العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 80

الاَحياء منهم فولّوا منهزمين قابعين بالذلّ والعار.
واستولى جيش الاِمام على عائشة القائدة العامة للمتمرّدين ، وحملت بحفاوة إلى بعض بيوت البصرة ، ولم يتّخذ الاِمام معها الاِجراءات الصارمة ، وعاملها معاملة المحسن الكريم ، وسارع الاِمام فسرّحها تسريحاً جميلاً إلى يثرب ، لتقرّ في بيتها الذي أمرها الله ورسوله أن تسكن فيه ، ولا تتدخّل بمثل هذه الاَمور التي ليست مسؤولة عنها.
وانتهت هذه الفتنة التي أسماها المؤرّخون (بحرب الجمل) وقد أشاعت في ربوع المسلمين الثكل والحزن والحداد ، ومزّقت صفوفهم ، وألقتهم في شرّ عظيم... ومن المؤكّد أن دوافع هذه الحرب لم تكن سليمة ، ولم تكن حجّة عائشة وحزبها منطقية ، وانّما كانت من أجل المطامع ، والكراهية الشديدة لحكم الاِمام الذي فقدوا في ظلاله جميع الامتيازات الخاصة ، وعاملهم الاِمام كما يعامل سائر المسلمين.
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) هذه الحرب الدامية ، ووقف على أهدافها الرامية للقضاء على حكم أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، وقد استبان له أحقاد القبائل القرشية له واستبان له أن الدين لم ينفذ إلى أعماق قلوبهم ، وانّما كانوا يلوكونه بألسنتهم حفظاً لدمائهم ومصالحهم.

معاوية وبنو أميّة:

وفي طليعة القوى المعارضة لحكومة الاِمام والمعادية له ، معاوية بن أبي سفيان ، وبنوا أميّة ، فقد نزع الله الاِيمان من قلوبهم ، وأركسهم في الفتنة ركساً ، فكانوا من ألدّ أعداء الاِمام ، كما كانوا من قبل من أعداءً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فهم الذين ناهضوا دعوته ، وكفروا برسالته ، وكادوا له في غلس الليل ، وفي وضح النهار ، حتى أعزّه الله وأذلّهم ، ونصره وقهرهم ، وقد

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 81

دخلوا في الاِسلام مكرهين لا مؤمنين به ، ولولا سماحة خلق النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وعظيم رأفته ورحمته لما أبقى لهم ظلاًّ على الاَرض ، إلاّ أنّه ( صلى الله عليه وآله ) منحهم العفو كما منح غيرهم من أعدائه.
ولم يكن للاَمويين أي شأن يذكر أيام النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فقد قبعوا بالذل والهوان ينظر إليهم المسلمون بنظرة العداء والخصوم ، ويذكرون ما قاموا به في محاربة دينهم ، والتنكيل بنبيّهم ، ومن المؤسف انّه لما فجع المسلمون بفقد نبيّهم ( صلى الله عليه وآله ) وآل الاَمر إلى الخلفاء علا نجم الاَمويين ، وذلك لاَسباب سياسية خاصة ، فقد عيّن أبو بكر يزيد بن أبي سفيان والياً على دمشق ، وخرج بنفسه لتوديعه إلى خارج يثرب تعظيماً له ، واشادة بمكانة أسرته ، ولم يفعل مثل ذلك مع بقية عمّاله وولاته كما يقول المؤرّخون ، ولما هلك يزيد أسندت ولاية دمشق إلى أخيه معاوية ، وكان أثيراً عند عمر تتوافد عليه الاَخبار بأنّه يشذّ في سلوكه ، وينحرف في تصرّفاته عن سنن الشرع وأحكام الاِسلام ، فقد أخبروه بأنّه يلبس الحرير والديباج ، ويأكل في أواني الذهب والفضّة ، وكل ذلك محرّم في الاِسلام ، فيقول معتذراً عنه ، ومسدداً له: ذاك كسرى العرب ومتى كان ابن هند الصعلوك النذل كسرى العرب ، !! ولو فرضنا أنّه كان كذلك فهل يباح له في شريعة الله أن يقترف الحرام ، ولا يحاسب عليه ، ان الله تعالى ليست بينه وبين أحد نسب ولا قرابة ، فكل من شذّ عن سنّته ، وخالف أحكامه فانّه يعاقبه على ذلك ، يقول الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) لو عصيت لهويت ، ويقول الاِمام زين العابدين ( عليه السلام ) : ان الله تعالى خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً.
وعلى أيّ حال فان عمر قد أغدق بألطافه ونعمه على معاوية وزاد في

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 82

رقعة سلطانه ، ونفخ فيه روح الطموح ، وقد ظلّ يعمل في ولايته على الشام عمل من يريد الملك والسلطان ، فكان يقرّب الوجوه والزعماء ، ويغدق عليهم بالهبات والاَموال ، ويشتري الذمم والعواطف ، ويركّز ولاءه في قلوب الغوغاء.
ومهّدت عائشة في ثورتها على حكم الاِمام الطريق لمعاوية لاِعلانه العصيان المسلّح على حكومة الامام التي هي أشرف حكومة ظهرت في الشرق العربي على امتداد التأريخ ، وقد تذرّع بها معاوية الذئب الجاهلي لحرب الاِمام ، واتخذ من دم عثمان وسيلة لاِغراء الغوغاء واتّهم الاِمام بأنّه المسؤول عن المطالبة بدمه ، وفي نفس الوقت أوعز إلى أجهزة الاِعلام أن تندب عثمان ، وتظهر براءته مما اقترفه في تصرّفاته الاقتصادية والسياسية التي تتجافى مع أحكام الاِسلام.
وتسلّح معاوية بكبار الدبلوماسيين ، ومهرة السياسة في العالم العربي أمثال المغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص ، وأمثالهما ممن كانت لهم الدراية الوثيقة في أحوال المجتمع ، فكانوا يضعون له المخططات الرهيبة للتغلّب على الاَحداث.

إعلان الحرب

ورفض معاوية رسمياً بيعة الاِمام ، وأعلن عليه الحرب ، وهو يعلم أنّه انّما يحارب أخا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيّه وباب مدينة علمه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، لقد أعلن عليه الحرب كما أعلن أبوه أبو سفيان الحرب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وتشكّل الجيش الذي زحف به معاوية لمحاربة الاِمام ( عليه السلام ) من

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 83

العناصر التالية:
أ ـ الغوغاء:
أمّا الغوغاء فهم جهلة الشعوب ، وهم كالاَنعام بل هم أضلّ سبيلاً وتستخدمهم السلطة في كل زمان لنيل أهدافها ، ولتبني عروشها على جماجمهم ، وكانت الاَكثرية الساحقة من جيش معاوية من هؤلاء الغوغاء المغرر بهم الذين لا يميّزون بين الحق والباطل ، والذين تلوّنهم الدعاية كيفما شاءت ، وقد جعلهم معاوية جسراً فعبر عليهم لنيل مقاصده الشريرة.
ب ـ المنافقون:
أمّا المنافقون فهم الذين أظهروا الاِسلام في ألسنتهم ، وأضمروا الكفر والعداء له في ضمائرهم وقلوبهم ، وكانوا يبغون له الغوائل ، ويكيدون له في وضح النهار ، وفي غلس الليل ، وقد ابتلي بهم الاِسلام كأشدّ ما يكون البلاء وامتحن بهم المسلمون كأشدّ ما يكون الامتحان لاَنّهم مصدر الخطر عليهم وقد ضمّ جيش معاوية رؤوس المنافقين وضروسهم أمثال المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وأمثالهم من الزمرة الباغية الذين وجدوا الفرصة لهم مواتية لضرب الاِسلام وقلع جذوره ، وقد تسلّحوا بمعاوية ابن أبي سفيان العدوّ الاَوّل للاِسلام فناصروه ، وساروا في جيشه لمحاربة أخي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيه ، والمنافح الاَوّل عن الاِسلام.
انّ جميع من حارب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من المنافقين قد انضمّوا إلى معاوية وصاروا من حزبه وأعوانه في محاربة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
ج ـ النفعيون:
ونعني بهم الجماعة التي فقدت امتيازاتها ومنافعها للامشروعة في ظلّ حكم الامام رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، وفي طليعة هؤلاء ، العمّال

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 84

والولاة ، وسائر الموظّفين في حكومة عثمان ، فقد فقدوا منافعهم وخافوا على مصادرة ما عندهم من الاَموال التي اختلسوها من الشعب أيام عثمان ، كما تمّ عزلهم عن مناصبهم فور تقلّد الاِمام للحكم.
هذه بعض العناصر التي تشكّل منها جيش معاوية ، وقد زحف بهم إلى محاربة قائد الاِسلام ، ورائد العدالة الاِنسانية.

احتلال الفرات:

واتّجهت جيوش معاوية صوب العراق ، فعسكرت في منطقة صفين واختارتها مركزاً للحرب ، وأوعزت القيادة العامة إلى قطعات الجيش باحتلال الفرات ، ووضع المفارز على حوض الفرات لمنع جيش الاِمام من الشرب ليموتوا عطشاً ، وقد اعتبر معاوية ذلك أوّل النصر والفتح ، ونمَّ ذلك عن خبث طبيعته ولؤم عنصره ، فان لكل إنسان بل ولكل حيوان حقاً طبيعياً في الماء عند كافة الاَمم والشعوب ، ولكن معاوية وبني أميّة قد تخلّوا عن جميع الاَعراف ، فاستعملوا منع الماء كسلاح في معاركهم ، فقد منعوا الماء يوم الطفّ عن ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته حتى أشرفوا على الموت من شدّة الظمأ.
ولمّا علم الاِمام ( عليه السلام ) بزحف معاوية لحربه اتّجه بجيوشه نحو صفّين فلمّا انتهوا إليها وجدوا حوض الفرات قد احتلّ من قبل معسكر معاوية ، ومنعوهم من تناول قطرة من الماء ، وألحّ العطش بجيش الاِمام فانبرت إليه قادة جيشه ، وطلبوا منه الاِذن في مقارعة القوم ، فرغب الاِمام قبل أن يبدأهم بالحرب أن يطلبوا منهم السماح في تناول الماء ، إذ ليس لهم من سبيل أن يتخذوه وسيلة لكسب المعركة لاَن الماء مباح لكل إنسان وحيوان عند جميع الشرائع والاَديان ، وعرض عليهم أصحاب الاِمام ذلك إلاّ أنّهم

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 85

أبوا وأصرّوا على غيّهم وعدوانهم ، فاضطّر الاِمام بعد ذلك إلى أن يسمح لقوّاته المسلّحة بفتح نار الحرب عليهم ، فحملوا عليهم حملة واحدة ، ففرّوا منهزمين شرّ هزيمة ، وتركوا مواقعهم فاحتلتها جيوش الاِمام ، وأصبح نهر الفرات بأيديهم ، انطلق فريق من قادة الجيش نحو الاِمام فطلبوا منه أن يسمح لهم في منع الماء عن أصحاب معاوية كما منعوهم عنه ، فأبى الاِمام أن يقابلهم بالمثل ، فأباح لهم الماء كما هو مباح للجميع في شريعة الله ، ولم يشكر الامويون الاَوغاد هذه اليد البيضاء التي أسداها عليهم الاِمام ، فقد قابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عن أبنائه في كربلاء حتى صرعهم الظمأ ، وأذاب العطش قلوبهم.

دعوة الاِمام إلى السلم:

وكره الاِمام أشدّ الكره الحرب وإراقة الدماء ، فدعا إلى السلم ، والوئام فقد أرسل عدّة وفود إلى ابن هند يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون وأن يجنّبهم من الحرب فأبى ولم يستجب لهذه الدعوة الكريمة ، وأصرّ على الغيّ والعدوان ، وتذرّع كذباً بالمطالبة بدم عثمان الذي ما أراق دمه إلاّ سوء تصرّفاته السياسية والاِدراية.

الحرب:

ولمّا فشلت جميع الجهود التي بذلها الاِمام من أجل السلم وحقن الدماء اضطّر إلى أن يفتح مع عدّوه باب الحرب ، وقد خاض معه حرباً مدمّرة سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى فضلاً عن المعوقين من كلا الجانبين واستمرّت الحرب أكثر من سنتين كانت تشتدّ حيناً ، وتفتر حيناً آخر ، وفي المرحلة الاَخيرة من الحرب كاد الاِمام أن يكسب المعركة ،

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 86

وتحسم من صالحه ، فقد بان الانكسار في جيش معاوية ، وتفللت جميع قواعد عسكره ، وعزم معاوية على الهزيمة لولا أن تذكّر قول ابن الاَطنابة:

أبت لي عفتي وحياء نفسي واقدامي على البطل المشيح
واعطائي على المكروه مالي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تسريحي

فردّه هذا الشعر إلى الصبر والثبات كما كان يتحدّث بذلك أيّام العافية ، وفيما أحسب أن هذا الشعر ليس هوالذي ردّه إلى الثبات وعدم الهزيمة إذ ليست لابن هند أيّة عفّة أو حياء نفس ، ولا غير ذلك مما حوته هذه الاَبيات وانما ردّه إلى الصبر هو ما دبّره من المكيدة والخديعة التي مزّقت الجيش العراقي ، وهو ما سنتحدّث عنه.

الخديعة الكبرى:

وآن النصر المحتم لجيش الاِمام ، فقد أشرف على الفتح ، ولم يبق إلاّ مقدار حلبة شاة من الوقت حتى يؤسر معاوية أو يقتل كما أعلن ذلك قائد القوّات المسلحة في جيش الاِمام الزعيم مالك الاَشتر ، ومن المؤسف جدّاً أنّه في تلك اللحظات الحاسمة مُني الاِمام بانقلاب عسكري في جيشه ، فقد رفع عسكر معاوية المصاحف على أطراف الرماح ، وهم ينادون بالدعوة إلى تحكيم القرآن ، وإنهاء الحرب حقناً لدماء المسلمين ، واستجابت قطعات من جيش الامام لهذا النداء الذي يحمل التدمير الشامل لحكومة الاِمام وأفول دولة القرآن.
يا للعجب لقد نادى جيش معاوية بالرجوع إلى تحكيم القرآن ، ومعاوية وأبوه هما في طليعة من حارب القرآن.
أصحيح أنّ ابن هند يؤمن بالقرآن ، ويحرص على دماء المسلمين

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 87

وهو الذي أراق أنهاراً من دمائهم إرضاءً لجاهليته ، وانتقاماً من الاِسلام.
وكان أول من استجاب لهذا النداء المزيّف العميل الاَموي الاَشعث ابن قيس ، فقد جاء يشتدّ كالكلب نحو الاِمام ، وقد رفع صوته ليسمَعَهُ الجيش قائلاً:
« ما أرى الناس إلاّ قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فان شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد.. ».
وامتنع الاِمام من إجابة هذا العميل المنافق الذي طعن الاِسلام في صميمه ، والتفّ حول الاَشعث جماعة من الخونة فأحاطوا بالاِمام ، وهم ينادون: أجب الاَشعث ، ولم يجد الاِمام بُدّاً من إجابته ، فانطلق الخائن صوب معاوية ، فقال له:
« لآيّ شيء رفعتم هذه المصاحف؟.. »
فأجابه معاوية مخادعاً:
ولنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله عزّ وجلّ في كتابه تبعثون منكم رجلاً ترضون به ، ونبعث منّا رجلاً ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم نتّبع ما اتفقا عليه.. ».
ورفع الاَشعث عقيرته قائلاً:
« هذا هو الحقّ.. ».
وخرج الاَشعث من معاوية ، وهو ينادي بضرورة إيقاف الحرب ، والرجوع إلى كتاب الله العظيم ، ومن المؤكّد أنّ هذه الحركة الانقلابية التي تزعّمها هذا المنافق العميل لم تكن وليدة رفع المصاحف ، وانّما كانت قبل زمن ليس بالقليل ، فقد كانت هناك اتّصالات سريّة بين الاَشعث وبين معاوية ووزيره والفكر المدبّر لخدعه وأباطيله عمرو بن العاص ، ومما يدل

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 88

على ذلك أنّه لم تكن هناك رقابة ولا مباحث في جيش الامام على من يتّصل بمعسكر معاوية فقد كان الطريق مفتوحاً ، وجرت اتصالات مكثّفة بين معاوية والاَشعث وغيره من قادة الجيش العراقي ، وقدم لهم معاوية الرشوات ، ومنّاهم بالمراتب العالية ، وبالمزيد من الاَموال إن استجابوا لدعوته.
وعلى أيّ حال فقد أُرغم الاِمام على قبول التحكيم ، فقد أحاطت به قطعات من جيشه وقد شهرت عليه السيوف والرماح وهي تنادي: « لا حكم إلاّ لله » واتّخذوا هذا النداء شعاراً لتمرّدهم ، ووقوفهم ضدّ الامام ، وسرعان ما أصبحوا حركة ثورية ، ومصدر قلق مثير للفتن والاضطراب.
وعلى أيّ حال فقد جهد الاِمام بنفسه ورسله على إقناعهم ، وإرجاعهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يتمكّن ، ورأى أنّهم جادّون على مناجزته والاِطاحة بحكومته ، فاستجاب لهم ، وأوعز إلى قائد قوّاته العسكرية الزعيم مالك الاَشتر بالانسحاب عن ساحة الحرب ، وإيقاف العمليات العسكرية ، وكان قد أشرف على الفتح فلم يبق بينه وبين الاستيلاء على معاوية سوى مقدار حلبة شاة ، ورفض مالك الاستجابة وأصرّ على مزاولة الحرب إلاّ أنّه أخبر بأنّ الاِمام في خطر ، وان المتمرّدين قد أحاطوا به ، فاضطرّ إلى إيقاف الحرب ، وبذلك فقد تمّ ما أراده معاوية من الاِطاحة بحكومة الاِمام ، وكتب له في تلك اللحظات النصر على الاِمام ، وقد انتصرت معه الوثنية القرشية كما يقول بعض الكتّاب والمحدثين.

التحكيم:

وتوالت المحن والاَزمات على الاِمام يتبع بعضها بعضاً ، وانكشفت خفايا هؤلاء العملاء المتمرّدين ، فقد أصرّوا على انتخاب أبي موسى

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 89

الاَشعري ليكون ممثلاً عن العراق ، والاَشعري خبيث دنس كان حقوداً على الاِمام ، ومن ألدّ أعدائه وخصومه ، وفي نفس الوقت لم يملك وعياً ولا فهماً للاَحداث ، وكان بليداً ومنافقاً ، واتّخذه المنافقون والمتمردون في جيش الاِمام جسراً فعبروا عليه لنيل مقاصدهم الخبيثة لعزل الاِمام عن الحكم عن الحكم ، وتثبيت معاوية في مركزه.
ولم يستطع الاِمام إيقاف هذا المدّ التآمري في جيشه ، فقد أصبح قادة جيشه يتلقّون الاَوامر والتوجيهات من قبل معاوية ووزيره ابن العاص ، وصار الاِمام بمعزل تام عن الحياة السياسية ، فقد أصبح يأمر جيشه فلا يطيع ، ويدعوه فلا يستجيب له ، وصارت دفّة الحكم كلّها بيد معاوية.
لقد حكم الاَشعري بعزل الاِمام ، وحكم ابن العاص بإبقاء معاوية ، وبذلك فقد انتهت مهزلة التحكيم إلى عزل الاِمام عن منصب الحكم ، وتقليده لمعاوية وانطوت بذلك أقدس حكومة إسلامية ظهرت في الشرق كان يرجى منها أن تقوم ببسط العدل السياسي والعدل الاجتماعي بين الناس ، فلم تدعها هذه الوحوش الكاسرة من ذئاب الاَمويين ، وسائر القبائل القرشية من تحقيق أهدافها ومثلها العليا.
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) وهو في دور الشباب فصول هذه المأساة الكبرى فكوت قلبه ، وهزّت عواطفه ، فقد جرت لاَهل بيته المصائب ، وأخلدت لهم المحن والخطوب.

ثورة الخوارج:

ومن بين المحن الشاقة التي امتحن بها الاِمام امتحاناً عسيراً هي ثورة الخوارج فقد كان معظمهم من بهائم البشر ، فقد امتطاهم معاوية ، وجعلهم جسراً لنيل أطماعه وأهدافه من حيث لا يشعرون ، فهم الذين أرغموا الاِمام

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 90

على قبول التحكيم ، وإيقاف عمليات الحرب ، وهم الذين أصرّوا على انتخاب المنافق أبي موسى الاَشعري ، ولما عقد التحكيم ، وأعلن أبو موسى عزل الاِمام عن منصبه ، وأعلن ابن العاص إقامة سيّده معاوية في مركزه أسفوا على ما فرّطوا في أمر المجتمع الاِسلامي واستبانت لهم المكيدة التي دبّرها ابن العاص في رفع المصاحف وعابوا على الاِمام وكفّروه لاستجابته لهم ، وفي الحقيقة هم الذين يتحمّلون جميع المسؤوليات الناجمة عن ذلك.
ولمّا نزح جيش الاِمام من صفّين إلى الكوفة لم يدخلوا معه إليها وانما انحازوا إلى حروراء فنسبوا إليها ، وكان عددهم فيما يقول المؤرّخون اثني عشر ألفاً ، وأذن مؤذّنهم أن أمير القتال المنافق شبث بن ربعي الذي كان من قادة الجيش الذي حارب ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كما نصبوا إماماً للصلاة عبد الله بن الكواء العسكري ، وجعلوا الاَمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عزّ وجلّ ، وجعلوا من أهمّ الاَحكام التي يقاتلون من أجلها الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا شعارهم « لاحكم إلاّ لله » ولكنّهم سرعان ما تنكّروا لهذا الشعار فجعلوا الحكم للسيف وذلك بما أراقوه من دماء الاَبرياء ، وما نشروه من الذعر والخوف بين المسلمين.
وبعث الاِمام إليهم بعض رسله يعدلهم عن فكرتهم ، ويرشدهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يجد ذلك معهم شيئاً ، فانطلق ( عليه السلام ) بنفسه إليهم ، ومعه أعلام أصحابه ، فجعل يناظرهم ، ويقيم الاَدلّة الوثيقة على فساد رأيهم ، وضلالة قصدهم ، فاستجاب له قوم ، وأبي قوم آخرون ، وجعل الاَمر يمعن في الفساد بين الاِمام وبينهم ، وأخذوا ينشرون الاِرهاب ، واعمال التخريب ، ويعيثون في الاَرض فساداً ، وقد رحلوا عن الكوفة ،

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 91

وعسكروا في النهروان ، واجتاز عليهم الصحابي الجليل عبدالله بن خباب ابن الاَرت ، وهو من أعلام أصحاب الاِمام فدارت بينه وبينهم أحاديث ، فعمدوا إليه فقتلوه ، وقتلوا معه السيّدة زوجته ، ولم يقف شرّهم عند هذا الحدّ ، وانّما أخذوا يذيعون الذعر والخوف بين المسلمين.
وبعث الاِمام إليهم الحارث بن مرة العبدي ليسألهم عما أحدثوه من الفساد ، فلما انتهى إليهم اجهزوا عليه وقتلوه ، ورأى الاِمام بعد هذا أنّهم يشكّلون خطراً كبيراً على دولته ، وانّهم مصدر فتنة وتخريب بين المسلمين ، وان الواجب يقضي بحربهم فزحف إليهم بجيشه ، ودارت بينه وبينهم معركة رهيبة ، فقتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم إلاّ تسعة(1) وانتهت بذلك حرب النهروان وقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) هذه الحرب ووقف على دوافعها التي كان منها كراهة هؤلاء القوم لعدل الاِمام ، وتفانيه في إقامة الحقّ بين الناس.
ومن الجدير بالذكر أن أبا الفضل العباس ( عليه السلام ) لم يشترك في حرب النهروان ولا في حرب صفين ، فقد منعه الاِمام كما منع بعض أبنائه ، واعلام أصحابه من الدخول في الحرب ضنّاً بهم على الموت ، ومما يدل على ذلك أن الذين كتبوا عن واقعة صفين والنهروان لم يذكروا أيّ دور لسيّدنا العباس فيهما.

النتائج الفظيعة:

وأعقبت حرب الجمل ، وحرب صفّين أسوأ الاَحداث وأقساها

(1) حياة الامام الحسن 1: 358 الطبعة الثالثة.
العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 92

وأشقّها محنة على الاِمام ( عليه السلام ) ومن بينها:
1 ـ التمرّد الكامل في جيش الاِمام فقد أصبحت جميع قطعاته غير مطيعة لاَوامر الاِمام.
لقد شاعت الهزيمة النفسية في جيش الاِمام ، وفقدت قطعاته الروح المعنوية ، وتخاذلت تخاذلاً مطلقاً أمام الاَحداث التي مُني بها.
2 ـ وعمد معاوية بعد معركة صفين إلى تعزيز جيشه وتماسكه ، وقد بثّ فيه روح العزم والاِخلاص ، وقد وثق بالنصر والفتح والتغلّب على جيش الاِمام.
3 ـ وتعرّضت البلاد الاِسلامية الخاضعة لحكم الاِمام لحملات إرهابية عنيفة كانت تشنّها العصابات المجرمة التي يبعثها معاوية لاِشاعة الخوف والذعر فيها ، وقد تعرّضت المناطق القريبة من عاصمة الاِمام لهجمات الاِرهابيين من كلاب معاوية ، والاِمام لم يتمكّن من حمايتها وحفظ الاَمن والاِستقرار فيها فكان يدعو بحرارة جأشه للذبّ عن حياض الوطن ، وحمايته من الاعتداء فلم يستجب له أحد منهم.
4 ـ واحتلّت جيوش معاوية مصر احتلالاً عسكرياً ، وبذلك خرجت عن حكم الاِمام ، وقد أُصيبت حكومة الاِمام بنكسه كبيرة ، ولم تعد بعد هذه الاَحداث إلاّ شكلاً خاوياً في ميدان الحكم.

مصرع الاِمام:

وبقي الاِمام الممتحن في ارباض الكوفة قد أحاطت به المحن والاَزمات يتبع بعضها بعضاً ، يرى باطل معاوية قد استحكم ، وشرّه قد استفحل وهو لايتمكّن أن يقوم بأي عمل لتغيير الاَوضاع الاجتماعية

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 93

المتدهورة المنذرة بأفول دولة الحق ، وإقامة حكومة الظلم والجور.
لقد استوعبت المحن الشاقة التي أحاطت بالاِمام نفسه الشريفة فراح يدعو الله ، ويتوسّل إليه بحرارة أن ينقله إلى جواره ، ويريحه من هذا العالم المليء بالفتن والاَباطيل ، واستجاب الله دعاء الاِمام فقد عقدت عصابة مجرمة من الخوارج مؤتمراً في مكّة ، وأخذوا يذكرون بمزيد من الاَسى والحزن قتلاهم الذين حصدت رؤوسهم سيوف الحق في النهروان ، وعرضوا ما مني به العالم الاِسلامي من الفتن والانشقاق وألقوا تبعة ذلك حسب زعمهم على الاِمام أمير المؤمنين ، ومعاوية وعمرو بن العاص ، فقرّروا القيام باغتيالهم ، وعيّنوا لذلك وقتاً خاصاً ، وضمن لهم ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم اغتيال الامام أمير المؤمنين ، ومن الجدير بالذكر أن مؤتمرهم كان بمرأى ومسمع من السلطة المحلّية بمكّة ، وأكبر الظنّ أنّها كانت على اتصال معهم وان القوى المنحرفة عن الاِمام قد أمدّت ابن ملجم بالمال ليقوم باغتيال الاِمام.
وعلى أيّ حال فقد قفل ابن ملجم راجعاً إلى الكوفة وهو يحمل شرّ أهل الاَرض ، ويحمل الكوارث المدمّرة للمسلمين ، وفور وصوله إلى الكوفة اتصل بعميل الامويين المنافق الاَشعث بن قيس ، وأخبره بمهمته ، فشجّعه على اقتراف الجريمة ، وأبدى له تقديم جميع ألوان المساعدات لتنفيذها.
وفي ليلة التاسع عشر من رمضان شهر الله المبارك اتّجه زعيم الموحّدين وسيّد المتقين نحو مسجد الكوفة ليؤدّي صلاة الصبح ، فأقبل نحو الله ، فشرع في صلاته ، ولما رفع رأسه من السجود علاه ابن اليهودية بالسيف فشقّ رأسه الشريف الذي كان كنزاً من كنوز العلم والحكمة

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 94

والاِيمان ، والذي ما فكّر إلاّ بتوزيع خيرات الله على البؤساء والمحرومين ، وإشاعة الحقّ والعدل بين الناس.
ولمّا أحسّ الاِمام بلذع السيف علت على شفتيه ابتسامة الرضا والظفر ، وراح يقول:
« فزت وربّ الكعبة .. ».
لقد فزت يا إمام المصلحين ، فقد وهبت حياتك لله وجاهدت في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين.
لقد فزت يا إمام المتّقين لاَنّك في طيلة حياتك لم توارب ولم تخادع ولم تداهن ، ومضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بسيّد المرسلين ابن عمّك صلّى الله عليه وعليك ، فكان ذلك حقاً هو الفوز العظيم.
لقد فزت أيّها الاِمام الحكيم لاَنّك خبرت الدنيا ، وعرفتها دار فناء وزوال فطلّقتها ثلاثاً ، وأعرضت عن زينتها ومباهجها واتجهت صوب الله فعملت كل ما يرضيه ، وما يقربك إليه زلفى.
وحُمل الاِمام إلى منزله ، وقد فاضت عيون الناس بالدموع وتقطّعت النفوس ألماً وحزناً ، وكان الاِمام هادىء النفس قرير العين ، قد تعلّق قلبه بالله ، وهام في مناجاته ، وقد سأله مرافقة الاَنبياء والاَوصياء ، وأخذ يلقي نظراته على أولاده ، وخصّ ولده أبا الفضل بالعطف والحنان ، واستشفّ من وراء الغيب انّه ممن يرفع رايه القرآن ، ويقوم بنصرة أخيه ريحانة رسول الله المنافح الاَول عن رسالة الاِسلام.

وصايا خالدة:

ولما شعر الاِمام العظيم بدنّو أجله المحتوم أخذ يوصي أولاده

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 95

بمكارم الاَخلاق ومحاسن الاَعمال ، وأمرهم أن يجسّدوا الاِسلام في سلوكهم واتجاهاتهم ، وفيما يلي بعض بنود وصيّته.
أ ـ التحلّي بتقوى الله التي هي الاَساس في بناء الشخصية الاِسلامية على أساس متكامل من الوعي والازدهار.
ب ـ الالتزام بالحق قولاً وعملاً وبه تصان الحقوق وتسود العدالة الاجتماعية بين الناس.
ج ـ مناجزة الظالم والوقوف في وجهه ، ومناصرة المظلوم ومساعدته ، وفي ذلك إقامة للعدل الذي هو من أهمّ الاَهداف الاَصيلة التي ينشدها الاِسلام.
د ـ السعي في إصلاح ذات البين ، وإزالة البغضاء والكراهيّة بين المتخاصمين وهو من أفضل الاَعمال وأهمّها في الاِسلام لاَن فيه إقامة لمجتمع متطوّر قائم على المحبّة والمودّة.
هـ ـ مراعاة الاَيتام ، والقيام بصلتهم ، ورفع الحاجة عنهم ، وهذا من جملة بنود التكافل الاِسلامي الذي هو من أبدع ما شرّعه الاِسلام في نظامه الاقتصادي.
و ـ الاِحسان إلى الجيران ، والاِغداق عليهم بالبرّ والمعروف لاَنّ فيه إشاعة للمحبّة بين المسلمين ، كما أنّه في نفس الوقت من أهمّ الوسائل في تماسك المجتمع الاِسلامي ووحدته.
ز ـ العمل بما في القرآن الكريم من أحكام وسنن وآداب فانّه خير ضمان لصيانة سلوك الاِنسان المسلم ، وتهذيبه ، ورفع مستواه.
ح ـ إقامة الصلاة في أوقاتها وأدائها على أحسن وجه فانّها عمود

العباس بن علي رائد الكرامة والفداء 96

الدين ومعراج المؤمن ، وهي ترفع الاِنسان إلى مستوى عظيم إذ تشرفه بالاتصال بخالق الكون وواهب الحياة.
ط ـ إحياء المساجد بذكر الله من العبادة والعلم ، وتعتبر المساجد من أهمّ المراكز في إشاعة الآداب والفضائل بين المسلمين.
ي ـ الجهاد في سبيل الله بالاَنفس والاَموال لاِقامة معالم الدين وإحياء السنّة ، وإماتة البدعة.
ك ـ إشاعة المحبّة والمودّة بين المسلمين ، وذلك بالتواصل والتوادد وترك التدابر والتقاطع ، وغير ذلك مما يؤدّي إلى فصم عرى الوحدة بينهم.
ل ـ إقامة الاَمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر لاَنّه مما يؤدّي إلى إقامة مجتمع سليم تسوده العدالة ، أما ترك ذلك فان له من المضاعفات السيّئة التي توجب ارتطام المجتمع بالفتن والبلاء كتولية الفساق والاَشرار لشؤونه ، وعدم استجابة الدعاء من أفراده.
هذه بعض الوصايا الخالدة التي أدلى بها الاِمام العظيم ، وهو على فراش الموت(1).

إلى جنّة المأوى:

وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الاِمام ( عليه السلام ) من جرّاء الضربة الغادرة التي عمّمه فيها ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم ، وأخذ الموت يدنوا إليه سريعاً سريعاً ، وقد استقبل إمام المتّقين الموت بثغر باسم ، ونفس آمنة مطمئنّة متعطّشة إلى لقاء الله راضية بقضائه وقدره ، وكان لا يفترّ لحظة

(1) يلاحظ نهج البلاغة فقد حفل بهذه الوصايا القيّمة.

السابق السابق الفهرس التالي التالي