موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 398

إلى أبي سعيد ـ الخدري ـ لسماع الحديث منه، فأتياه وكان في حائط له فلمّا رآهما جاء وأخذ رداءه ثمّ قعد فأنشأ يحدثهما حتى أتى على ذكر بناء المسجد النبوي الشريف»(1).
وقال الزمخشري في ربيع الأبرار: «دخل أبو الأملاك (رضي الله عنه) على أبي الذبّان(2) في يوم قر وهو على فراش كاد يُغيب فيها، فقال: يا بن عباس إنّي لأحسب اليوم أصبح بارداً؟ قال: أجل وان ابن هند عاش في مثل ما ترى أربعين سنة عشرين أميراً وعشرين خليفة، ثمّ هو ذاك على قبره ثمامة نابتة»(3).
وقد ذكر ابن سعد في ترجمة معاوية من طبقاته هذه القصة بتفاوت ولفظه: «دخل عليّ بن عبد الله بن عباس على عبد الملك ابن مروان في يوم بارد وبين يديه وقود قد ألقي عليه عود وقد دُخّن.
فقال عبد الملك: ها هنا إليّ يا أبا محمّد فأجلسه معه، فقال عليّ: أحمد الله يا أمير المؤمنين فيما أنت فيه من الإدفاء والناس فيما هم فيه من شدّة البرد، فقال: يا أبا محمّد أبعد ابن هند بالشام أربعين سنة أميراً وخليفة، أمس تهتز على قبره ينبوتة؟! ثمّ دعا بالغداء فتغديا جميعاً»(4).

(1) تهذيب التهذيب 7/358.
(2) كنية عبد الملك بن مروان لانه كان أبخر فيجتمع الذباب على فمه قال في تاج العروس (ذبب) وأبخر من أبي الذباب وكذا أبو الذبان وهما الأبخر وقد غلبا على عبد الملك بن مروان لفساد كان في فمه قال الشاعر:
لعلي ان مالت بي الريح ميلة على ابن أبي الذبان ان يتندما
يعني هشام بن عبد الملك... أ هـ.
وذكر الزمخشري في الفائق 4/120 بيتاً لعمرو بن سعيد في عبد الملك حين نافره:
أغر أبا الذبان هيشـة معشـر فدلوه في جمر من النار جاحم
(3) ربيع الأبرار 1/570.
(4) الطبقات الكبرى 6/34 ط الخانجي بمصر.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 399

وقال المبرّد في الكامل: «بعد أن ذكر ولادته وتهنئة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أباه به وتسميته وكنيته وتغيير معاوية لها قال: وكان عليّ سيّداً شريفاً بليغاً، وكان له خمسمائة أصل زيتون يصلي في كلّ يوم إلى كلّ أصل ركعتين فكان يدعى ذا الثفنات».
ثمّ قال: «وضرب بالسوط مرتين، كلتاهما ضربه الوليد، احداهما في تزوجه لبابة(1) بنت عبد الله بن جعفر وكانت عند عبد الملك فعضّ تفاحة ثمّ رمى بها إليها ـ وكان أبخر ـ فدعت بسكين فقال: ما تصنعين به؟ قالت: أميط عنها الأذى، فطلقها فتزوجها عليّ بن عبد الله فضربه الوليد، وقال: إنما تتزوج بأمهات الخلفاء لتضع منها، لأن مروان بن الحكم تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية ليضع منه.
فقال عليّ بن عبد الله: إنّما أرادت الخروج من هذه البلدة، وانا ابن عمها فتزوجتها لأكون لها مخرجاً (محرماً ظ) »(2).
وأمّا ضربه إياه في المرة الثانية فإنّا نرويه من غير وجه، ومن أتمّ ذلك ما حدّثنيه أبو عبد الله محمّد بن شجاع البلخي في اسناد له متصل لستُ أحفظه يقول في آخر ذلك الإسناد: «رأيت عليّاً مضروباً بالسوط يُدار به على بعير، ووجهه ممّا يلي ذنب البعير وصائح يصيح عليه: هذا عليّ بن عبد الله الكذاب. قال فأتيته فقلت: ما هذا الّذي نسبوك فيه إلى الكذب؟ قال: بلغهم قولي: ان هذا

(1) سماها ابن قتيبة في المعارف /207 (أم أبيها) وذكر انها كانت عند عبد الملك بن مروان فطلقها ثمّ تزوجها عليّ بن عبد الله بن عباس فهلكت عنده، وكان سبب طلاقها انّه عض تفاحة ثمّ رمى بها إليها ـ وكان بعبد الملك بخر ـ فدعت بمدية فقال: ما تصنعين؟ قالت: أميط عنها الأذى ففارقها.
(2) الكامل 2/217.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 400

الأمر سيكون في ولدي، والله ليكوننّ فيهم حتى يملكهم عبيدهم الصغار العيون، العراض الوجوه، الّذين كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة»(1).
وقال المبرّد أيضاً: «إنّ عليّ بن عبد الله دخل على سليمان بن عبد الملك ومعه ابنا ابنه أبو العباس وأبو جعفر ـ قال أبو العباس ـ يعني المبرد ـ وهذا غلط لما اذكره لك، إنّما ينبغي أن يكون دخل على هشام ـ فأوسع له على سريره وسأله حاجته فقال: ثلاثون ألف درهم عليّ تدين، فأمر بقضائها، قال له: وتستوصي بابنيّ هذين خيراً ففعل فشكره وقال وصلتك رحم، فلمّا ولي عليّ قال الخليفة لأصحابه: ان هذا الشيخ قد اختل وأسنّ وخلط فصار يقول: ان هذا الأمر سينتقل إلى ولده فسمع ذلك عليّ فالتفت إليه فقال: والله ليكوننّ ذاك وليملكنّ هذان»(2).
وذكر أيضاً عن جعفر بن عيسى بن جعفر الهاشمي قال: «حضر عليّ عبد الملك وقد أهدي له من خراسان جارية وفصّ وسيف فقال يا أبا محمّد إنّ حاضر الهدية شريك فيها، فاختر من الثلاثة واحداً، فاختار الجارية وكانت تسمى سعدى وهي من سبي الصغد من رهط عجيف بن عنبسة، فأولدها سليمان وصالحاً ابني عليّ... وكان عليّ يقول: أكره أن أوصي إلى محمّد ـ وكان سيّد ولده ـ خوفاً من أن أشينه بالوصية. فأوصى إلى سليمان فلمّا دفن عليّ، جاء محمّد إلى سُعدى ليلاً فقال لها أخرجي اليّ وصية أبي فقالت: إنّ أباك أجلّ من أن تخرج وصيته ليلاً ولكنها تأتيك غداً، فلمّا أصبح غدا بها عليه سليمان فقال: يا أبي ويا أخي هذه وصية أبيك فقال محمّد: جزاك الله من ابن وأخ خيراً، ما كنت لأثرّب على أبي بعد موته كما لم أثرّب عليه في حياته»(3).

(1) مأخوذ من كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) راجع نهج البلاغة 2/14 بشرح محمّد عبده ط الاستقامة.
(2) الكامل 2/217.
(3) الكامل 2/220.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 401

ونقل الجاحظ في البيان والتبيين بعض كلام عليّ بن عبد الله بن عباس ممّا دلّ على حصافة رأي وبليغ منطق، فقد ذكر أنّه قال: «من لم يجد مسّ الجهل في عقله، وذلّ المعصية في قلبه، ولم يستبن موضع الخلّة في لسانه عند كلال حدّه عن حدّ خصمه، فليس ممّن ينزع عن ريبة، ولا يرغب عن حالٍ معجزة، ولا يكترث لفصل ما بين حجة وشبهة»(1).
ولعلي أخبار غير ذلك ربّما تزيّدها أو بعضها الرواة تزلّفاً إلى أبنائه خلفا، بني العباس، أعرضنا عن ذكرها.
7- سليط، وهذا ذكره ابن حزم في الجمهرة وقال: «نفاه عبد الله بن العباس ثمّ استلحقه ثمّ اتهم أخوه عليّ بقتله، فجلده الوليد بن عبد الملك لذلك مائة سوط، وادعى أبو مسلم أنّه عبد الرحمن بن سليط هذا ابن عبد الله بن عباس ولا عقب لسليط»(2).
لكن ابن الطقطقي في كتابه الفخري في الأداب لم يذكر استلحاق ابن عباس لسليط، فقد قال: «ولسليط هذا خبر هذا موضع شرحه على سبيل الاختصار. كان لعبد الله بن عباس جارية فوقع عليها مرة من المرات ثمّ اعتزلها مدةً، فاستنكحها عبداً فوطئها فولدت منه غلاماً سمته سليطاً، ثمّ ألصقته بعبد الله بن العباس وأنكره عبد الله ولم يعترف به، ونشأ سليط وهو أكره الخلق إلى عبد الله بن عباس، فلمّا مات عبد الله نازع سليط ورثته في ميراثه، وأعجب ذلك بني أمية ليغضّوا من عليّ بن عبد الله بن عباس، فأعانوه وأوصوا قاضي دمشق في الباطن، فمال إليه في الحكم وحكم له بالميراث، وجرت في ذلك خطوب ليس هذا موضع لشرحها، فادّعى أبو مسلم حين قويت شوكته أنّه من ولد سليط هذا»(3).

(1) البيان والتبيين 1/85.
(2) جمهرة أنساب العرب /19.
(3) الفخري في الأداب السلطانية في الدول الإسلامية /139 دار صادر بيروت.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 402

وأحسب أنّ الخبر الّذي أشار إليه ابن الطقطقي هو ما رواه ابن الكلبي في مثالب العرب، قال: «هشام عن أبي عمرو قال: حدثني إسحاق بن الفضل قال: كانت تحت عبد الملك بن مروان امرأة من ولد عبد الله بن جعفر فرأى منها عبد الملك جفوة فخلّى سبيلها، وكان عبد الملك قد أكرم عليّ بن عبد الله بن عباس وقدم به معه من الحجاز إلى دمشق فأنزله في قصره، ومات عبد الملك باكرام عليّ وحفظه، ثمّ إنّ المرأة الجعفرية أرادت الخروج إلى أهلها فقالت لعليّ بن عبد الله: ليس هاهنا قريب غيرك فأنا أريد أن أخرج معك إلى الحجاز، فقال لها: أنت ابنة عمي ولست منك ذا محرم، فأنا أتزوجك فتزوجها. فبلغ ذلك الوليد فغضب وقال: امرأة كانت تحت أمير المؤمنين تتزوجها بغير إذني. قال: هي ابنة عمي، فسكت وجفاه. وكان سليط الّذي نفاه عبد الله وأمه مع عليّ بالشام، وكانت أمه بذيّته سليطة تؤذي عليّاً وتخاصمه، فدسّ الوليد إلى سليط من قتله ودفنه في بستان عليّ بن عبد الله، فجاءت أمه حين فقدته إلى الوليد، فأرسل ففتشوا البستان فوجدوه فيه قال: فأخبرني رجل من أهل الشام بواسط، قال: كنت في حرس الوليد فأتي بعليّ فجلده أربعمائة سوط وحلق رأسه ولحيته وأمر بحبسه في الحجر فأصابته وحشة»(1)، وقد مرّ عن ابن حزم في ذكر سليط الإشارة إلى هذا.
فهؤلاء الأبناء الذكور الّذين وقفت على أسمائهم، ولقد روى مسلم في صحيحه(2)، وأبو داود في سننه(3)، وأحمد في مسنده واللفظ له بسنده عن كريب مولى ابن عباس قال: «مات لابن عباس ابن بقديد أو عسفان - موضعان قرب مكة - فقال: يا كريب انظر ما اجتمع له من الناس، قال: فخرجت فإذا أناس قد

(1) مثالب العرب نسخة السماوي المخطوطة /51.
(2) صحيح مسلم 1/260.
(3) سنن أبي داود 3/175 ـ 176.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 403

اجتمعوا له فأخبرته قال: يقول: هم أربعون؟ قال: نعم قال: أخرجوه فإنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون لا يشركون بالله شيئاً إلاّ شفّعهم الله فيه»(1).
أقول: ولعل هذا الإبن هو أحد الثلاثة: عبيد الله أو الفضل أو عبد الرحمن، وإنّما أحتمل ذلك، لأن الأربعة الباقون العباس ومحمّد وعليّ وسليط لهم ذكر بعد موت ابن عباس، كما يحتمل أن يكون غيرهم، ولعله الّذي مات صغيراً فعزّاه به أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد روى الشيخ الجليل الحسن ابن شعبة الحراني ـ من علماء القرن الرابع الهجري ـ في كتابه تحف العقول تلك التعزية فقال: «وعزى ـ أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ عبد الله بن عباس عن مولود صغير مات له فقال (عليه السلام): لمصيبة في غيرك لك أجرها أحبّ إليّ من مصيبة فيك لغيرك ثوابها، فكان لك الأجر لا بك، وحسن لك العزاء لا عنك، وعوّضك الله عنه مثل الّذي عوّضه منك»(2).

البنات:

ذكر النسابون أسمي بنتين له هما:
1- لبابة: سماها بأسم أمه لبابة بنت الحارث، فذكرها ابن سعد في طبقاته في ترجمة أبيها، كما ذكرها مصعب الزبيري في نسب قريش(3)، وقد وقع المحقق في خطأ فاضح لم يتنبه له، وذلك أنّ مصعب الزبيري قال في كتابه: «كانت لبابة بنت عبد الله عند عليّ بن عبد الله بن جعفر فولدت له، ثمّ خلف

(1) مسند أحمد 4/174.
(2) تحف العقول /209 ط المكتبة الإسلامية.
(3) نسب قريش /29 ط دار المعارف بمصر تح ـ بروفنسال.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 404

عليها إسماعيل بن طلحة بن عبيد الله فولدت له يعقوب ثمّ فارقها فتزوجها محمّد ابن عبد الله بن العباس...أ هـ» هكذا في النسخة المطبوعة، وهنا فاضح الخطأ إذ كيف يصح (فتزوجها محمّد بن عبد الله بن العباس) وهي تكون أخته؟
ولم يتنبه لذلك المحقق، وجرى على خطئه من أتى بعده وأخذ عن كتابه من المحدثين(1). مع أنّ الصواب: (خلف عليها محمّد بن عبيد الله بن العباس)، وهذا هو ابن عمها(2). وهي شقيقة العباس وأخوته وأمها زرعة بنت مشرح الكندية، وقد تزوجها عليّ بن عبد الله بن جعفر ـ المعروف بالزينبي لأنّ أمه زينب بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ وقد أولدها ولده محمّد، وهذا كان يدخل على جده عبد الله بن عباس وقد سمع منه وحدث عنه كما في طبقات ابن سعد في ترجمة عبد الله بن عباس والسيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى« يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ » (3).
2- أسماء ذكرها ابن سعد في ترجمة أبيها وقال: «كانت عند عبد الله بن عبيد الله بن العباس ابن عبد المطلب بن هاشم، فولدت له حسناً وحسيناً الفقيه، وأمها أم ولد»(4). كما ذكرها مصعب في نسب قريش(5) إلاّ أنّ ابن الكلبي وابن حزم لم يذكراها ولا أختها لبابة فراجع الجمهرة لكل منهما.

(1) أنظر شدو الربابة، الصحابة والصحابة، خليل عبد الكريم ط سينا للنشر.
(2) كما في المحبّر لمحمّد بن حبيب الهاشمي/440 ط حيدر آباد.
(3) القمر /48 ـ 49.
(4) الطبقات الكبرى /113 تح ـ السُلمي.
(5) نسب قريش /296.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 405

3- وله بنت نُعيت وهو في السفر فاسترجع ثمّ قال: عورة سترها الله، ومؤنة كفاها الله، وأجر ساقه الله. وأحسبها غير المتقدمتين الآنفتي الذكر(1).
ولقد كان حريصاً على تربيتهم تربية صالحة، حتى هذّبهم على أخلاقه، ولقنّهم من علومه، فكلّ منهم أخذ على قدر استعداده، ومن نماذج تربيته ما مرّ بنا انّه كان يرسل بولده عليّاً مع غلامه عكرمة يسمعا الحديث من أبي سعيد الخدري.
ومن الكذب الفظيع الفاضح ما رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد عن العتبي قال: «كان عند الوليد بن عبد الملك أربع عقائل: لبابة بنت عبد الله بن عباس، وفاطمة بنت يزيد بن معاوية وزينب بنت سعيد بن العاص، واُم جحش بنت عبد الرحمن ابن الحارث، فكنّ يجتمعنّ على مائدته، ويفترقن فيفخرن. فاجتمعن يوماً فقالت لبابة: أما والله إنّك لتسوّيني بهن، وإنّك تعرف فضلي عليهن.
وقالت بنت سعيد: ما كنت أرى أن للفخر عليَّ مجازاً، وأنا ابنة ذي العمامة إذ لا عمامة غيرها. وقالت بنت عبد الرحمن بن الحارث: ما أحب بأبي بدلا، ولو شئت لقلت فصدقت وصُدّقت. وكانت بنت يزيد بن معاوية جارية حديثة السنّ فلم تتكلم، فتكلم عنها الوليد، فقال: نطق من احتاج إلى نفسه، وسكت من اكتفى بغيره، أما والله لو شاءت لقالت: أنا ابنة قادتكم في الجاهلية وخلفائكم في الإسلام. فظهر الحديث حتى تحدّث به في مجلس ابن عباس فقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته»(2).
هذه الكذبة الشنعاء والفرية الصلعاء يرويها العتبي ويذكرها عنه ابن عبد ربه، وكلاهما عندي في هذا المقام يستغفلان عقول الناس بمثل هذه الأكاذيب

(1) أنظر العقد الفريد 3/196 تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.
(2) نفس المصدر 6/104.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 406

ولا غرابة منهما فكلاهما أموي الهوى، ولكن وهلم الخطب في الأساتذة الثلاثة المحققين للكتاب وهم أحمد أمين، أحمد الزين، إبراهيم الأبياري، كيف انطلت عليهم هذه الأكذوبة، فلم يتفطنوا، انّ لبابة بنت عبد الله بن عباس لم تكن زوجة الوليد، بل كانت زوجة عليّ بن عبد الله بن جعفر كما مرّ، وإنّ ابن عباس لم يكن حياً أيام الوليد بن عبد الملك بل كان متوفياً، لأنّه توفي سنة 68 كما مرّ، والوليد بن عبد الملك إنّما ولي الأمر في سنة 86 بعد موت ابن عباس بثماني عشرة سنة؟ !
ثمّ إنّ في الخبر فجوات وهنات غير ذلك، فمنها أنّه لم يكن ليزيد ابنة اسمها فاطمة بل ولم يذكر له ابن عبد ربه أيّ بنت أخرى في ذكر أولاده ـ كما ستأتي الإشارة إلى ذلك ـ فمن أين أتى بها العتبي وذكرها ابن عبد ربه؟ ولابن عبد ربه في كتابه العقد الفريد من أعاجيب الأكاذيب ما يضحك منها صبيان الكتاتيب. فمن ذلك ما ذكره في أولاد يزيد فقال: «معاوية وخالد وابو سفيان وأمهم فاختة بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، وعبد الله وعمر وأمهما أم كلثوم بنت عبد الله بن عباس...»(1). وهذا أيضاً من فاضح الكذب إذ لم يكن لابن عباس بنت أسمها أم كلثوم وإنّما له لبابة وأسماء وقد ذكرناهما وأزواجهما وذراريهما. وهذا أيضاً لم يتنبه له المحققون، فزهٍ بهكذا محققين، ولتعلّق الكنانة حافر الحمار عليها لئلا تصيبها عين اللاّمة والهامة من الحاسدين لها على هؤلاء المحققين وأمثالهم ممّن بسقوا بألقابهم، ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل(2) بل أحشفاً وسوء كيلة(3).

(1) نفس المصدر 4/375.
(2) الدخل العيب الباطن مثل يضرب لذي المنظر لاخبر عنده (مجمع الأمثال).
(3) الحشف أردأ التمر ويضرب المثل لمن يجمع بين خصلتين ومكرهتين.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 407

زوجاته:

1- زرعة بنت مشرح الكندية.
2- صعبة بنت عبد الرحمن بن عوف، كما في المحبّر(1).
3- شملة بنت ازيهر.
4- أم ولد أم سليط الّذي نفاه ثمّ تبناه وقد مرّ ذكره.
5- أم ولد أم ابنته أسماء الّتي تزوجها ابن عمها عبد الله بن عبيد الله بن عباس كما مرّ.

(1) المحّبر لمحمد حبيب الهاشمي /68 ط حيدر آباد.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 408




موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 409


الفصل الخامس


في أشتات مجموعة من أدوار حياته في أخلاقه وعاداته


موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 410



موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 411

هذه باقة تعبق بالشذى مقتطفة من رياض حياة ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، تضم أشتاتاً مجموعة من أخباره في أدوار حياته، تحكي لنا غرّ صفاته، وجميل عاداته، ولم نجمع معها ما يدل على معارفه وعلومه وسائر قدراته، فإنّ ذلك سيأتي بعون الله تعالى في الحلقتين التاليتين: الثانية والثالثة.
أمّا أشتات هذه الباقة ففي أزهارها ما يعبق عوده بجوده وسخائه، ومنها ما يعبق بآدابه وأخلاقه، ومنها ما يعبق بورعه وتقواه، إلى غير ذلك من أزاهير رياضه الفوّاحة، فلنتسنم منها ما عطّر الساحة.


الجود والعطاء:

لمّا كان الجود جبلّة نفسية من غرائز النفس في الإنسان، فقد تعدم عند الغني وتوجد عند الفقير.
والجواد محبّب بصفاته حتى إلى أضداده، كما أنّ البخيل مبغوض حتى إلى أولاده.
والجواد هي السخي بما لَه وعنده يتكرم قبل السؤال. أمّا إذا كان بعد السؤال فهو العطاء ثمناً لماء الوجه.
وقد حبّب الإسلام الكرَم ودعا إليه، وقد ورد في الحديث الشريف:
(السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد عن النار)، و (البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، قريب من النار).

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 412

ولا تزال الأمة العربية تفخر بأجوادها، وتذكر المستجاد من فعلاتهم، وحسبك شهرة حاتم الطائي الّذي صار مضرب المثل فقالوا في المبالغة (الكرم الحاتمي).
أمّا أجواد الإسلام المعدودين من بعد المعصومين (عليهم السلام) فقد كان ابن عباس في رأس قائمة المعدودين كما ذكره السيوطي في كتابه الكنز المدفون(1)، وكان يسمّى لفرط سخائه (معلّم الجود). وليس في ذلك من مبالغة ما دام هو أوّل من وضع موائد الطعام في الطرقات للناس، ولم يكن يَعُد إلى رفعه(2)، وكان ما يصرفه على الناس في كلّ يوم عطاءً وغذاءً خمسمائة دينار(3). ولمّا كان أخوه عبيد الله كذلك سخياً فقد قالوا: وكان ينحر كلّ يوم جزوراً في مجزرته فيقسمها، وبه سميت مجزرة ابن عباس، فغلت الجُزر حتى بلغت خمسة عشر ديناراً وعشرين ديناراً(4)، فقد اختلطت أخبارهما على الرواة، وفي تشابه الإسمين خطاً ما يساعد على ذلك، فلهذا سنقف على بعض أخبار عبد الله في الجود منسوبة إلى أخيه عبيد الله ونشير في الهامش إلى ذلك.
ولا أجانب الصواب إذا ما قلت إنّ شهرة ابن عباس العلمية هي أيضاً غطّت على بقية صفاته ومكارم أخلاقه، فلم يخلص إلينا منها إلاّ القليل، أو ليس هو القائل: «سادات الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء».

(1) الكنز المدفون /122.
(2) المستظرف للأبشيهي 1/182، وذكر ابن عبد ربه ذلك ونسبه إلى أخيه عبيد الله، راجع العقد الفريد 1/148، وزهر الربيع /326 ط بمبئ سنة 1342 هـ.
(3) أنظر مشكوة الأدب للناصري /95.
(4) الطبقات الكبرى 6/469 ط الخانجي بمصر.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 413

أقول: وهذا منسوب إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما في محاضرات الراغب، وليس من شك أنّ علم ابن عباس كان منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن ابن عمه أمير المؤمنين، فعنهم أخذ ومن بحرهم اغترف وارتوى فأفاض على الناس من نميره.
وقد يتخيّل البعض أنّ أحاديث سخائه ممّا نمقته الأقلام أيام حكومة العباسيين تزلّفاً إلى أبنائه، ولكن إذا قرأنا جملة من أخباره نجد الشواهد تثبت بيقين أريحيته الّتي كان عليها يستروح للندى على سعة من خلقه، كما كان بحراً في علمه الّذي طما على باقي صفاته.
فإلى بعض الشواهد:
1- ذكر القاضي التنوخي في كتابه المستجاد من فعلات الأجواد: «أنّ رجلاً أراد أن يؤذي عبد الله بن عباس بمضارّته، فأتى وجوه البلد وهم جلوس في فضاء الكعبة وقال: يقول لكم ابن عباس: تغدوا اليوم عندي، فلمّا صار وقت الغداء أتوه فملأوا الدار فقال: ما هذا؟ فأخبروه الخبر، فرحّب بهم وتباشر بذلك وعظم سروره، فأمر قوماً من مواليه أن تشتري الفواكه في الوقت، وأمرقوما بالخبز والطبخ وقوماً لتهيئة الطعام، فأصلح القِرى وقدّم الفاكهة لهم، فما فرغوا من أكلها حتى قدّمت الموائد فأكلوا وانصرفوا، ولمّا فرغ قال لوكلائه: أموجود هذا كلّ يوم إذا أردناه؟ قالوا: نعم، قال: فليتغد هؤلاء كلّهم كلّ يوم عندنا»(1).
2- ذكر الأبشيهي في المستظرف ومثله في أسرار البلاغة بهامش المخلاة: «أنّ رجلاً من الأنصار أتاه وقال له: يا بن عم رسول الله انّه ولد لي في هذه الليلة

(1) المستجاد من فعلات الأجواد /16 تح ـ محمّد كرد عليّ ط الترقي بدمشق سنة 1365، وذكر ذلك الرشيد الوطواط في غرر الخصائص /73، والطرطوشي في سراج الملوك /178، والناصري في مشكوة الأدب /914.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 414

مولود وإنّي سميته باسمك تبركاً بك وإن أمه ماتت، فقال له ابن عباس: بارك الله في الهبة، وأجزل لك الأجر على المصيبة، ثمّ دعا وكيله وقال انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه، وادفع للرجل مائتي دينار للنفقة على تربيته، ثمّ قال للأنصاري: عُد إلينا بعد قليل، فإنك جئتنا وفي العيش يبس وفي النفقة قلة.
فقال الأنصاري: جعلت فداك والله لو سبقت حاتماً بيوم لم تذكره العرب، ولكنه سبقك فصرت له تالياً، وأنا أشهد أنّ عفو جودك أكثر من مجهوده، وطلّ كرمك أغزر من وابله»(1).
3- ذكر أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني: «أنّ عبد الله بن العباس بن عبد المطلب مرّ بمعن بن أوس المزني، وقد كفّ بصره، فقال له: يا معن كيف حالك؟ فقال له: ضعف بصري وكثر عيالي وغلبني الدَين، قال: وكم دينك؟ قال: عشرة آلاف درهم، فبعث بها إليه. ثمّ مرّ به من الغد فقال له: كيف أصبحت يا معن؟ فقال:
أخذت بعين المال لما نهكته وبالدَين حتى ما أكاد أدان
وحتى سألت القرض عند ذوي الغِنى وردّ فلان حاجتي وفلان

فقال له عبد الله: الله المستعان، إنّا بعثنا إليك بالأمس لقمة فما لكتها حتى انتزعت من يدك، فأي شيء للأهل والقرابة والجيران؟ ثمّ مضى وبعث إليه بعشرة آلاف درهم أخرى، فقال معن يمدحه :
إنّك فرع من قريش وإنما تمجّ الندى منها البحور الفوارع

(1) المستظرف 1/160.
وذكر هذه القصة كلّ من ابن عبد ربه في العقد الفريد 1/343 ط أحمد أمين ورفيقيه، والغزالي في إحياء العلوم 3/213 ونسباها إلى أخيه عبيد الله بن عباس.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 415

ثووا قادة للناس بطحاء مكةٍ لهم وسقايات الحجيج الدوافع
فلمّا دعوا للموت لم تبك منهم على حادث الدهر العيون الدوامع»(1)

4- ذكر الملك السعيد في العقد الفريد(2) والقليوبي في نوادره(3) وأحمد جاد المولى في قصص العرب(4) ونحوه في الخلق الكامل(5) عن تميم اليربوعي قال :
«كنت مع عبد الله بن العباس عند منصرفه من دمشق، فسألته في بعض الأيام وقلت له: بماذا يتم عقل الرجل؟ فقال: إذا صنع المعروف مبتدءاً به، وجاد بما هو محتاج إليه، وتجاوز عن الزلة ـ الذلة ـ وجازى على المكرمة، وتجنّب مواطن الاعتذار فقد تم عقله.
قال تميم: فحفظت ذلك منه وألصقته بقلبي، ثمّ بعد أيام نزلنا منزلاً فطلبنا طعاماً فلم نجده ولا قدرنا عليه. فإنّ زياداً كان قد نزل بذلك المنزل قبلنا بأيام قليلة في جمع كثير، فأتوا على ما كان فيه من الطعام، فقال عبد الله لوكيله: أخرج إلى هذه البرية فلعلك تجد بها راعياً معه طعام.
فمضى الوكيل ومعه غلمان، فأطالوا التوقّف، فلمّا كادوا يرجعون لاح لهم خباءٌ فأمّوه، فوجدوا فيه عجوزاً، فقالوا لها: هل عندك طعام نبتاعه منك؟ فقالت: أمّا طعام بيع فلا، ولكن عندي أكلة، وبأولادي إليها أمسّ حاجة، قالوا: وأين أولادك؟ قالت: في رعيهم وهذا وقت عودتهم...

(1) الأغاني 10/157.
(2) العقد الفريد /13 نسخة الشيخ السماوي.
(3) نوادر القليوني /82 ط مصر.
(4) قصص العرب 2/93.
(5) الخلق الكامل 4/40.
وذكر القصة الخرائطي في مكارم الأخلاق /62 ونسبها إلى أخيه عبيد الله بن العباس.

السابق السابق الفهرس التالي التالي