المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 50

وأما أئمّة العترة الطاهرة: الذين هم كسفينة نوح، وباب حطة، وأمان أهل الارض، وأحد الثقلين اللذين لا يضلّ من تمسك بهما ولا يهتدي إلى الله من صدّ عنهما.
فقد استمرت سيرتهم على الندب والعويل، وأمروا أولياءهم باقامة مآتم الحزن، جيلاً بعد جيل.
فعن الصادق (عليه السلام) ـ فيما رواه ابن قولويه في الكامل وابن شهر آشوب في المناقب وغيرهما ـ: أنّ علي بن الحسين (عليهما السلام) بكى على أبيه مدّة حياته، وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى، ولا أتي بشراب إلاّ بكى، حتى قال له أحد مواليه: جعلت فداك يا ابن رسول الله إنّي أخاف أن تكون من الهالكين! قال (عليه السلام): «إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون».
وروى ابن قولويه وابن شهر آشوب أيضاً وغيرهما: أنه لما كثر بكاؤه، قال له مولاه: أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال: «ويحك، إن يعقوب (عليه السلام) كان له اثنا عشر ولداً، فغيّب الله واحداً منهم، فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه واحدودب ظهره من الغم، وابنه حيّ في الدنيا، وأنا نظرت

المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 51

إلى أبي وأخي وعمومتي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني».
وعن الباقر (عليه السلام) (1) قال: «كان أبي ـ علي بن الحسين صلوات الله عليه ـ يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي (عليه السلام) دمعة حتى تسيل على خده بوّأه الله تعالى في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فينا لاذى مسّنا من عدوّنا في الدنيا بوّأه الله في الجنة مبوّأ صدق، وأيّما مؤمن مسّه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده صرف الله عن وجهه الاذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار» (2) .
وقال الرضا (3) ـ وهو الثامن من أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم ـ «إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية

(1) فيما أخرجه جماعة، منهم ابن قولويه في كامله «المؤلف».
(2) كامل الزيارات: 100.
وراجع: تفسير القمي: 616، ثواب الاعمال: 47، بحار الانوار 44 / 281.
(3) فيما أخرجه الصدوق في أماليه وغير واحد من أصحابنا «المؤلّف».
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 52

يحرّمون فيه القتال، فاستُحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبيت فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت فيه النار في مضاربنا، وانتهب مافيها من ثقلنا (1) ، ولم ترع لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حرمة في أمرنا.
إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا....
فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فانّ البكاء عليه يحط الذنوب العظام».
ثم قال (عليه السلام): «كان أبي إذا دخل شهر المحرم، لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيام، فاذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه» (2) .
وقال (عليه السلام) (3) : «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا

(1) الثقل: وزان سبب متاع المسافر، وكلّ شيء نفيس مصون «المؤلّف».
(2) أمالي الصدوق: المجلس 27 الرقم 2.
وراجع: بحار الانوار 44 / 283.
(3) فيما أخرجه الصدوق في أماليه «المؤلّف».
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 53

كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تمـوت القـلـوب» (1) .
وعن الريان بن شبيب ـ فيما أخرجه الشيخ الصدوق في العيون ـ قال: دخلت على الرضا (عليه السلام) في أول يوم من المحرم، فقال لي: «يا ابن شبيب، إن المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرّمون فيه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الامة حرمة شهرها ولا حرمة نبيها (صلى الله عليه وآله وسلم); إذ قتلوا في هذا الشهر ذريته وسبوا نساءه وانتهبوا ثقله....
يا ابن شبيب، إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين (عليه السلام)، فانه ذبح كما يذبح الكبش (2) ، وقتل معه من أهل بيته

(1) أمالي الصدوق: المجلس 17 الرقم 4.
وراجع: عيون أخبار الرضا 1 / 294، بحار الانوار 44 / 278.
(2) إنّ التعبير ـ كهذا ـ مما يدلك على غاية همجية القوم وشقائهم وبُعدهم عن العطف الانساني، بالاضافة على قتلهم ريحانة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهتكهم حرمته في سبطه روحي فداه.
وقد أجمل الامام عليه أفضل الصلاة والسلام لمّا أدى عن الفاجعة واهميتها بهذا الكلام القصير، وأشار به إلى معنى جسيم يدركه الباحث المتعمق بعد التحليل والاختبار، ويندهش المجموع البشري لمثل هذه الرزية عندما علم أنه لم يوجد بين تلك الجموع المحتشدة في كربلاء من يردعهم عن موقفهم البغيض، ولا أقل من تسائل بعضهم: لماذا نقاتل الحسين؟ وبأي عمل استحق ذلك منا؟ أو هل كان دم الحسين (عليه السلام)مباحاً إلى حدّ إباحة دم الكبش؟ ويذبح ـ بأبي هو وأمي ـ بلا ملامة لاثم ومن دون خشية محاسب!! «المؤلّف».
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 54

ثمانية عشر رجلاً مالهم في الارض من شبيه، ولقد بكت السموات السبع لقتله...».
إلى أن قال: «يا ابن شبيب، إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان، فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا...» (1) .
وقال (عليه السلام) ـ فيما أخرجه الصدوق في أماليه ـ: «من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 299.
وراجع: أمالي الصدوق: المجلس 27، بحار الانوار 44 / 285.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 55

الدنيا والاخرة، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عزّ وجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره وقرّت بنا في الجنان عينه...» (1) .
وبكى صلوات الله عليه إذ أنشده دعبل بن علي الخزاعي قصيدته التائية السائرة التي أغمي عليه في أثنائها مرتين، كما نصّ عليه الفاضل العباسي في ترجمة دعبل من معاهد التنصيص وغيره من أهل الاخبار.
وفي البحار وغيره: أنه (عليه السلام) أمر قبل إنشادها بستر فضرب دون عقائله، فجلسن خلفه يسمعن الرثاء ويبكين على جدّهن سيد الشهداء، وأنه قال يومئذ: «يا دعبل، من بكى أو أبكى على مصابنا ولو واحداً كان أجره على الله، يا دعبل، من ذرفت عيناه على مصابنا حشره الله معنا».
وحدّث محمد بن سهل ـ كما في ترجمة الكميت من

(1) أمالي الصدوق: المجلس 27 الرقم 4.
وراجع: بحار الانوار 44 / 284.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 56

معاهد التنصيص ـ قال: دخلت مع الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في أيام التشريق، فقال له: جعلت فداك ألا أنشدك؟ قال: «إنها أيام عظام»، قال: إنها فيكم، قال: «هات»، وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب، فأنشده ـ في رثاء الحسين (عليه السلام) ـ فكثر البكاء، حتى أتى على هذا البيت:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم فيـا آخـراً أسدى لـه الغي أول

قال: فرفع أبو عبد الله رحمه الله تعالى يديه فقال: «اللهم اغفر للكميت ماقدّم وما أخر وما أسرّ وما أعلن حتى يرضى» (1) .

(1) بخ بخ، هنيئاً لمن نال من أئمّة الهدى بعض ذلك، وأنت تعلم أنه (عليه السلام) لم يبتهل بالدعاء للكميت هذا الابتهال إلاّ لما دلّ عليه بيته هذا من معرفته بحقيقة الحال.
وقد أكثر الشعراء من نظم هذا المعنى، فنظمه المهيار في قصيدته اللامية، وقبل ذلك نظمه الشريف الرضي فقال:
بنى لهم الماضون أساس هذه فعلوا على أساس تلك القواعد إلى آخر ما قال.
وكأن سيدة نساء عصرها زينب (عليها السلام) أشارت إلى هذا المعنى بقولها مخاطبة ليزيد: وسيعلم من سوّل لك، ومكّنك من رقاب المسلمين.
بل أشار إليه معاوية إذ كتب إليه محمد بن أبي بكر يلومه في تمرده على أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويذكر له فضله وسابقته، فكتب له معاوية في الجواب ما يتضمن الاشارة إلى المعنى الذي نظمه الكميت، فراجع ذلك الجواب: في كتاب صفين لنصر بن مزاحم، أو شرح النهج الحديدي، أو مروج الذهب للمسعودي.
وقد اعترف بذلك المعنى يزيد بن معاوية: إذ كتب إليه ابن عمر يلومه على قتل الحسين، فأجابه: أما بعد، فانا أقبلنا على فرش ممهّدة ونمارق منضدة... إلى آخر الكتاب، وقد نقله البلاذري وغيره من أهل السير والاخبار.
وفي كتابنا سبيل المؤمنين من هذا شيء كثير، فحقيق بالباحثين أن يقفوا عليه «المؤلّف».
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 57

وفي كامل الزيارات بالاسناد إلى عبد الله بن غالب، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فأنشدته مرثية الحسين (عليه السلام)، فلما انتهيت إلى قولي:
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 58

لبليـة تسقـو حسـيناً بمسقاة الثرى غير التراب

صاحت باكية من وراء الستر يا أبتاه (1) .
وروى الصدوق في الامالي وثواب الاعمال، وابن قولويه، بأسانيد معتبرة عن أبي عمارة قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا أبا عمارة، أنشدني في الحسين»، فأنشدته فبكى، ثم أنشدته فبكى، قال: فو الله ما زلت أنشده وهو يبكي، حتى سمعت البكاء من الدار، قال: فقال لي: «يا أبا عمارة من أنشد في الحسين بن علي (عليهما السلام)فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين

(1) كامل الزيارات: 105.
وراجع: بحار الانوار 44 / 286.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 59

فتباكى فله الجنة» (1) .
وروى الصدوق في ثواب الاعمال بالاسناد إلى هارون المكفوف قال: دخلت على أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فقال لي: «يا أبا هارون، أنشدني في الحسين (عليه السلام)»، فأنشدته، فقال لي: «أنشدني كما تنشدون» يعني: بالرقة، قال: فأنشدته:
امرر على جدث الحسين فقـل لاعظمـه الزكيـة

قال: فبكى، ثم قال: «زدني»، فأنشدته القصيدة الاخرى، قال: فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر، قال: فلما فرغت، قال: «يا أبا هارون، من أنشد في الحسين فبكى وأبكى عشرة كتبت لهم الجنة...».
إلى أن قال: «ومن ذكر الحسين عنده فخرج من عينيه من الدمع مقدار جناح ذبابة، كان ثوابه على الله عز وجل،

(1) أمالي الصدوق: المجلس 29 الرقم 6، ثواب الاعمال: 47، كامل الزيارات: 105.
وراجع: بحار الانوار 44 / 282.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 60

ولم يرض له بدون الجنة» (1) .
وروى الكشي بسند معتبر عن زيد الشحام قال: كنّا عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فدخل عليه جعفر بن عثمان، فقربه وأدناه، ثم قال: «يا جعفر»، قال: لبيك جعلني الله فداك، قال: «بلغني أنك تقول الشعر في الحسين (عليه السلام) وتجيد»، فقال له: نعم جعلني الله فداك، قال: «قل»، فأنشدته، فبكى ومن حوله حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته، ثم قال: «يا جعفر، والله لقد شهدت الملائكة المقربون هاهنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السلام)، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر...».
إلى أن قال: «مامن أحد قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنة، وغفر له» (2) .
وروى ابن قولويه في الكامل بسند معتبر حديثاً عن الصادق (عليه السلام) جاء فيه: «وكان جدي علي بن الحسين (عليهما السلام)

(1) ثواب الاعمال: 47.
وراجع: كامل الزيارات: 100 و 104، بحار الانوار 44 / 288.
(2) رجال الكشي: 187.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 61

إذا ذكره ـ يعني الحسين (عليه السلام) ـ بكى حتى تملا عيناه لحيته، وحتى يبكي لبكائه ـ رحمة له ـ من رآه، وأنّ الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كلّ من في الهواء والسماء، وما من باك يبكيه إلاّ وقد وصل فاطمة وأسعدها، ووصل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأدّى حقنا...».
وفي قرب الاسناد عن بكر بن محمد الازدي قال: قال أبو عبد الله ـ الصادق ـ (عليه السلام) لفضيل بن يسار: «أتجلسون وتحدّثون؟» قال: نعم جعلت فداك، قال (عليه السلام): «إنّ تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيى أمرنا، يا فضيل: من ذَكَرَنا أو ذُكِرْنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه».
وفي خصال الصدوق، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إن الله تبارك وتعالى اطلع إلى الارض فاختارنا، واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أُولئك منا وإلينا».
وفي كامل الزيارات بالاسناد إلى أبي عمارة المنشد قال: ماذكر الحسين (عليه السلام) عند أبي عبد الله ـ الصادق ـ (عليه السلام)

المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 62

في يوم قط فرؤي متبسماً في ذلك اليوم إلى الليل، قال: وكان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول: «الحسين عبرة كل مؤمن» (1)
وفيه بالاسناد إلى الصادق (عليه السلام) قال: «قال الحسين (عليه السلام): أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلاّ استعبر (2)
إلى غير ذلك من صحاح الاخبار المتواترة عن أئمة الابرار (3) .

[حجّية أقوال الائمة (عليهم السلام) في رجحان إقامة المأتم]

وناهيك بها حجة على رجحان هذه المآتم، واستحبابها شرعاً، فان أقوال أئمة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام) وأفعالهم

(1) كامل الزيارات: 108.
وراجع: بحار الانوار 44 / 280.
(2) كامل الزيارات: 108.
وراجع: بحار الانوار 44 / 284.
(3) راجع: بحار الانوار 44 / 278 ـ 296 الباب 34.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 63

وتقريرهم حجة بالغة، لوجوب عصمتهم بحكم العقل والنقل، كما هو مقرر في مظانه من كتب المتكلمين من أصحابنا، والتفصيل في كتابنا سبيل المؤمنين.
على أنّ الاقتداء بهم في هذه المآتم وغيرها لا يتوقف عند الخصم على عصمتهم، بل يكفينا فيه ما اتفقت عليه الكلمة من إمامتهم في الفتوى، وأنّهم في أنفسهم لا يقصرون عن الفقهاء الاربعة والثوري والاوزاعي وأضرابهم علماً ولا عملاً.
وأنت تعلم أنّ هذه المآتم لو ثبتت عن أبي حنيفة أو صاحبيه أبي يوسف والشيباني مثلاً، لاستبق الخصم إليها وعكف أيام حياته عليها، فلم ينكرها علينا ويندّد بها بعد ثبوتها عن أئمة أهل البيت يا منصفون؟!
أتراه يرى في أئمة الثقلين أمراً يقتضي الاعراض عنهم، أو يجد فيهم شيئاً يستوجب الانكار على الاخذين بمذهبهم، أو أنّ هناك أدلّة خاصّة تقصر الامامة في الفتوى على أئمّة خصومنا ولا تبيح الرجوع إلى غيرهم، كلاّ إنّ واقع الامر وحقيقة الحال بالعكس.

المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 64

[حديث الثقلين]

هذا حديث الثقلين المجمع على صحّته واستفاضته، قد أنزل العترة منزلة الكتاب وجعلها قدوة لاولي الالباب، فراجعه:
في باب فضائل علي من صحيح مسلم.
أو في الجمع بين الصحيحين.
أو الجمع بين الصحاح الستة.
أو في حديث أبي سعيد الخدري من مسند أحمد بن حنبل.
أو خصائص علي للامام النسائي.
أو في تفسيري الثعلبي والبيهقي.
أو في حلية الحافظ الاصفهاني.
أو كتب الحاكم والطبراني وغيرها من كتب الحديث (1) .

(1) حديث الثقلين حديث صحيح ثابت متواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أخرجه الحفاظ وأئمة الحديث في الصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم بطرق كثيرة صحيحة عن بضع وعشرين صحابياً، فالنبي (صلى الله عليه وآله) لمّا أحسّ بقرب أجله أوصى أمّته بأهمّ الامور لديه وأعزّها عليه، وهما ثقلاه وخليفتاه، وحثّ على التمسّك بهما واتباعهما، وحذر من تركهما والتخلف عنهما، وكان ذلك منه (صلى الله عليه وآله) في مواقف مشهودة، أعلنها صرخة مدوّية كلّما وجد تجمعاً من الامة ومحتشداً من الصحابة ليبلّغوا مَن وراءهم وينقلوا إلى مَن بعدهم، وقد صدع بها (صلى الله عليه وآله) في ملا من الناس أربع مرّات: =
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 65




= (1) موقف يوم عرفة:
سنن الترمذي 5 / 662 رقم 3786، كنز العمال 1 / 48 عن ابن أبي شيبة والخطيب، نوادر الاصول للحكيم الترمذي: 68، المعجم الكبير 3 / 63 رقم 2679، مجمع الزوائد 5 / 195 و 9 / 163 و 10 / 363 و 368، المصابيح للبغوي 2 / 206، جامع الاصول 1 / 277 رقم 65، تهذيب الكمال 10 / 51، تحفة الاشراف 2 / 2 / 278 رقم 2615، مقتل الحسين للخوارزمي 1 / 114، مشكاة المصابيح 3 / 258، نظم درر السمطين: 232.
(2) موقف يوم الغدير:
النسائي في خصائص علي: 96 رقم 79، التاريخ الكبير للبخاري 3 / 96، صحيح مسلم: باب فضائل علي رقم 2408، مسند أحمد 3/17 و 4 / 366، مسند عبد بن حميد رقم 265، المطالب العالية لابن حجر 4 / 65 رقم 1873 عن إسحاق بن راهويه في صحيحه وقال: هذا إسناد صحيح، سنن الدارمي 2 / 310 رقم 2319، تذكرة خواص الامة: 322، السنة لابن أبي عاصم: 629 رقم 1551 و 630 رقم 1555، تاريخ اليعقوبي 2 / 112، حلية الاولياء 1 / 355 و 9 / 64، المعرفة والتاريخ 1 / 536، كنز العمال 13 / 36340 و 36441، جمع الجوامع 2 / 66 و 357 و 395، أنساب الاشراف: ترجمة أمير المؤمنين، مشكل الاثار 2 / 307 و 4 / 368، المعجم الكبير 3/2679 و 2681 و 2683 و 3052 و 5 / 4969 و 4970 و 4971 و 4986 و 5026 و 5028، المستدرك على الصحيحين 3 / 19 بثلاث طرق وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وأقرّه الذهبي و3/110 بطريق آخر وقال: صحيح على شرط الشيخين، تاريخ بغداد 8 / 442، مصابيح السنة 2 / 205، منهاج السنة 4 / 85.
(3) موقف مسجد المدينة:
تفسير المحرّر الوجيز لابن عطية 1 / 34، تفسير البحر المحيط 1/13، الصواعق المحرقة: 75 و 136، ينابيع المودّة: 40. =
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 66




= (4) موقفه (صلى الله عليه وآله) في مرضه في الحجرة:
رواه ابن أبي شيبة كما عنه العصامي في سمط النجوم العوالي 2/502 رقم 136، وأخرجه البزار في مسنده كما في كشف الاستار 3/221 رقم 2612، تهذيب اللغة للازهري 9 / 78، مقتل الحسين 1/164، الصواعق المحرقة: 89.
ومن أراد التفصيل فعليه بمراجعة: كتاب قبسات من فضائل أمير المؤمنين للمحقق الطباطبائي: 28 ـ 43، نفحات الازهار ـ حديث الثقلين ـ في ثلاث مجلدات.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 67

وأنا أورده لك بلفظ الترمذي (1) بحذف الاسناد:

(1) قال ابن حجر ـ بعد نقله عن الترمذي ـ في أثناء تفسيره للاية الرابعة من الايات التي أوردها في الفصل الاول من الباب الحادي عشر من صواعقه ما هذا لفظه: ثم اعلم أنّ لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً.
قال: ومرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك في حجة الوداع بعرفة، وفي أخرى أنه قال بالمدينة في مرضه وقد امتلات الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنه قاله لما قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف.
قال: ولا تنافي، إذ لا مانع من أنه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها، اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة «المؤلف».
راجع: الصواعق المحرقة 2 / 440.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 68

قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الاخر: كتاب الله عزّ وجلّ حبل ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما (1) .
وقد زاد الطبراني: «فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فانهم أعلم منكم» (2) .
قلت: لا يخفى أنّ تعليق عدم الضلال على التمسك بهما يقتضي بحكم المفهوم ثبوت الضلال لمن تخلّى عن أحدهما، وناهيك به في وجوب اتباع العترة والانقطاع في

(1) سنن الترمذي: (3788)، وأورده: السيوطي في الدرّ المنثور 2/60، والتبريزي في المشكاة (6244)، والهندي في الكنز (873).
(2) الصواعق المحرقة 2 / 439، المعجم الكبير: (2681).
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 69

الدين إليها وإلى القرآن العزيز.
على أنّ اقترانهم بالكتاب وهو معصوم، وجعلهم في وجوب التمسك بهم مثله، دليل قاطع على حجّية أقوالهم وأفعالهم، وأنّ الرجوع في الدين إلى خلافهم ليس إلاّ كترك القرآن والرجوع إلى كتاب يخالف أحكامه.
ولا تنس دلالة قوله (صلى الله عليه وآله): «ولن يفترقا» على عدم خلوّ الزمان ممن يفرغ منهم عن القرآن والقرآن يفرغ عنه (1) .
ثم إن قوله: «فلا تقدموهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم

(1) ومثله: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «في كلّ خلف من أمتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله عز وجل، فانظروا من توفدون».
أخرجه الملا، كما في تفسير الاية الرابعة من الايات التي أوردها ابن حجر في الفصل الاول من الباب الحادي عشر من صواعقه، وفي هذا المعنى صحاح متواترة من طريق العترة الطاهرة، بل هو من ضروريات مذهبهم (عليهم السلام) «المؤلّف».
راجع: الصواعق المحرقة 2 / 441.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 70

فتهلكوا، ولا تعلموهم فانهم أعلم منكم»، نصّ صريح فيما قلناه، كما لا يخفى.

[نظائر حديث الثقلين]

وكم لهذا الحديث من نظير في الدلالة على وجوب الاقتداء بالعترة الطاهرة أو المنع من مخالفتها، نستلفت الباحثين إلى ما أخرجناه من ذلك في مبحث العصمة من سبيل المؤمنين.
وحسبك منه ما أخرجه الحاكم بسند صححه على شرط البخاري ومسلم (1) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال من جملة حديث: «وأهل بيتي أمان لامتي من الاختلاف، فاذا خالفتها قبيلة من العرب [في بعض أحكام الدين]اختلفوا [في فتاويهم] فصاروا حزب إبليس» (2) .

(1) كما في تفسير الاية السابعة من الايات التي أوردها ابن حجر في الفصل الاول من الباب الحادي عشر من صواعقه، ونقله حاكماً بصحته أيضاً في باب الامان ببقائهم من أواخر الصواعق «المؤلّف».
(2) الصواعق المحرقة 2 / 445، المستدرك على الصحيحين 3 / 149 عن ابن عباس مرفوعاً وصححه.
المأتم الحسيني - مشروعيته وأسراره 71

أليس هذا نصّاً في وجوب اتباعهم، وحرمة مخالفتهم، وهل في لغة العرب أو غيرها عبارة أبلغ منه في إنذار مخالفيهم؟!
وأخرج أحمد بن حنبل وغيره (1) بالاسناد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «النجوم أمان لاهل السماء، فاذا ذهبت ذهبوا، وأهل بيتي أمان لاهل الارض، فاذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الارض»، وفي رواية: «فاذا هلك أهل بيتي جاء أهل الارض من الايات ما كانوا يوعدون»، وفي هذا المعنى صحاح متضافرة من طريق العترة الطاهرة، ومتى كانوا أماناً لاهل الارض، فكيف يستبدل بهم، وأنّى

(1) كما نصّ عليه ابن حجر في باب الامان ببقائهم من صواعقه «المؤلّف».
راجع: الصواعق المحرقة 2 / 445، مسند أحمد: الفضائل (1145)، المعجم الكبير: (6260)، مجمع الزوائد 9 / 174، المطالب العالية: (2562)، المستدرك على الصحيحين 2 / 448 و 3 / 149، ذخائر العقبى: 17.

السابق السابق الفهرس التالي التالي