موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 416

قالوا: فما أعددت لهم؟ قالت: خبزة تحت ملّتها انتظر بها أن يجيئوا، قالوا لها فجودي لنا بنصفها؟
قالت: لا ولكن بها كلّها، قالوا: ولم منعتِ النصف وجدتِ بها كلّها، ولا خبز عندك غيرها؟
قالت: إنّ إعطاء الشطر من خبزة نقيصة، فأنا أمنع ما ينقصني وأجود بما يرفعني.
فأخذ الوكيل والغلمان والخبزة لفرط حاجتهم إليها وانصرفوا، ولم تسأل من هم ولا من أين جاؤا؟
فلمّا أتوا عبد الله وأخبروه خبر العجوز عجب من ذلك، وقال: ارجعوا إليها فاحملوها في دعة وأحضروها.
فرجعوا إليها وقالوا لها: انّ صاحبنا أحبّ أن يراك، قالت: ومن صاحبكم؟ قالوا: عبد الله بن العباس.
قالت: ما أعرف هذا الإسم، قالوا: العباس بن عبد المطلب وهو عمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
قالت: والله هذا الشرف العالي وذروته الرفيعة، وماذا يريد مني؟
قالوا: يريد أن يكافئك على ما كان منك.
قالت: لقد أفسد الهاشمي ما أثلَ له ابن عمه (عليه السلام)، والله لو كان ما فعلت معروفاً ما أخذت عليه ثواباً، وإنّما هو شيء يجب على كلّ إنسان أن يفعله.
قالوا: فإنّه يحب أن يراك ويسمع كلامك.
قالت: أصير إليه، لأنّي أحب أن أرى رجلاً من جناح النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعضواً من أعضائه.

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 417

فلمّا سارت إليه رحّب بها وأدنى مجلسها وقال: ممّن أنت؟ قالت: من كلب، قال: كيف حالك؟ قالت: لم يبق من الدنيا ما يفرح إلاّ وقد بلغته، وإنّي الآن أعيش بالقناعة، وأصون القرابة، وأنا أتوقع مفارقة الدنيا صباحاً ومساءً.
فقال لها: أخبريني ماذا أعددت لأولادك عند انصرافهم بعد أخذنا الخبزة؟
فقالت: أعددت لهم قول العربي:
حتى أنال به كريم المأكل ولقد أبيت على الطِوى وأظلّه

فأعجب بها ثمّ قال لبعض غلمانه: انطلق إلى خبائها فإذا أقبل بنوها فجيء بهم.
فقالت العجوز للغلام: انطلق فكن بفناء البيت، فإنهم ثلاثة فإذا رأيتهم تجد أحدهم دائم النظر نحو الأرض عليه شعار الوقار، فإذا تكلم أفصح، وإذا طلُب أنجح، والآخر حديد النظر كثير الحذَر إذا وعد فعل، وإن ظلم قتل، والآخر كأنّه شعلة نار، وكأنّه يطلب بثار، فذاك الموت المائت والداء الكابت، فإذا رأيت هذه الصفة فيهم فقل لهم عني: لا تجلسوا حتى تأتوني.
فانطلق الغلام فأخبرهم، فما بعُد أمده حتى جاؤا فأدناهم ابن عباس وقال: إنّي لم أبعث إليكم وإلى والدتكم إلاّ لأصلح من أمركم، واصنع ما يجب لكم.
فقالوا: هذا لا يكون إلاّ عن مسألة أو مكافأة فعل جميل تقدم، ولم يصدر منا واحدة منهما، فان كنت أردت التكرم مبتدءاً فمعروفك مشكور وبرّك مقبول مبرور.
فأمر لهم بسبعة آلاف درهم وعشرٍ من النوق، فقالت العجوز لأولادها، ليقل كلّ واحد بيتاً من قوله:

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 418

فقال الأكبر:
شهدت عليك بحسن المقال وصدق الفعال وطيب الخبر

وقال الأوسط:
تبرعت بالبذل قبل السؤال فعال كريم عظيم الخطر

وقال الأصغر:
وحقّ لمن كان ذا فعله أن يسترقّ رقاب البشر

وقالت العجوز:
فعمّرك الله من ماجد ووقّيت ما عشت شرّ القدر

قال تميم اليربوعي: فالتفت إليّ ابن عباس وقال: يا تميم وددت لوجدتُ مزيداً في ابتداء المعروف إلى هذه المرأة وبنيها، وجعل يتأوه من تقصيره عن مراده في ذلك.
فقلت له: لقد أحسنت وأرجحت، وقد شهد فضلك بما سبق من قولك، فأنت أتمّ الناس عقلاً وأكملهم مرؤة».
5- ذكر القاضي التنوخي في كتابه المستجاد، والغزالي في إحياء العلوم: «أنّه اجتمع قراء البصرة إلى ابن عباس ـ وهو عامل بالبصرة ـ فقالوا لنا جارٌ صوّام قوّام يتمنى كلّ واحد منا أن يكون مثله، وقد زوّج ابنة له من ابن أخيه وهو فقير، وليس عنده ما يجهّزها به.
فقام عبد الله بن عباس فأخذ بأيديهم فأدخلهم داره، ففتح صندوقاً فأخرج منه ست بُدَر، ثمّ قال: احملوا فحملوا، فقال ابن عباس: ما أنصفناه أعطيناه ما يشغله عن صيامه وقيامه، ارجعوا نكن أعوانه على تجهيزها، فليس للدنيا من القدر ما يشغل به مؤمناً عن عبادة ربّه تعالى، وما بنا من التكبر ما لا نخدم معه أولياء الله تعالى، ففعل وفعلوا»(1).

(1) المستجاد من فعلات الأجواد /34، إحياء العلوم 3/215.
وقارن المحجة البيضاء للفيض الكاشاني 6/67 وكتاب محمّد وصحبه لعبد الحفيظ أبو السعود ط دار الكتاب العربي بمصر سنة 1367.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 419

6- روى الخوارزمي في فضائله فقال: «افتخر رجل من بني هاشم ورجل من بني أمية، فقال الأموي للهاشمي اذهب فسل أهلك واذهب فأسأل أهلي. فاتى الأموي عشيرته فسأل عشرة منهم فأمروا له بمائة ألف درهم، وأتى الهاشمي عبد الله بن عباس فأمر له بمائة ألف درهم، ثمّ أتى الحسن (عليه السلام) فأمر له بمائة وثلاثين ألف درهم، ثمّ أتى الحسين فأمر له بمائة وعشرين ألف درهم وقال: لا أساوي أخي بالفضل، فجاء الأموي بما أعطاه أهله وكذا الهاشمي، فغضب الأموي فردّها على أصحابها فقبلوها، وردّها الهاشمي على أصحابها فلم يقبلوها، فكانت الأخيرة أشدّ على الأموي من الأولى»(1).
7- ذكر الإبشيهي في المستظرف قال: «قدم ابن عباس على معاوية، فأهدى إليه من هدايا النوروز حللاً كثيرة ومسكاً وآنية من ذهب وفضة ووجّهها إليه مع حاجبه، فلمّا وضعها بين يديه نظر ابن عباس إلى الحاجب وهو ينظر إليها، فقال: هل في نفسك منها شيء؟ قال: نعم والله في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف (عليه السلام).
فضحك عبد الله بن عباس وقال: خذها فهي لك. قال: جعلت فداك أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيحقد عليّ، قال: فاختمها بخاتمك وسلّمها إلى الخازن، فإذا كان وقت خروجنا حملناها إليك ليلاً، فقال الحاجب: والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم»(2).

(1) شرح شافية أبي فراس /249 ط حجرية في ايران.
(2) المستظرف للابشيهي 1/159، وذكر القصة ابن عبد ربه في العقد 1/342 تح ـ أحمد أمين ورفيقيه ونسبها إلى عبيد الله وزاد في آخرها ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه ـ يعني معاوية ـ فظنّ عبيد الله انها مكيدة منه، قال: دع عنك هذا الكلام فإنا قوم نفي بما وعدنا ولا ننقض ما أكّدنا.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 420

8- ذكر الإبشيهي في المستظرف: «انّ معاوية حبس عن الحسين بن عليّ صلاته، فقيل له لو وجهت إلى ابن عمك عبد الله بن عباس فإنّه قدم بنحو ألف ألف، فقال الحسين: وأنّى تقع ألف ألف من عبد الله، فالله لهو أجود من الريح إذا عصف، وأسخى من البحر إذا زخر، ثمّ وجّه إليه مع رسوله بكتاب يذكر فيه حبس معاوية صلاته عنه وضيق حاله، وانه يحتاج إلى مائة ألف درهم، فلمّا قرأ عبد الله كتابه انهملت عيناه وقال: ويلك يا معاوية أصبحت لين المهاد رفيع العماد، والحسين يشكو ضيق المال وكثرة العيال ثمّ قال لوكيله: احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من ذهب وفضة ودواب وأخبره انّي شاطرته فان كفاه وإلاّ فاحمل إليه النصف الثاني.
فلمّا أتاه الرسول قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثقلت والله على ابن عمي، وما حسبت أنّه يسمح لنا بهذا كلّه»(1).
9- ذكر الشيخ المقيلي اليمني (ت 1108) في كتابه العَلَم الشامخ، قال: «ويحكى ان عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) ـ وكان يعد من الأجواد ـ آوى في بعض أسفاره إلى جنب بعض أهل البادية ولم يكن للبدوي غير شاة وهو لا يعرف ابن عباس، وذبح له الشاة، فلمّا ارتحل قال لخازنه أعطه بقية ما عندك قال إنها خمسمائة دينار، قال أعطه إياها، قال: يكفيك أن تضاعف له قيمة شاته، قال: هو أجود منا أعطانا كلّ ما يملك، وأعطيناه بعض ما نملك، قال: انّه لا يدري من أنت، قال أنا ابن عباس لكني أدري من أنا»(2).

(1) نفس المصدر 1/60، وقارن زهر الربيع /326 ط بمبئ سنة 1342 هـ، وذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد 1/341 تح ـ أحمد أمين ورفيقيه أن القصة كانت مع عبيد الله بن عباس، وهذا من التصحيف غير المتعمد لتشابه الإسمين في الخط.
(2) العَلم الشامخ في ايثار الحقّ على الآباء والمشايخ /577 ط مصر سنة 1328 هـ، وروى أبو هلال العسكري في كتابه الكرماء مط الشورى بالفجالة بمصر سنة 1326 هـ هذه القصة =
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 421






= وانها مع عبيد الله بن عباس لكنه وهم فيما أراه، لأنّه قد رواها بسنده عن مقسم مولى عبد الله بن عباس وعن غيره وفي هذا ما يصحح نقل المقيلي كما في المتن، خصوصاً وفي الخبر حضور مقسم الحادثة، وهو إنّما يكون عادة مع مولاه عبد الله، وروايته: قالوا ـ مقسم وغيره ـ وفد عبيد الله بن العباس على معاوية، فلمّا كان بعض الطريق أصابته السماء فأمّ أبياتاً من الشعر، وإذا أعرابي قد قام إليه ـ فلمّا رأى هيئته وبهاءه ـ وكان من أحسن الناس شارة وأحسنهم هيئة ـ قال الاعرابي لامرأته: ان كان هذا من قريش فهو من بني هاشم، وان كان من اليمن فهو من بني آكل المرار ـ فأنزله، وذلك في الليل، فقام الاعرابي إلى عنيزة له يذبحها ـ فجاذبته امرأته وقالت: أكل الدهر مالك وشرب، ولم يبق لك ولبناتك إلاّ هذه العنيزة، تضع درتها كمخة عرقوب، ثمّ تريد أن تفجعهنّ بها. قال: والله لأذبحنّها، فقالت: والله إذن لا يتركك بناتك، قال: والله له الموت خير من اللؤم ثمّ قال: ـ وعبيد الله يسمع ـ
قـريـنـة لا تـوقـظـي بُـنيّة إن توقظيها تنتحب عـليـه
وتنزع الشفرة من يديّـه أبـغـض بـهـذا وبـهـا إلـيـه
ثمّ ذبح الشاة وجعل يقطع من أطايبها ويلقيه على النار، ثمّ قرّبه إلى عبيد الله بن العباس ومن معه، فجعل عبد الله ـ كذا ـ يأكل ويحدّثه في خلال ذلك بما يلهيه ويضحكه، حتى إذا أصبح وأنجلت السحابة وهمّ بالرحيل، قال لمقسم: كم معك من نفقتك؟ قال: خمسمائة دينار، قال: ألقها إلى الشيخ، قال: ما تريد إلاّ أن تسأل الناس في طريقك إن هذا يرضيه عُشر ما سميتَ، وتأتي معاوية ولا تدري علام توافقه. قال: ويحك انا نزلنا على هذا وما يملك إلاّ هذه الشاة، فخرج لنا من دنياه كلّها، ونحن نعطيه بعض ما نملكه، فهو أجود منّا قال: فألقاها إليه وارتحل، فأتى معاوية فقضى حوائجه، فلمّا انصرف، قال لمقسم: انظر ما حال صاحبنا فعدل إليه، فإذا إبل وشاء وحال حسنة، فلمّا بصر الأعرابي بعبيد الله أكبّ على أطرافه يقبّلها، ثمّ قال: بأبي أنت وأمي قد مدحتك، ولا أدري والله من أي خلق أنت وأنشده:
تـوسّـمـته لما رأيت مهابـة عليه وقلت المرء من آل هـاشم
وإلا فمن آل المرار فإنـهم مـلـوك وأبـنـاء المـلـوك الأكـارم
فقال عبيد الله أصبت أنا من ولد هاشم، وقد ولدني آكل المرار. فبلغ معاوية ذلك، فقال: لله در عبيد الله من أيّ بيضة خرج وفي أي عشّ درج، هذه والله من فعال عبيد الله معلّم الجود وهو والله كما قال الحطيئة:
أولئك قوم إن بنوا أحـسـنـوا الـبـنـا وإن عاهدوا وفـوا وإن عقدوا شدّوا
وإن كانت النـعمـاء فيهم جزوا بها وإن أنـعـمـوا لا كـدّروهـا ولا كـدّوا
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 422

10- وبعث له معاوية بأربعة آلاف دينار، ففرّقها في بني عبد المطلب، فقالوا: انا لا نقبل الصدقة، فقال: إنّها ليست صدقة وإنّما هي هدية(1).
11- روى أبو بكر الخرائطي في مكارم الأخلاق بسنده: «أنّ سائلاً أتى ابن عباس فسأله، فقال ابن عباس: يا سائل أتشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
قال: نعم، قال: وتصلي الخمسَ وتصوم رمضان؟ قال: نعم.
قال: حقّ علينا أن نصلك، فنزع ابن عباس ثوباً عليه فطرحه عليه، ثمّ قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: من كسا مسلماً ثوباً كان في حفظ من الله ما دام عليه منه رقعة»(2).
12- قال السمهودي في وفاء الوفاء: «قال ابن شبة: وتصدّق عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما بماله بالصهوة ـ وهو موضع بين يين وبين حورة على ليلة من المدينة - وتلك الصدقة بيد الخليفة - توكل بها»(3).
إلى غير ذلك من أخبار جوده وقد قرأنا بعضها في السلوك الشخصي أيام ولايته على البصرة. وحسبنا منها اكرامه وفادة أبي أيوب الأنصاري، وضيافته لركب من بني هلال وهم في منازلهم فكانت الجفان تغدو عليهم وتروح بألوان الطعام.
حتى قال ابن المنتخب الهلالي:
إنّ ابن عباس وجود يمينه كفى كلّ معتلّ قرانا وباخل
وأرحلنا عنه ولم ينأ خيره ولا غاله عن برّنا أمّ غائل

(1) ذخائر العقبى /234.
(2) مكارم الأخلاق /0 ط السلفية بمصر سنة 1350 هـ.
(3) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى 2/337 ط مصر سنة 1327.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 423

تروح وتـغـدو كلّ يوم جفانُه بكلّ سديف النيّ للجوع قاتل

وقرأنا أيضاً أنّه كان يعشّي الناس بالبصرة في شهر رمضان ويحدثهم ويفقههم.
وإذا كان ذلك في أيام ولايته وبيده بيوت المال، فإنّ في أيام وفاداته على معاوية وأيام إقامته بمكة والمدينة ما يزيد إيمان المستزيد، ألم يقل مجاهد: كان ابن عباس أمدّهم قامة، وأعظمهم جفنة، وأوسعهم علماً؟ وقد مرّ ذلك.
ألم يقل عطاء: ما رأيت مجلساً قط أكرم من مجلس ابن عباس أكثر علماً وأعظم جفنة؟ وقد مرّ ذلك.
ألم يقل الضحاك: ما رأيت بيتاً أكثر خبزاً ولحماً من بيت ابن عباس؟ وقد مرّ ذلك.
ألم يقل معن بن أوس في ذم ابن الزبير وفي مدح ابن عباس وابن جعفر في أبياته وقد مرّ حديثه في الشاهد الثاني من شواهد بواعث الحسد عند ابن الزبير ومنها:
فقلنا له لا تقرباً فأمامنا جفان ابن عباس العلا وابن جعفر

وذكر السيّد نعمة الله الجزائري في زهر الربيع: «انّ رجلاً أتاه يوماً فقال: إنّ لي عندك يداً وقد احتجت إليها، فقال: وما هي؟ قال: رأيتك واقفاً بزمزم وغلامك يملأ لك من مائها فظلّلت عليك من الشمس حتى شربت. فقال: أجل إنّي أذكر ذلك، ثمّ قال لغلامه ما عندك؟ قال: مائتي دينار وعشرة آلاف درهم، قال: ادفعها إليه، وما أراها تفي بحقه عندنا. فقال الرجل: لو لم يكن لإسماعيل

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 424

ولد غيرك لكان فيك كفاية، فكيف وقد ولد سيّد الأولين والآخرين ثمّ شفع بك وبأبيك»(1).
وختام القول فهو كان يرى الإنفاق في اعالة بيت من المسلمين شهراً أو جمعة أو ما شاء الله أحبَ إليه من حجة بعد حجة، ويرى هدية طبق بدانق يهديه إلى أخ له في الله أحب من دينار ينفقه في سبيل الله (عزّ وجلّ)(2) ألم يرو لنا مؤرج السدوسي المتوفى سنة 195 في كتابه حذف من نسب قريش قوله: «وكان منادٍ ينادي بمكة: من يريد العلم واللحم فليأت منزل عبد الله بن عباس»(3).
وقد مرت بنا في تاريخه بالبصرة أيام ولايته، وفي أيام ابن الزبير في حكومته شواهد أخرى دالة على جوده وسخائه.

الأدب الرفيع والخُلق العالي:

لقد وردت شواهد منثورة دالة على تعامله مع الناس على أختلاف مشاربهم ومواهبهم، وإنّا إذ نسوقها ذكراً دون تعقيب منا عليها، لوضوح دلالتها على خلقه العالي الرفيع في سعة الصدر لاحتمال الأذى، ومنتهى الأدب في تكريم من يستحق التكريم وإن كان من شرائح المجتمع الدون حسب أعراف المجتمع يومئذ، وبذلك السلوك الشخصي فرض احترامه واكتسب الثناء عليه، وفيما ورد شعراً ونثراً من مديح أثنى الناس به عليه ما يعبّر عن مبلغ إعجابهم وعظيم تقديرهم.
ولعل أهم شرائح المجتمع الّتي يخشى الناس حصائد ألسنتهم، وبوادر نزواتهم، هم زمرة الشعراء ومنهم الهجاؤن خاصة، ممّن لم تسلم أعراض الناس

(1) زهر الربيع /326 ط بمبئ سنة 1342.
(2) البيان والتبيين 1/284.
(3) حذف من نسب قريش /8.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 425

من شتمهم، وهؤلاء لم يكن ابن عباس بمنأى عنهم، ولا كان مجهولاً عندهم، فقد كانوا يأتونه مسترفدين فلا يفسح لهم رحابه، بل ويعاقبهم بالمنع والتأنيب، ولا ننسى خبر الشاعر الهجّاء ابن فسوة حين وفد عليه بالبصرة أيام ولايته، فحرمه وحبسه ثمّ سيّره منها، فتناوله بهجائه المقذع، ممّا جعل الإمام الحسن (عليه السلام) وعبد الله بن جعفر يعطيانه ليسكت عن ابن عمهما، إلاّ أنّ الهجّاء الخبيث لم يزل فيما يبدو على سجيته ـ كالطينة السوداء في خبث سجاياها ـ فدعا عليه ابن عباس فأخرس لسانه، وقد مرّ حديثه فلا حاجة بنا إلى إعادته.
إذن فابن عباس بالرغم ممّا كان عليه من جود بالمال وسخاء طبع، وقد مرت الشواهد قبل هذا ـ لم يكن يعطي ويمنع لغرض التمجيد والتكريم ليستمطر المديح والثناء، بل كان يرى في المنع والعطاء ما يسمح له به الشرع، فهو لا يأبه بشاعر إلاّ بقدر ما يسمح له به دينه، لئلا يكون في إعطائه معونة على طاعة الشيطان ومعصية الرحمن.
والآن إلى نماذج من سلوكه الشخصي مع الشعراء، ثمّ مع العلماء، ثمّ مع سائر الناس.


فمع الشعراء:

إنّما قدمت ذكرهم على العلماء لأنّهم كما قلت شريحة من شرائح المجتمع تخشى بوادرهم، وهم بعدُ « فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ » (1) كما وصفهم القرآن الكريم، وكانوا مع ابن عباس في مكة والمدينة يعيشون في مجتمع واحد ويجدون عنده ضالّتهم في تمييز أشعارهم، فقد كانت مدرسته تضم في مناهجها

(1) الشعراء /225.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 426

ـ ان صح التعبير ـ منهج النقد الأدبي، وسيأتي في الحلقتين الثانية والثالثة، ما يعزّز ذلك، لذلك فهم حضور عنده إن لم يكونوا بأشخاصهم فبأشعارهم. وهم إن حضروا عنده يستظلون بظلاله الوارف أدباً وخُلقاً. وربما تأثر بعضهم في اتجاهاته. والآن إلى نموذجين فريدين منهم، أولهما عمر بن أبي ربيعة المعروف بشاعر الغزل وثانيهما الحطيئة الشاعر الهجّاء الّذي لم يسلم من هجائه حتى أبويه بل وحتى نفسه(1).
1- مع ابن أبي ربيعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة:
روى أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني بسنده عن عمر الزكاء وهشام ابن الكلبي قالا: «بينا ابن عباس في المسجد الحرام وعنده نافع بن الأزرق وناس من الخوارج يسألونه، إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين مورّدين ممصّرين، حتى دخل وجلس، فأقبل عليه ابن عباس، فقال له عمر متّعني الله بك إنّ نفسي قد تاقت إلى قول الشعر، ونازعتني إليه، وقد قلت منه شيئاً أحببت أن تسمعه وتستره عليّ. فقال: أنشدني فأنشده:
أمن آل نُعم أنت غاد فمبكر غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجّرُ

حتى أتى على آخرها. فقال ابن عباس: أنت شاعر فقل ما شئت. فأقبل عليه نافع بن الأزرق فقال: الله يا بن عباس إنّا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي

(1) قال الدكتور شوقي ضيف في تاريخ الأدب العربي في العصر الإسلامي /99 ط دار المعارف: وتروى له أهاج في زوج أمه وفي أمه وفي ضيفانه وكلّها مزاح حتى لنراه يمزح مع نفسه فيقول:
أرى لي وجهاً شوّه الله خلقه فقُبّح من وجه وقُبّح حامله
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 427

البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا، ويأتيك مترف من مترفي قريش فينشدك:
رأت رجلاً مّا إذا الشمس عارضت فيخزي وإمّا بالعشي فيخسرُ

فقال: ليس هكذا قال، قال: فكيف قال؟ فقال قال:
رأت رجلاً مّا إذا الشمس عارضت فيضحى وإمّا بالعشي فيخصرُ

فقال: ما أراك إلاّ قد حفظت البيت!؟
فقال: نعم وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتكها؟ قال: فإني أشاء. فأنشده إياها حتى أتى على آخرها»(1).
- وفي رواية عمر بن شبة: أنّ ابن عباس أنشدها من أولها إلى آخرها، ثمّ أنشدها من آخرها إلى أولها مقلوبة، وما سمعها قط إلاّ تلك المرّة صفحاً ـ قال الراوي وهذا غاية الذكاء ـ فقال له نافع: يا بن عباس أسمعت هذا الشعر قبل اليوم؟ قال: لا وربّ هذه البنية.
قال: ما رأيت أحفظ منك! قال: لو رأيت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب-.
وفي رواية في الأغاني: «انّه قال بعضهم: ما رأيت أذكى منك قط، فقال: ولكنني ما رأيت قط أذكى من عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، رأيت احفظ مني، كان ليصلي، فيدع الآية ثمّ يركع ثمّ يقوم، فإذا قال: « وَلا الضَّالِّينَ » رجع إلى الموضع الّذي ركع فيقرأها وينظم انتظاماً، لا يعلم أحد ممّن رآه ما صنع إلاّ حافظ كتاب الله تعالى».

(1) الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني 1/32 و36 ط بولاق.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 428

قال عمر بن شبة وأبو هفان والزبير بن بكار وغيرهم: ثمّ التفت ابن عباس إلى ابن أبي ربيعة فقال: أنشدنا، فأنشده: تشط غداً دار جيراننا. وسكت، فقال ابن عباس: وللدار بعد غدٍ أبعد، فقال له عمر: والله كذلك قلت أصلحك الله أفسمعته؟ قال: لا، ولكن كذلك ينبغي أن يكون كذلك.
وفي آخر حديث الزبير: إنّ ابن عباس كان كثيراً ما يقول بعد ذلك: هل أحدث هذا المغيري شيئاً بعدنا؟ ولامه بعض أصحابه في حفظ هذه القصيدة فقال: إنّها (أمن آل نعم) يستجيدها(1).
2- مع الحطيئة في المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة:
روى أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني بسنده قال: «بينا ابن عباس جالس في مجلس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد ما كفّ بصره، وحوله ناس من قريش، إذ أقبل أعرابي يخطر وعليه مطرفة خزّ وجبّة وعمامة خزّ، حتى سلّم على القوم، فردّوا عليه السلام فقال: يا بن عم رسول الله أفتني، قال: فيماذا؟ قال: أتخاف عليّ جناحاً إن ظلمني رجل فظلمته وشتمني فشتمته، وقصّر بي فقصّرت به؟
فقال ابن عباس: العفو خير، ومن انتصر فلا جناح عليه.
فقال: يا بن عم رسول الله، أرأيت أمرؤاً أتاني فوعدني وغرّني ومنّاني، ثمّ أخلفني واستخف بحرمتي أيسعني أن أهجوه؟

(1) قارن نهاية الارب للنويري 7/138 ط دار الكتب، والعمدة لابن رشيق 2/31، وبدائع البدائه لابن ظفر المكي /34، وإنّما استنكر نافع سماع ابن عباس للقصيدة لأنّه فيما أرى انطلاقاً من مبدء الخوارج في التقشف الجاف لما في القصيدة من تصوير لمتعة ليلية يمسيها عمر بن أبي ربيعة مع فتيات غامر معهن حتى الصباح على غير إثم حرام؟ ثمّ ينشدها في المسجد الحرام لابن عباس وهو في شرفه وعلمه وسنه، ثمّ ابن عباس يحفظها ويرويها، فذلك ما حدا بنافع بن الأزرق إلى تحوير في مطلعها مستنكراً بما يلائم مبدأه، لكن ابن عباس رفض ذلك وصحّح المعلومة، ولعله أراد أن يشعره بأنه من اللهو المباح والخيال الّذي لا يتعدى عفة النفس وفسق الألسن.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 429

قال: لا يصلح الهجاء، لأنّه لابدّ لك من أن تهجو غيره من عشيرته، فتظلم من لم يظلمك، وتشتم من لم يشتمك، وتبغي على من لم يبغ عليك، والبغي مرتع وخيم، وفي الصفح ما قد علمت من الفضل.
قال: صدقت وبررت، فلم ينشب أن أقبل عبد الرحمن بن سيحان المحاربي حليف قريش، فلمّا رأى الأعرابي أجلّه وأعظمه وألطف في مسألته، وقال: قرّب الله دارك يا أبا مليكة.
فقال ابن عباس: أجرول؟- وهو اسم الحطيئة - قال: جرول، فإذا هو الحطيئة.
فقال ابن عباس: لله أنت أي مردي قذائف وذائد عن عشيرته ومن بعارفة تؤتاها أنت يا أبا مليكة! والله لو كنت عركت بجنبك بعض ما كرهت من امر الزبرقان كان خيراً لك، ولقد ظلمت من قومه من لم يظلمك وشتمت من لم يشتمك.
قال: اني والله بهم يا أبا العباس لعالم. قال: ما أنت بأعلم بهم من غيرك.
قال: بلى والله يرحمك الله، ثمّ أنشأ يقول:
أنا ابن بجدتهم علماً وتجربة فسل بسعد تجدني أعلم الناس
سعد بن زيد كثير إن عددتهم ورأس سعد بن زيد آل شمّاس
والزبرقان ذناباهم وشرّهم ليس الذنابى أبا العباس كالرأس

فقال ابن عباس: أقسمت عليك أن تقول خيراً. قال: أفعل.
ثمّ قال ابن عباس يا أبا مليكة من أشعر الناس؟ قال: أمن الماضين أم من الباقين؟
قال: من الماضين. قال الّذي يقول:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 430

وما بدونه الّذي يقول:
ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تلمّه على شَعثٍ أي الرجال المهذّبِ

ولكن الضراعة أفسدتهما كما أفسدت جرولاً ـ يعني نفسه ـ والله يا بن عم رسول الله لولا الطمع والجشع لكنت أشعر الناس الماضين، فأمّا الباقون فلا تشكك أنّي أشعرهم وأصردهم سهماً إذا رميت»(1).
3- مع زهير:
لقد مرّ بنا في الجزء الثاني في عهد عمر صورة من رجوعه إلى ابن عباس في معرفة أشعر الناس فأجابه وكان ذلك هو زهير بن أبي سلمى، كما مرّ بنا أيضاً في الجزء الرابع صورة لنفس السؤال سأله اياه رجل في شهر رمضان بالبصرة، فلم يجبه وأحال في الجواب على أبي الأسود الدؤلي، وقد رواه أبو الفرج في الأغاني فقال: «قام رجل إلى ابن عباس فقال: أي الناس أشعر؟ فقال ابن عباس: أخبره يا أبا الأسود، فقال: الّذي يقول:
وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع فإنّك كالليل الّذي هو مدركي

وهذا من شعر النابغة الذبياني. ولم يرو أنّ ابن عباس ردّ عليه رأيه أو ناقشه، وقد يتخيل تبدّل رأيه فيمن هو أشعر الناس، ولكن فيما أرى ليس كذلك، بل إنّما سكت تحرّجاً وكراهية الخوض في الشعر في شهر رمضان، لذلك فلم يجب السائل أوّلاً، ولم يعقّب على رأي أبي الأسود ثانياً. إعظاماً لحرمة « شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان » (2)»(3).

(1) الأغاني 2/55 ط بولاق.
(2) البقرة /185.
(3) الأغاني 2/55 ط بولاق.

السابق السابق الفهرس التالي التالي