي نظري القاصر أنّه في هذا هو أيضاً بحكم الرفع لأنّه من أين تلقّاه؟ ومن الّذي ربّاه؟ أليس قد مرّت بنا في الجزء الأوّل شواهد اختصاصه بمدينة العلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ من بعد بباب مدينة علمه أمير المؤمنين (عليه السلام) فحمل عنهما ما وسعه فهمه، ففاض بذلك علمه، إذن لا مشاحّة لو رأينا بعض الموقوف في مصدر مرفوعاً في مصدر آخر.
نعم هناك مرويات عنه ظاهرة الوقف نحو قوله في هذا المجال: «كان رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم إذا دعا جعل باطن كفه إلى وجهه»(2)، وقوله: «إياك والسجع في الدعاء فإني شهدت النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وأصحابه لا يفعلون ذلك»(3).
أو مرفوعة متبوعة منه بقول نحو قوله: «كان النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم إذا نظر في المرآة يقول: (الحمد لله ربّ العالمين الّذي خلقني وسوّى خلقي وجعلني بشراً سويّا ولا حول ولا قوة إلاّ بالله).
قال ابن عباس (رضي الله عنهما): فما تركتها منذ سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم. ثمّ قال: لا يمسّ وجه من قالها سوءٌ أبداً»(4)، إلى غير ذلك.

(1) المعجم الكبير 12/9 ط الموصل.
(2) المعجم الكبير للطبراني 11/344 ط الموصل.
(3) نهاية الإرب للنويري 5/285 ط دار الكتب بمصر.
(4) نفس المصدر 5/314.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 448

ومن شواهد ما روي عنه موقوفاً في مصدر كما روي عنه مرفوعاً في مصدر آخر ما ورد في كيفية الدعاء، حيث روي موقوفاً بلفظ عند ابن قتيبة عنه، قال: «الإخلاص هكذا: وبسط يده اليمنى وأشار بإصبعه من يده اليسرى.
والدعاء هكذا: وأشار براحتيه إلى السماء.
والإبتهال هكذا: ورفع يديه فوق رأسه ظهورها إلى وجهه»(1).
ورواه ابن عبد ربه أيضاً باستبدال اليمنى باليسرى وبالعكس في المقامين موقوفاً(2) غير أنّ النويري ذكر ذلك عنه مرفوعاً فقال: «وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قال: الإخلاص هكذا ورفع اصبعاً واحداً من اليمنى، والدعاء هكذا وجعل بطونهما ممّا يلي السماء، والابتهال هكذا ومدّ يديه شيئاً وجعل ظهر الكف ممّا يلي السماء»(3).
وممّا روي عنه مرفوعاً وموقوفاً الدعاء الّذي رواه عنه سعيد بن جبير، وأخرجه الطبراني في معجمه بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «إذا أتيت سلطاناً مهيباً تخاف أن يسطو بك فقل: الله أكبر الله أكبر من خلقه جميعاً، الله أعزّ ممّا أخاف وأحذر، أعوذ بالله الّذي لا إله إلاّ هو الممسك السماوات السبع أن تقعن على الأرض إلاّ بإذنه، من شرّ عبدك ـ فلان ـ وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والأنس، إلهي كن لي جاراً من شرّهم، جلّ ثناؤك، وعزّ

(1) عيون الأخبار 2/283 ط دار الكتب بمصر.
(2) العقد الفريد 3/221 تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.
(3) نهاية الارب 5/84 ط دار الكتب بمصر، ورويت الكيفية عنه بلفظ آخر في نزهة المجالس للصفوري 1/152 و 2/43 (إذا أشار أحدكم باصبع واحدة فهي الإخلاص في الدعاء، وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظهرهما ممّا يلي وجهه فهو الابتهال).
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 449

جارك، وتبارك اسمك، ولا إله غيرك. ثلاث مرات»(1). وهذا ما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: «ورجاله رجال الصحيح»(2).
كما رواه أبو نعيم في حليته بتفاوت يسير(3). ورواه الشعراني في لواقح الأنوار القدسية(4)، وكلّ هؤلاء رووه موقوفاً. إلاّ أنّ النويري رواه عنه مرفوعاً(5). ولا ضير.
وممّا روي عنه من الدعاء موقوفاً ما أخرجه الطبراني في معجمه بسنده عن سعيد ابن جبير قال: «كان ابن عباس يقول: اللّهمّ إنّي أسألك بنور وجهك الّذي أشرقت له السماوات والأرض أن تجعلني في حرزك وحفظك وجوارك وتحت كنفك»(6). ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: «رواه البزار ورجاله رجال الصحيح»(7).
وكان من الدعاء الّذي لم يدعه ما سمعه من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو قوله: (اللّهمّ قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف عليّ كلّ غائبة لي بخير)(8).
ومن أدعيته ما رواه السيّد ابن طاووس في كتابه التشريف بالمنن نقلاً عن كتاب زكريا بن يحيى بن الحارث البزاز، فقال: «روى باسناده عن ابن عباس قال: من نزل به غمّ أو همّ أو كرب، أو خاف من سلطان ظلماً فدعا بهذه الدعوات استجيب له، قال: يقول: أسألك بلا إله إلاّ أنت ربّ السماوات السبع

(1) المعجم الكبير للطبراني 10/258 ط الموصل.
(2) مجمع الزوائد 10/137 ط القدسي.
(3) الحلية 1/322.
(4) لواقح الأنوار القدسية /388 ط البابي الحلبي سنة 1381 هـ.
(5) نهاية الإرب 5/319.
(6) المعجم الكبير للطبراني 10/259.
(7) مجمع الزوائد 10/184.
(8) تاريخ جرجان السهمي /63 ط أفست أوربا.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 450

وربّ العرش العظيم، وأسألك بلا إله إلاّ أنت ربّ العرش الكريم، وأسألك بلا إله إلاّ أنت ربّ السماوات السبع وما فيهن إنّك على كلّ شيء قدير. ثمّ تسأل حاجتك»(1). وهذا أخرجه أحمد في مسنده وفيه: «انّه يقول أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يدعو بهذه الدعوات عند الكرب»(2)، وقد أخرجه مكرراً مرفوعاً وموقوفاً وفيه تفاوت وفي بعضه (وربّ الأرض)(3).
ومرّ بنا دعاء علّمه له الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ليلة صفين - الهرير -. إلى غير ذلك من الأدعية الّتي رواها عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، روى في فضلها الكثير ممّا سمعه، ولعل دعاء التسبيح الّذي أخرجه السيّد ابن طاووس في مهج الدعوات(4) من مهمات تلك الأدعية، حريّ بأن يُرغب المؤمن في طلبه ولولا طوله لذكرته. كما انّ روايته لدعاء الإمام كتبه لليماني المروي في مهج الدعوات أيضاً وكتابته له ما يشعر بالتزامه به، فليراجع.
وقد مرّ بنا في حياته بالبصرة أيام ولايته (3/237) عن طاووس انّه كان يعلمهم الدعاء كما يعلّمهم السورة من القرآن...
وذكر الشيخ النجاشي في رجاله في ترجمة عبد العزيز بن يحيى الجلودي الأزدي البصري، من جملة كتبه ممّا يخص ابن عباس بروايته عنه منها: كتاب قوله - أي ابن عباس - في الدعاء والعَوذ وذكر الخير وفضل ثواب الأعمال والطب والنجوم(5).

(1) التشريف بالمنن /349 ط مؤسسة صاحب الأمر (عج).
(2) مسند أحمد 4/81.
(3) المصدر نفسه (مسند ابن عباس).
(4) مهج الدعوات /82 ـ83.
(5) رجال النجاشي /169 ط بمبئ.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 451

وحسبنا بهذا في الحديث عن ملمح ربانيته في السلوك.
أمّا الحديث عن ملامح شخصيته السياسية في الحزم والحكم فقد تقدم عنها ما يغني في تاريخه ج 3 أيام ولايته على البصرة.
وأمّا عن ملامح شخصيته الثقافية في العلم والمعرفة، فقد مرّ بعض الشواهد عليها ويأتي استيفاء ذلك في الحلقتين الثانية والثالثة ان شاء الله تعالى.
ولنقف هنا مكتفين بما عرضناه، تاركين لأشتات من أخباره، ليس في ذكرها كثير إفادة، وإن جمعت منها الكثير ممّا وصلت إليه يدي من صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة، وصبرت طويلاً وكثيراً على معاناة ذلك الجمع، إلاّ انّي في ذكرها برمتها قد أكون متجاوزاً في ذلك حدود المألوف في مناهج الباحثين، وفيما ورد في أجزاء هذه الحلقة الأولى ما يغني عن ذكر جميع تلك الأخبار، ولا أرى في تركها بأساً ما دامت قناعتي الشخصية رهن إيماني بأني نصرت مظلوماً فيما حبّرته في هذه الأجزاء الخمسة من تاريخ حبر الأمة وترجمان القرآن بما فيه الكفاية.
وسوف نستأنف مسيرتنا مع حبر الأمة من خلال الحلقات الثلاث إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين الّذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والصلاة والسلام على أشرف أنبياء الله، وأوصيائه حجج الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .
ولنختم الحلقة الأولى من موسوعة حبر الأمة وترجمان القرآن، بما جاشت به القريحة، من أبيات تعرب عن نفس جريحة، عاشت الآلام حتى من المتردية والنطيحة نسأل المولى جلّ اسمه، أن يتفضل علينا بلطفه لإكمال بقية الحلقات

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 452

الثلاث، عسى أن يُنتفع بها في كشف البُهمة عن تاريخ حبر الأمة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم تحريره وتبييضه بيد مؤلفه الفقير إلى ربه الغني، المعترف بالتقصير والعصيان محمّد مهدي السيّد حسن الموسوي الخرسان عفي عنه يوم الخميس السابع عشر من 5 سنة 1424 هـ حامداً مصلياً.
بسمه تعالى شأنه

آيات فضلك:
آيات فضلك كلّها عنوان مهما أنتقيتُ فإنّه البرهان
فبليغ نطقك دونه سحبان وحديث زهدك كلّه إيمان
وعلو كعبك دونه الكيوان فشذت صفاتك كلّها ريحان
من أين أبدأ في حديثي كلما خايرتها يتميّزُ القرآن
***
تلك الحقيقة قد بدت مزهوة كالشمس واضحة لديّ عيان
يا حافظاً دون البلوغ لمحكم ومفسّراً فيما أتى التبيان
يا ترجمان الوحي أنت وعيته حفظاً ومعنى واستبان لسان
يا حبر أمتنا بنعتٍ صادق هل يُنكرنْ نور الذَكا إنسان
يا بحر علمٍ قد أفضتَ معارفاً زخرتْ بطوفان الهدى الوديان
فلأنتَ ربانيّ أمة أحمد فيما حُبيتَ شهيدُك الفرقان

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 453

يُفني البِلا جسداً ويبقى بعده للمرء ذكرٌ ما أتت أزمان
يحيى بذكر الخالدات لدى الورى تُروى ليَحيى ذكرَها الإنسان
يا راسخاً في العلم زيّنه التقى علماً وحلماً زانك الإيمان
فاهنأ أبا العباس يزجيك الثَنا صوراً صحاحاً دونها البرهان
أخلاقك الغراء شعّت رفعة أنوار علمك زَيتها القرآن
إيهاً أبا العباس هذي مدحتي مني الفخار ومنكمُ الإحسان
***
يا ناهلاً للعلم من صفو الهدى بمدينة وببابها تزدان
فقتَ الصحابَ بما سمعتَ وعيتَه لم تلهك الأسواق والبعران
فمدينة العلم النبيّ صحبته فسبقتَ من سبقت به الأسنان
وحباك من نبع النبوة منهلاً ما زال ثراً سيله غُدران
ونعمتَ في بيت النبوة برهةً فتقاصرت عن شأوها الأزمان
لا غروَ لو فقتَ الصحابَ روايةً قلبٌ عقولٌ بالسؤال لسان(1)
أنّى يكون السابقون دراية لو وازنوك لما استوى الميزان
***
إيه ابن عباسٍ فدعني سائلاً عما كتبتُ فهل به بهتان
هل صحّ عندك ما رأيتَ وما روي فيما أتى الشيخانِ أو نكران
كيف المواثيق الّتي قد أبرمت عهد النبي، وبعده مَن خانوا

(1) قال عمر بن الخطاب: عبد الله فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول. الاستيعاب 3 / 935 ومصادر أخرى.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 454

أفهل رأوا في هجرها ومرخَّصاً منع الوصيةِ مَن هم الخوّان
إيهاً عصيّ الدمع حدّثنا بما أشجاك حتى فاضت العينان
تبكي الرزية حين قالوا ضلة قلبَ النبيّ أصابه الهُجران
لم ذا التنازع وهو ينشد صحبَه صُمّت لهم عن سمعه آذان؟
ماذا جرى حتى أرقت على الثرى دمعاً تحدّر قيل فيه جُمان؟
لولاك ما عُرف الحديث وشأنُه كم ذا المعالمُ لفّها الكتمان
أو ليس في يوم الغدير ولايةً مشهودةً قد لفّها النكران؟
حدّث أبا العباس فيما قد جرى قد كنت في البيت الّذي قد كانوا
هل صحّت الأخبار حين أتوكم بالجزل حتى قد بدا الدخان
أفهل رأيتَ عجاجةً لم يّطفها غير الدماء يقولها سفيان؟(1)
كثر الحديث وما أتى من نثّه فيه الأسى فليطوه النسيان
***
حدّث لمن عايشت بعد محمّد عن خير مَن سادت به عدنان
حتى إذا مات النبيُّ لزمتَ مَن هو نفسُه وشهيدك القرآن
صاحبته طفلاً وكهلاً شاخصاً سلماً وحرباً ضمكم تحنان
حدّث أبا العباس عمّا قلته كم نفثة صُكّت لها الآذان
فوقفت في صفّ الإمام تحوطه حرفاً وسيفاً ما أقتضى الميدان
ونصرت حيث الخالفين تقدموا بمواقف هاجت لها الأحزان
حاججت في أمر الإمامة عصبةً جحدت بما قد شاده القرآن

(1) قال أبو سفيان بعد بيعة أبي بكر: أرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم. تاريخ الطبري 3 / 209.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 455

أخرستَ كلّ الناعقين بحجة لكنّ هاشم حظُها الحرمان
فكعمتَ فاغرةً تلجلج منشداً فيما يوسوس نُشدها الشيطان
واه ابن عباس يقول مخاصمٌ وخصمتَه بالحقّ وهو مدان
كم معشر سبقوا ووافى بعدهم مَن سار سيرهُم فهم أعوان
ما كنتَ يوماً ناكصاً عن موقف قد شدّ مقولك القويمَ جَنان
حقاً إذا ما عشتَ تبقى ماثلاً في الخالدين مواقفاً تزدان
***
يا خير من عاش الزمان مكابداًً عَنَتَ الحوادث إذ يفيء زمان
صلب العقيدة في المواقف كلّها إن يُقتدح زند له نيران
خبّر عن الأمر الذي قد جاءكم من بعد غاشية الخنوع فدانوا
ثارت شقاشقُ فاستثارت عصبةٌ فعلا النعيقُ وصاتت الغربان
وتحزّبت فرق الضلال يسوقها طمعٌ وتعلو فوقَه الأضغان
وعلا نعيقُ بالشئام يجيبه يرغو رغاءً عسكرٌ شيطان
حدّث لنا عن ذي الحروب وما بها من محنة طالت بها الأزمان
هبّت ظعينة أحمد في هودج سارت فسار بسيرها الركبان
مرَحَى أبا العباس كنت موفّقا في كل ما تخطو لك الإذعان
كم مرة جئت الزبير مناصحاً ولطلحة ولمثلهم من خانوا
فلقد نصحتَ الناكثين ومذ أبوا يوم الهياج شهيدُك الميدان
ونهضتَ في تلك الضروس مجاهداً بضُبا جهادك حجةٌ وسنان
يكفيك من ناءت بحجتك البكا تبكي وتبكي عندها النسوان

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 456

أبدت لك الأضغانَ من مكنونها الله ماذا تفعل الأضغان
***
إيهاً أبا العباس حدّث ما جرى في حرب صفّينٍ ومن ذا كانوا
حيث الطليق مع اللصيقَ تناغما في حربكم مذ تعبد الأوثان
كم أشعلوها في القديم بليّةً طالت وعمّت واستعزّ كيان(1)
حتى إذا الإسلام طنّب ضارباّ تلك الرؤوسَ فساقَها الإذعان
جاءت إلى الإسلام تبغي مكسباً من بعد شركٍ حظه الخسران
عصبت علياً بالدماء أراقها في يوم بدر قالها عثمان(2)
وأتى ابن هند كافراً بقتاله حتى قضى ما بلّه الإيمان(3)
يا حبر يا من يستلذّ لسامع تروي له ما ضمّه الميدان
نازلتَ عمرواً والوليد وغيره وشهيدك البتارُ والخرصان(4)
وبفتنة الحكمين ساء مسارُها مضريةٌ نقّت فنقَّ يمان
وتجاوبت أصداءَ كل مرنّة بلهاءُ شاكيةً لها إرنان
كنت المرشّح والمفضّل عندهم لكن أبوا مذ ساقهم عصيان

(1) قوي وأشتد.
(2) قال عثمان لعليّ: ما ذنبي إليك إذا لم تحبّك قريش وقد قتلت منهم يوم بدر سبعين كأن وجوههم شنوف الذهب تصرع آنافهم قبل شفاههم (شرح النهج 9/22، نثر الدرر 2/ 68، معرفة الصحابة لأبي نعيم /2.
(3) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (سُباب المسلم فسوق وقتاله كفر) والحديث صحيح مروي في أكثر من أربعين مصدراً سنّياً حسبك منها صحيح البخاري 2/27، ورواه في تاريخه الكبير 4/47 و 7/384، وتاريخه الصغير 1/226، وأحمد في مسنده 1/385 و 411 و 433 و 454.
(4) الخرصان = الرماح.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 457

فتباريا الحكمان هذا خادع خبّ وذاك مغفّلٌ حيوان
وإذا العراق رهينة في حكمهم خسروا الرهان إذا همُ إرهان
فتشتتوا زمراً وكنت رقيبَهم تبغي الهدى ورقيبَهم شيطان
وسرت ركابُهم على غير الهدى تُحدى كأنّ مسيرهم كوفان
لكنهم نزلوا حروراء انتهى أمر الحكومة فابتدا الإعلان
فأتيتَ نحوهم بأمر بالغٍ حتى استجاب إلى الهدى من دانوا
وبقيتَ ترقبهم وتلك عصابة مرقت من الدين الحنيف فبانوا
***
إيهاً أبا العباس خبّر ما جرى لعصابة المرّاق مهما كانوا
عاثوا فساداً وانتهوا بجموعهم في النهروان يسوقهم شيطان
ولئن نجا مَن فرّ عاد مكايداً فتحالفوا قسماً عتاةً مانوا
فأتوا بفاجعة الصيام وجلّلو بسوادهم واظلمّت الأكوان
وهنا أبا العباس رغم رزية متجلداً لم تلهك الأحزان
فحمدتَ مشكوراً تعيد لأمةٍ سفّت وطارت واستشاط دخان
ودعوتَ للسبط الزكي مبايعاً حتى استجابوا وليتهم ما خانوا
فبقيتَ تسترعي المواقف خلسة بالشام حيث مقرّه السلطان
أصحرتَ في كلّ المواقف ناصراً آل النبيّ وأنّك المعوان
ولكم دمغتَ الخصم حجةَ بالغ مهما تزايد جمعُه الخُوّان
ونصرتَ للسبط الشهيد مناصحاً فيما رأيت وفاتك النشدان
لولا الشهادة للحسين كما ترى ما انفّكّ حزنُك، ما أتى السلوان

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 458

آهاً أبا العباس عشت مكابداً فقد الحبيب وما أتى العدوان
***
ماذا لقيتَ من الأذى من معشر عُفُنِ الرؤوس وعشعش الشيطان
فبقيت ترزح تحت كلّ بلية طخياءَ قد جاءت بها الأوثان
فبنى على ظلم النبيّ وآله جورُ ابن هند واعتلى البنيان
فيزيدهُم حَكَم البلاد بكفره وأتى بما لم يطوه النسيان
قتَلَ الحسين وذاك أعظم فادح مترنّما شعراً به الكفران
وغزا المدينة واستباح حريمها وغزا لمكّة هدّه الرحمن
وتسافلت فرص الحياة فساسها أسفاً وتعساً إذا أتى مروان
وابنُ الزبير وذاك رجس عائذ بالبيت قد ضجّت به الأركان
فلقد نفاك وكان آخر ظلمه تباً له إذ حظّه الخسران
ذهب الذين تهضّموك بظلمهم فجزاؤهم يوم الجزا النيران
وبقيتَ حياً في العلوم لقارئ هذا ابن عباس يشير بنان
هذا ابن عباس تجده ماثلاً ملأ القماطر كلها أعيان
يكفيك حياً أن تعيش مخلّداً إذ ليس من بعدِ العيان عيان
حزتَ الخلودَ وزادك الإيمانُ ومضى العتاة نصيبهم خسران
***
عذراً أبا العباس هذي نفثةٌ تخز الضلوعَ ونارُها حَرّان
فأقول من أسفٍ تصاعدَ حزنُه حتى استشاط بأن يبوح لسان
صرتَ الضحية للعدو وللأولى ما أنصفَ الأعداءُ والخلاّن

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 459

عصفت رياح بالعداوة لم تدع حصناً سليماً أو يُرى بنيان
سنّوا مسبّتكم وتلك رزيةً باءت بها الأعداء والولدان
خصمان في أمر الخلافة أنحلا الآباء كلَ رزية تُختان
فالمكرماتُ تبدلت أضدادَها وغدا هجين يصطفيه هجان
وتسابقا بالطعن حتى أنّهم مَن دان مَن يبغي عليه يُدان
فلقد جرتْ عبر العصور مصائبٌ كانت مناقبك العُلا أثمان
لولا بنوك وقد أساؤا سيرة في آل أحمد ما أتى البرهان
فأبثها شكوى وقلبيَ مؤمن أني نصرتُ وملؤه إيمان
حسبي بما حبّرتُ فيك موضّحاً أخطاءَ من بَهتوا عليك فدانوا
مستشرفاً وَضَح الحقيقة معلنا للناس أن الحق فيه بيان
والله بصّركم عمايةَ مغرضٍ من نسج أعداء لهم أضغان
لا تعجلوا بالقدح إن وراءكم يوم الحساب سينصبُ الميزان
***
يا خير من نصر الوصيّ مشايعاً عمراً طويلاً كله تحنان
إيهاً أبا العباس يهنيك الولا من خير خاتمة حوى إنسان
فولا علي وهو خير وسيلة قربىً وزلفى يرتضي الرحمن
ولقد عملتَ بما علمتَ وقد أتى من أحمدَ المختارِ فيه بيان
طوبى أبا العباس قد جزت المدى في كلّ شوط في الدنا تزدان
***
يا حبرُ يا من يستريح محدِّث يروي حديثَك كله عرفان

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 460

فلكم نشرتَ من العلوم صحائفاً متلوةً تعنو لها الأذقان
ولكم هديتَ من الضلالة حائراً لم يستبن سبل الهدى حيران
ولكم كشفتَ من الغوامض سرّها للناس من آي حوى الفرقان
لا غرو لو عشتَ القرون مخلدا ذكراً حميداً كلّه إحسان
فلأنتَ حي في فنون معارف بصحائف لم تبلها الأزمان
***
يا مجزل الإحسان برّك واسع كالغيث قد سالت به الوديان
عفواً إذا ما كنت فيك مقصّراً ومبيّناً ما شابه النقصان
هذا جناي وما جنيتُ مجازفاً فلقد أتيتُ بما أتى البرهان
خمسون عاماً قد دأبتُ وممعناً في البحث حتى ملّني الأخوان
حسبي بهذا أن يكون بضاعتي أرجو بها أن يثقل الميزان
فتثيبني عند النبيّ شفاعةً ولدى الوصي مكانةً ازدان
ويضمني والحبر أقربُ منزل عند الآله وعفوه الغفران
أنت الشفيعُ فلا تخيّب حاجتي حيث الشفيع وبرّه الإحسان
لا شك ترعاني وترعى صحبتي حسبي بما قد قلت فيك ضمان
***
يا حبر أمتي المجيدة إنّني ما زلت بالحقّ السنيّ أُزان
ها قد حبوت لباب قبري شاخصاً نحو السماء ليعفو الرحمان
وقطعتُ من عمري سنيناً نيّفت ما قد قطعتَ وجازه الحسبان
والمرء مهما قيل فيه معمَّر لابدّ يوماً ينتهي الإنسان

السابق السابق الفهرس التالي التالي