موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 431

4- مع حسان:
روى أبو الفرج في الأغاني بسنده عن سعيد بن جبير قال: «كنا عند ابن عباس فجاء حسان فقالوا قد جاء اللعين، فقال ابن عباس: ما هو بلعين لقد نصر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بلسانه ويده.
وفي رواية ثانية: انّه جاء رجل إلى ابن عباس فقال: قد جاء اللعين حسان من الشام.
فقال ابن عباس: ما هو بلعين لقد جاهد مع رسول الله بلسانه ونفسه»(1).
أقول: وفي النفس من هاتين الروايتين شيء يمنع من قبولهما، وذلك هو دفاع ابن عباس عن حسان بأنه نصر أو جاهد بلسانه ويده أو نفسه، إذ لا شك في جهاده ونصرته بلسانه، ولكن جهاده بيده أو نفسه فليس كذلك، إذ لم يذكر في تاريخه مرة واحدة انّه باشر حرباً مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا أدلّ على جبنه من قصته يوم الخندق حيث جعله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع النساء في الأطم، ولمّا أتى يهودي محاولاً الصعود إلى من فيه، ندبته صفية بنت عبد المطلب لينزل إليه فيقتله، امتنع، فنزلت إليه بنفسها وقتلته، ثمّ صعدت فقالت لحسان في سلبه، فأبى خوفاً وفرّقا كما صرّح هو بذلك عن نفسه، والقصة مشهورة إذن، فلا يعقل أن يكون ابن عباس لم يعلم بها فكيف يصفه بأنه جاهد بيده ونفسه؟
5- من كلام النبوة:
روى ابن قتيبة في عيون الأخبار بسنده عن طاووس عن ابن عباس قال: «إنّها كلمة نبيّ:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تُزوّد»(2)

(1) نفس المصدر 9/155 ط الساسي.
(2) عيون الأخبار 2/191.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 432

أقول: وكلام ابن عباس مأخوذ من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد فقال: «وأنشد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذا البيت فقال: هذا من كلام النبوة ولايعني من جنس كلام النبوة ولا في حكمته، بل هو هو من كلام النبوّة، وقد رد ابن عباس على زعم من قال أنّه من قول طرفة بن العبد البكري ـ (والبيت برقم (102) من معلقته، كما في ديوانه 44 ط برطرند في مدينة شالون سنة 1900 م بشرح الأعلم الشنتمري)ـ فقد روى أبو نعيم في ذكر أخبار اصبهان بسنده عن ابن عباس قال: «إنّ الناس يزعمون أنّ هذا قول طرفة ما قالها إلاّ نبيّ:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تُزوّد(1)»(2)

ثمّ مع سائر الناس:

كان ابن عباس يعدّ في سلوكه مع الآخرين نموذجاً فريداً بين الناس، فهو في صبره واحتماله وجوامع سيرته يتعايش مع الآخرين على حسب مراتبهم في نظره. وهو يعيش الغيرية النبيلة الّتي لا تعرف الأنانية ولا النفعية.
قال ميمون بن مهران سمعت ابن عباس يقول: ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلاّ أنزلته احدى ثلاث منازل، إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضلت عليه، وإن كان دوني لم أحفل به. هذه سيرتي في نفسي فمن رغب عنها فأرض الله واسعة(3) وهذه سيرة مُثلى.
وشتمه رجل فقال: إنّك لتشتمني وفيّ ثلاث، إنّي لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأحبّه ولعلّي لا أقاضي إليه أبداً، وإنّي لأسمع

(1) ذكر أخبار أصبهان 2/191 ط أفست ليدن.
(2) العقد الفريد لابن عبد ربه 5/271.
(3) صفوة الصفوة 1/317 ط حيدر اباد.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 433

بالغيث يصيب البلاد من بلدان المسلمين فأفرح به وما لي بها من سائمة ولا راعية، وإنّي لآتي على آية من كتاب الله فوددت أنّ المسلمين كلّهم يعلمون منها مثل ما أعلم(1) وهذه غيرية فاضلة عزّ نظيرها.
والشواهد على ذلك في أقواله وأفعاله كثيرة، وفي أخباره المنثورة وحكمه المأثورة شواهد صدق، نسوق بعضاً من أخباره مع الناس نتعرّف فيها خلقه الرفيع في مداراة الناس ومجاراتهم حسب مداركهم العقلية، فلم يمنعه علمه وشرفه عن إجابة السائل عن مسألته وإن تكن في نظر الكثير ليست بذي بال أو تافهة، وفي بعض تلك الشواهد نتعرف على جوانب من جامعيته العلمية فضلاً عن قدراته العقلية الّتي سيأتي الكلام عنها في الحلقتين الثانية والثالثة بعون الله.
وله مع ذلك الخلق الرفيع شجاعة على إنكار المنكر عز نظيرها عند غيره ممّن هو في سنّه، بل فاق آخرين ممّن كانوا أكبر سناً منه، ومرت بنا في تاريخه بعض الآثار والأخبار، عالج فيها اصلاح مواضيع اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية عجز عنها غيره، وقد مرت شواهد كثيرة، أهمها ما كانت مع الحاكمين، فلم ترهبه سطوة الحكم ولم يخش بطش الظالمين وكان هو أشد جرأة مع من كانوا في نظره من المتطفلين الّذين اتخذوا الحديث وسيلة لاقتناص المغفّلين من المسلمين، وحسبنا في المقام قوله: «كلما لعق أحدهم من الإسلام لعقة، ذهب يقول: حدّثني رسول الله، ووالله ما حدّثه رسول الله بشيء، ولا هو ممّن يفقهون حديثاً»(2).
وستأتي بعض الشواهد الأخرى من هذا النمط في الحلقات الآتية ان شاء الله.

(1) الاصابة 2/330، وصفوة الصفوة 1/317.
(2) من أين نبدأ /52 خالد محمّد خالد ط الثامنة سنة 1954 وقد مرّ بلفظ آخر عن مجمع الزوائد ومعجم الطبراني.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 434

أمّا الآن فإلى منثور الأخبار:
1- خرّج ـ ابن وهب ـ عن الثوري: «أنّ رجلاً أتى إلى ابن عباس (رضي الله عنهما) فقال: أنا على هواك فقال له ابن عباس: الهوى كلّه ضلالة أي شيء أنا على هواك؟»(1)
2- روى أبو الفرج في الأغاني، وثعلب في مجالسه(2)، والنويري في نهاية الارب(3)، والقيرواني في زهر الآداب(4)، وأبو الطيب الوشاء الدؤلي في كتابه الموشّى(5) وغيرهم، والخبر بلفظ الأوّل: بسنده عن أبي صالح قال: «كنت مع ابن عباس بعرفة فأتاه فتيان يحملون بينهم فتى لم يبق منه إلاّ خياله، فقالوا له يا بن عم رسول الله ادع له، فقال: وما به؟ فقال الفتى:
بنا من جوى الأحزان في الصدر لوعة تكاد لها نفس الشفيق تذوب
ولكنما أبقى حشاشة مقولٍ على ما به عودٌ هناك صليب

قال: ثمّ خفت في أيديهم، فإذا هو قد مات.
فقال ابن عباس: هذا قتيل الحب لا عقل ولا قود.
قال أبو صالح: ثمّ ما رأيت ابن عباس سأل الله (عزّ وجلّ) في عشيته تلك إلاّ العافية ممّا به ذلك الفتى.
قال: وسألنا عنه فقيل: هذا عروة بن حزام»(6).

(1) الاعتصام 3/25 ط المنار سنة 1332 هـ بمصر.
(2) مجالس ثعلب /114.
(3) نهاية الأرب 2/182.
(4) زهر الآداب 4/131.
(5) الموشّى في الظرف والظرفاء 1/58.
(6) الأغاني 20/158.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 435

3- روى ابن حجر في الإصابة في ترجمة جندب بن عمرو بن حممة عن ابن دريد بسنده عن الشعبي قال: «كنا عند ابن عباس وهو في صُفة زمزم يفتي الناس إذ قام إليه أعرابي فقال: أفتيتهم فأفتنا.
قال: هات؟ قال: ما معنى قول الشاعر؟
لذي الحكم قبل اليوم ما تقرع العصا وما عُلّم الإنسان إلاّ ليُعلما

فقال ابن عباس: ذاك عمرو بن حمممة الدوسي قضى بين العرب ثلثمائة سنة فكبر، فألزموه السابع أو التاسع من ولده، فكان إذا غفل قرع له العصا، فلمّا حضره الموت اجتمع إليه قومه، فأوصاهم بوصية حسنة فيها حَكَم»(1).
4- ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار والفائق: «أنّه أتى ابن عباس إنسانين من ولد أبي لهب ليصلح بينهما، فوجأ أحدهما الآخر بخنجر، فقال ابن عباس: أمّا أنا فأشهد أنّكما ممّا كسب»(2).
وقد روى هذه القضية الحاكم النيسابوري والذهبي في تلخيصه بصورة أخرى عن أبي الطفيل قال: «كنت عند ابن عباس يوماً فجاء بنو أبي لهب يختصمون في شيء بينهم، فقام يصلح بينهم، فدفعه بعضهم فوقع على الفراش فغضب ابن عباس وقال: أخرجوا عني الكسب الخبيث، يعني ولد أبي لهب»(3).
أقول: وهو يشير بذلك إلى ما جاء في القرآن الكريم في ذم أبي لهب في سورة تبت من قوله تعالى: « تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ » (4).

(1) الإصابة 1/249 ط الأولى بنفقة عبد الحفيظ.
(2) ربيع الأبرار باب القرابات والأنساب/3 نسخة الأوقاف المخطوطة ببغداد رقم 388، الفائق 2/129 ط حيدر آباد.
(3) مستدرك الحاكم 2/539.
(4) المسد /1 - 2.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 436

5- ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار: «قال رجل من همدان لابن عباس (رضي الله عنه): أبا عباس ممّن أنا؟ قال: انت رجل من العرب. قال: فمن أنت؟ قال: من سأل عنّا أهل البيت فإنّا من أهل كوثى(1). الأصل آدم، والكرم والتقوى، والحسب الخُلق، إلى هذا انتهت نسبة الناس»(2).
6- ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار والسمعاني في أنسابه قال: «متّ رجل إلى ابن عباس برحم بعيدة، فألان له وقال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم، فإنّه لا قرب بالرحم إذا قُطعت وإن كانت قريبة، ولا بُعد بها إذا وُصلت وإن كانت بعيدة»(3).
7- «سمع أعرابي ابنَ عباس يقرأ قوله تعالى: « وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا » (4) قال الأعرابي: والله ما أنقذنا منها وهو يريد أن يلقينا فيها، فقال ابن عباس: خذوها من غير فقيه»(5).
8- ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار: «أنّ رجلاً تكلم في مجلس ابن عباس فأكثر الخطأ، فالتفت إلى عبدٍ له فأعتقه، فقال الرجل: ما سبب هذا الشكر؟ قال: إذ لم يجعلني الله مثلك»(6).

(1) كوثى: قرية قرب الكفل من نواحي الكوفة كان فيها مسكن إبراهيم الخليل (عليه السلام).
(2) ربيع الأبرار (باب القرابات والأنساب)/3 نسخة الأوقاف المخطوطة ببغداد رقم 388 و2/174 نسخة الرضوية.
(3) ربيع الأبرار (باب القرابات والأنساب) /3 نسخة الأوقاف المخطوطة ببغداد رقم 388 و2/181 نسخة الشيخ السماوي.
(4) آل عمران /103.
(5) عيون الأخبار لابن قتيبة 1/134، العقد الفريد 2/295، محاضرات الراغب 2/176، كشكول البحراني 1/394.
(6) ربيع الأبرار (باب الجهل والنقص) نسخة الرضوية، وقارن نوادر الحمقى والمغفلين /9.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 437

9- روى ابن سعد في الطبقات بسنده عن عوف عن يزيد الفارسي قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في النوم زمن ابن عباس على البصرة، قال: فقلت لابن عباس إنّي قد رأيت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم فقال ابن عباس: فإنّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كان يقول: إنّ الشيطان لا يستطيع أن يتشبّه بي فمن رآني في النوم فقد رآني، فهل تستطيع أن تنعت هذا الرجل الّذي قد رأيت؟ قال: نعم، أنعت لك رجلاً بين الرجلين، جسمه ولحمه أسمر إلى البياض، حسن المضحك، أكحل العينين، جميل دوائر الوجه، قد ملأت لحيته ما لدُن هذه إلى هذه ـ وأشار بيده إلى صُدغيه ـ حتى كادت تملأ نحره.
قال عوف: ولا أدري ما كان مع هذا من النعت.
قال: فقال ابن عباس: لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا»(1).
10- ذكر الصفوري في نزهة المجالس: «أنّه كان في زمن ابن عباس رجل كثير المال، فلمّا مات حفروا قبره فوجدوا فيه ثعباناً عظيماً، فأخبروا ابن عباس بذلك، فقال: احفروا غيره، فحفروا فوجدوا الثعبان فيه حتى حفروا سبعة قبور، فسأل ابن عباس أهله عن حاله، فقالوا: إنّه كان يمنع الزكاة، فأمرهم بدفنه معه»(2).
11- ذكر الصفوري أيضاً في نزهة المجالس: «أنّ رجلاً قال لابن عباس: إنّي كثير النسيان، فقال له: عليك بالكُندر، انقعه ليلاً ثمّ اشربه على الريق فإنّه يمنع النسيان»(3).

(1) الطبقات الكبرى 1ق 2/125 ط ليدن.
(2) نزهة المجالس 1/115.
(3) نفس المصدر 1/36.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 438

12- ذكر الراغب الاصبهاني في محاضراته: «أنّ ابن عباس رأى رجلاً يتظلف عن ذكر السوأتين فقال: (ان تصدق الطير ننك لميسا) ودخل في الصلاة. يريد أنّ ذكر ذلك ممّا لا يحرج»(1).
أمّا ابن قتيبة في عيون الأخبار(2)، وابن منظور في لسان العرب، والزبيدي في تاج العروس، وغيرهم ذكروا: أنّه كان محرماً فأخذ بذنب ناقة من الركاب وهو يقول:
إن يصدق الطير ننك لميسا وهنّ يمشين بنا هميسا

فقيل له يا أبا العباس أترفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث ما روجع به النساء.
فرأى ابن عباس في الرفث الّذي نهى الله تعالى عنه بقوله: « فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ » (3) هو ما خوطبت به المرأة وقيل عندها عند الملاعبة، وأمّا غير ذلك فغير داخل في النهي عنه في الحج.
13- ذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار: «خطب رجل إلى ابن عباس يتيمةً له فقال ابن عباس: لا أرضاها لك، قال: ولم؟ وفي حجرك نشأت؟ قال: لأنّها تتشرف(4) وتنظر، قال: وما هذا فقال ابن عباس: الآن لا أرضاك لها»(5).
14- أخرج الصدوق في أماليه بسنده عن عبابة بن ربعي قال: «إنّ شاباً من الأنصار كان يأتي عبد الله بن عباس، وكان عبد الله يكرمه ويدنيه، فقيل

(1) المحاضرات للراغب الأصبهاني 2/116.
(2) عيون الأخبار 1/321 ط دار الكتب.
(3) البقرة /197.
(4) أي تتطلع.
(5) عيون الأخبار 4/16.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 439

له: إنّك تكرم هذا الشاب وتدنيه، وهو شاب سوء يأتي القبور فينبشها بالليالي فقال عبد الله بن عباس إذا كان ذلك فأعلموني، قال: فخرج الشاب في بعض الليالي يتخلل القبور فأعلم عبد الله بن عباس بذلك، فخرج لينظر ما يكون من أمره، ووقف ناحية ينظر إليه من حيث لا يراه الشاب، قال: فدخل قبراً قد حفر، ثمّ اضطجع في اللحود ونادى بأعلا صوته: يا ويحي إذا دخلت لحدي وحدي، ونطقت الأرض من تحتي، فقالت: لا مرحباً بك ولا أهلاً، قد كنت أبغضك وأنت على ظهري، فكيف وقد صرت في بطني، بل ويحي إذا نظرت إلى الأنبياء وقوفاً والملائكة صفوفاً، فمن عدلك غداً من يخلصني؟ ومن المظلومين من يستنقذني؟ ومن عذاب النار من يجيرني؟ عصيت من ليس بأهل أن يُعصى، عاهدت ربّي مرة بعد أخرى، فلم يجد عندي صدقاً ولا وفاءاً، وجعل يردد هذا الكلام ويبكي، فلمّا خرج من القبر، التزمه ابن عباس وعانقه ثمّ قال له: نعم النباش نعم النباش، ما أنبشك للذنوب والخطايا، ثمّ تفرقا»(1).
15- ذكر التوحيدي في البصائر والذخائر: «إنّ عبد الله بن عباس أرعى رجلاً من العرب أبلاً له فأسمنها وردّها كأنها قصور أو عذارى حور، فقال: كيف تراها، فقال الراعي تسر الناظر، وتخصب الزائر. قال: فإنّها لك ولك أجرك، فبكى الأعرابي، فقال له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي ضنّاً بهذا الوجه أن يعفّر في التراب، فقال ابن عباس: لهذا القول أحسن من قصيدة»(2).

(1) أمالي الصدوق /294 ط الحيدرية.
(2) البصائر والذخائر للتوحيدي /200.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 440

16- روى البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد: «أنّ ابن عباس كان يسمي عبيده بأسماء العرب، عكرمة وسميع وكريب، وانه قال لهم تزوجوا، فان العبد إذا زنى نزع منه نور الإيمان، ردّ الله عليه بعد أو أمسكه»(1).


شخصية ابن عباس:

لقد كانت في تاريخه عدة جوانب رئيسية لشخصيته، وقد مرّ بنا منها ما قرأناه عبر تاريخ حياته الطويل، فعرفناه شخصية فذة توحي بملامح رئيسية، ربانية في السلوك والتربية، سياسية في الحزم والحكم، ثقافية في العلم والمعرفة، لكل من تلك الملامح أبعاد وأبعاض، تكشف عن عظيم شخصيته. والآن فلنذكر بعض الشواهد على آثار تلك الملامح في تأثير شخصيته عند الآخرين.


ربانيته في السلوك والتربية:

لقد مرّت بنا في الجزء الأوّل شواهد عند الحديث عن نشأته وأخلاقه، وقرأنا فيها بعض ما يشير إلى ملامح ربانية في سلوكياته في نفسه ومع غيره، وثمة الآن بعض الشواهد الأخرى ممّا لم يتقدم لها ذكر، وهي تمتاز بنقاوة مفاهيمها عنده وان غايرت المغروس في أذهان بعض الناس عن بعض تلك المفاهيم، فمثلاً عندما نتحدث عن زهده وورعه وعن تقواه وإيمانه وعن عبادته وخشوعه لا نريد سوى الحديث عمّا كان عليه من الأخذ بمبادئ الإسلام النقيّة في توجيه ذاته، في تهذيب الأنانية حتى نمت عنده الغيرية القائمة على أساس متين من الوظائف العبادية، فعمل على تنمية روح الجماعة في النفس، وأشاع فيضها في التعاطف والتماسك مع الغير، مع الخشية من الله تعالى والتقرّب إليه والإيمان به

(1) شعب الإيمان 2/ورقة 115 أ نسخة مصورة ميكروفلم بمكتبتي.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 441

وحده، وهذا ما لمسناه في صَلاته وصِلاته، وفي أسرته وفي أمّته، وذلك هو منهج الإسلام الّذي كان هو أحد سدنته، وحاملي رسالته.
ونعود إلى ذكر الشواهد الّتي ألمحنا إليها وانّها قد تغاير ما يألفه الناس، فمثلاً عندما نصفه بالزهد، وقد عرف الناس الزاهد مَن كان معرضاً عن الدنيا ولذائذها وطيبات الحياة، واكتفى بلبس المسوح والصوف، بينما كان ابن عباس يلبس الرداء وقد اشتراه بألف(1). فأين منه الزهد الّذي يعرفه الناس؟ لكننا إذا تأمّلنا قوله: «لأن أرقّع ثوباً فألبسه فيرفعني عند الله أحبّ إليَّ من أن ألبس ثياباً تضعني عند الخالق وترفعني عند المخلوقين»(2). فالميزان عنده ليس هو لبس الثياب، بل هو الرفعة عند الله تعالى لينال بها الثواب، وهنا أدركنا معنى الزهد الحقيقي الّذي كان يعمر قلبه.
ونزداد إيماناً بذلك حين نقرأ قوله الآخر: «كلّ ما شئت وألبس ما شئت إذا ما أخطأك اثنتان إسراف ومخيلة»(3).
وقوله الثالث: «ثلاث من كنّ فيه فقد استحق ولاية الله، حلم أصيل يدفع به سفه السفيه، وورع يمنعه عن المعاصي، وحسن خلق يداري به الناس»(4).
وقوله الرابع: «من لم تكن فيه ثلاث خصال فلا توافه: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يطرد به فحشه، وخلق يعيش به»(5).

(1) أنظر العقد الفريد 1/328، وربيع الأبرار باب اللباس والحلي.
(2) أنظر اللمع في التصوف /136.
(3) أنظر عيون الأخبار لابن قتيبة 3/296، ربيع الأبرار للزمخشري باب اللباس والحلى، محاضرات الراغب 1/300 و 2/156.
(4) أنظر نزهة المجالس للصفوري 1/175 ط مصر.
(5) أنظر المجتنى لابن دريد /64 ط حيدر آباد.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 442

وهذا جميعه يلقي الضوء على منهجه المستقيم في الحياة.
وما أبلغ كلمته في الغيرية القائمة على مبادئ الإسلام القيمة حين يقول لرجل وقد سبّه: «أتسبّني وفيَّ ثلاث خصال» وقد مرّت في أوّل شواهد سلوكه مع الناس، كما أنّه ليس دونها قوله: «لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهراً أو جمعة أو ما شاء الله، أحبّ إليَّ من حجة بعد حجة، ولطبق بدانق أهديه إلى أخ لي في الله (عزّ وجلّ) أحبّ إليَّ من دينار أنفقه في سبيل الله (عزّ وجلّ) »(1).
ونكتفي بهذه الشواهد للتدليل على سلوكيته في نفسه ومع غيره، وأنّها قائمة على مبادئ الإسلام، وأخرى لم نأتِ عنه بفلسفة جدلية يصعب فهمها، إنّما الّذي ذكرناه يندر ويصعب وجدانه عند الكثير من الناس.
ولو تدبرنا كلمته في أساس الدين، عرفنا مبلغ علمه وكمال عقله ومنتهى بصيرته في سلوكه، فقد قال: «أساس الدين على العقل، وفرضت الفرائض على العقل، وربّنا يعرف بالعقل، ويتوسّل إليه بالعقل، والعاقل أقرب إلى ربّه من جميع المجتهدين بغير عقل، ولمثقال ذرّة من برّ العاقل أفضل من جهاد الجاهل ألف عام»(2).
أمّا إذا أردنا الإلمام بملامح دالة على ورعه وتقواه وانحاء عبادته فعلينا أن نقرأ أوّلاً بعض أقوال معاصريه ومنهم بعض تلامذته الّذين هم أكثر الناس إحاطة وخبرة بأحواله في سفره وحضره.
1- عن ابن أبي مليكة قال: «صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة، وكان يصلي ركعتين فإذا نزل قام شطر الليل ويرتّل القرآن

(1) أنظر حلية الأولياء لأبي نعيم 1/328، وصفوة الصفوة 1/318.
(2) روضة الواعظين للفتال /9.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 443

يقرأ حرفاً حرفاً، ويكثر في ذلك النشيج والنحيب، ويقرأ « وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ » (1)»(2). وجاء نحو ذلك عن طاووس كما في التذكار للقرطبي.
2- قال طاووس اليماني: «ما رأيت أحداً كان أشدّ تعظيماً لحرمات الله تعالى من ابن عباس، والله لو أشاء إذا ذكرته أن أبكي لبكيت»(3).
3- قال أبو رجاء العطاردي: «رأيت ابن عباس وأسفل عينيه مثل الشراك البالي من البكاء»(4).
وقال مرّة: «كان في وجه ابن عباس خطان من أثر الدموع»(5).
4- قيل للحسن ـ البصري ـ يا أبا سعيد إنّ قوماً زعموا أنّك تذم ابن عباس، فبكى حتى أخضلّت لحيته ثمّ قال: «إنّ ابن عباس كان من الإسلام بمكان، ان ابن عباس كان من القرآن بمكان، وكان والله له لسان سؤول وقلب عقول، وكان والله مثجاً يسيل غربا»(6).
5- ذكر أبو الجوزاء عن ابن عباس صلاة التسبيح وقال: «انّه لم يكن يدع هذه الصلاة كلّ يوم جمعة بعد الزوال وأخبر بفضلها ما يجل عنه الوصف».

(1) ق /19.
(2) شعب الإيمان للبيهقي 1/ورقة 29 أ نسخة مصورة ميكروفيلم بمكتبتي، وسير أعلام النبلاء 3/236، والتذكار للقرطبي /141.
(3) المعرفة والتاريخ للفسوي 1/542.
(4) سير أعلام النبلاء 3/236.
(5) عيون الأخبار لابن قتيبة 1/295.
(6) البيان والتبيين للجاحظ 1/85 تح ـ هارون، ولسان العرب (ثج غرب) وفيه كان من العلم بمكان.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 444

وروي عن عطاء: «أنّ رجلاً دخل على ابن عباس وبين يديه المصحف وهو يبكي وقد أتى على هذه الآية إلى آخرها: « فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ » (1).
فقال ابن عباس: قد علمت أنّ الله أهلك الّذين أخذوا الحيتان وأنجى الّذين نهوهم، ولا أدري ما صنع بالذين لم ينهوهم ولم يواقعوا المعصية، وهي حالنا»(2).
أمّا الحديث عن أنحاء عباداته فمن نافلة القول الإسهاب فيه، وحسبنا ما مرّ من عكوفه على التهجّد ليلاً بالصلاة وتلاوة القرآن.
ولا ننسى قوله: «ركعتان مقتصدتان خير من قيام ليلة والقلب ساه»(3). وفي عوارف السهروردي: «ركعتان في تفكر خير من قيام ليلة»(4).
وقوله: «لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام»(5).
كما لا ننسى قوله في تلاوة القرآن: «لأن أقرأ البقرة وآل عمران في ليلة أرتّلهما وأتدبّرهما وأتفكر فيهما أحبّ إليَّ من أن اقرأ القرآن كلّه هذرمة» هكذا ورد اللفظ في ربيع الأبرار(6)، وصفوة الصفوة(7)، وشرح النهج للمعتزلي(8)،

(1) الأعراف /165.
(2) التبيان للطوسي 5/19.
(3) رواه ابن أبي الدنيا في التفكر نقلاً عن موسوعة آثار الصحابة 3/48، والغزالي في الإحياء 3/214 و 4/364.
(4) أتحاف السادة المتقين 3/44.
(5) منهاج العابدين للغزالي /35 ط مصر سنة 1327، وطبقات الشعراني 1/22.
(6) ربيع الأبرار باب الدين وما يتعلّق به (نسخة الرضوية ونسخة السماوي).
(7) صفوة الصفوة 1/317.
(8) شرح النهج للمعتزلي 2/477.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 445

والمستظرف للأبشيهي(1). إلاّ أنّ عبد الرزاق في المصنف بلفظ: «لأن أقرأ البقرة وأرتلها أحبّ إليَّ من أن أهذّ القرآن كلّه»(2).
ومهما يكن اللفظ فقد دلّ على التزام في أدب التلاوة، وترغيب في أدب التعليم للآخرين، وهو في هذا كان نموذجاً فذّاً، حيث كان من رأيه على حد قوله: «تذاكر العلم بعض ليلة أحبّ إليَّ من إحيائها»، وعقب على هذا القول منه ابن القيّم فقال: «وفي مسائل إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل قوله: تذاكر العلم بعض ليلة الخ أيّ علم أراد؟
قال: هو العلم الّذي ينتفع به الناس في أمر دينهم، قلت: في الوضوء والصلاة والصوم والحج والطلاق ونحوها؟
قال: نعم. وقال لي إسحاق بن راهويه هو كما قال أحمد»(3).
وأتاه رجل فقال يا بن عباس كيف صومك؟ قال أصوم الإثنين والخميس، قال: ولم؟ قال: لأنّ الأعمال ترفع فيها وأحبّ أن يرفع عملي وأنا صائم(4).
وروى البيهقي في شعب الإيمان خبر اعتكافه في المسجد النبوي الشريف وإنّ رجلاً أتاه في حاجة فخرج معه لقضائها، ثمّ روى ما دلّ على فضل قضاء الحاجة على فضل الأعتكاف، وذكر في ذلك حديثاً عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ودمعت عيناه عند ذكر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(5). وسوف نذكر الخبر بتمامه في الحلقة الثالثة في فقهه إن شاء الله.

(1) المستظرف للأبشيهي 1/18.
(2) المصنف لعبد الرزاق 2/489.
(3) أتحاف السادة المتقين للزبيدي 1/138 ط دار الكتب العلمية بيروت.
(4) سير أعلام النبلاء 3/236.
(5) شعب الإيمان 2/ورقة 29 أ نسخة مصورة (ميكروفلم) بمكتبتي.

السابق السابق الفهرس التالي التالي