العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 60

3ـ الإباء :
وصفة أخرى من أسمى صفات أبي الفضل عليه السلام ، وهي الإباء وعزّة النفس فقد أبي أن يعيش ذليلاً في ظلّ الحكم الأموي الذي اتخذ مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، فاند فع إلى ساحات الجهاد كما اندفع أخوه أبو الأحرار الذي رفع شعار العزّة والكرامة ، وأعلن أن الموت تحت ظلال الأسنّة سعادة ، والحياة مع الظالمين برماً .
لقد مثّل أبو الفضل عليه السلام يوم الطفّ الإباء بجميع رحابه ومفاهيمه فقد منّاه الأمويين بإمارة الجيش ، وإسناد القيادة العامة له أن تخلَى عن أخيه سيِّد شباب أهل الجنّة ، فهزأ منهم وجعل إمارة جيشهم تحت حذائه ، واندفع بشوق وإخلاق إلى ميادين الحرب يجندل الأبطال ويحصد الرؤوس دفاعاً عن حرّيته ودينه وكرامته .
4ـ الصبر:
ومن خصائص أبي الفضل عليه السلام ومميّزاته الصبر على محن الزمان ، ونوائب الدهر ، فقد ألمّت به يوم الطف من المصائب والمحن الت يتذوب تمن هولها الجبال ، فلم يجزع ، ولم يفه بأيّ كلمة تدلّ على سخطه ، وعدم رضاه بما جرى عليه وعلى أهل بيته ، وأنّما سلّم أمره إلى الخالق العظيم مقتدياً بأخيه سيِّد الشهداء عليه السلام الذي لو وزن صبره بالجبال الرواسي لرجع عليها .
لقد رأى أبو الفضل الكواكب المشرقة ، والممجدين الأوفياء من

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 61

أصحابه وهم مجزّرون كالاَضاحي في رمضاء كربلاء تصهرهم الشمس ، وسمع عويل الاَطفال ، وهم ينادون العطش العطش ، وسمع صراخ عقائل الوحي ، وهنّ يندبن قتلاهنّ ، ورأى وحدة أخيه سيّد الشهداء ، وقد أحاط به أنذال أهل الكوفة يبغون قتله تقرّباً لسيّدهم ابن مرجانة ، رأى أبو الفضل كل هذه الشدائد الجسام فلم يجزع وسلّم أمره إلى الله تعالى ، مبتغياً الاَجر من عنده.

5 ـ الوفاء:

ومن خصائص أبي الفضل ( عليه السلام ) الوفاء الذي هو من أنبل الصفات وأميزها ، فقد ضرب الرقم القياسي في هذه الصفة الكريمة وبلغ أسمى حدّ لها ، وكان من سمات وفائه ما يلي:
أ ـ الوفاء لدينه:
وكان أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) من أوفى الناس لدينه ، ومن أشدّهم دفاعاً عنه ، فحينما تعرّض الاِسلام للخطر الماحق من قبل الطغمة الاَموية الذين تنكّروا كأشدّ ما يكون التنكّر للاِسلام ، وحاربوه في غلس الليل وفي وضح النهار ، فانطلق أبو الفضل إلى ساحات الوغى فجاهد في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين لترتفع كلمة الله عالية في الاَرض ، وقد قطعت يداه ، وهوى إلى الاَرض صريعاً في سبيل مبادئه الدينية.
ب ـ الوفاء لاَمّته:
رأى سيّدنا العبّاس ( عليه السلام ) الاَمّة الاِسلامية ترزح تحت كابوس مظلم من الذلّ والعبودية قد تحكّمت في مصيرها عصابة مجرمة من الاَمويين فنهبت

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 62

ثرواتها ، وتلاعبت في مقدراتها ، وكان أحد أعمدتهم السياسية يعلن بلا حياء ولا خجل قائلاً: (إنما السواد بستان قريش) فأي استهانة بالاَمة مثل هذه الاستهانة ، ورأى أبو الفضل ( عليه السلام ) أن من الوفاء لاَمّته أن يهبّ لتحريرها وإنقاذها من واقعها المرير ، فانبرى مع أخيه أبي الاَحرار والكوكبة المشرقة من فتيان أهل البيت عليهم السلام ، ومعهم الاَحرار الممجدون من أصحابهم ، فرفعوا شعار التحرير ، وأعلنوا الجهاد المقدّس من أجل إنقاذ المسلمين من الذلّ والعبودية ، وإعادة الحياة الحرّة الكريمة لهم ، حتى استشهدوا من أجل هذا الهدف السامي النبيل ، فأي وفاء للاَمة يضارع مثل هذا الوفاء؟
ج ـ الوفاء لوطنه:
وغمرت الوطن الاِسلامي محن شاقّة وعسيرة أيام الحكم الاَموي ، فقد استقلاله وكرامته ، وصار بستاناً للاَمويين وسائر القوى الرأسمالية من القرشيين وغيرهم من العملاء ، وقد شاع البؤس والحرمان ، وذلّ فيه المصلحون والاَحرار ، ولم يكن فيه أي ظلّ لحرية الفكر والرأي ، فهبّ العباس تحت قيادة أخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) إلى مقاومة ذلك الحكم الاَسود وتحطيم أروقته وعروشه ، وقد تمّ ذلك بعد حين بفضل تضحياتهم ، فكان حقاً هذا هو الوفاء للوطن الاِسلامي.
د ـ الوفاء لاَخيه:
ووفى أبو الفضل ما عاهد الله عليه من البيعة لاَخيه ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والمنافح الاَول عن حقوق المظلومين والمضطهدين.
ولم يرَ الناس على امتداد التاريخ وفاءً مثل وفاء أبي الفضل لاَخيه الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، ومن المقطوع به أنه ليس في سجلّ الوفاء الانساني

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 63

أجمل ولا أنظر من ذلك الوفاء الذي أصبح قطباً جاذباً لكل إنسان حرّ شريف.


6 ـ قوّة الإرادة:

أمّا قوّة الاِرادة فانّها من أميز صفات العظماء الخالدين الذين كُتب لهم النجاح في أعمالهم إذ يستحيل أن يحقق من كان خائر الاِرادة ، وضعيف الهمّة أي هدف اجتماعي ، أو يقوم بأي عمل سياسي.
لقد كان أبو الفضل ( عليه السلام ) من الطراز الاَول في قوة بأسه ، وصلابة إرادته ، فانظمّ إلى معسكر الحق ، ولم يهن ، ولم ينكل ، وبرز على مسرح التأريخ كأعظم قائد فذّ ، ولو لم يتّصف بهذه الظاهرة لما كتب له الفخر والخلود على امتداد الاَيّام.

7 ـ الرأفة والرحمة:

وأترعت نفس أبي الفضل بالرأفة والرحمة على المحرومين ، والمضطهدين وقد تجلّت هذه الظاهرة بأروع صورها في كربلاء حينما احتلّت جيوش الاَمويين حوض الفرات لحرمان أهل البيت من الماء حتى يموتوا أو يستسلموا لهم ، ولما رأى العباس ( عليه السلام ) أطفال أخيه ، وسائر الصبية من أبناء اخوته ، وقد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم من شدّة الظمأ ذاب قلبه حناناً وعطفاً عليهم ، فاقتحم الفرات ، وحمل الماء إليهم ، وسقاهم ، وفي اليوم العاشر من المحرّم ، سمع الاَطفال ينادون العطش العطش ، فتفتت كبده رحمة ورأفة عليهم ، فأخذ القربة ، والتحم مع أعداء

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 64

الله حتى كشفهم عن نهر الفرات ، فغرف منه غرفة ليروي ظمأه فأبت رحمته أن يشرب قبل أخيه وأطفاله ، فرمى الماء من يده.
فتّشوا في تاريخ الاَمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الرأفة والرحمة ، التي تحلَّى بها قمر بني هاشم وفخر عدنان.
هذه بعض عناصر أبي الفضل وصفاته ، وقد ارتقى بها إلى قمّة المجد التي ارتقى إليها أبوه.
* * *


العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 65


مع الأحداث


العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 66




العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 67

ورافق أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) منذ نعومة أظفاره كثيراً من الاَحداث الجسام التي لم تكن ساذجة ، ولا سطحية ، وانّما كانت عميقة كأشدّ ما يكون العمق ، فقد أحدثت اضطراباً شاملاً في الحياة الفكرية والعقائدية بين المسلمين ، كما استهدفت بصورة دقيقة إبعاد أهل البيت عليهم السلام عن المراكز السياسية في البلاد ، واخضاعهم لرغبات السلطة ، وما تعمله على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي ، من أعمال لا تتفق في كثير من بنودها مع التشريع الاِسلامي ، وقد تجلّى ذلك بوضوح أيّام حكومة عثمان وما سلكته من التصرفات في المجالات الاِداريه ، فقد عمدت إلى منح مناصب الدولة ، وسائر الوظائف العامة إلى بني أميّة وآل معيط ، وحرمان بني هاشم ، ومن يتّصل بهم من أبناء الصحابة من أي منصب من المناصب العامة ، وقد استولى الاَمويون على جميع أجهزة الدولة ، وراحوا يعملون عامدين أو غير عامدين إلى خلق الاَزمات الحادّة بين المسلمين ، ومن المقطوع به أنّه لم تكن لاَكثرهم أيّة نزعة إسلامية ، كما لم تكن لهم أيّة دراية بأحكام القانون الاِسلامي ، وما تتطلّب إليه الشريعة الاِسلامية من إيجاد مجتمع إسلامي متطوّر قائم على المودّة والتعاون وبعيد كلّ البعد عن التأخّر.
لقد أشاعت حكومة عثمان الرأسمالية في البلاد ، فقد منحت الاَمويين وبعض أبناء القرشيين الامتيازات الخاصة ، وفتحت لهم الطريق لكسب

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 68

الاَموال ، وتكديسها بغير وجه مشروع ، وقد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى خلق اضطراب شامل لا في الحياة الاقتصادية فحسب ، وانّما في جميع مناحي الحياة ، وأشاعت القلق والتذمّر في جميع الاَوساط الاِسلامية ، فاتجهت قطعات من الجيوش المرابطة في العراق ومصر إلى يثرب ، وطالبت عثمان بالاستقامة في سياسته ، وإبعاد الاَمويين عن جهاز الدولة ، كما طالبوه بصورة خاصة بإبعاد مستشاره ووزيره مروان بن الحكم الذي كان يعمل بصورة مكشوفة لتأجيج نار الفتنة في البلاد.
ولم يستجب عثمان لمطالب الثوّار ، ولم يخضع لرأي الناصحين له ، والمشفقين عليه ، وظلّ متمسّكاً بأسرته ، ومحتضناً لبطانته ، تتوافد عليه الاَخبار بانحرافهم عن الطريق القويم ، واقترافهم لما حرّمه الله ، فلم يعن بذلك ، وراح يسدّدهم ويلتمس لهم المعاذير ، ويتّهم الناصحين بالعداء لاَسرته.
وبعدما اختفت جميع الوسائل الهادفة لاستقامة عثمان لم يجد الثوار بُدّاً من قتله ، فقَتل شرّ قتلة ، ويقول المؤرّخون انّه تولّى قتله خيار أبناء الصحابة كمحمد بن أبي بكر ، كما أقرّ قتله كبار الصحابة وعظماؤهم ، وفي طليعتهم الصحابي الجليل صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخليله عمّار بن ياسر.
وانتهت بذلك حكومة عثمان وهي من أهمّ الاَحداث الجسام التي جرت في عصر أبي الفضل ( عليه السلام ) وبمرأى ومسمع منه ، فقد كان في شرخ الشباب وعنفوانه وقد رأى كيف تذرع الانتهازيّون من الاَمويين بمقتل عثمان فطبّلوا له ، ورفعوا قميصه الملطّخ بدمائه فجعلوه شعاراً لتمرّدهم على حكم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذلك الحكم القائم على الحق والعدل.
إنّ أسوأ ماتركت حكومة عثمان أنّها ألقت الفتنة بين المسلمين ،

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 69

وحصرت الثروة عند الاَمويين وآل أبي معيط ، وعملائهم من القرشيين الحاقدين على العدل الاجتماعي ، وبذلك استطاعوا القيام بعصيان مسلّح ضدّ حكومة الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) التي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلى أيّ حال فلنترك حديث عثمان ، ونتوجّه إلى ذكر بقيّة الاَحداث التي جرت في عصر أبي الفضل ( عليه السلام ) .


* * *


العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 70

حكومة الامام

والشيء المؤكّد الذي لا خلاف فيه أنّ الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد انتخب انتخاباً شاملاً من جميع قطعات الشعب ، فقد سارعت القوات المسلحة التي أطاحت بحكومته إلى مبايعته كما بايعته الجماهير العامة في مختلف الاَقاليم الاِسلامية سوى الشام ، ونفر قليل في يثرب كان من بينهم سعد بن أبي وقاص ، وعبدالله بن عمر ، وبعض الاَمويين الذين أيقنوا أن الاِمام ( عليه السلام ) يبسط العدالة الاجتماعية في الاَرض ، ويحقق المساواة الكاملة بين المسلمين فلا امتياز لاَحد على أحد ، وبذلك تفوت مصالحهم ، فلم يبايعوه ، ولم يقف الاِمام معهم موقفاً معادياً فلم يوعز إلى السلطات القضائية والتنفيذية باتخاذ الاِجراءات الحاسمة ضدّهم ، وذلك عملاً بما منحه الاِسلام من الحريّات العامة لجميع الناس ، سواء كانوا من المؤيّدين للدولة أو من المعارضين لها بشرط أن لا يحدثوا فساداً في الاَرض ، أو يقوموا بعصيان مسلّح ضدّ الدولة فانّها تكون مضطرّة إلى اتخاذ الاجراءات القانونية ضدّهم.
وعلى أيّ حال فقد بويع الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بيعة عامة عن رضى واختيار من جميع أبناء الشعوب الاِسلامية ، وأظهروا في بيعته جميع مباهج الفرح والسرور ، ولم يظفر بمثل هذه البيعة أحد من الخلفاء الذين سبقوه أو تأخّروا عنه.
وفور تقلّد الاِمام ( عليه السلام ) للخلافة تبنى بصورة إيجابية وشاملة العدل الخالص ، والحق المحض ، وتنكّر لكل مصلحة شخصية تعود بالنفع عليه

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 71

أو على ذويه ، وقدم مصالح الفقراء والمحرومين على جميع المصالح الاَخرى... كانت سعادته أن يرى الاَوساط الشعبية تنعم بالخير والسعادة ، ولا مكان للحاجة والاعواز عندها ، ولم يعرف في تاريخ هذا الشرق حاكم مثله في عطفه وحنانه على البؤساء والمحرومين.
ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للحديث عن بعض شؤون الحكم عند الاِمام ( عليه السلام ) فإن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسيرة ولده أبي الفضل ( عليه السلام ) فانّه يكشف عن روعة التربية الكريمة التي تربّى عليها في عهد أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، والتي تركت في نفسه حبّ التضحية والفداء في سبيل الله ، كما يكشف عن الاَسباب الوثيقة التي دعت القوى الطامعة ، والمنحرفة إلى الوقوف في وجه حكومة الاِمام ( عليه السلام ) ، ومناهضتهم لاَبنائه من بعده ، وفيما يلي ذلك:

منهج حكم الاِمام:

أمّا منهج الحكم وفلسفته عند الاِمام ( عليه السلام ) فقد كان مشرقاً وحافلاً بمقومات الارتقاء ، والنهوض للشعوب الاِسلامية ، وفيما أعتقد أنّه لم تعرف الاِنسانية في جميع أدوارها نظاماً سياسياً تبنّى العدل الاجتماعي ، والعدل الاقتصادي والسياسي مثل ما تبّناه الاِمام ، وسنّه من المناهج الرائعة في هذه الحقول ونشير إلى بعضها:

1 ـ بسط الحريّات:
وآمن الاِمام ( عليه السلام ) بضرورة منح الحريّات العامة لجميع أبناء الاَمّة ، وان ذلك من اولوّيات حقوقها ، والدولة مسؤولة عن توفيرها لكل فرد من أبناء

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 72

الشعب ، وان حرمانهم منها يخلق في نفوسهم العقد النفسية ، ويمنع من التقدّم الفكري ، والتطوّر الاجتماعي في أبنائها ، ويخلد لهم الخنوع والخمول ، ويعود عليهم بالاضرار البالغة ، أمّا مدى هذه الحرية وسعتها فهي:
أ ـ الحريّة الدينية:
يرى الاِمام ( عليه السلام ) أن الناس أحرار فيما يعتقدون ويذهبون من أفكار دينية ، وليس للدولة أن تحول بينهم وبين عقائدهم كما أنّه ليس لها أن تحول بينهم وبين طقوسهم الدينية ، وانهم غير ملزمين بمسايرة المسلمين في الاَحوال الشخصية ، وانّما يتّبعون ما قنن من تشريع عند فقائهم.
ب ـ الحريّة السياسية:
ونعني بها منح الناس الحرية التامة في اعتناق المذاهب السياسية التي تتفق مع رغباتهم وميولهم ، وليس للدولة أن تفرض عليهم رأياً سياسياً مخالفاً لما يذهبون إليه ، كما أنّه ليس لها أن تفرض عليهم الاِقلاع عن آرائهم السياسية الخاصة ، وانّما عليها أن تقيم لهم الاَدلة والحجج الحاسمة على فساد ذلك المذهب ، وعدم صحّته ، فان رجعوا إلى الرشاد فذاك ، وإلاّ فتتركهم وشأنهم ما لم يحدثوا فساداً في الاَرض ، أو يخلّوا بالاَمن العام ، كما اتفق ذلك من الخوارج الذين فقدوا جميع المقوّمات الفكرية ، والركائز العلمية ، وراحوا يتمادون في جهلهم وغيّهم ويعرضون الناس للقتل والاِرهاب ، فاضطرّ الاِمام ( عليه السلام ) إلى مقاومتهم بعد أن أعذر فيهم.
ومن الجدير بالذكر أن مما يتفرّع على الحرية السياسية حريّة النقد لرئيس الدولة وجميع أعضائها ، فالناس أحرار فيما يتولّون ، وينقدون ، وقد كان الخوراج يقطعون على الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطابه ، ويخدشون

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 73

عواطفه بنقدهم الذي لم يكن واقعياً ، وانّما كان مبنيّاً على الجهل والمغالطة ، فلم يتّخذ الاِمام أي إجراء ضدّهم ، ولم يسقهم إلى المحاكم والقضاء لينالوا جزاءهم ، وبذلك فقد عهد الاِمام إلى نشر الوعي العام ، وبناء الشخصية المزدهرة للاِنسان المسلم.
هذه بعض صور الحرية التي طبّقت أيام حكم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهي تمثّل مدى أصالة منهجه السياسي الذي يساير التطور والابداع.


2 ـ نشر الوعي الديني:

واهتم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بصورة إيجابية بنشر الوعي الديني ، وإشاعة المثل الاِسلامية بين المسلمين ، باعتبارها الركيزة الاَولى لاِصلاح المجتمع وتهذيبه.
انّ من أُولى معطيات الوعي الديني اقصاء الجريمة ، ونفي الشذوذ والانحراف عن المجتمع ، وإذا لم يتلوّث بذلك ، فقد بلغ غاية الازدهار والتقدّم.
ومن المقطوع به انّا لم نجد أحداً من خلفاء المسلمين وملوكهم قد عني بالتربية الدينية كما عُني الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقد حفل نهج البلاغة بالكثير من خطبه التي تهزّ أعماق النفوس ، وتدفعها إلى سلوك المناهج الخيّرة ، واعتناق الفضائل ، وابعادها عن اقتراف الجرائم ، وقد أثمرت خطبه في إيجاد طبقة من خيار المسلمين وصلحائهم ، قاوموا الانهيار الاَخلاقي ، وناهضوا التفسخ والتحلل الذي شاع أيام حكم الاَمويين ، وكان من بين هؤلاء رشيد الهجري وميثم التمّار وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وغيرهم من بناة الفكر الاِسلامي.

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 74


3 ـ نشر الوعي السياسي:

أمّا نشر الوعي السياسي في أوساط المجتمع الاِسلامي فهو من أهمّ الاَهداف السياسية التي تبنّاها الاِمام ( عليه السلام ) في أيّام حكومته.
ونعني بالوعي السياسي هو تغدية المجتمع وإفهامه بجميع الطرق والوسائل بالمسؤولية أمام الله تعالى ، على مراقبة الاَوضاع العامة في الدولة وغيرها من سائر الشؤون الاجتماعية للمسلمين حتى لا يقع أيّ تمزّق في صفوفهم ، أو ايّ تأخّر أو ضعف في حياتهم الفردية والاجتماعية ، وقد ألزم الاِسلام بذلك ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « كلّكم راع ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته.. » ألقى النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) المسؤولية على جميع المسلمين في رعاية شؤونهم ، والعمل على حفظ مصالحهم ، ودرأ الفساد عنهم.
ومن بين الاَحاديث المهمّة الداعية إلى مقاومة أئمّة الظلم والجور هذا الحديث النبوي الذي ألقاه أبو الاَحرار على جلاوزة ابن مرجانة وعبيدة قال: « أيّها الناس: إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان ، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله.. »(1).
وكان هذا الحديث الشريف من المحفّزات لسيّد الشهداء ( عليه السلام ) على إعلان الجهاد المقدّس ضدّ الحكم الاَموي الجائر الذي استحلّ ما حرّم الله ، ونكث عهده ، وخالف سنّة رسوله ، وعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان.

(1) حياة الامام الحسين 3: 80.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 75

انّ الوعي السياسي الذي أشاعه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بين المسلمين أيّام حكمه قد خلق شعوراً ثورياً ضد الظالمين والمستبدّين ، فقد انبرى المجاهدون الاَبطال ممن غذّاهم الاِمام بهذه الروح إلى مقارعة الطغاة ، وكان على رأسهم أبو الاَحرار سيّد الشهداء واخوه البطل الفذّ أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) ، والكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهم السلام وأصحابهم المجاهدين ، فقد هبّوا جميعاً في وجه الطاغية يزيد لتحرير المسلمين من الذلّ والعبوديّة وإعادة الحياة الحرّة الكريمة بين المسلمين.... وقد سبق هؤلاء العظماء المصلح الكبير حجر بن عديّ الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ورُشيد الهجري ، وميثم التمّار وغيرهم من أعلام الحرية ودعاة الاِصلاح الاجتماعي ، فقد ثاروا بوجه الطاغية معاوية بن أبي سفيان ممثّل القوى الجاهلية ، ورأس العناصر المعادية للاِسلام ، وعلى أي حال فقد غرس الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) روح الثورة على الظلم والطغيان في نفوس المسلمين ، وأهاب بهم أن لا يقارّوا على كظّة ظالم أو سغب مظلوم.

4 ـ إلغاء المحسوبيات:

وكان مما عني به الاِمام ( عليه السلام ) في أيّام حكومته إلغاء المحسوبيات إلغاءً مطلقاً ، فالقريب والبعيد عنده سواء ، فليس للقريب امتياز خاص ، وانّما شأنه شأن غيره في جميع الحقوق والواجبات كما ساوى بصورة موضوعية بين العرب والموالي مما جعل الموالي يدينون له بالولاء ، ويؤمنون بإمامته.
لقد ألغى الاِمام جميع صنوف المحسوبيات ، وصور العنصريات ، وساوى بين المسلمين على اختلاف قومياتهم مساواة عادلة لم يعهد لها نظير في تاريخ الاَمم والشعوب ، فقد حملت مساواته روح الاِسلام

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 76

وجوهره وحقيقته النازلة من ربّ العالمين ، فهي التي تجمع ولا تفرّق ولا تجعل في صفوف المسلمين أي ثغرة يسلك فيها أعداء الاِسلام لتشتيت شملهم ، وتصديع وحدتهم.

5 ـ القضاء على الفقر:

أمّا فلسفة الاِمام ( عليه السلام ) في الحكم فتبتني على محاربة الفقر ولزوم اقصاء شبحه البغيض عن الناس لاَنّه كارثة مدمّرة للمواهب والاَخلاق ، ولا يمكّن الاَمّة أن تحقّق أي هدف من أهدافها الثقافية والصحيّة وهي فقيرة بائسة ، إن الفقير يقف سدّاً حائلاً بين الاَمّة وبين ما تصبو إليه من التطوّر والتقدّم والرخاء بين أبنائها... ومن الجدير بالذكر أن من بين المخططات التي تزيل شبح الفقر وتوجب نشر الرخاء بين الناس ، والتي عني بها الاِسلام بصورة موضوعية وهي:
أ ـ توفير المسكن.
ب ـ إقامة الضمان الاجتماعي.
ج ـ توفير العمل.
د ـ القضاء على الاستغلال.
هـ ـ سدّ أبواب المرابين.
و ـ القضاء على الاحتكار.
هذه بعض الوسائل التي عني بها الاِسلام في اقتصاده ، وقد تبنّاها الاِمام في أيّام حكومته ، وقد ناهضتها القوى الرأسمالية القرشية ودفعت بجميع إمكانياتها للاِجهاز على حكم الاِمام ، الذي قضى على مصالحهم الضيّقة ، وبهذا نطوي الحديث عن منهج الاِمام وفلسفته في الحكم.

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 77


القوى المعارضة للإمام:

ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للتعرّف على القوى المعارضة لحكومة الاِمام ، التي لم تكن لها أيّة أهداف نبيلة ، وانّما كانت تبغي الاستيلاء على الحكم للظفر بخيرات البلاد ، والتحكّم في رقاب المسلمين بغير حقّ ، وفيما يلي ذلك.

السيّدة عائشة:

وانطوت نفس السيّدة عائشة ـ مع الاَسف ـ على بغض عارم وكراهية شديدة للاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولعلّ السبب في ذلك ـ فيما نحسب ـ يعود إلى ميل زوجها النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) إلى الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وإلى بضعته وحبيبته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليهما السلام ) ، وإلى سبطيه وريحانتيه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ( عليهما السلام ) واشادته دوماً بفضلهم ، وسموّ منزلتهم عند الله ، وفرض مودّتهم على عموم المسلمين ، كما أعلن الذكر الحكيم ذلك ، قال تعالى: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى» وفي نفس الوقت كانت عائشة تعامل معاملة عادية ، وفي كثير من الاَحيان كان النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) يشير إلى أفعالها ، فقد قال ( صلى الله عليه وآله ) لنسائه: أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) : من ها هنا يتولّد الشرّ وأشار إلى بيتها ، وغير ذلك مما أثار عواطفها.
وثمّة سبب في كراهية عائشة للاِمام وهو موقفه الصارم الذي وقفه تجاه بيعة أبيها أبي بكر ، ومقاطعته لانتخابه ، وشجبه لبيعته وبعد سقوط حكومة عثمان كانت تروم إرجاع الخلافة إلى قبيلتها تيم لتكون سياسة الدولة بجميع أجهزتها خاضعة لرغباتها وميولها ، وهي على يقين أن

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 78

الخلافة إذا رجعت للاِمام ( عليه السلام ) فإنّها سوف تعامل كغيرها من أبناء الشعوب الاِسلامية ، ولا تحظى بأيّة ميّزة ، فان جميع الشؤون السياسية والاقتصادية عند الاِمام ( عليه السلام ) لا بدّ أن تسير على وفق الكتاب والسنّة ، ولا مجال عنده للاَهواء والعواطف ، وكانت عائشة تعرف ذلك جيّداً ، ولذا أعلنت العصيان والتمرّد على حكومته ، وقد انضمّ إليها كل من الزبير وطلحة والامويين وذوي الاطماع والمنحرفين عن الحق من القبائل القرشية الذين ناهضوا الدعوة الاِسلامية من حين بزوغ نورها.
وعلى أيّ حال فقد كانت عائشة من أوثق الاَسباب في الاِطاحة بحكومة عثمان ، وقد أفتت بوجوب قتله ، ولما أيقنت بهلاكه خرجت إلى مكّة ، وهي تتطلع إلى الاَخبار ، فلما وافاها النبأ بقتله أعلنت فرحتها الكبرى ، ولكنها لمّا فوجئت بالبيعة للاِمام ( عليه السلام ) انقلب وضعها رأساً على عقب ، وراحت تقول بحرارة:
« قتل عثمان مظلوماً والله لاَطلبنّ بدمه.. ».
وأخذت تندب عثمان رياءً لا حقيقة ، وقد رفعت قميصه الملطّخ بدمه ، وجعلته شعاراً لتمرّدها على السلطة الشرعية التي أعلنت حقوق الاِنسان ، وتبنّت مصالح المحرومين والمضطهدين والتي كانت أمتداداً لحكومة الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
وعقدت عائشة في مكّة الندوات مع أعضاء حزبها البارزين كطلحة والزبير ، وسائر الامويين ، وأخذت تتداول معهم الآراء أي بلد يغزونه ليشكّلوا فيه حكومة لهم ، ويتّخذوا منه قاعدة لانطلاقهم في محاربة الاِمام ، والاِجهاز على حكومته ، وبعد التأمّل والنظر الدقيق في أحوال المناطق الاِسلامية أجمع رأيهم على احتلال البصرة لاَنّ لهم بها شيعة وأنصاراً ،

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 79

وأعلنوا بعد ذلك العصيان المسلّح ، وزحفوا نحو البصرة ، وقد التحق بهم بهائم البشر ، وحثالات الشعوب من الذين ليس لهم فكر ولا وعي ، وساروا لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى البصرة ، وبعد مقاومة عنيفة بينهم وبين الحكومة المركزية فيها استطاعوا احتلالها ، وألقوا القبض على حاكمها سهل بن حنيف وجيء به مخفوراً إلى عائشة فأمرت بنتف لحيته ، فنتفتها جلاوزتها وعاد ابن حنيف بعد لحيته العريضة شاباً أمرد.
ولما وافت الاَنباء الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بتمرّد عائشة ، واحتلالها لمدينة البصرة ، سارع بجيوشه للقضاء على هذا الجيب المتمرّد ، خوفاً من أن تسري نار الفتنة إلى بقيّة الاَمصار الاِسلامية ، وقد ضمّ جيشه القوى الواعية في الاِسلام أمثال الصحابي العظيم عمّار بن ياسر ، ومالك الاَشتر ، وحجر بن عدي ، وابن التيهان وغيرهم ممن ساهموا في بناء الاِسلام ، وإقامة ركائزه في الاَرض.
وسرت جيوش الاِمام حتى انتهت إلى البصرة فوجدوها محتلّة بجنود مكثفة ، وهم يعلنون الطاعة والولاء لاَمّهم عائشة ، فأرسل الاِمام رسله إلى أعضاء القيادة العسكرية في جيش عائشة كطلحة والزبير ، فعرضوا عليهم السلم والدخول في مفاوضات بينهم وبين الامام حقناً لدماء المسلمين ، فأبوا ، وأصرّوا على التمرّد والعصيان مطالبين ـ بوقاحة ـ بدم عثمان ، وهم الذين أطاحوا بحكومته ، وأجهزوا عليه.
ولما نفدت جميع الوسائل التي اتخذها الاِمام ( عليه السلام ) للسلم اضطّر إلى إعلان الحرب عليهم ، وجرت بين الفريقين معركة رهيبة سقط فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل ، وأخيراً نصر الله الاِمام على أعدائه ، فقد قُتل طلحة والزبير ، وملئت ساحة المعركة بجثث قتلاهم ، وقذف الله الرعب في قلوب

السابق السابق الفهرس التالي التالي