المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 1



المأتم الحسيني
مشروعيته وأسراره


المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 2




المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 3


المأتم الحسيني
مشروعيته وأسراره


المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 4




المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 5

مقدمة المركز

إن الحسين (عليه السلام) ليس حُكراً على الشيعة فحسب، وإن مأتمه (عليه السلام) ليس من مختصّات الشيعة، كما قد يظنّ البعض ذلك.
بل الحسين (عليه السلام) حسين جميع المسلمين، والاحرى أن يكون حسين جميع الانسانية.
وإنّ مأتم الحسين (عليه السلام) ومأساته جرح ما زال لم يندمل ومصاب لا زال المسلمون يأنّون من ألمه حتّى يأخذ الله تعالى بثأره (عليه السلام).
من الحسين (عليه السلام) ومأتمه استلهم الشيعة درس التضحية لاجل العقيدة والدفاع عنها.
من الحسين (عليه السلام) ومأتمه استلهم المسلمون درس التضحية في سبيل البحث عن العقيدة الحقة ; لان المأتم الحسيني يجعل النفوس ملتهبة بالعواطف النقية، فتكون النفوس عندئذ أقرب ما تكون لاستماع الحقيقة والتجرد عن التعصب.

المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 6

من الحسين (عليه السلام) ومأتمه استلهم جميع بني آدم درس الانسانية والرجوع إلى الفطرة.
بالحسين (عليه السلام) ومأتمه يمكن تبديد غيوم العصبية وغبار الجهل والافلات من الوقوع في براثن الفتن وتيارات الضلال.
وبالحسين (عليه السلام) ومأتمه يمتلك الانسان القدرة على اجتياز الطريق الشائك لمعرفة الحق، وتحطيم عقبة «إنّا وجدنا آباءنا على هذا وإنّا على آثارهم مقتدون».
لان الحسين (عليه السلام) حسين الله، ومأتمه مأتم أمر الله عز وجل بإحيائه.
لان الحسين (عليه السلام) حسين الحق، ومأتمه درس للوصول إلى الحق.
لان الحسين (عليه السلام) حسين المصطفى (صلى الله عليه وآله)، ومأتمه مأتمه.
لان الحسين (عليه السلام) حسين علي وفاطمة وأهل البيت (عليهم السلام)، ومأتمه مأتمهم.
لان الحسين (عليه السلام) حسين الانبياء والمرسلين (عليهم السلام)، ومأتمه مأتمهم.

المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 7

لان الحسين (عليه السلام) حسيننا جميعاً، ومأتمه مأتمنا.
وقسماً بالله الذي لا إله إلاّ هو، إن البشرية لو عرفت الحسين (عليه السلام) على حقيقته لاسلمت عن بكرة أبيها، إلاّ مَن كان قد تخلّى منهم عن إنسانيته.
وكذلك لو عرف المسلمون الحسين (عليه السلام) على حقيقته، لاهتدوا بهديه واتبعوا نهجه وركبوا سفينة النجاة وما تركوا أهل البيت (عليهم السلام) طرفة عين، إلاّ من كان منهم وفي قلبه مرض.
وعليه، فإنّ مسؤولية أتباع الحسين (عليه السلام) تتضاعف في إيصال حقيقة الحسين (عليه السلام) وأهمية إقامة مأتمه إلى الجميع، ليؤدّي كلّ منهم هذه المهمّة على قدر وسعه.
وهذا الكتاب الماثل بين يدي القارئ العزيز، وإن كان صغيراً في حجمه، إلاّ أنه عظيم في محتواه، قد جمع بين دفّتيه على اختصاره زبدة ما يتعلّق بمشروعية المأتم وأسراره.
وهو بقلم علَم الاعلام وسيّد السادات ـ الذي اهتدى أكثر من اهتدى إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بسبب كتابه

المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 8

المراجعات ـ آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي رضوان الله عليه.
وهذا الكتاب في الواقع هو مقدّمة كتابه «المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة» الذي أحرقته الايدي الاثيمة، ومابقي منه سوى المقدمة التي قمنا بتحقيقها والتعليق عليها واخراجها بهذا الكتاب الذي سمّيناه «المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره»، ليكون الكتاب الثاني من «سلسلة الكتب الاهدائية» المخصّصة لروّاد المركز من المشتركين والمساهمين في المسابقات الهادفة، وذلك لايجاد ثقافة علمية عقائدية لمجتمعاتنا المؤمنة التي نأمل منها كل الخير في نشر مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ودرء الشبهات عنه.

مركز الابحاث العقائدية
فارس الحسّون

المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 9

[تمهيد]

الحمد لله على جميل بلائه وجليل عزائه، والصلاة والسلام على أُسوة أنبيائه، وعلى الائمّة المظلومين من أوصيائه، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فهذا كتاب (المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة)(1)، وضعته تقرّباً إليهم في الدنيا، وتوسّلاً بهم

(1) ألّفه في أربع مجلدات ضخمة، تضمّنت سيرة النبي (صلى الله عليه وآله)وعترته (عليهم السلام) وحياتهم وبعض خطبهم.
وقال عنه المؤلّف (قدس سره): «كتاباً اجتماعياً سياسياً عمرانياً، من أحسن ما كتب في الامامة والسياسة».
وكان (قدس سره) قد كتب له مقدمة حول مشروعية أصل المأتم وأسراره، طبعت قبل طبع الكتاب، وهذه المقدمة هي كتابنا الحاضر الذي سمّيناه «المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره».
وأمّا أصل الكتاب، فقد أعدّه المؤلّف للنشر، ولكن شعلة الحرب العالمية الاولى حالت المؤلّف عن طبعه، حتّى أصبح هذا الكتاب ومؤلّفاته الاخرى ـ ما يقرب من ثلاثين مجلداً مخطوطاً كلها بقلمه الشريف ـ طعمة حريق سلطة الاحتلال الفرنسي، حيث سلّطت النار على داره في شحور، وبعده احتلّت داره الكبرى في صور وأبيحت للايدي الاثيمة سلباً ونهباً.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 10

في الاخرة، سائلاً من الله سبحانه أن يكون خالصاً لوجهه الكريم، إنه الرؤوف الرحيم.


المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 11

مقدمة

الاصل العملي يقتضي إباحة:
[1] البكاء على مطلق الموتى.
[2] ورثائهم بالقريض.
[3] وتلاوة مناقبهم ومصائبهم.
[4] والجلوس حزناً عليهم.
[5] والانفاق عنهم في وجوه البرّ.
ولا دليل على خلاف هذا الاصل، بل السيرة القطعية والادلة اللفظية حاكمان بمقتضاه، بل يستفاد من بعضها استحباب هذه الامور إذا كان الميت من أهل المزايا الفاضلة والاثار النافعة، وفقاً لقواعد المدنية وعملاً بأُصول العمران ; لانّ تمييز المصلحين يكون سبباً في تنشيط أمثالهم، وأداء حقوقهم يكون داعياً إلى كثرة الناسجين

المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 12

على منوالهم، وتلاوة أخبارهم ترشد العاملين إلى اقتفاء آثارهم.
وهنا مطالب:

المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 13

المطلب الاول

في البكاء

ولنا على ما اخترناه فيه ـ مضافاً إلى السيرة القطعية ـ فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقوله وتقريره:
أما الاول، فانه متواتر عنه في موارد عديدة:
منها: يوم أحد، إذ علم الناس كافة بكاءه يومئذ على عمه أسد الله وأسد رسوله، حتى قال ابن عبد البر في ترجمة حمزة من استيعابه: لمّا رأى النبي (صلى الله عليه وآله) حمزة قتيلاً بكى فلمّا رأى ما مثّل به شهق.
وذكر الواقدي ـ كما في أوائل الجزء الخامس عشر من شرح نهج البلاغة(1) للعلاّمة المعتزلي ـ: أنّ النبي (صلى الله عليه وآله)

(1) في أواخر صفحة 387 من المجلّد الثالث طبع مصر «المؤلّف».
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 14

كان يومئذ إذا بكت صفية يبكي وإذا نشجت ينشج(1).
قال: وجعلت فاطمة تبكي لمّا بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله)(2).
ومنها: يوم نعى زيداً وذا الجناحين وابن رواحة، فيما أخرجه البخاري في الصفحة الثالثة من أبواب الجنائز من صحيحه، وذكر ابن عبد البرّ في ترجمة زيد من استيعابه: أنّ النبي (صلى الله عليه وآله)بكى على جعفر وزيد وقال: «أخواي ومؤنساي ومحدثاي»(3).
ومنها: يوم مات ولده إبراهيم، إذ بكى عليه، فقال له

(1) قد اشتمل هذا الحديث على فعل النبي (صلى الله عليه وآله) وتقريره، فهو حجّة من جهتين، على أنّ بكاء سيدة النساء (عليها السلام) كاف كما لا يخفى (المؤلّف).
(2) وراجع أيضاً في بكاء النبي (صلى الله عليه وآله) على عمّه حمزة وتحريض النساء على البكاء: مسند أحمد 2 / 40، الفصول المهمّة: 92، شفاء الغرام 2/347، ذخائر العقبى: 180، السيرة الحلبية 2 / 247، الروض الانف 6/24.
(3) وراجع أيضاً: ذخائر العقبى: 218، أنساب الاشراف: 43، تاريخ اليعقوبي 2 / 66، تذكرة الخواص: 172، المعجم الكبير 2 / 105.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 15

عبد الرحمن بن عوف ـ كما في صفحة 148 من الجزء الاول من صحيح البخاري ـ: وأنت يا رسول الله! قال: «يا ابن عوف، إنها رحمة»(1)، ثم اتبعها ـ يعني عبرته ـ بأخرى، فقال: «إنّ العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول(2)إلاّ ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»(3).
ومنها: يوم ماتت إحدى بناته (صلى الله عليه وآله)، إذ جلس على قبرها ـ كما في صفحة 146 من الجزء الاول من صحيح البخاري ـ وعيناه تدمعان(4).

(1) لا يخفى مافي تسميتها رحمة من الدلالة على حسن البكاء في مثل المقام «المؤلّف».
(2) أراد بهذا: أنّ الملامة والاثم في المقام إنما يكونان بالقول الذي يسخط الرب عز وعلا، كالاعتراض عليه والسخط لقضائه، لا بمجرد دمع العين وحزن القلب «المؤلف».
(3) وراجع أيضاً: ذخائر العقبى: 155، سيرة ابن إسحاق: 270، العقد الفريد 3/190.
(4) وراجع أيضاً: ذخائر العقبى: 166، المحلّى 5 / 145.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 16

ومنها: يوم مات صبي لاحدى بناته، إذ فاضت عيناه يومئذ ـ كما في الصحيحين(1) وغيرهما ـ فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»(2).
ومنها: ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن ابن عمر قال: اشتكى سعد، فعاده رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع جماعة من أصحابه، فوجده في غشية فبكى، قال: فلمّا رأى القوم بكاءه بكوا، الحديث(3).
والاخبار في ذلك لا تحصى ولا تستقصى(4).

(1) راجع: صفحة 146 من الجزء الاول من صحيح البخاري، وباب البكاء على الميت من صحيح مسلم «المؤلف».
(2) دلالة قوله: «وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» على استحباب البكاء في غاية الوضوح كما لا يخفى «المؤلّف».
(3) فراجعه في: باب البكاء عند المريض من صحيح البخاري، وفي باب البكاء على الميت من صحيح مسلم، ولا يخفى اشتماله على كل من فعل النبي (صلى الله عليه وآله) وتقريره، فهو حجة من جهتين (المؤلّف).
(4) كبكائه (صلى الله عليه وآله) على عترته من بعده [المصنف 8 / 697، الفصول المهمّة: 155].
وبكائه على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لما سيلقاه من بعده [مناقب الخوارزمي: 24 و 26، تذكرة الخواص: 45].
وبكائه على الحسين (عليه السلام) لمّا أخبره جبرئيل بما سيجري عليه، كما سيأتي عن قريب.
وبكائه على شهداء فخ لمّا أخبره جبرئيل بالواقعة [مقاتل الطالبيين: 436].
وبكائه على جدّه عبد المطلب [تذكرة الخواص: 7].
وبكائه على أبي طالب [الطبقات 1 / 105، تذكرة الخواص: 8، تاريخ اليعقوبي 2 / 35].
وبكائه على فاطمة بنت أسد [ذخائر العقبى: 56، الفصول المهمّة: 13، مناقب ابن المغازلي: 77، تاريخ اليعقوبي 2 / 14].
وبكائه على أمّه عند قبرها [المستدرك على الصحيحين 1/375، تاريخ المدينة المنورة 1 / 118، ذخائر العقبى: 258، المصنف لابن أبي شيبة 3 / 224].
وبكائه على عثمان بن مظعون [المستدرك على الصحيحين 1/361، سنن البيهقي 3 / 407].
وبكائه على سعد بن ربيع [المغازي 1 / 329].
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 17

وأما قوله وتقريره، فمستفيضان، ومواردهما كثيرة:

المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 18

فمنها: ماذكره ابن عبد البر في ترجمة جعفر من استيعابه، قال: لمّا جاء النبي (صلى الله عليه وآله) نعي جعفر(1)، أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزاها، قال: ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول: «وا عماه»، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «على مثل جعفر فلتبك(2) البواكي»(3).
ومنها: ماذكره ابن جرير وابن الاثير وصاحب العقد الفريد وجميع أهل السير، وأخرجه الامام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في صفحة 40 من الجزء الثاني من مسنده، قال: رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أحد، فجعلت نساء الانصار يبكين على من قتل من أزواجهن، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ولكن حمزة لا بواكي له»، قال: ثم نام فاستنبه وهنّ يبكين حمزة، قال: فهنّ اليوم إذا بكين يبدأن بحمزة.
(1) هذا الحديث مشتمل على تقريره (صلى الله عليه وآله) على البكاء وأمره به، على أنّ مجرد صدوره من سيدة النساء (عليها السلام) حجة كما لا يخفى «المؤلف».
(2) هذا أمر منه (صلى الله عليه وآله) بالبكاء ندباً على أمثال جعفر من رجال الامة، وحسبك به حجة على الاستحباب «المؤلف».
(3) وراجع أيضاً: أنساب الاشراف: 43، تاريخ اليعقوبي 2 / 66.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 19

وفي ترجمة حمزة من الاستيعاب نقلاً عن الواقدي، قال: لم تبك امرأة من الانصار على ميت بعد قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لكن حمزة لا بواكي له» إلى اليوم إلاّ بدأت بالبكاء على حمزة(1).
وحسبك تلك السيرة في رجحان البكاء على من هو كحمزة وإن بعد العهد بموته.
ولا تنس مافي قوله (صلى الله عليه وآله): «لكن حمزة لا بواكي له» من البعث على البكاء والملامة لهن على تركه، وحسبك به وبقوله: «على مثل جعفر فلتبك البواكي»، دليلاً على الاستحباب.
وأخرج الامام أحمد من حديث ابن عباس ـ في صفحة 335 من الجزء الاول ـ من مسنده من جملة حديث ذكر فيه موت رقية بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبكاء النساء عليها، قال: فجعل عمر يضربهن بسوطه، فقال النبي (صلى الله عليه وآله):

(1) وراجع أيضاً: شفاء الغرام 2 / 347، السيرة النبوية 3 / 105، الروض الانف 6 / 24، ذخائر العقبى: 183، الفصول المهمة: 92.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 20

«دعهن يبكين»، ثم قال: «مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرحمة»، وقعد على شفير القبر وفاطمة الى جنبه تبكي، قال: فجعل النبي (صلى الله عليه وآله) يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها.
وأخرج أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة ـ ص333 ج2 من مسنده ـ حديثاً جاء فيه: أنه مرّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) جنازة معها بواكي، فنهرهن عمر، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): «دعهن، فانّ النفس مصابة والعين دامعة».
إلى غير ذلك مما لا يسعنا استيفاؤه.
وقد بكى يعقوب إذ غيب الله ولده « وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزَنِ فَهُوَ كَظِيمٌ »(1)، حتّى قيل: ـ كما في تفسير هذه الاية من الكشاف ـ: ما جفّت عيناه من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً، وما على وجه الارض أكرم على الله منه.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ كما في تفسير هذه الاية من

(1) يوسف: 84.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 21

الكشاف أيضاً ـ: أنه سئل جبرئيل (عليه السلام): ما بلغ وجد يعقوب على يوسف؟ قال: وجْد سبعين ثكلى، قال: فما كان له من الاجر؟ قال: أجر مائة شهيد(1)، وما ساء ظنه بالله قط.
قلت: أيّ عاقل يرغب عن مذهبنا في البكاء بعد ثبوته عن الانبياء « وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمُ إلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ »(2).
وأمّا ما جاء في الصحيحين: من أنّ الميت يعذب لبكاء أهله عليه، وفي رواية: ببعض بكاء أهله عليه، وفي رواية: ببكاء الحي، وفي رواية: يعذب في قبره بما نيح عليه، وفي رواية: من يبك عليه يعذب.
فانّه خطأ من الراوي بحكم العقل والنقل.
قال الفاضل النووي(3): هذه الروايات كلّها من رواية

(1) هذا كالصريح في استحباب البكاء، إذ ليس المستحب إلاّ ما يترتب الثواب على فعله كما هو واضح «المؤلف».
(2) البقرة: 130.
(3) عند ذكر هذه الروايات في باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من شرح صحيح مسلم «المؤلّف».
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 22

عمر بن الخطاب وابنه عبد الله.
قال: وأنكرت عائشة عليهما، ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه، واحتجّت بقوله تعالى: « وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى »(1).
قلت: وأنكر هذه الروايات أيضاً عبد الله بن عباس، واحتج على خطأ راويها، والتفصيل في الصحيحين وشروحهما.
وما زالت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض، حتى أخرج الطبري(2) في حوادث سنة 13 من تاريخه، بالاسناد إلى سعيد بن المسيب قال: لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح، فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها فنهاهنّ عن البكاء على أبي بكر، فأبين أن ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد: أدخل فأخرج إلي ابنة أبي قحافة، فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من

(1) الانعام: 164.
(2) عند ذكر وفاة أبي بكر في الجزء الرابع من تاريخه «المؤلّف».
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 23

عمر: إنّي أحرج عليك بيتي، فقال عمر لهشام: أدخل فقد أذنت لك، فدخل هشام وأخرج ام فروة أخت أبي بكر إلى عمر، فعلاها بالدرة فضربها ضربات، فتفرق النوح حين سمعوا ذلك.
قلت: كأنه لم يعلم تقرير النبي نساء الانصار على البكاء على موتاهن، ولم يبلغه قوله (صلى الله عليه وآله): «لكن حمزة لا بواكي له»، وقوله: «على مثل جعفر فلتبك البواكي»، وقوله: «وإنما يرحم الله من عباده الرحماء».
ولعله نسي نهي النبي (صلى الله عليه وآله) إياه عن ضرب البواكي يوم ماتت رقية بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونسي نهيه إياه عن انتهارهنّ في مقام آخر مرّ عليك آنفاً.
ثم إذا كان البكاء على الميت حراماً، فلماذا أباح لنساء بني مخزوم أن يبكين على خالد بن الوليد(1)، حتى ذكر

(1) وبكى هو على النعمان بن مقرن واضعاً يده على رأسه، كما نصّ عليه ابن عبد البر في ترجمة النعمان من استيعابه، وفي أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد قال: ولما نعي النعمان بن مقرن إلى عمر بن الخطاب وضع يده على رأسه وصاح يا أسفاً على النعمان... وبكائه على أخيه زيد معلوم بالتواتر «المؤلّف».
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 24

محمد بن سلام ـ كما في ترجمة خالد من الاستيعاب ـ أنه لم تبق امرأة من بني المغيرة إلاّ وضعت لمتها ـ أي حلقت رأسها ـ على قبر خالد.
وهذا حرام بلا ارتياب، والله أعلم.

المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 25

المطلب الثاني

في رثاء الميّت بالقريض

ويظهر من القسطلاني في شرح البخاري(1) أنّ الجماعة يفصلون القول فيه: فيحرمون ما اشتمل منه على مدح الميت وذكر محاسنه الباعث على تحريك الحزن وتهييج اللوعة، ويبيحون ما عدا ذلك.
والحق إباحته مطلقاً، إذ لا دليل هنا يعدل بنا عن مقتضى الاصل، والنواهي التي يزعمونها إنما يستفاد منها الكراهة في موارد مخصوصة، على أنّها غير صحيحة بلا ارتياب.
وقد رثى آدم (عليه السلام) ولده هابيل، واستمرت على ذلك

(1) راجع باب رثي النبي (صلى الله عليه وآله) سعد بن خولي، ص298 ج3، من إرشاد الساري للقسطلاني «المؤلّف».
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 26

ذريته إلى يومنا هذا بلا نكير.
وأبقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه عليه، مع إكثارهم من تهييج الحزن به، وتفننهم بمدائح الموتى فيه، وتلك مراثيهم منتشرة في كتب الاخبار.
فراجع من الاستيعاب إن أردت بعضها أحوال: سيد الشهداء حمزة، وعثمان بن مظعون، وسعد بن معاذ، وشماس بن عثمان بن الشريد، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وأبي خراش الهذلي، وأياس بن البكير الليثي، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وغيرهم.
ولاحظ من الاصابة أحوال: ذي الجناحين جعفر بن أبي طالب، وأبي زيد الطائي، وأبي سنان بن حريث المخزومي، والاشهب بن رميلة الدارمي، وزينب بنت العوام، وعبد الله بن عبد المدان الحارثي، وجماعة آخرين لا تحضرني أسماؤهم.
ودونك كتاب الدرة في التعازي والمراثي، وهو في أول الجزء الثاني من العقد الفريد، تجد فيه من مراثي الصحابة ومن بعدهم شيئاً كثيراً.
وليس شيء مما أشرنا إليه إلاّ وقد اشتمل على ما يهيج


الفهرس التالي التالي