دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 33

ولعل السر في تكاثر المقامات وتعددها كما في الرأس الشريف والذي هو في الأصل واحد هو أمر سياسي أكثر مما هو تبركي ، إذ يمكن اعتبارها أحد الوسائل المهمة والمؤثرة لمحاربة الظالمين وكسر شوكتهم .
وكان للخلاف السياسي شبه المستمر الذي حكم العلاقة بين الإمبراطورية العثمانية والإيرانية أثره البالغ في إغلاق أو فتح باب الزيارة للعتبات المقدسة ، فهذا مدحت باشا (1) والي بغداد الذي سبق له أن هاجم مدينة كربلاء يوجه دعوة للسلطان الإيراني(2) لزيارة العتبات المقدسة وعلى نفقة الإمبراطورية العثمانية(3) ، وهذا ملك إيران رضا بهلوي (4) يمنع الزوار من الذهاب إلى العراق بقصد زيارة العتبات المقدسة لأسباب سياسية ، ومع هذا يعتذر للرأي العام ويختلق الحجج خوفاً من الأبعاد السيئة لهذا المنع وإلى هذا يشير العلوي (5) : « ولم يكن ليجرؤ حاكم إيراني على منع الإيرانيين من السفر لزيارة العتبات المقدسة سوى رضا بهلوي ، وقد برر موقفه هذا بما كان يعانيه الزوار من تعذيب وإيذاء أثناء مرورهم في دوائر ومراكز الحدود العراقية » (6) .

(1) مدحت باشا : ابن الحافظ محمد أشرف ـ من القضاة ـ من آل الحاج علي الروسجغي ، ولدعام 1238 هـ وقتل خنقاً في السجن عام 1302 هـ من أشهر رجالات الإدارة العثمانيين ، صدر أعظم ( 1289 ـ 1294 هـ ) ، والي العراق عام 1285 هـ .
(2) في سنة 1287 هـ جاء السلطان ناصر الدين القاجاري إلى العراق بدعوة رسمية من الحكومة العثمانية فزار المشهد الحسيني ، وسيأتي تفصيل ذلك في القرن الثالث عشر من هذا الباب .
(3) راجع القسم الإقتصادي من هذا الباب حيث فصلنا القول عن هذه الزيارة .
(4) رضا بهلوي : بن عباس قلي ( 1296 ـ 1363 هـ ) ملك إيران بعد القضاء على الدولة القاجارية عام 1343 هـ ، وبعد دخول جيوش الحلفاء إلى إيران انتزعوا منه التنازل عن العرش لصالح ابنه محمد رضا وذلك عام 1360 هـ ونفي إلى جزيرة موريشيوس حيث مات فيها ، حاول منع الحجاب وإقامة الشعائر الدينية .
(5) حسن العلوي : كاتب عراقي معاصر ولد عام 1353 هـ في بغداد عمل في الصحافة وله مؤلفات منها الجواهري ديوان العصر ، التأثيرات التركية في المشروع العربي في العراق .
(6) الشيعة والدولة القومية في العراق : 331 .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 34

ومن الآثار القيمة والأبعاد المفيدة لوجود هذه العتبات المقدسة هو عمق تأثيرها في سياسة الحكام وسلوكهم وإعتدال تصرفاتهم وتوازنها ، وفي هذا الصدد ينقل الرهيمي (1)عن فيليب (2) في معرض ذكره لسيرة الملك فيصل الأول (3)حيث يقول : « ومنذ قدوم الملك فيصل إلى العراق كان يبدي تقرباً من علماء النجف وكربلاء والكاظمية عبر تقديم نفسه على أنه شيعي المذهب وعبر زيارته العتبات المقدسة وتأديته الصلاة وفقاً للتقاليد الإسلامية الشيعية » (4)، ويتطرق النفيسي (5)لدى بحثه عن تطور العراق السياسي وقيام الشيعة ضد الإحتلال البريطاني وعن ثورة العشرين ودور المراقد المقدسة حيث يقول : « وقد ينظر إلى هذه المقامات على انها مجرد مراكز دينية ذات نفوذ واسع ولكن المرء لا يستطيع أن يتغاضى عن كونها إلى جانب هذا ذات نفوذ سياسي واسع النطاق بصفتها ملاذاً يلجأ إليه الزعماء السياسيون في أوقات الضيق عندما تنشأ أزمة حادة بينهم وبين السلطة العلمانية »(6). ويقول الخياط (7) : « إن الملوك والأمراء الذين كانوا يتنافسون على تشييد هذه المعالم

(1) الرهيمي : هو عبد الحليم بن أحمد ، كاتب وصحفي عراقي ولدعام 1362 هـ في الحلة درس بجامعة بغداد وتخرج من الجامعة اللبنانية عام 1398هـ وتخصص بعلم التاريخ ، سكن لندن بعد دمشق منذ عام 1410 هـ .
(2) فيليب : هو فيليب إيرلند PHILIP IRLAND كاتب أمريكي كتب عن العراق له كتاب ـ العراق ـ دراسة في تطوره السياسي Iraq , Astudy in Its politcal Development-London-1937 .
(3) فيصل الأول : ابن الشريف حسين الحسني ولد في الطائف عام 1301 هـ أول ملك حكم العراق بعد ثورة العشرين وذلك بين 1339 ـ 1352 هـ ( 1921 ـ 1933 م ) خلفه ابنه غازي الأول .
(4) تاريخ الحركة الإسلامية في العراق : 290 عن : العراق دراسة في تطوره السياسي لفيليب إيرلند : 257 ، ويضيف الرهيمي : ( وتعمد أن يتوافق يوم تتويجه مع ذكرى عيد الغدير ) .
(5) النفيسي : هو عبد الله بن فهد ، باحث وكاتب كويتي معاصر ، له كتاب « دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث » والكتاب هو رسالة دكتوراه مقدمة إلى جامعة كمبردج عام 1972 م ( 1392 هـ ) .
(6) دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث : 72 .
(7) الخياط : هو عبد الحميد كاتب عراقي من أسرة عرفت بالفضل والأدب سكنت بغداد .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 35

الفنية كان يحدوهم إلى ذلك الوازع الديني والدافع الروحي ، أو كما يقال إنهم كانوا يبذلون على هذه الصروح المقدسة تقرباً للعامة وكسباً لرضا الدهماء (1)من سواد الشعب ولولا هذا التنافس لما توصلت هذه المباني إلى شكلها البديع » (2).
وبالنظر للأهمية السياسية والمكانة المعنوية لمدينة الحسين عليه السلام فقد إنطلقت منها شرارة ثورة العشرين ، وأتخذ قادت الثورة من كربلاء مركزاً للقيادة التي تمخض عنها إستقلال العراق وتأسيس دولته الحديثة ، وفيها صمم علم الإستقلال وشهدت المدينة مراسم رفع العلم للدولة العراقية الحديثة (3)لأول مرة فوق بناية السراي (4)في احتفال حاشد حضرته وفود من انحاء العراق كافة وذلك في يوم الغدير من عام 1338 هـ (5).
هذا وقد صرح قادة الثورة الإسلامية في إيران مراراً بأنهم استلهموا مبادئ ثورتهم هذه من نهضة الإمام الحسين عليه السلام وقد لمست بنفسي ذلك حينما زرت السيد الخميني (6)في مقر إقامته المؤقت في باريس (7) في أوج أحداث الثورة فوجدته قد التزم ختمة زيارة عاشوراء(8)ولمدة

(1) الدهماء: بالفتح الجماعة من الناس .
(2) تاريخ الروضة الحسينية المصور : 5.
(3) راجع تفصيل ذلك في فصل الحركة السياسية من باب اضواء على مدينة الحسين من هذه الموسوعة .
(4) السراي : فارسية تطلق على بناية الإدارة المحلية .
(5) الحركة الأدبية المعاصرة في كربلاء : 4 ، الثورة العراقية الكبرى : 212 .
(6) الخميني : هو روح الله بن مصطفى بن أحمد الموسوي ( 1320 ـ 1409 هـ ) مرجع إمامي تولى المرجعية في قم المقدسة بعد وفاة السيد حسين البروجردي عام 1380 هـ ، قاد الثورة على النظام الملكي في إيران وأعلنها جمهورية إسلامية عام 1399 هـ له عدد من المؤلفات منها كتاب البيع ، وله ديوان شعر .
(7) كانت إقامته في إحدى الضواحي أو القرى القريبة من باريس تسمى بـ ( نوفل لوشاتو ) التي منها قاد الثورة ضد النظام الملكي .
(8) ختم زيارة عاشوراء : شاع بين الإمامية ممارسة تلاوة زيارة عاشوراء الخاصة بالإمام الحسين عليه السلام مدة أربعين يوماً ، وتعد من الأمورالمجربة التي تحضى بتأييد العلماء والمراجع ـ راجع : فصل الأعمال من باب الزيارات الحسينية من هذه الموسوعة .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 36

أربعين يوماً طلباً بتعجيل النصر وإسقاط حكومة بهلوي .
وفي هذا السياق قد أعلنوا بأن عدد قتلى حادث تفجير مقر الحزب الجمهوري الإسلامي في طهران عام 1401 هـ بلغ إثنين وسبعين قتيلاً تيمناً بعدد ما اشتهر من قتلى الطف وما ذلك إلا لمكانة الإمام الحسين عليه السلام في نفوس الناس



دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 37

دورالمراقد المقدسة في ترسيخ العلاقات بين الشعوب

إن المراقد المقدسة في الجزيرة العربية والعراق وإيران ومصر وسوريا وفلسطين المغتصبة وبالذات في المدينة المنورة والنجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمية المشرفة ومشهد المقدسة وسامراء المشرفة ودمشق والقاهرة والقدس الشريف كانت سبباً مباشراً في توثيق عرى الأخوة والمحبة بين الشعوب الإسلامية على اختلاف لغاتها وجنسياتها .
إن تدفق الملابين سنوياً لزيارة العتبات المقدسة وتوقف الكثير منهم في المدن المقدسة فترة طويلة بل وهجرتهم أحياناً واستقرارهم الدائم كان سبباً في توثيق أواصر العلاقة بين الشعوب الإسلامية وخلق وحدة تلقائية وواقعية وتكوين مجتمع إسلامي متسامح يألف بعضه البعض الآخر دون أدنى نزعة عصبية أو قومية . وعندما استعمرت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى معظم بقاع العالم الإسلامي سعت إلى تمزيقه وشق وحدته وتقسيمه (1)فأضحى عالمنا الإسلامي مجموعة من الدول والإمارات المتنافرة ، تتنازع حكوماتها على أتفه الأسباب وتختلق المبررات والأعذار الواهية في سبيل ذلك ، فتشن الحروب الشرسة (2)وتغلق الحدود ويهلك الحرث والنسل وتبدد ثروة

(1) كانت إتفاقية سايكس بيكو السرية التي عقدت بين إنكلترا وفرنسا عام 1335 هـ ( 1916 م) أحد الأسباب المهمة في تمزيق الشرق الإسلامي وجعل أقطاره مقسمة النفوذ بين الدولتين فرنسا وإنكلترا وآثار تلك الإتفاقية باقية تشهد عليها حرب الحدود الجغرافية المستمرة بين دولها حتى كتابة هذه السطور إلى جانب معاهدات بين الدول الكبرى ساهمت في تمزيق بقية الأقطار الإسلامية .
(2) الحرب بين العراق وإيران ، نزاع الصحراء الغربية ، النزاع الحدودي بين قطر والبحرين ، إحتلال العراق للكويت ، النزاع الحدودي بين اليمن والسعودية ، إلى عشرات الأمثلة والشواهد الأخرى .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 38

المسلمين الإقتصادية التي أنعمها الله على تلك البلدان .
لقد واجه الإستعمار صعوبة ومشكلة كبيرة في فصل ارتباط هذه الشعوب وتقارب بعضها مع البعض الآخر وما زالت هذه المنطقة هي العقبة الأساس حتى يومنا هذا التي تقف عائقاً أمام تمرير الخطط والمؤامرات التي تحيكها الدول الكبرى للسيطرة على المنطقة باستمرار .
فكثيراً ما قطعت العلاقات الدبلوماسية بين الدول الإسلامية كخطوة سلبية يقدم عليها الحاكم المسلم بتوجيه وضغط من دولة كبرى في أغلب الأحيان والحالات ، ولكن تضطر هذه الحكومة وهذا الحاكم الإسلامي للتراجع أمام مد المطالبة الشعبية لإرجاع العلاقة بين الشعبين إلى سابق عهدها من القوة والمتانة التي أساسها التاريخ والدين والمصير المشترك الواحد .
لقد كان دور المراقد واضحاً ومؤثراً في تنمية وتعميق العلاقات بين الشعوب الإسلامية على اختلاف قومياتها ومشاربها ، ولعل ترى قوافل الزائرين تنطلق بأتجاه المراقد بمجرد عودة العلاقات الدبلوماسية وفتح الحدود بين البلدين (1)، وغالباً ما أدرجت في محاضر وأجندة الإجتماعات واللقاءات السياسية بين المتخاصمين كقضية مهمة وساخنة بل كمحور تفاوضي تستفيد منه الحكومات في تخفيف نسبة التوتر بين البلدين وتطبيع العلاقة بينهما (2).

(1) على سبيل المثال ما نراه اليوم من قيام الآف الزوار الإيرانيين وعلى شكل قوافل تزيد على ألف شخص يومياً بزيارة مرقد السيدة زينب عليها السلام والسيدة رقية عليها السلام وغيرها من الأماكن المقدسة الموجودة في سوريا رغم بعد المسافة ومشقتها ، وقد خلفت هذه الزيارات أثراً إيجابياً في توطيد العلاقة بين الشعبين المسلمين السورى والإيراني ، وهنالك الكثير من القوافل تأتي من باكستان والهند والخليج وأفريقيا لزيارة المراقد في كربلاء والنجف والقاهرة ودمشق وسائر البقاع المقدسة المتناثرة في عالمنا الإسلامي كالأوتاد للخيمة .
(2) راجع مجلة ألموجز أللندنية العدد : 8 / السنة : 4/ التاريخ : كانون الأول 1992 م ( 1412 هـ ) الصفحة : 16 ، عن مجلة « كلمة » الطهرانية العدد : 11 / التاريخ : تشرين الثاني 1992 م ( 1412 هـ ) .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 39

فالعلاقة التاريخية بين شعبين مسلمين خاضا حرباً سابقة (1)وجنحا إلى السلام سرعان ما تعود إلى قوتها ومتانتها بعد طول جفاء وخصام ويكون المرقد الطاهر النبع الصافي الذي يغرف منه الأخوة المتخاصمون أصول الرحمة والسلام والمحبة والأخوة ، والمرشح الذي ينقي كل ماعلق من خلاف ونزاع وضغينة سّببتها سنين الحرب وأعوام النزاع العجاف .


(1) إن العلاقة بين الدولتين إيران والعراق اللتان تناوبت عليهما حكومات لا تحمل الود إحداها للأخرى كانت على الدوام بين مد وجزر ، مما أثر سلبا ًعلى العلاقة التاريخية بين الشعبين المسلمين الإيراني والعراقي وكان للمراقد المقدسة دوماً الدور الحاسم في إعادة المياه إلى مجاريها وإعادة العلاقة بينهما إلى سابق عهدها من القوة والمتانة ومرجع ذلك هو حب وولاء الشعبين وإخلاصهما لأصحاب المراقد المقدسة .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 40

الدور الثقافي للمراقد

إن للثقافة مفهوماً عاماً حيث أنها تحتضن مجموعة من الأمور ولعل من أهمها : التعليم ، الفكر ، العلم ، الأدب ، الاعلام ... فكل هذه الأمور منضوية تحت سقف الثقافة غايتها ومؤداها تنوير الإنسان الذي يشكل اللبنة الأساس للمجتمع ، ولا يمكن الإستغناء عنها في مسيرة الحياة الفردية أو الإجتماعية .
فالتعليم يشكل أبجدية الثقافة إذ بدونه يستعصي على الإنسان إقتحام أغلب جوانب الثقافة ، وللمراقد دور فاعل في تنشيط حركة التعليم وذلك لأن زيارة المراقد تصنف مرتبتها عند الامامية دون الواجب وفوق الإستحباب لإصرار أئمة المسلمين على ضرورة ممارستها ولوفي أصعب الظروف كما اعتبروا تركها من الجفاء المقيت ، وللزيارة طقوس متنوعة أهمها تلاوة نصوص معينة ـ تسمى الزيارة ـ في كل مناسبة ، وقد حثت الروايات على تلاوتها فعندها يسعى الزائر إلى تعلم القراءة كحد أدنى ـ وبالأخص في تلك الحقبة الزمنية ـ ليتمكن من قراءة تلك النصوص اولاً ، كما انه يسعى إلى فهم معانيها ثانياً ، ليستوعب المقصود منها خضوعاً لنص بعض الزيارات « عارفاً بحقك » (1)والتي من سُبلها استيعاب تلك الفضائل والأمور المتضمنة لها الزيارات ، وبذلك يتجاوز المرء مرحلة الأمية ويعد في عداد المتعلمين ، وعندها يشعر بحلاوتها فيندرج في كسب العلم والمعرفة ، ومن حركة الزيارة الدؤوب والمتواصلة طوال السنة في المناسبات الخاصة والعامة وتوافد الزائرين من أقطار العالم كافة نشأت حركة تعليم اللغة العربية أيضاً إلى جانب لغة الزائر .
وفي ظل أجواء ألتوافد هذه وبالأخص لزيارة مرقد الإمام

(1) بحار الأنوار : 97 / 293 عن المزار الكبير : 172 .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 41

الحسين عليه السلام والذي تعد مدينته من أكثر المدن المقدسة في العالم الإسلامي استقبالاً للزوار حيث ذكرت بعض المصادر الخبرية الرسمية أن عدد الزائرين الذين أمّوا مدينة الحسين عليه السلام في موسم الأربعين من شهر صفر لعام 1417 هـ بلغت سبعة ملايين زائر(1) من كافة الأصقاع ، ومن شأن هذا النشاط والحركة على طول التاريخ أن تتبلور فيه الثقافات وتلتقي الحضارات فتولد في ظلها حركة فكرية كتعبير لازم وأثر حتمي لهذه الحالة ، وبالفعل فقد نشأت وترعرعت مجموعة من المذاهب الفكرية التي كان لها دور هام في تغيير المسار الفكري والعلمي في فترات زمنية مختلفة ، ومن تلك الحركات الفكرية التي كانت لها صولات وجولات في هذه المدينة بالذات الحركة الإخبارية بقسميها (2) على سبيل المثال لا الحصر ، والحركة الأصولية التي لها الفضل في وضع الأسس المتينة في الفقه الإمامي إلى جانب الحركات السياسية والعقائدية التي تم ذكر جانب منها لدى البحث عن مدينة الحسين عليه السلام (3) .
ومن حتميات النهضة الفكرية الشاملة ولادة الحركة العلمية ، وبالفعل فقد شهدت هذه المدينة العريقة والأصيلة حماسة علمية دؤوب ومتنامية قلما تضاهيها مدينة أخرى .
فمنذ القرن الأول وفي ظل هجرة كبار الرواة والعلماء إلى جوار مرقد سبط الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الإمام الحسين عليه السلام أخذت المدينة تبني دعائمها العلمية وشهدت القرون التالية ظهورها كمدينة علمية بارزة ومرموقة تبوأت

(1) صحيفة بدر الصادرة في طهران العدد : 249 الصفحة : 6 التاريخ : 15 / 3/ 1418 هـ = 21 / 7/ 1997 م ، وقد نقل لي بعض الثقات أنه سمع هذه الإحصائية من إذاعة مونتكارلو أو بي بي سي بتاريخ 8/ 7/ 1996 م ( 21 / 2/ 1417 هـ ) وقد اتصلنا بكلتا الإذاعتين للتأكد من النبأ وتاريخه إلا أن المسؤولين ذكروا لنا بأنهم لا يحتفظون بالأخبار لمدة طويلة . وقد جاء في صحيفة الشاهد اللندنية الصادرة في شهر محرم عام 1418 هـ الصفحة : 3 « أن عدد الزائرين لمرقـده الشريف بلـغ في عام 1417 هـ حوالي 300 و 6 مليون زائر » .
(2) الاخبارية على قسمين الجمالية والبحرانية ، راجع فصل النهضة الفكرية من باب اضواء على مدينة الحسين من هذه الموسوعة .
(3) راجع باب أضواء على مدينة الحسين ، فصل النهضة الفكرية من هذه الموسوعة .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 42

جامعتها العلمية مكانة سامية ، ولكنها كانت تخضع دوماً لعملية المد والجزر نتيجة الوضع السياسي الذي أصابت آثاره مجمل البقاع المقدسة بشكل عام وهذه المدينة بشكل خاص .
ووضعت نواة هذه النهضة العلمية ببناء المرقد الشريف للإمام الحسين عليه السلام فازدحم العلماء والرواة وأصحاب القلم والفكر وأحاطوا بالروضة المباركة مستغلين الغرف المحيطة بها والأروقة المشيدة حولها حتى عج الصحن الشريف بالدارسين والأساتذة من أصحاب العلم والفكر مما حدا بالسلطان عضد الدولة (1) إلى تأسيس مدرسة علمية(2) لإستيعاب هذا النشاط العلمي وذلك لأول مرة في تاريخ العراق على الإطلاق وكان ذلك في الربع الاخير من القرن الرابع الهجري .
ومنذ قرونها الأولى خرجت جامعة هذه المدينة المقدسة مئات العلماء والمفكرين وعشرات المراجع(3) ، وزخرت مكتبتها العلمية بألوف المؤلفات (4)التي صنفها وألفها خريجوهذه الجامعة في شتى صنوف العلم والمعرفة والتي على أثرها إزدهرت حركة الكتابة والخط في عموم المنطقة ، وشهدت أرضها المقدسة إنشاء اول مطبعة في العراق (5).
ويعد القرنان الثاني عشر والثالث عشر الهجريان العصر الذهبي لمدينة الحسين عليه السلام من بين القرون من الناحية العلمية والفكرية ، ولم تقتصر النهضة العلمية في هذه الجامعة على علوم الفقه والحديث والأصول بل شملت العلوم العقلية والنقلية كافة الإسلامية منها والعربية إلى جانب علوم الطبيعة والفلك والطب وغيرها ، وكان للمرأة دور بارز في تداول العلوم

(1) عضد الدولة : هو فنا خسرو بن الحسن البويهي الديلمي خامس السلاطين البويهيين حكم ما بين ( 366 ـ 372 هـ ) .
(2) لقد أنشأ عضد الدولة البويهي مدرستين عرفت الأولى بالمدرسة العضدية الأولى وذلك عام 367 هـ ، والثانية عرفت المدرسة العضدية الثانية عام 371 هـ ، راجع باب أضواء على مدينة الحسين ، فصل النهضة العلمية .
(3) راجع باب مدينة الحسين ، فصل النهضة العلمية من هذه المرسوعة .
(4) راجع باب مدينة الحسين ، فصل النهضة الثقافية من هذه الموسوعة .
(5) راجع قسم المؤلفات الكربلائية من فصل النهضة الثقافية من هذه الموسوعة .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 43

الإسلامية والعربية حيث ارتقت إلى مصاف العلماء الأعلام وحاز عدد منهن مكانة علمية سامية كما سبقت الإِشارة إليه في محله(1).
ومن الخليق بيانه أن هذه المراقد تعتبر مركزاً للإلهام ومنهلاً للعلم ولذا نجد أن كل المراقد المنتسبة إلى أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تحاط بمجموعة كبيرة من حملة العلم والفكر والأدب وفيها صروح للعلم بدءاً بمركز المدينة المنورة والنجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمية المشرفة ومشهد المقدسة وسامراء المشرفة وحي السيدة زينب في دمشق والقاهرة وقم المقدسة والسيد عبد العظيم في الري إلى غيرها (2)، مما يدلنا على أن هذه المراقد تستقطب العلماء والمفكرين والأدباء وتخلق من وجودهم مراكز للعلم والفكر والأدب .
ولا يخفى أن المركز العلمي يولد طبقة لها اهتماماتها بالأدب بشكل عام وبالشعر بشكل خاص يوازي الحركة العلمية ويواكبها ، وهذا ما نشاهده في المراكز العلمية كافة ، فكلما زادت الحركة العلمية تألقاً زادت معها الحركة الأدبية نشاطاً واضطراداً ولكن الذي يميز مرقد الإمام الحسين عليه السلام عن غيره من مراقد أهل البيت عليهم السلام ان الإمام الحسين عليه السلام بحد ذاته أصبح رافداً زاخراً ومنهلاً ثراً للأدب ونظم الشعر وأصبح مرقده الشريف مهوىً للعشاق ومركزاً للإشعاع الأدبي الفريد من نوعه يغرف منه القريب المجاور وينهل منه البعيد الزائر ، وقد تطرقنا إلى ذلك في محله (3).
وأيضاً ومن خلال ما قدمناه من ادوار يظهر جلياً الدور الإعلامي لهذه المراقد المقدسة إذ تعتبر مركزاً للتلاقي والإنبعاث من جديد ، وبما تحلمه مواسم الزيارة من المقومات حقيقية للاعلام فقد استغل العلماء والمفكرون والأحرار هذه التجمع الحاشد في تلك المواسم كنقطة انطلاق لنشر الفكر الإسلامي ومبادئه ، وقد شاهدت بنفسي الحركة الإعلامية في الربع الأخير من

(1) راجع باب أضواء على مدينة الحسين ، فصل النهضة العلمية .
(2) راجع فصل المراكز العلمية من قسم التشريع من باب الحسين والتشريع الإسلامي .
(3) راجع باب أضواء على مدينة الحسين فصل الحركة الأدبية ، وباب الشعر ( الشرقي والغربي ) من الموسوعة هذه .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 44

القرن الرابع عشر الهجري وكيف كانت الكتيبات والمنشورات بل الكتب الفكرية والعقائدية توزع باللغات الشرقية والغربية في مدينة الحسين عليه السلام بينما كان الخطباء ينتهزون هذه الفرصة لإلقاء المحاضرات والخطب الهادفة على الجماهير بالإضافة إلى التجمعات والمؤتمرات التي كانت تقام في رحاب المرقد الحسيني وغيره من المراقد الشريفة ، ومن الجدير بيانه أن أولى الصحف الوطنية صدرت من كربلاء والنجف في قبال الصحف التي أصدرتها حكومة الإحتلال البريطاني والجيش العثماني من بغداد والبصرة (1).


(1) راجع فصل الحركة الثقافية من باب أضواء على مدينة الحسين من هذه الموسوعة .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 45

الدور الديني للمراقد

غير خفية آثار ومعالم هذه الناحية على أحد ، إذ أن الظاهرة الدينية في المجتمعات الإسلامية التي فيها مراقد الأئمة عليهم السلام تطغى على غيرها من الظواهر بشكل واضح وظاهر للعيان فتصبغ التعاملات والسلوكيات والعلاقات الانسانية بطابع ديني لا سبيل لإنكاره .
ويبدو واضحاً أن الدافع الديني والرغبة في بناء مجتمع فاضل كان الدافع الأساس لهجرة الناس وسكنهم بجوار المراقد ، ولعل بناء وتشييد حاضرة مدينة كربلاء المقدسة المثال الصادق لما نقول .
وقد ترتب على ضوء التزام أبناء هذه المدينة المقدسة وانقيادهم طواعية لأحكام وقواعد هذه الظاهرة منافع جمة : أهمها أن الصفة الغالبة للعلاقة الإجتماعية والأسرية التي تربطهم هي الحب والود والرحمة والتسامح والسلام وهي أخلاق وشمائل جاهد صاحب هذه البقعة الشريفة وبذل النفس من أجل ترسيخها وزرعها في النفوس ، حيث تختفي النزاعات والمشاكل الإجتماعية بينهم إلى حد بعيد وأصبح من النادر مراجعتهم السلطات القضائية لحل نزاعاتهم وشكاواهم بل يميلون للذهاب إلى علمائهم وكبارهم لفصل الخصومات وللتحكيم ، وعلى هذا الأساس يشير النفيسي إلى ما لمرقد الإمام الحسين عليه السلام وأخيه العباس عليه السلام من دور عظيم في حل الخصومة والنزاع فيقول : « ولهذه المقامات المقدسة حرمتها القضائية اذ ان القاضي الشرعي لا يقبل القسم اذا كان حل الدعوى يتطلب القسم إلا أن يكون داخل الحرم لأنه أوقع في النفس وأقرب إلى الواقع » ويضيف قائلاً : « وأصبحت المراقد وقبور الأئمة والأولياء ، مراكز يقسم بحرمتها في جميع أنحاء الفرات الأوسط والأسفل ... وأهم المراقد حرمة مرقد العباس بن علي في كربلاء ، والعباس عندهم رجل شديد الغيرة يقولون عنه بلغتهم ـ رأسه حار ـ ويريدون بذلك أنه لا يتغاضى عن إثم

دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 46

رجل يستعمل اسمه في قسم كاذب » (1).
هذه الفكرة وهذه القدسية بحد ذاتها تساعد على خلق وإشاعة جو روحي بين الناس بعيد عن الكذب والنفاق فيسلم الناس وتتحصن علاقتهم الإجتماعية من فتك مرض إجتماعي خطير فيعيشون حياتهم بعيداً عن أجواء المحاكم والعقوبات (2)وما تجره من تبعات ومشاكل ، ويأمنون على أموالهم وأنفسهم بنسبة كبيرة بالقياس مع بقية المدن الأخرى وتلك التي لا تعتقد بذلك .
ويقول النفيسي في محل آخر : « لا يستطيع امرؤ خارج نطاق الشيعة أن ينكر ما لهذه المراقد المقدسة من خير ونفع ولاسيما لدى المحاكم الشرعية التي تلجأ أحياناً في فض الخصومات والدعاوى إلى القسم في إحداها لتجريم المذنب أو لتبرئة البريء ، إن انتشار هذه المراقد عامل استقرار في حقل الإتفاقات التجارية والمعاهدات القبلية ويخلق جواً من الثقة المتبادلة في حقل العلاقات الإجتماعية » (3) .
ويكاد ينعدم في مثل هذه المجتمعات الدينية المحافظة أي أثر للمنكرات والمفاسد والصرعات والآفات الإجتماعية بشتى صورها ، فالمراد الكحولية مثلاً ونوادي الفساد الليلية معدومة ومحظورة عرفاً وقانوناً في مثل هذه المدن المقدسة على رغم سعي بعض الأنظمة الحاكمة لتغيير هذه المجتمعات المحافظة والملتزمة بمعتقداتها وتحويلها إلى مجتمعات مهزوزة ومفككة ، وذلك بذرائع مختلفة ووسائل متنوعة ، وعلى سبيل المثال أقدمت السلطات العراقية في نهاية القرن الرابع عشر الهجري على استقدام الأيدي العاملة من بلدان عدة (4) إلى مدينة كربلاء بشكل لا يتناسب ومكانة هذه

(1) دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث : 72 ـ 75.
(2) قامت السلطات الحكومية العراقية عدة مرات وعلى فترات زمنية متفاوتة بأصدار قوانين تعاقب الناس وتمنعهم من ممارسة الفعاليات الدينية والعشائرية .
(3) دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث : 75 .
(4) أقدمت السلطات العراقية في نهاية السبعينات من القرن العشرين الميلادي على استقدام الأيدي العاملة للعراق من مصر والهند وجنوب شرق آسيا وعدة بلدان أخرى ، وقدر عددهم بخمسة ملايين عامل ، في بلد لا يتجاوز عدد سكانه الخمسة عشر مليون عراقي ! .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 47

المدينة المقدسة وقدرتها واستيعابها وطبيعة جوها الفكري والديني المحافظ ، وإيغالاً في التخريب فقد أنشأت مراكز وبؤر فساد على بحيرة الرزازة القريبة من المدينة بغرض نزع واقتلاع الصفة الدينية والثقافية المحافظة لأبناء هذه المدينة وخاصة الشباب منهم ، وحاولت السلطة الحكومية تدنيس المدينة عبر ارسالها الوفود النسائية السافرة والخليعة لخلق جو من الميوعة والإستهتار والفساد وإسقاط هيبة ورحمة المدينة ، إلا أن الفشل كان حليفها على الدوام(1).
إن المجتمعات الدينية التي خلقتها هذه المراقد كما أٍسلفنا لها ميزاتها الحسنة التي يشعر فيها الإنسان بالراحة والطمأنينة والأمان بعيداً عن القلق والرعب .
لقد كان للمرقدين العلوي والحسيني أثره البالغ والعميق في تشيع جنوب العراق وزرع بذوره وأنواره في المنطقة وفي هذا الصدد يقول حنا بطاطو (2) « قبل قرابة ألف سنة خلت كان أبو بكر الخوارزمي (3) قد حسد شعب العراق لأنه كما قال يوجد بينهم مقاما أمير المؤمنين عليه السلام والحسين سيد الشهداء عليه السلام (4) وفي تلك الأيام لم يكن اسم العراق يشير إلى حدود العراق اليوم بل فقط إلى ذلك الجزء من جنوب الخط الذي بين الأنبار (5) على الفرات وتكريت (6) على دجلة ، أي أن عراق تلك الأيام كان يتطابق مع

(1) جدير بالذكر أن علماء مدينة كربلاء المقدسة قاموا في حينها بتشكيل لجنة من أبناء المدينة مهمتها المحافظة على قدسية المدينة ومراعاة التقاليد الإسلامية والوقوف أمام هذا التيار السافر .
(2) حنا بطاطو : باحث فلسطيني ولد في الضفة الغربية من فلسطين عام 1347 هـ ( 1929 م ) نشأ وترعرع فيها أكمل دراسته الجامعية الأولية في الجامعة الأمريكية في بيروت ، بعث في العام 1952 م لإعداد كتابه عن العراق ، هاجر إلى أمريكا لإكمال دراسته ، يعمل الآن رئيساً لقسم الدراسات العربية في جامعة جورج تاون الأمريكية ، له كتاب الطبقات الإجتماعية .
(3) أبوبكر الخوارزمي : هو محمد بن عباس : الكاتب واللغوي والأديب والرحالة فخر خوارزم وصاحب الرسالة المشهورة ( ت 393 هـ ) .
(4) الرسائل لأبي بكر الخوارزمي :45
(5) الأنبار : بلدة تقع إلى الشمال الغربي من بغداد وتبعد عنها حوالي 110 كلم .
(6) تكريت : مدينة في شمال غرب العراق على الشاطئ الأيمن لنهر دجلة مركز محافظة صلاح الدين هدمها تيمورلنك عام 797 هـ كانت كرسياً أسقفياً للسريان .

السابق السابق الفهرس التالي التالي