الملهوف على قتلى الطفوف 219

قال : نعم .
فقال الشامي : لعنك الله يا يزيد ، تقتل عترة نبيك وتسبي ذريته ، والله ما توهمت إلا أنهم سبي الروم(162) .
فقال يزيد : والله لألحقنك بهم ، ثم أمر به فضرب عنقه .
قال الراوي(163) : ودعا يزيد لعنه الله بالخاطب ، وأمره أن يصعد المنبر فيذم الحسين وأباه صلوات الله عليهما ، فصعد ، وبالغ في ذم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسين الشهيد ، والمدح لمعاوية ويزيد .
فصاح به علي بن الحسين (عليه السلام) : « ويلك أيها الخاطب ، اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوأ مقعدك من النار » .
ولقد أحسن ابن سنان الخفاجي(164) في وصف أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وأولاده ، حيث يقول :
أعلى المنابر تعلنون بسبه وبسيفه نصبت لكم أعوادها

قال الراوي(165) : ووعد يزيد لعنه الله علي بن الحسين عليهما السلام في ذلك اليوم أنه يقضي له ثلاث حاجات .
ثم أمر بهم إلى منزل لا يكنهم من حر ولا بردٍ ، فأقاموا فيه حتى تقشرت وجوههم ، وكانوا مدة مقامهم في البلد المشار اليه ينحون على الحسين (عليه السلام) .

(162) ر : سبي ترك الروم .
(163) الراوي ، من ع .
(164) عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان ، أبو محمد الخفاجي الحلبي ، شاعر ، أخذ الأدب عن أبي العلاء وغيره ، مات بالسم سنة 466 هـ .
الأعلام 4 | 122 ، وذكر من مصادر ترجمته : فوات الوفيات 1 | 233 ، النجوم الزاهرة 5 | 96 .
(165) الراوي ، من ع .
الملهوف على قتلى الطفوف 220

قالت سكينة : فلما كان في اليوم الرابع من مقامنا رأيت في المنام ، وذكرت مناماً طويلاً تقول في آخره : ورأيت امرأة راكبة في هودج ويدها موضوعة على رأسها ، فسألت عنها ، فقيل لي : فاطمة ابنت محمد أم أبيك .
فقلت : والله لأنطلقن إليها ولأخبرنها ما صنع بنا ، فسعيت مبادرة نحوها ، حتى لحقت بها ووقفت بين يديها أبكي وأقول :
يا أمتاه جحدوا والله حقنا ، يا أمتاه بددوا والله شملنا ، يا أمتاه استباحوا والله حريمنا ، يا أمتاه قتلوا والله الحسين أبانا .
فقالت لي : كفي صوتك يا سكينة ، فقد قطعت نياط قلبي ، وأقرحت كبدي ، هذا قميص أبيك الحسين لا يفارقني حتى ألقى الله به .
وروى ابن لهيعة ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن(166) قال : لقيني رأس الجالوت (167) فقال : والله ، إن بيني وبين داود (عليه السلام) سبعين(168) أباً ، وإن اليهود تلقاني فتعظمني ، وأنتم ليس بينكم وبين نبيكم إلا أب واحد قتلتم ولده(169) .

وروي عن زين العابدين (عليه السلام) أنه قال : « لما أتوا برأس الحسين (عليه السلام) إلى يزيد لعنه الله ، كان يتخذ مجالس الشرب ، ويأتي برأس الحسين (عليه السلام) ويضعه بين يديه

(166) أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود بن نوفل القرشي الأسدي ، نزل مصر وحدث بها كتاب المغازي لعروة بن الزبير ، روى عن علي بن الحسين والنعمان بن أبي عياش وطائفة ، وروى عنه حبوة بن شريح ومالك بن أنس وآخرون ، مات سنة بضع وثلاثين ومائة .
سيرة أعلام النبلاء 6 | 150 ترجمة رقم 62 .
(167) لم يذكروه .
(168) ب . ع : السبعين .
(169) ب : وأنتم ليس بينكم وبين ابن نبيكم إلا أب واحد قتلتموه . ع : وأنتم ليس بين ابن نبيكم وبينه إلا أب واحد قتلتم ولده .
الملهوف على قتلى الطفوف 221

ويشرب عليه .
فحضر ذات يوم في مجلسه رسول ملك الرم ، وكان من أشراف الروم وعظمائهم ، فقال : يا ملك العرب ، هذا رأس من ؟
فقال له يزيد : مالك ولهذا الرأس ؟
فقال : إني إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كل شيء رأيته ، فأحببت أن أخبره بقصة هذا الرأس وصاحبه ، حتى يشاركك في الفرح والسرور .
فقال له يزيد لعنه الله : هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب .
فقال الرومي : ومن أمه ؟
فقال : فاطمة ابنت رسول الله .
فقال النصراني : أف لك ولدينك ، لي دين أحسن من دينك ، إن أبي من حوافد داود (عليه السلام) ، وبيني وبينه آباء كثيرة ، والنصارى يعظمونني ويأخذون من تراب أقدامي تبركاً بي بأني من حوافد داود (عليه السلام) ، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيكم ، وليس بينه وبين نبيكم إلاأم واحدة ، فأي دين دينكم ؟!!
ثم قال ليزيد : هل سمعت حديث كنيسة الحافر ؟
فقال له : قل حتى أسمع .
فقال : إن بين عمان(170) والصين (171) بحر مسيره ستة أشهر(172) ليس فيها

(170) بضم أوله وتخفيف ثانيه وآخره نون ، اسم كورة عربية على ساحل بحر اليمن والهند ... وأكثر أهلها خوارج أباضية ... وأهل البحرين بالقرب منهم بضدهم .
وعمان : بالفتح ثم التشديد : بلد في طرف الشام ، وكانت قصبة أرض البلقاء ...
معجم البلدان 4 | 150 ـ 151 .
(171) الصين بالكسر وآخره نون : بلاد في بحر المشرق ، مايله إلى الجنوب ، وشماليها الترك .
معجم البلدان 3 | 444 .
(172) ب . ع : مسيرة سنة .
الملهوف على قتلى الطفوف 222

عمران إلا بلدة واحدة في وسط الماء ، طولها ثمانون فرسخاً في ثمانين فرسخاً ، ما على وجه الأرض بلدة أكبر منها ، ومنها يحمل الكافور والياقوت ، أشجارهم العود والعنبر ، وهي في أيدي النصارى ، لا ملك لأحد من الملوك فيها سواهم ، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة ، أعظمها كنيسة تسمى كنيسة الحافر ، في محرابها حقة ذهب معلقة ، فيها حافر يقولون : إنه حافر حمار كان يركبه عيسى(173) ، وقد زينوا حول الحقة بالذهب والديباج ، يقصدها في كل عام عالم من النصارى ، ويطوفون حولها ويقبلونها ويرفعون حوائجهم إلى الله تعالى عندها(174) ، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار يزعمون أنه حافر حمار كان يركبه عيسى نبيهم ، وأنتم تقتلون ابن ابنت نبيكم ، فلا بارك الله فيكم ولا في دينكم .
فقال يزيد : اقتلوا هذا النصراني لئلا يفضحني في بلاده .
فلما احس اليصراني بذلك ، قال له : أتريد أن تقتلني ؟
قال: نعم .
قال : إعلم أني رأيت البارحة نبيكم في المنام يقول : يا نصراني أنت من أهل الجنة ، فتعجبت من كلامه ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
ثم وثب إلى رأس الحسين (عليه السلام) ، وضمه إلى صدره وجعل يقبله ويبكي حتى قتل » .
قال : وخرج زين العابدين (عليه السلام) يوماً يمشي في أسواق دمشق ، فاستقبله المنهال بن عمرو(175) ، فقال : كيف أمسيت يا بن رسول الله ؟

(173) ر : نبيهم عيسى .
(174) عندها ، من ع .
(175) في ر : المنهال بن عمر .
وهو : المنهال بن عمرو الأسدي ، عده الشيخ بهذا العنوان تارة في أصحاب الحسين (عليه السلام) ،

=

الملهوف على قتلى الطفوف 223

قال : « أمسينا كمثل بني اسرائيل في آل فرعون ، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم .
يا منهال أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمداً عربي ، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمداً منها ، وأمسينا معشر أهل بيته ونحن مغصبون مقتلون مشردون ، فإنا لله وانا إليه راجعون مما أمسينا فيه يا منهال » .
ولله در مهيار (176) حيث يقول :
يعظمون له أعواد منبره وتحت أقدامهم أولاده وضعوا
بأي حكم بنوه يتبعونكم وفخركم أنكم صحب له تبع

ودعا يزيد يوماً بعلي بن الحسين عليهما السلام وعمرو بن الحسن (177) ، وكان عمرو صغيراً يقال : إن عمره إحدى عشرة سنة .

=
وأخرى في أصحاب علي بن الحسين (عليه السلام) ، وعده بزيادة كلمة مولاهم في أصحاب الباقر (عليه السلام) ، وعده في أصحاب الصادق (عليه السلام) أيضاً قائلاً : المنهال بن عمرو الأسدي مولاهم كوفي ، روى عن علي ابن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد الله عليهم السلام .
وعده البرقي في أصحاب علي ابن الحسين (عليه السلام) .
روى عن الاصبغ ، وروى عنه علي بن عباس ...
معجم رجال الحديث 19 | 8 .
(176) مهايار بن مرزويه ، أبو الحسن أو أبو الحسين ، الديلمي ، شاعر كبير ، في معانيه ابتكار وفي اسلوبه قوة ، فارسي الأصل ، من أهل بغداد ، أسلم على يد الشريف الرضي ، وهو شيخه وعليه تخرج في الشعر والأدب ، توفي في بغداد سنة 428 هـ .
الأعلام 7 | 317 ، وذكر من مصادر ترجمته : تاريخ بغداد 13 | 276 ، المنتظم 8 | 94 ، البداية والنهاية 12 | 41 ، وغيرها .
(177) ع : الحسين .
ومرت ترجمته في هامش رقم(11) من هذا الفصل .
الملهوف على قتلى الطفوف 224

فقال له : أتصارع هذا ، يعني ابنه خالداً (178) ؟
فقال له عمرو : لا ، ولكن أعطني سكيناً وأعطه سكيناً ، ثم أقاتله .
فقال يزيد لعنه الله :
شنشنة أعرفها من أخزم هل تلد الحية إلا الحية

وقال لعلي بن الحسين (عليه السلام) : أذكر حاجتك الثلاث التي وعدتك بقضائهن ؟
فقال له :
« الأولى : أن تريني وجه سيدي ومولاي الحسين فأتزود منه وأنظر إليه وأودعه .
والثانية : أن ترد علينا ما أخذ منا .
والثالثة : إن كنت عزمت على قتلي أن توجه مع هؤلاء النسوة من يردهن إلى حرم جدهن صلى الله عليه وآله » .
فقال : أما وجه أبيك فلن تراه أبداً ، وأما قتلك فقد عفوت عنك ، وأما النساء فلا يردهن إلى المدينة غيرك ، وأما ما أخذ منكم فإني أعوضكم عنه أضعاف قيمته .
فقال (عليه السلام) : « أما مالك فلا نريده ، وهو موفر عليك ، وإنما طلبت ما أخذ منا ، لأن فيه مغزل فاطمة بنت محمد ومقنعتها وقلادتها وقميصها » .
فأمر برد ذلك ، وزاد عليه مأتي دينار ، فأخذها زين العابدين (عليه السلام) وفرقها على الفقراء والمساكين .

(178) خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، أبو هاشم القرشي الأموي ، روى عن أبيه وعن دحية ولم يلقه ، قيل : توفي سنة 84 هـ أو 85 هـ ، وقيل سنة 90 هـ .
سير أعلام النبلاء 4 | 382 .
الملهوف على قتلى الطفوف 225

ثم أمر برد الاسارى وسبايا البتول (179) إلى أوطانهم بمدينة الرسول .
وأما رأس الحسين (عليه السلام) ، فروى أنه أعيد فدفن بكربلاء مع جسده الشريف صلوات الله عليه ، وكان عمل الطائفة على هذا المعنى المشار إليه .
ورويت آثار كثيرة مختلفة غير ما ذكرناه تركناها لئلا نفسخ (180) ما شرطناه من اختصار الكتاب .

قال الراوي (181) : ولما رجع نساء الحسين (عليه السلام) وعياله من الشام وبلغوا إلى العراق ، قالوا للدليل : مر بنا على طريق كربلاء .
فوصلوا إلى موضع المصرع ، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري(182) رحمه الله وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل الرسول صلى الله عليه وآله قد وردوا لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) ، فوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد ، واجتمعت إليهم نساء ذلك السواد ، وأقاموا على ذلك أياماً .
فروي عن أبي جناب الكلبي (183) قال : حدثني الجصاصون قالوا : كنا نخرج

(179) ع : وسبايا الحسين (عليه السلام) .
(180) ب . ع : تركنا وضعها كيلا ينفسخ .
(181) الراوي ، من ع .
(182) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام الخزرجي الأنصاري السملي ، المتوفى سنة 78 هـ ، صحابي ، روى عن النبي (ص) الكثير ، وروى عنه جماعة من الصحابة ، غزا تسع عشرة غزوة ، كانت له في أواخر أيامه حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم .
رجال الشيخ : 72 ، الأعلام 1 | 213 ، الإصابة 1 | 213 ،تهذيب الأسماء 1 | 142 .
(183) في النسخ المتعمدة : أبي حباب الكلبي ، والمثبت هو الصحيح .
وهو يحيى بن أبي حية الكلبي الكوفي ، حدث عن أبيه والشعبي وأبي إسحاق السبيعي وغيرهم ،

=

الملهوف على قتلى الطفوف 226

إلى الجبانة(184) في الليل عند مقتل الحسين (عليه السلام) ، فنسمع الجن ينحون عليه فيقولون :
مسح الرسول جبينه فله بريق في الخدود
أبواه من علياً قريش جده خير الجدود

قال الراوي(185) : ثم انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة .
قال بشير بن حذلم(186) : فلما قربنا منها نزل علي بن الحسين عليهما السلام ، فحط رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه .
وقال : « يا بشر (187) ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه ؟ » .
قلت : بلى يا بن رسول الله إني لشاعر .

قال : « فادخل المدينة وانع أبا عبد الله (عليه السلام) » .
قال بشر : فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة ، فلما بلغت مسجد

=
روى عنه عبد الرحمن المحرابي وغيره .
الإكمال 2 | 134 .
(184) بالكسر ثم التشديد ، وهي عدة محال بالكوفة ، منها جبانة كندة مشهورة ، وجبانة السبيع كان بها يوم للمختار ابن عبيد ، وجبانة ميمون ...، وجبانة عرزم ...، وجبانة سالم ...، وغير هذه ، وجميعها بالكوفة
معجم البلدان 2 | 99 ـ 100 .
(185) الراوي ، من ع .
(186) في ر : بشر بن خديم ، وفي ب : بشير بن حذلم ، وفي ع : بشير بن جذلم .
ولم أجد من ترجمه أو ضبط اسمه ،نعم ذكره بعض المتأخرين معتمداً في ترجمته على كتاب الملهوف .
(187) ب : يا بشير ، وكذا في الموارد الآتية .
الملهوف على قتلى الطفوف 227

النبي صلى الله عليه وآله رفعت صوتي بالبكاء ، وأنشأت أقول :
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قتل الحسين فأدمعي مدرار
الجسم منه بكربلاء مضرج والرأس منه على القناة يدار

قال : ثم قلت : هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم أعرفكم مكانه .
قال : فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن ، مكشوفة شعورهن مخمشة وجوههن ، ضاربات(188) خدودهن ، يدعون بالويل والثبور ، فلم أر باكياً ولا باكية أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوماً أمر على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله .
وسمعت جارية تنوح على الحسين وتقول :
نـعى ســيدي نـاع نـعـاه فـأوجـعا فـأمرضني (189) ع نـعاه فـأفجعـا نـا
أعـيني جـودا بـالـمدامع (190) واسـكبا وجـودا بـدمـع بـعد دمـعكـما مـعا
على من دهى (191) عرش الجليل فزعزعا وأصبح أنف الـدين والمجــد أجدعا (192)

(188) ر : لاطمات .
(189) ب . ع : وأمرضني .
(190) ب . ع : فعيني جودا بالدموع .
(191) ر : وهى .
(192) ب . ع : فأصبح هذا المجد والدين أجدعا .
الملهوف على قتلى الطفوف 228

على ابن نبي الله وابن وصيه وإن كان عنا شاحط الدار أشسعا

ثم قالت : أيها الناعي جددت حزننا بأبي عبد الله (عليه السلام) ، وخدشت منا قروحاً لما تندمل ، فمن أنت يرحمك الله ؟
قلت : أنا بشير بن حذلم (193) وجهني مولاي علي بن الحسين ، وهو نازل موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ونسائه .
قال : فتركوني مكاني وبادروا ، فضربت فرسي حتى رجعت إليهم ، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع ، فنزلت عن فرسي وتخطيت رقاب الناس ، حتى قربت من باب الفسطاط ، وكان علي بن الحسين عليهما السلام داخلاً ، فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه ، وخلفه خادم معه كرسي ، فوضعه له وجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة ، فارتفعت اصوات الناس بالبكاء وحنين الجواري والنساء ، والناس(194) من كل ناحية يعزونه ، فضجت تلك البقعة ضجة شديدة .
فأومأ بيده أن اسكتوا (195) ، فسكنت فورتهم .
فقال (عليه السلام) « الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بعد فارتفع في السموات العلى ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفواجع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة .

(193) ر : بشر بن خديم . ع : بشير بن جذلم .
(194) قوله : وحنين الجواري والنساء والناس ، لم يرد في ر .
(195) ر : اسكنوا .
الملهوف على قتلى الطفوف 229

أيها القوم (196) ، إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الاسلام عظيمة : قتل أبو عبد الله (عليه السلام) وعترته ، وسبي نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها (197) رزية .
أيها الناس ، فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله ؟! (198) أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها ؟!
فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسموات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج (199) البحار ، والملائكة المقربون وأهل السموات أجمعون .
أيها الناس ، أي قلب لا ينصدع (200) لقتله ؟! أم أي فؤاد لا يحن إليه ؟! أم أي سمع يسمع (201) هذه الثلمة التي ثلمت في الاسلام ولا يصم ؟!
أيها الناس ، أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأمصار ، كأننا أولاد ترك أو كابل (202) ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الاسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إن هذا إلا اختلاق .
والله ، لو أن النبي صلى الله عليه وآله تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية (203) بنا لما

(196) ب : الناس .
(197) ر : ما مثلها .
(198) جاء في ع بعد هذه العبارة : أم أي فؤاد لا يحزن من أجله .
(199) ب . ع : ولجج .
(200) ر : لا يتصدع .
(201) ر : سمع .
(202) ر : أيها الناس أصبحنا مشردين مذودين شاسعين على الأمصار ..... ب . ع: أيها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين وشاسعين عن الأمصار كأنا أولاد ترك وكابل .
(203) كذا في ع . وفي ر : الوصاة . وفي ب : الوصاءة .
الملهوف على قتلى الطفوف 230

زادوا (204) على ما فعلوا بنا ، فإنا لله وأنا إليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظها أفظعها وأمرها وأفدحها ، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وابلغ بنا ، إنه عزيز ذو انتقام » .
قال الراوي(205) : فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان(206) ـ وكان زمناً ـ فاعتذر إليه صلوات الله عليه بما عنده من زمانة رجليه ، فأجابه بقبول معذرته وحسن الظن به وشكر له وترحم على أبيه .

قال علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس جامع هذا الكتاب : ثم إنه صلوات الله عليه رحل إلى المدينة بأهله وعياله ، نظر إلى منازل قومه ورجاله ، فوجد تلك النازل تنوح بلسان أحوالها ، وتبوح بإعلان الدموع وإرسالها ، لفقد جماتها ورجالها ، وتدب عليهم ندب الثواكل ، وتسأل عنهم أهل المناهل ، وتهيج أحزانه على مصارع قتلاه ، وتنادي لأجلهم : وا ثكلاه ، وتقول :
يا قوم ، أعينوني على النياحة والعويل ، وساعدوني على المصاب الجليل ، فان القوم الذين أندب لفراقهم وأحن إلى كرم أخلاقهم ، كانوا سمار ليلي ونهاري ، وأنوار ظلمي وأسحاري ، وأطناب شرفي وافتخاري ، وأسباب قوتي وانتصاري ، والخلف من شموسي وأقماري .

(204) ب : ازدادوا .
(205) الراوي ، من ع .
(206) أما أبوه صعصعة بن صوحان ، فأكثر كتب التاريخ ذكرته وانه من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وأما الابن صوحان ابن صعصعة ، فلم أجد من ترجمه حسب تفحصي ، وبعض من ترجمه اعتمد في ترجمته على هذا المقطع من كتاب الملهوف .
الملهوف على قتلى الطفوف 231

كم ليلة شردوا بإكرامه (207) وحشتي ، وشيدوا بإنعامهم حرمتي ، واسمعوني مناجاة أسحارهم ، وأمتعوني بإيداع أسرارهم ؟
وكم يوم عمروا ربعي بمحافلهم ، وعطروا طبعي بفضائلهم ، وأورقوا عودي بماء عهودهم ، وأذهبوا نحوسي بنماء سعودهم ؟
وكم غرسوا لي من المناقب ، وحرسوا محلي من النوائب ؟
وكم أصبحت بهم أتشرف على المنازل والقصور ، وأميس في ثوب الجذل والسرور ؟
وكم أعاشوا في شعابي من أموات الدهور ، وكم انتاشوا على أعتابي من رفات (208) المحذور .
فقصدني فيهم سهم الحمام ، وحسدني عليهم حكم الأيام ، فأصبحوا غرباء بين الأعداء ، وغرضاً لسهام الإعتداء ، وأصبحت المكارم تقطع بقطع أناملهم ، والمناقب تشكو لفقد شمائلهم ، والمحاسن تزول بزوال أعضائهم ، والأحكام تنوح لوحشة أرجائهم .
فيالله من ورع أريق دمه في تلك الحروب ، وكمال نكس علمه بتلك الخطوب .
ولئن عدمت مساعدة أهل المعقول ، وخذلني عند المصاب جهل العقول ، فإن لي مسعداً من السنن الدارسة والأعلام الطامسة ، فإنها تندب كندبي وتجد مثل وجدي وكربي .
فلو سمعتم كيف ينوح عليهم لسان حال الصلوات ، ويحن إليهم إنسان

(207) ر : بإلمامهم .
(208) ر : رقاب .
الملهوف على قتلى الطفوف 232

الخلوات ، وتشتاقهم طوية المكارم ، وترتاح إليهم ندية الأكارم ، وتبكيهم محاريب المساجد ، وتناديهم ميازيب الفوائد (209) ، لشجاكم سماع تلك الواعية النازلة ، وعرفتم تقصيركم في هذه المصيبة الشاملة .
بل ، لو رأيتم وجدي وأنكساري وخلو مجالسي وآثاري ، لرأيتم ما يوجع قلب الصبور ويهيج أحزان الصدور ، ولقد شمت بي من كان يحسدني من الديار وظفرت بي أكف الأخطار .
فيا شوقاه إلى منزل سكنوه ، ومنهل (210) أقاموا عنده وأستوطنوه ، ليتني كنت إنساناً أقيهم حز السيوف ، وأدفع عنهم حر الحتوف ، وأحول بينهم وبين أهل الشنآن (211) ، وأرد عنهم سهام العدوان .
وهلا إذ فاتني شرف تلك المواساة الواجبة ، كنت محلاً لضم جسومهم الشابحة ، وأهلاً لحفظ شمائلهم من البلاء ، ومصوناً من روعة هذا الهجر والقلاء .
فآه ثم آه ، لو كنت مخطأ لتلك الأجساد ومحطاً لنفوس أولئك الأجواد ، لبذلت في حفظها غاية المجهود ، ووفيت لها بقديم العهود ، وقضيت له بعض الحقوق الأوائل ، ووقيتها جهدي من وقع تلك الجنادل وخدمتها خدمة العبد المطيع ، وبذلت لها جهد المستطيع ، وفرشت لتلك الخدود والأوصال فراش الإكرام والإجلال ، وكنت أبلغ منيتي من أعتناقها ، وأنور ظلمتي بإشراقها .
فيا شوقاه إلى تلك الأماني ، ويا قلقاه لغيبة أهلي وسكاني ، فكل حنين يقصر عن حنيني ، وكل دواء غيرهم لا يشفيني ، وها أنا قد لبست لفقدهم أثواب

(209) ر : وتدبهم ميازيب الفوائد ، ع : وتناديهم مارب .
(210) ر : وسهل .
(211) ع : أشفي غيظي من أهل السنان .
الملهوف على قتلى الطفوف 233

الأحزان ، وأنست من بعدهم بجلباب الأشجان ، ويئست أن يلم بي التجلد والصبر ، وقلت : يا سلوة الأيام موعدك الحشر .
ولقد أحسن ابن قتة(212) رحمة الله عليه ، وقد بكى على المنزال المشار إليها (213) ، فقال :
مررت علــى أبيــات آل محمــد فلــم أرهــا أمثالهــا يوم حلــت
فلا يبعــد الله الديـــار وأهلهـــا وإن أصبحت منهم برغمي (214) تخلت
ألا إن قتلـى الطــف مـن آل هاشم أذلــت رقاب المسلميـــن فذلــت
وكانوا غياثاً ثم أضحــوا رزيـــة لقد عظمــت تلك الرزايا وجلـــت
ألم تر أن الشمس أضحــت مريضـة لفقــد حسين والبلاد اقشعــــرت

فاسلك أيها السامع بهذا المصاب مسلك القدوة من حملة الكتاب .
فقد روي عن مولانا زين العابدين (عليه السلام) ـ وهو ذو الحلم الذي لا يبلغ الوصف إليه ـ أنه كان كثير البكاء لتلك البلوى ، عظيم البث والشكوى .
فروي عن الصادق (عليه السلام) إنه قال : « إن زين العابدين (عليه السلام) بكى على أبيه أربعين سنة ، صائماً نهاره قائماً ليله ، فإذا حضره الإفطاء جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه ، فيقول : كل يا مولاي ، فيقول : قتل ابن رسول الله جائعاً ، قتل ابن رسول الله عطشاناً ، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه

(212) في ر : ابن قبة ، وفي ع : ابن قتيبة ، والصحيح : ابن قتة .
وهو سليمان بن قتة العدوي التيمي ، مولى بني تيم بن مرة ، توفي بدمشق سنة 126 هـ ، وكان منقطعاً إلى بني هاشم .
سير أعلام النبلاء 4 | 596 ، وذكر أن قتة اسم أمه ، وذكره أيضاً وفي أدب الطف 1 | 54 .
(213) ر : على المنزل المشار إليه .
(214) ع : بزعمي .
الملهوف على قتلى الطفوف 234

ويمتزج شرابه منها ، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل » .
وحدث مولى له (عليه السلام) أنه برز إلى الصحراء يوماً ، قال : فتبعته ، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة ، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه ، وأحصيت عليه ألف مرة يقول : « لا إله إلا الله حقاً حقاً لا إله إلا الله تعبداً ورقاً لا إله إلا الله إيماناً وصدقاً » .
ثم رفع رأسه من سجوده ، وأن لحيته ووجهه قد غمرا من الدموع .
فقلت : يا مولاي ، أما آن لحزنك أن ينقضي ؟ ولبكائك أن يقل ؟
فقال لي : « ويحك ، إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام كان نبياً ابن نبي ابن نبي له اثنى عشر ابناً ، فغيب الله سبحانه واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغم والهم وذهب بصره من البكاء وابنه(215) حي في دار الدنيا ، وأنا رأيت(216) أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين ، فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي ؟! » .
وها أنا أتمثل وأشير إليهم صلوات الله وسلامه عليهم ، فأقول :
من مخبر الملبسينـــا بانتزاحهـــم ثوباً من الحزن لا يبلــى ويبلينــــا
إن الزمان الذي قــد كان يضحكنـــا بقربهم صار بالتفريــــق يبكينـــا
حالت لفقدانهم أيامنـــا فغــــدت سوداً وكانت بهم بيضــــاً ليالينــا

وهاهنا منتهى ما أردناه وآخر ما قصدناه ، ومن وقف على ترتيبه ورسمه مع أختصاره وصغر حجمه عرف تمييزه على أبناء جنسه وفهم فضيلته في نفسه .
والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على محمد وآله الطيبين الطاهرين .

(215) ر : وولده .
(216) ب : فقدت .

السابق السابق الفهرس