الملهوف على قتلى الطفوف 204

قال الراوي (82) : فغضب ابن زياد وقال : من هذا المتكلم ؟
فقال : أنا المتكلم يا عدو الله ، أتقتل الذرية الطاهرة التي قد أذهب الله عنها الرجس (83) ، وتزعم أنك على دين الإسلام .
وا غوثاه ، أين أولاد المهاجرين والأنصار ينتقمون (84) منك ومن طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمد رسول رب العالمين ؟
قال الراوي (85) : فازاداد غضب ابن زياد لعنه الله ، حتى انتفخت اوداجه وقال : علي به ، فتبادرت الجلاوزة (86) من كل ناحية ليأخذوه ، فقامت الأشراف من الأزد من بني عمه ، فخلصوه من أيدي الجلاوزة وأخرجوه من باب المسجد وانطلقوا به إلى منزله .
فقال ابن زياد : اذهبوا إلى هذا الأعمى ـ أعمى الأزد ، أعمى الله قلبه كما أعمى عينه ـ فأتوني به .
قال : فانطلقوا إليه ، فلما بلغ ذلك الأزد اجتمعوا واجتمعت معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم .
قال : وبلغ ذلك ابن زياد فجمع قبائل مضر وضمهم إلى محمد بن الأشعث وأمرهم بقتال القوم .
قال الراوي (87) : فاقتتلوا قتالاً شديداً ، حتى قتل بينهم جماعة من العرب .

(82) الراوي ، من ع .
(83) ر :... ذرية الطاهرة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . والمثبت من ب . ع .
(84) ع : لينتقمون .
(85) الراوي ، من ع .
(86) ب : فبادر إليه الجلاوزة .
(87) الراوي ، من ع .
الملهوف على قتلى الطفوف 205

قال : وصل أصحاب ابن زياد لعنه الله إلى دار(88) عبد الله بن عفيف ، فكسروا الباب واقتحموا عليه .
فصاحت ابنته : أتاك القوم من حيث تحذر .
فقال : لا عليك ناوليني سيفي ، فناولته إياه ، فجعل يذب عن نفسه ويقول :
أنا أبن ذي الفضل عفيف الطاهر عفيف شيخي وابن أم عامر
كــم دارع من جمعكم وحاسر وبطل جدلته مغــاور(89)

قال : وجعلت ابنته تقول : يا ابت ليتني كنت رجلاً أخاصم بين يديك هؤلاء القوم الفجرة(90) ، قاتلي العترة البررة .
قال : وجعل القوم يدورون عليه من كل جهة ، وهو يذب عن نفسه وليس (91) يقدر عليه أحد ، وكلما جاؤوه من جهة قالت : يا أبت جاؤوك من جهة كذا ، حتى تكاثروا عليه وأحاطوا به .
فقالت ابنته : وا ذلاه يحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به .
فجعل يدير سيفه ويقول :
أقسم لو يفسح لي عن بصري ضاق عليكم موردي ومصدري

قال الراوي(92) : فما زالوا به حتى أخذوه ، ثم حمل فأدخل على ابن زياد .
فلما رآه قال : الحمد لله الذي أخزاك .

(88) دار ، لم يرد في ر .
(89) ر : جندلته مغاور . ب : جدلته مغادر .
(90) ب : أخاصم بين يديك اليوم هؤلاء الفجرة .
(91) ب . ع : فلم .
(92) الراوي ، من ع .
الملهوف على قتلى الطفوف 206

فقال له عبد الله بن عفيف : يا عدو الله ، بماذا أخزاني الله (93) .
أقسم لو يفسح لي عن بصري ضاق عليكم موردي ومصدري(94)

فقال له ابن زياد : ماذا تقول يا عبد الله في أميرالمؤمنين عثمان بن عفان(95) ؟
فقال : يا عبد بني علاج ، يا بن مرجانة ـ وشتمه(96) ـ ما أنت وعثمان بن عفان أساء أم أحسن (97) ، وأصلح أم أفسد ، والله تعالى ولي خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل(98) والحق ، ولكن سلني عنك وعن أبيك وعن يزيد وأبيه .
فقال ابن زياد : والله لا سألتك عن شيء أو تذوق الموت غصة بعد غصة .
فقال عبد الله بن عفيف : الحمد لله رب العالمين ، أما أني قد كنت أسأل الله ربي أن يرزقني الشهادة من قبل أن تلدك أمك ، وسألت الله أن يجعل ذلك على يدي العن خلقه وأبغضهم إليه ، فلما كف بصري يئست من الشهادة ، والآن فالحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها ، وعرفني الإجابة بمنه(99) في قديم دعائي .

(93) جاء بعد هذا في نسخة ر كلمة شعر .
(94) ب . ع :
والله لو فرج لي عن بصري ضاق عليك موردي ومصدري
(95) ب . ع : فقال ابن زياد : يا عدو الله ما تقول في عثمان بن عفان .
وعثمان هو : ابن عفان بن أبي العاص بن أمية ، أسلم بعد البعثة ، صارت إليه الخلافة بعد موت عمر سنة 23 هـ ، نقم عليه الناس اختصاصه أقاربه من بني أمية بالولايات والأعمال وتقسيم الأموال الكثيرة بينهم ، فحصروه في داره وقتلوه سنة 35 هـ .
ابن الأثير حوادث سنة 35 ، شرح نهج البلاغة 2 | 61 ، البدء والتاريخ 5 | 79 ، الأعلام 4 | 210 .
(96) لفظة : وشتمه ، لم ترد في ر .
(97) ب : ما أنت وعثمان إن أساء أم أحسن .
(98) ر : والله علي ولي خلقه يقضي بينهم بالعدل .
(99) ب . ع : منه .
الملهوف على قتلى الطفوف 207

فقال ابن زياد : اضربوا عنقه ، فضربت عنقه وصلب في السبخة(100) .
قال الراوي (101) : وكتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بقتل الحسين وخبر أهل بيته ، وكتب أيضاً إلى عمرو بن سعيد بن العاص(102) أمير المدينة بمثل ذلك .
فأما عمرو ، فحين وصله الخبر صعد المنبر وخطب الناس وأعلمهم ذلك ، فعظمت واعية بني هاشم ، وأقاموا سنن المصائب والمآتم ، وكانت زينب بنت عقيل بن أبي طالب (103) تندب (104) الحسين (عليه السلام) وتقول :
ماذا تقولــون إذ قال النبي لكم ماذا فعلتمو أنتـم آخــر الأمم
بعترتي وبأهلي بعـــد مفتقدي منهم أسارى ومنهم ضرجوا بـدم
ماكان هذا جزائي إذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

(100) في معجم البلدان 3 | 30 : السبخة بالتحريك واحدة السباخ : الأرض الملح النازة ، موضع بالبصرة ... والسبخة من قرى البحرين .
أقول : لم أجد في كتب البلدان واللغة من ذكر أن السبخة موضع بالكوفة ، ولكن يوجد موضع بين مسجد السهلة ومسجد الكوفة كان يعرف بين الناس بالسبخة ، وقيل : المراد بالسبخة هنا : الكناسة .
(101) الراوي ، من ع .
(102) عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي ،كان والي مكة والمدينة لمعاوية وابنه يزيد ، وقدم الشام ، فلما طلب مروان بن الحكم الخلافة عاضده عمرو ، فجعل له ولاية العهد بعد ابنه عبد الملك ، ولما ولي عبد الملك أراد خلعه من ولاية العهد ، فنفر عمرو ، ولم يزل عبد الملك يتربص به حتى تمكن منه فقتله سنة 70 هـ .
الإصابة ترجمة رقم 6850 ، فوات الوفيات 2 | 118 ، تهذيب التهذيب 8 | 37 ، الأعلام 4 | 78 .
(103) في أنساب الأشراف صفحة 221 : كانت زينب هذه عند علي بن يزيد بن ركانة من بني المطلب بن عبد مناف ، فولدت له ولداً ، منهم عبدة ولدت وهب بن وهب أبا البختري القاضي .
(104) ر : تندب على .
الملهوف على قتلى الطفوف 208

قال : فلما جاء الليل سمع أهل المدينة هاتفاً ينادي ويقول :
أيها القاتلون ظلمـــاً حسينـــا ابشروا بـــالعذاب والتنكيـــل
كل من في السماء يبكــي عليــه مــن نبي وشاهــد ورسول(105)
قد لعنتم على لسـان ابــــن داود وموسى وصـــاحب الإنجيــل

وأما يزيد بن معاوية ، فإنه لما وصل إليه كتاب ابن زياد ووقف عليه ، أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين (عليه السلام) ورؤوس من قتل معه ، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله .
فاستدعى ابن زياد بمحفر بن ثعلبة العائذي (106) ، فسلم إليه الرؤوس والأسارى والنساء ، فسار بهم محفر إلى الشام كما يسار بسبايا الكفار ، يتصفح وجوههن أهل الأقطار .
روى ابن لهيعة (107) وغيره حديثنا أخذنا منه موضع الحاجة ، قال : كنت أطوف بالبيت ، فإذا أنا برجل يقول : اللهم اغفر لي وما أراك فاعلاً .

(105) ع :
أيها القاتلون جهلا ًحسيناً ابشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عليكم من نبي ومالك وقبيل
(106) اختلفت النسخ والمصادر في ضبطه اسمه ، فالمثبت من ع . وفي ر : مجفر ، وفي ب : مخفر .
وهو محفر بن ثعلب بن مرة بن خالد ، من بني عائذة ، من خزيمة بن لؤي ، من رجال بني أمية في صدر دولتهم .
نسب قريش: 441 وفيه : مخفر ، جمهرة الانساب: 165 ، الأعلام 5 | 291 .
(107) ر . ع : فروى ابن لهيعة ، والمثبت من ب .
وابن لهيعة : عبد الله بن لهيعة بن فرعان الحضرمي المصري ، ابوعبد الرحمن ، محدث مصر وقاضيها ، ومن كتاب للحديث والجماعين للعلم والراحلين فيه ، توفي بالقاهرة سنة 174 هـ .
الولاة والقضاة 368 ، النجوم الزاهرة 2/ 77 ، ميزان الاعتدال 2: 64 ، الأعلام 4 : 115 .
الملهوف على قتلى الطفوف 109

فقلت له : يا عبد الله اتق الله ولا تقل مثل هذا ، فان ذنوبك لو كانت مثل قطر الأمصار وورق الأشجار فاستغفرت الله غفرها لك ، إنه غفور رحيم .
قال : فقال لي : أدن مني حتى أخبرك بقصتي ، فأتيته ، فقال : إعلم أننا كنا خمسين نفراً ممن سار مع رأس الحسين إلى الشام ، فكنا إذا أمسينا وضعنا الرأس في تابوت وشربنا الخمر حول التابوت ، فشرب أصحابي ليلة حتى سكروا ، ولم أشرب معهم . فلما جن الليل سمعت رعداً ورأيت برقاً ، فإذا أبواب السماء قد فتحت ، ونزل آدم ونوح وابراهيم وإسحاق وإسماعيل ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين ، ومعهم جبرئيل وخلق من الملائكة .
فدنا جبرئيل من التابوت ، فأخرج الرأس وضمه إلى نفسه وقبله ، ثم كذلك فعل الأنبياء كلهم ، وبكى النبي صلى الله عليه وآله على رأس الحسين وعزاه الأنبياء .
وقال له جبرئيل : يا محمد ، إن الله تعالى أمرني أن أطيعك في أمتك ، فان أمرتني زلزلت الأرض بهم ، وجعلت عاليها سافلها كما فعلت بقوم لوط .
فقال النبي صلى الله عليه وآله : لا يا جبرئيل ، فإن لهم معي موقفاً بين يدي الله يوم القيامة .
ثم جاء الملائكة نحونا ليقتلونا .
فقلت : الأمان يا رسول الله .
فقال : اذهب ، فلا غفر الله لك(108)(109) .

(108) ب : فان لهم معي موقفاً بين يدي الله يوم القيامة ، قال : ثم صلوا عليه ، ثم أتى قوم من الملائكة وقالوا : إن الله تبارك وتعالى أمرنا بقتل الخمسين ، فقال لهم النبي : شأنكم بهم ، فجعلوا يضربون بالحربات ، ثم قصدني واحد منهم بحربته ليضربني ، فقلت : الأمان الأمان يا رسول الله ، فقال : اذهب لا غفر الله لك ، فلما اصبحت رأيت أصحابي كلهم جاثمين رماداً .
(109) جاء بعد هذا في نسخة ع :

=

الملهوف على قتلى الطفوف 110

قال الراوي(110) : وسار القوم برأس الحسين (عليه السلام) ونسائه والأسرى (111) من رجاله ، فلما قربوا من دمشق دنت أم كلثوم من الشمر ـ وكان من جملتهم(112) ـ فقالت : لي إليك حاجة .
فقال : وما حاجتك ؟
قالت إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل الناظرة ، وتقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنا ، فقد خزينا من كثرة النظر(113) إلينا ونحن في هذه الحال .
فأمر في جواب سؤالها : أن تجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل ـ بغياً منه وكفراً ـ وسلك بهم بين النظارة على تلك الصفة ، حتى أتى بهم إلى باب دمشق ، فوقفوا على درج(114) باب المسجد الجامع حيث يقام السبي .
وروي(115) أن بعض التابعين لما شاهد رأس الحسين (عليه السلام) بالشام أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه ، فلما وجدوه بعد إذ فقدوه سألوه عن سبب ذلك ، فقال :

=

ورأيت في تذييل محمد بن النجار شيخ المحدثين ببغداد ، في ترجمة علي بن نصر الشبوكي ، باسناده زيادة في هذا الحديث ما هذا لفظه : قال : لما قتل الحسين بن علي وحملوا برأسه جلسوا يشربون ويجيء بعضهم بعضاً برأس ، فخرجت يد وكتبت بقلم الحديد على الحائط :
أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحساب
قال : فلما سمعوا بذلك تركوا الرأس وهزموا .
(110) الراوي ، من ع .
(111) ر : والأسارى . والمثبت من ب .ع .
(112) ر : وكانت في جملتهم ، والمثبت من ب . ع .
(113) ر : الناظر .
(114) درج ، لم يرد في ر .
(115) ب . ع : فروي .
الملهوف على قتلى الطفوف 211

ألا ترون ما نزل بنا ، ثم أنشأ يقول :
جاؤوا برأسك يا بــن بنت محمد متزملاً بدمائـــه تزميـــلا (116)
وكأنما بك يا بـــن بنت محمـد(117) قتلوا جهاراً عامديــن رســولا
قتلوك عطشاناً ولمـــا يرقبـوا في قتلك التنزيـــل والتأويــلا
ويكبرون بــــأن قتلت وإنمــا قتلو بك التكبيــر والتهليــــلا

قال الراوي (118) : جاء شيخ ، فدنا من نساء الحسين (عليه السلام) وعياله ـ وهم في ذلك الموضع ـ وقال (119) : الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم !!!
فقال له علي بن الحسين عليهما السلام : « يا شيخ ، هل قرأت القرآن ؟ » .
قال نعم .
قال : « فهل عرفت هذه الآية : «قل لا أسألكم عليه أجراً إلى المودة في القربى» (120 ) ؟
قال الشيخ : قد قرأت ذلك .
فقال له علي (عليه السلام) : « نحن (121) القربى يا شيخ ، فهل قرأت في بني إسرائيل :

(116) ع : مترملاً بدمائه ترميلاً .
(117) ب :
جاؤوا برأسك يا بن بنت محمد قتلوا جهــاراً عامدين رسولا
قتلوك عطشانــاً ولما يرقبوا في قتلك التأويــل والتنزيلا
ويكبرون بـان قتلت وإنمــا قتلوا بك التكبيــر والتهليلا
(118) الراوي ، من ع .
(119) ب : وعياله أقيموا على درج باب المسجد ، فقال ...
(120) الشورى 42 | 23 .
(121) ب . ع : فنحن .
الملهوف على قتلى الطفوف 212

«وآت ذا القربى حقه» ؟ (122)
فقال الشيخ : قد قرأت ذلك .
فقال : « فنحن القربى يا شيخ ، فهل قرأت هذه الآية : «واعلموا أنما غنمتم من شيء فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى»؟ ( 123) .
قال : نعم .
فقال (عليه السلام) : « فنحن القربى (124) يا شيخ ، وهل (125) قرأت هذه الآية : «إنما يريد الله ليذهب عنك الرجس أهل البيت ويطهرك تطهيرا» ؟( 126) .
قال الشيخ : قد قرأت ذلك .
فقال (عليه السلام) : « نحن أهل البيت الذين خصنا الله بآية الطهارة يا شيخ » .
قال الراوي (127) : بقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلم به ، وقال تالله (128) إنكم هم ؟!
فقال علي بن الحسين عليهما السلام : « تالله (129) إنا لنحن هم من غير شك ، وحق جدنا رسول الله صلى الله عليه وآله إنا لنحن هم » .
قال : فبكى الشيخ ورمى عمامته ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إني

(122) الأسراء 17 | 26 .
(123) الأنفال 8 | 41 .
(124) ر : نحن أهل القربى .
(125) ر : ولكن هل . والمثبت من ب .
(126) الأحزاب 33 | 33 .
(127) الراوي ، من ع .
(128) ب . ع : بالله .
(129) ر : وبالله .
الملهوف على قتلى الطفوف 213

أبرء إليك من عدو آل محمد صلى الله عليه وآله من الجن والإنس .
ثم قال : هل لي من توبة ؟
فقال له : « نعم ، إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا » .
فقال : أنا تائب .

فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ ، فأمر به فقتل .
قال الراوي(130) : ثم أدخل ثقل الحسين (عليه السلام) ونساؤه ومن تخلف من أهله على يزيد ، وهم مقرنون(131) في الحبال .
فلما وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال قال له علي بن الحسين عليهما السلام : « أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو رآنا على هذه الصفة(132) » ، فأمر يزيد بالحبال فقطعت .
ثم وضع رأس الحسين (عليه السلام) بين يديه ، وأجلس النساء خلفه لئلا ينظرن إليه ، فرآه علي بن الحسين (عليه السلام) فلم يأكل الرؤوس بعد ذلك أبداً .

وأما زينب ، فإنها لما رأته أهوت إلى جيبها فشقته ، ثم نادت بصوت حزين يقرح القلوب : يا حسيناه ، يا حبيب رسول الله ، يا بن مكة ومنى ، يا بن فاطمة الزهراء سيدة النساء ، يا بن بنت المصطفى .
قال الراوي(133) : فأبكت والله كل من كان حاضراً في المجلس ، ويزيد ساكت .
ثم جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسين (عليه السلام) وتنادي :

(130) قال الراوي ، لم يرد في ر .
(131) ر : مقرنين ، بدلاً من : وهم مقرنون .
(132) ب : الحالة .
(133) الراوي ، من ع .
الملهوف على قتلى الطفوف 214

يا حسيناه ، يا حبيباه ، يا سيداه ، يا سيد أهل بيتاه ، يا بن محمداه ، يا ربيع الأرامل واليتامى ، يا قتيل أولاد الأدعياء .
قال الراوي(134) : فأبكت كل من سمعها .
قال : ثم دعا يزيد بقضيب خيزران ، فجعل ينكث به ثنايا الحسين (عليه السلام) .
فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي(135) وقال : ويحك يا يزيد ، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين (عليه السلام) ابن فاطمة ؟! أشهد لقد رأيت النبي صلى الله عليه وآله يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول : أنتما سيدا شباب أهل الجنة ، قتل الله قاتليكما ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيراً .
قال الراوي(136) : فغضب يزيد وأمر بإخراجه ، فأخرج سحباً .

قال : وجعل يزيد لعنه الله ليتمثل بأبيات ابن الزبعري(137) ويقول :
ليــت أشياخـــي ببدر شهـــدوا جــزع (138) الخــزرج من وقع الأسل
فأهلوا(139) واستهلــــوا فرحـــاً ثم قالوا : يــــا يزيــــد لا تشـل
قــــد قتلنا القرم مــن ساداتهــم وعــدلنــاه ببــدر فـــــاعتدل

(134) الراوي ، من ع .
(135) فضلة بن عبيد بن الحارث الأسلمي ،غلبت عليه كنيته ، اختلف في اسمه ، صحابي ، من سكان المدينة ثم البصرة ، شهد مع علي (عليه السلام) النهروان ، مات بخراسان سنة 65 هـ .
تهذيب التهذيب : 10 | 446 ، الإصابة ترجمة رقم 8718 ، الأعلام 8 | 33 .
(136) الراوي ، من ع .
(137) عبد الله بن الزبعري بن قيس السهمي القرشي ، أبوسعد ، شاعر قريش في الجاهلية ، كان شديداً علىالمسلمين ، إلى أن فتحت مكة فهرب إلى نجران ، مات سنة 15 هـ .
الأعلام 4 | 87 ، وراجع من ذكره من مصادر ترجمته .
(138) ر : وقعة . والمثبت من ع .
(139) ع : لأهلوا .
الملهوف على قتلى الطفوف 215

لعبت هاشم بــــالملك فلا خبر جــــاء ولا وحي نزل
لست مــن خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل(140)

قال الراوي(141) : فقامت زينب ابنت علي (عليه السلام) وقالت(142) :
الحمد لله رب العاليمن ، وصلى الله على محمد(143) وآله أجمعين ، صدق الله كذلك يقول : ثم «كان عاقبة الذين أساؤا السؤى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون»(144) ، أظننت يا يزيد ـ حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء(145) ـ أن بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة !! وأن ذلك لعظيم خطرك عنده !! فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك(146) ، جذلاً(147) مسروراً ،حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والأمور متسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله عزوجل :«ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين»(148) .
أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك إماءك ونساءك وسوقك(149) بنات رسول

(140) البيتين الأخيرين لم يردا في ر ، ووردا في ع .
(141) الراوي ، من ع .
(142) ب . ع : بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) . فقالت .
(143) ب . ع : رسوله .
(144) الروم 30 | 10 .
(145) ب : الأسارى . ع : الأسراء . والمثبت من ر .
(146) ر : ونظرت إلى فيء عطفك .
(147) ب . ع : جذلان .
(148) آل عمران 3 | 178 .
(149) ب . ع : تحديرك حرائرك وإماءك وسوقك .
الملهوف على قتلى الطفوف 216

الله سبايا ؟‍‍‍‍‍‍‍‍!، قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهن(150) أهل المنازل والمناهل (151) ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والدني والشريف ، ليس معهن من رجالهن ولي ، ولا من حماتهن حمي .
وكيف ترتجى مراقبة من (152) لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه بدماء الشهداء ؟!
وكيف يستظل في ظلمنا(153) أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان ؟!
ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم :
فأهلوا (154) واستهلوا فرحاً ثم قالوا : يا يزيد لا تشل

منتحياً (155) على ثنايا أبي عبد الله (عليه السلام) سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك .
وكيف لا تقول ذلك ، وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وآله ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ؟! وتهتف بأشياخك ، زعمت أنك تناديهم !
فلتردن وشيكاً موردهم ، ولتودن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت

(150) ر : ويتشرفهن .
(151) ب . ر : المناهل والمناقل .
(152) ر : وكيف ترجو مراقبة ابن من .
(153) ب : وكيف يستبطأ في بغضنا . ع : وكيف ويستبطأ في بغضاء .
(154) ب : وأهلوا .ع : لا هلوا .
(155) ر : متخنيا .
الملهوف على قتلى الطفوف 217

وفعلت ما فعلت .
اللهم خذ بحقنا ، وانتقم ممن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن(156) سفك دماءنا وقتل حماتنا .
فوالله ما فريت إلا جلدك ، ولاحززت (157) إلا لحمك ، ولتردن على رسول الله صلىالله عليه وآله بما تحملت من سفك دماء ذريته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، وحيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم ، ويأخذ بحقهم« ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون» .
وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمد صلى الله عليه وآله خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ، وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً وأيكم شر مكاناً وأضعف جنداً .
ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك ، أني لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، واستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرى .
ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباءبحزب الشيطان الطلقاء ، فهذه الأيدي تنضح(158) من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تتناهبها(159) العواسل وتعفوها أمهات الفراعل ، ولئن أتخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك ، وما ربك بظلام للعبيد ، فإلى الله المشتكى ، وعليه المعول .

(156) ر : واحلل غضبنا على من .
(157) ب : ولا جززت .
(158) ب . ع : تنطف .
(159) ب . ع : تنتابها .
الملهوف على قتلى الطفوف 218

فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب (160) جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها .
وهل رأيك إلا فندا ، وأيامك إلا عددا ، وجمعك إلا بددا ، يوم ينادي المناد : ألا لعنة الله على الظالمين .

فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة .
ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة ، إنه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
فقال يزيد لعنه الله :
يا صيحة تحمد من صوائح ما أهون الموت على النوائح

قال الراوي : ثم استشار أهل الشام فيما يصنع بهم .
فقالوا : لا تتخذ من كلب سوء جروا .
فقال له النعمان بن بشير : أنظر ما كان الرسول يصنع بهم فاصنعه بهم .
ونظر رجل من أهل الشام إلى فاطمة ابنت الحسين (عليه السلام) ، فقال : يا أميرالمؤمنين هب لي هذه الجارية .
فقالت فاطمة لعمتها: يا عمتاه أيتمت وأستخدم ؟(161)
فقالت زينب : لا ، ولا كرامة لهذا الفاسق .
فقال الشامي : من هذه الجارية ؟
فقال له يزيد لعنه الله : هذه فاطمة ابنت الحسين ، وتلك عمتها زينب ابنت علي .
فقال الشامي : الحسين بن فاطمة وعلي بن أبي طالب !!

(160) ر : واجهد .
(161) ر : واستخدمت . والمثبت من ع .

السابق السابق الفهرس التالي التالي