كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 23

الحسين(عليه السلام) يخطب في اصحابه
ويأذن لهم بالتفرّق عنه

روي عن الامام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام) قال : جمع الحسين عليه السلام) اصحابه بعدما رجع عمر بن سعد وذلك عند قُرب المساء ، قال : فدنوت منه لاسمع وأنا مريض فسمعتُ أبي وهو يقول لاصحابه : أُثني على الله تبارك وتعالى أحسنَ الثناء وأحمدَهُ على السّراء والضراء أللهم اني أحَمَدُك على أن أكرمتنا بالنبوّة ، وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً ، فاجعلنا من الشاكرين.
أما بعد فإني لا أعلمُ أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكُم الله عني جميعاً خيراً ، ألا وإني أظنُ يوَمنا من هؤلاءِ الاعداءِ غداً إلاّ واني قد أذنتُ لكم ، فانطلقِوا جميعاً في حل ليس عليكم حَرجٌ منّي ولا ذمام هذا الّليلُ قدغشيّكم فاتّخذوه جَمَلا(1).

(1) جاء فى المثل : اتخذ الليل جملا ، وهو يضرب للرجل يجد فى طلب الحاجه ، يقال : شمر ذيلا وادرع ليلا هكذا قال بعضهم ، وقال اخرون : معناه ركب الليل فى حاجته ولم يَنمْ حتى نالها
وقولهم : الليل أخفى للويل ، اذا اردت ان تاتى بريبةٍ فأتها ليلاً فإنَّهُ أسترلها ، وكتب عبدالله بن طاهر إلى ابنه ، وقد بلغه عنه اقبال على اللهو :
فبادر الليل بما تشتهى فانما الليل نهار الاديب
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 24

وليأخُذ كلُ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سَوادِكم ومدائنكم حتى يُفرجَ الله ، فإنَّ القومَ إنما يطلبوني ولو قد أصابوني لَهوا عن طلب غيري.
جواب بني هاشم والانصار
للحسين(عليه السلام)

فقال له إخوتُه وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبدالله بن جعفر : لِم نفعل ؟ لنبقى بعدَكَ! لا أرانا الله ذلك أبداً ، بدأهم بهذا القولِ ، العباسُ بن علي عليه السلام) ثم إنهم تكلموا بهذا أو نحوه....
وفي رواية أخرى : فقام اليه العباس بن علي أخوه عليهما السلام وعلي ابنه ، وبنو عقيل ، فقالوا له : معاذ الله والشهر الحرام ، فماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم ، إنا تركنا سيدنا ، وابن سيدنا وعمادنا ، وتركناه غرضاً للنبل ، ودريئةً للرماح ، وجزراً للسباع ، وفررنا عنه رغبةً في الحياة ، معاذ الله ، بل نحيا بحياتك ، ونموت معك !! فبكى وبكوا عليه ، وجزاهم خيراً (1).
فقال الحسين عليه السلام) : يا بني عَقيل ، حَسبُكم من القتلِ بمسلِم ، اذهبوا قد أذِنتُ لكم !.
قالوا : فما يقولُ الناس ؟ يقولون : أَنا تركنا شَيخَنا وسيدَنا وبني عمومتِنا خيرَ الاعمام ، ولم نرْم معَهم بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا

=
وقال بعض العرب و انشدني بالحجاز فتى من هلال :
فلـم ار مثل الليل جنه هارب ولا مثل حد السيف للمرء صاحبا
راجع : كتاب جمهرة الامثال لابي هلال العسكري : ج1ص 88 ج2 ص 181 ـ 182.
(1) مقاتل الطالبيين لابي فرج الاصفهاني : ص112.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 25

ندري ما صنعوا ! لا والله لا نفعل ، ولكن تفديك أنَفسُنا وأموالنُا وأهلونا ونقاتلُ معك حتى نردَ مورِدَك فقبحَ اللهُ العيشَ بعدَك !.
فقام إليه مسلمُ بنُ عوسجة الاسدي (1) فقال : أنحنُ نخلي عنك ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقِك ؟ أما واللهِ حتى أكسر في صدورِهمْ رمحي وأضربَهمْ بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي ولا أُفارقُكَ ولو لم يكنْ معي سلاح أقاتُلهم به لَقذفتُهم بالحجارة دونَك حتى أموت معك.
وقال سعد بن عبد الله الحنفي (2) : واللهِ لا نخليكَ حتى يعلمَ اللهُ أنا قد حفظنا

(1) هو : مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة بن دردان بن أسد بن خزيمة ابو حجل الاسدي السعدي ، كان رجلاً شريفاً عابداً متنسكاً ، قال ابن سعد في طبقاته : وكان صحابياً ممن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان فارساً شجاعاً له ذكرٌ في المغازي والفتوح الاسلامية ، وكان ممن كاتب الحسين ـ عليه السلام) ـ في الكوفة ووفى له ، وومن أخذ البيعة له عند مجيء مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، وهو أول قتيل من أنصار الحسين بعد قتلى الحملة الاُولى ، وقد جاء في الزيارة المنسوبة للناحية المقدسة في مسلم بن عوسجة : وكنت أول من شرى نفسه وأول شهيد من شهداء الله قضى نحبه ، ففزت ورب الكعبة ، شكر الله لك استقدامك ومواساتك إمامك إذ مشى إليك وأنت صريع فقال : يرحمك الله يا مسلم بن عوسجة وقرأ : «منهم مَن قضى نَحبَه وَمِنهمْ مَنْ يَنتظِرُ وَمَا بَدّلوا تبديلا » لعن الله المشتركين في قتلك عبدالله الضبابي وعبدالله بن خشكارة البجلي ، وفيه يقول السماوي :
ان امــرءاً يمشـي لمصـرعه سبـط النبـي لفـاقـد التـرب
أوصـى حبيبــاً ان يجـود لـه بـالنفس مـن مقة ومـن حـب
اعزز علينا يـا بـن عـوسجـةٍ من ان تفـارق سـاعة الحـرب
عـانقـت بيضهـم وسمـرهـم ورجعت بعـد معـانق التـرب
ابكـي عليـك ومـا يفيـد بكـا عيني وقـد أكل الاسـى قلبـي
راجع : بحار الانوار : ج 45 ص 69 ، أبصار العين للسماوي : ص 61 و 64.
(2) هو : سعد بن عبدالله الحنفي ، وذكر في كتاب الحسين عليه السلام) إلى أهل الكوفة باسم سعيد ، أما بعد فإن

=

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 26

غَيبةَ رسول اللهِ صلى الله عليه وآله فيك ، واللهَ لو علمتُ أني أقتلُ ثم أحيا ثم أحرقُ حيَّاً ثم اذرُّ يُفعلُ ذلك بي سبعين مرةً ما فارقتُك حتى ألقى حِمامي دونَك ، فكيف لا أفعل ذلكَ وإنما هي قتلةٌ واحدةٌ ، ثمَّ هيَ الكرامةُ التي لا انقضاء لها أبداً !.
ثم قام زُهير بن القين (1)وقال : واللهِ لوددتُ أني قُتلتُ ثم نُشرتُ ثم قُتلتُ حتى أقتلَ كذا ألف قتلة ، وأن اللهَ يدفعُ بذلكَ القتلَ عن نفسِك وعن أنفُس هؤلاءِ الفتيةِ من أهل بيتك !.
وتكلم جماعةُ أصحابهِ بكلام يشبهُ بعضه في وجه واحد ، فقالوا : واللهِ لا نُفارِقُكَ ، ولكن أنفُسنا لكَ الفداء ! نَقيكَ بنحورِنا وجباهِنا وأيدينا ، فإذا نحنُ قُتِلنا كُنا وفَينا وقضينا ما علينا (2).

=
سعيداً وهانياً قدما عليَّ بكتبكم ، وذكر باسم سعد كما في زيارة الناحية ، كان من وجوه الشيعة في الكوفة ، وذوي الشجاعة والعبادة فيهم ، وهو أحد الرسل الذين حملوا رسائل الكوفيين إلى الحسين عليه السلام) وبعثه مسلم بن عقيل بكتاب إلى الحسين وبقي معه حتى جاء معه كربلاء ، وروى أبو مخنف : أنه لما صلّى الحسين الظهر صلاة الخوف ، اقتتلوا بعد الظهر ، فاشتد القتال ، ولما قرب الاعداء من الحسين(عليه السلام) وهو قائم بمكانه ، استقدم سعيد الحنفي أمام الحسين ، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل يميناً وشمالاً ، وهو قائم بين يدي الحسين يقيه السهام طوراً بوجهه ، وطوراً بصدره ، وطوراً بيديه ، وطوراً بجنبيه ، فلم يكد يصل إلى الحسين(عليه السلام) شيء من ذلك ، حتى سقط الحنفي إلى الارض وهو يقول : اللهم العنهم لعن عاد وثمود ، اللهم أبلغ نبيك عني السلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح فإني أردت ثوابك في نصرة نبيك ، ثم التفت إلى الحسين ، فقال اوفيت يا بن رسول الله ، قال : نعم أنت أمامي في الجنة ، ثم فاضت نفسه النفيسة.
راجع : إبصار العين : ص 125 ـ 126 ، أنصار الحسين لشمس الدين : ص90 ـ 91.
(1) تقدمت ترجمته.
(2) تاريخ الطبري : ج 4 ، ص 317 ـ 318 ، نهاية الارب للنويري : ج20 ص434 ، الكامل في التاريخ

=

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 27

الحسين(عليه السلام)
يأذن للحضرمي (1) بالانصراف لفكاك ولده

وقيلَ لمحمّدِ بن بشر الحضرمي في تلكَ الحال : قد أُسرَ ابنُك بثغر الرّي (2)فقال : عندَ اللهِ احتسبه ، ونفسي ما كُنتُ اُحب أَن يُؤسرَ وأن أبقى بعده !
فَسمِعَ الحسين(عليه السلام) قولَه ، فقال : رَحِمك َ اللهُ ، أنت في حل من بيعتي ، فاعملْ

=
لابن الاثير :ج4 ، ص57 ـ 58 ، مقتل الحسين للخوارزمي : ص 246 ـ 247 ، اللهوف : ص 39 ـ 40 ، الارشاد للمفيد : ص 231 ، اعلام الورى للطبرسي : ص 237 ـ 239 ، امالي الصدوق : ص 133 ، بحار الانوار : ج 44 ، ص 316.
(1) هو : بشر بن الاحدوث الحضرمي الكندي ، ذُكر في زيارة الناحية باسم بشر ، وذكر في الزيارة الرجبية باسم بشير ، وذكره السيد الخوئي ( قدس سره ) مردداً بين بشر وبشير ، وقال الشيخ شمس الدين : ومن المؤكد أنه هو : محمد بن بشير الحضرمي الذي ورد ذكره عند السيد ابن طاووس بقرينة ذكره لقصة ابنه وقد وردت القصة في الزيارة مقرونة باسم بشر أو بشير على اختلاف النسخ. وكان بشر من حضرموت وعداده في كندة ، وكان تابعياً وله أولاد معرفون بالمغازي ، وكان بشر ممن جاء إلى الحسين(عليه السلام) أيام المهادنة ، وهو أحد آخر رجلين بقيا من أصحاب الحسين قبل أن يقع القتل في بني هاشم ، والاخر هو سويد بن عمرو بن أبي المطاع ، وقتل بشر في الحملة الاُولى.
راجع : ابصار العين : ص 103 ـ 104، أنصار الحسين لشمس الدين ص77 ـ 78 ، معجم رجال الحديث للسيد الخوئي ( قدس سرّه ) : ج 3 ص 314.
(2) الثغر : بالفتح ، ثم السكون ، وراء كل موضع قرب من أرض العدو وسميّ ثغراً من ثغرة الحائط ، لانه يحتاج أن يحفظ لتلا يأتي العدوّ منه.
والرَّيّ : بفتح أوله ، وتشديد ثانيه : مدينة مشهورة من أمهات البلاد واعلام المدن ، كثيرة الخيرات ، قصبة بلاد الجبال ، على طريق السابلة وبين طهران نحو فرسخ. مراصد الاطلاع ج1 ، ص 597 ، و ج2 ، ص 651 و ص 899.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 28

في فكاكِ ابنِك ؟!
فقال : أكلتني السّباعُ حيّاً إ نْ فارقتُكَ !
قال : فاعطِ ابنَكَ هذهِ الاثواب البُرُود ، (1) يستعينُ بها في فداء (2) أخيهِ ، فأعطاه خَمسةَ أثوابَ قيمتُها ألف دينار (3).
ولله درّ السيد رضا الهندي ـ عليه الرحمة ـ إذ يقول في هذه الصفوة الانجاب :
صيداً إذا شبّ الهياج وشابت الـ ارض الـدما والطفل رعباً شابـا
ركزوا قناهـم في صدور عداتهم ولبيضهم جعلـوا الـرقاب قرابـا
تجلو وجوههم دجـى النقع الذي يكسـو بظلمتـه ذكـاء نقـابــا
وتنادبـت للذب عنـه عصبـة ورثـوا المعـالي أشيباً وشبابــا
مـن ينتدبهم للكريـهة ينـتدب منهـم ضراغمة الاسود غضابـا
خفوا لداعي الحرب حين دعاهم ورسوا بعرصة كربلاء هضابـا
أسدٌ قد اتخذوا الصـوارم حليـة وتسربلوا حلق الـدروع ثيـابـا
تخذت عيونهم القساطل كحلهـا وأكفّهم فيض النحـور خضابـا
يتمايلـون كأنمـا غنـى لـهم وقـع الضبـا وسقاهُمُ أكـوابـا

(1) البرود : مفرده بُرد بالضم فالسكون ، و هو : ثوب مخطَّط ، و قد يُقال لغير المخطَّط أيضاً ، وجمعه بُرُود وأبرادٌ وأبرُد ، و منه الحديث : الكفن يكون بُرداً ، فإن لم يكُن بُرداً فاجعله كله قطناً ! و البُرودَة : كساءٌ أسود مربّع فيه صغر يكتسيه الاعراب ، وفي المنجد انه كساء من الصوف الاسود يلتحف به ، انظر : مجمع البحرين للطريحي : ج3 ، ص 13 ، المنجد : ص33.
(2) الفداء : بكسر أوله يُحدّ ويقصر وإذا فتح فهو مقصور ، والمراد به فكاك الاسير واستنقاذه بالمال ، يقال : فداه من الاسر تفدية إذا استنقذه بمال. مجمع البحرين للطريحي : ج 1 ص328.
(3) اللهوف : ص 40 ، بحار الانوار : ج 44 ، ص394 ، العوالم : ج17 ، ص244 ، أسرار الشهادة للدربندي : ج2 ، ص221 ، ترجمة الامام الحسين ( من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ) ص221 ، ح202.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 29

بـرقت سيوفهم فـأمطرت الطلا بدمائهـا والنقـعُ ثـار سحـابا
وكـأنهـم مـستقبلون كواعبـاً مستقبلـيـن أسنـةً وكعــابـا
وجدوا الردى من دون آل محمد عذبـاً وبعدهـم الحيـاة عذابـا
ودعاهـم داعي القضـاء وكلُهُم ندبٌ إذا الداعي دعاه أجـابا (1)

الامام الحسين(عليه السلام)
لا يأذن بالشهاده لمن كان عليه دين

روي عن موسى بن عمير ، عن أبيه قال : أمرني الحسين بن علي(عليه السلام) قال : نادِ أَنْ لا يُقتل معي رجلٌ عليه دَينٌ ، وناد ِبها في الموالي فإنّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله يقول : من مات وعليه دين اُخذ من حسناته يومَ القيامة(2)
و بمضون آخر وردت أيضاً عن موسى بن عمير الانصاري ، عن أبيه ، قال : أمرني حسين بن علي عليهما السلام فقال : نادِ في الناس أنْ لا يقاتلِنَّ معي رجلٌ عليه دينٌ ، فإنَّهُ ليس من رجُل يموتُ و عليه دينٌ لا يَدعُ له وفاءً إلا دخلَ النَّار !!
فقام إليه رجلٌ فقالَ : إنَّ امرأتي تكفّلت عنّي ؟
فقال : و ما كفالَةُ امرأة ، و هل تقضي امراةٌ(3).
وذكرها الذهبي أيضاً : عن الثوري عن أبي الجحَّاف ، عن أبيه : أن رجلاً قال للحسين(عليه السلام) : إنَّ عليَّ ديناً.
قال(عليه السلام) : لا يُقاتلُ معي مَنْ عليه دين (4)
(1) رياض المدح والرثاء للقديحي : ص94 ـ 95.
(2) إحقاق الحق : ج 19 ص 429، موسوعة كلمات الامام الحسين : ص 417
(3) احقاق ألحق : ج 19 ، ص 429 ، موسوعة كلمات الامام الحسين ، ص 417 ـ 418 ، حياة الامام الحسين للقرشي : ج3 ، ص171، المعجم الكبير للطبراني : ج 3 ، ص 132، ح6872.
(4) سير أعلام النبلاء للذهبي : ج 3 ، ص 301.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 30

سكينة تصف ليلة العاشر

روي مؤلف كتاب نور العيون بإسناده ، عن سكينةَ بنت الحسين(عليه السلام) ، أنها قالت : كُنتُ جالسةً في ليلة مقمّرة وسط الخيمة ، وإذا أنا أسمع من خلفها بكاءً وعويلاً ، فخشيت أن يفقه بي النساء ، فخرجت أعثر بأذيالي ، وإذا بأبي(عليه السلام) جالس وحوله أصحابه وهو يبكي ، وسمعته يقول لهم : أعلموا أنّكم خرجتم معي لعلمكم أنّي أقدم على قوم بايعوني بألسنتهم وقلوبهم ، وقد إنعكس الأمر لأنهم استحوذ عليم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، والآن ليس لهم مقصدٌ إلاّ قتلي وقتل من يجاهد بين يدي وسبي حرمي بعد سلبهم ، وأخشى أنّكُم ما تعلمون وتستحون ، والخدع عندنا أهل البيت محرّم(1)، فمن كره منكم ذلك فلينصرف ، فإنّ الليل ستير والسبيل غير خطير ، والوقت ليس بهجير ، ومَنْ واسانا بنفسه كان معنا غداً في الجنان نجيّاً من غضب الرحمن ، وقد قال جدّي محمد (صلّى الله عليه وآله) : ولدي الحسين يُقتل بأرض كربلاء غريباً وحيداً عطشاناً فريداً ، فمن نصره فقد نصرني ونصر ولده القائم ـ عجل الله فرجه ـ، ولو نصرنا بلسانه فهو في حزبنا يوم القيامة.
قالت سكينة : فو الله ما أتمّ كلامه إلاّ وتفرق القوم من عشرة وعشرين ، فلم يبق معه إلا واحد وسبعون رجلاً ، فنظرت إلى أبي منكساً رأسه فخنقتني العبرة ،فخشيت أن يسمعني ورفعت طرفي إلى السماء وقلت : اللهم انّهم خذلونا فاخذلهم
(1) وفي أسرار الشهادة : وأخاف أن لا تعلموا ذلك ، او تعلموا ولا تتفرقوا للحياء منّي ، ويحرم المكر والخدعة عندنا أهل البيت.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 31

ولا تعجل لهم دعاءً مسموعاً ، وسلط عليهم الفقر ولا ترزقهم شفاعة جدّي يوم القيامة ، ورجعت ودموعي تجري على خدي ، فرأتني عمتي أمكلثوم ، فقالت : ما دهاك يابنتاه ، فأخبرتها الخبر ، فصاحت واجدّاه واعليّاه ، واحسناه واحسيناه ، واقلّة ناصراه ، أين الخلاص من الأعداء ليتهميقنعون بالفداء ، تركت جوار جدّك وسلكت بنا بُعدَ المدى ، فعلا منّا البكاء والنحيب.
فسمع أبي ذلك فأتى إلينا يعثر في أذياله ودموعه تجري ، وقال : ما هذا البكاء ؟
فقالت : يا أخي ردّنا إلى حرم جدّنا ، فقال : يا اختاه ليس لي إلى ذلك سبيل ، قالت : أجل ، ذكرهم محل جدّك وأبيك وأمك وأخيك ، قال : ذكّرتهمفلم يذكّروا ووعظتهم فلم يتعظوا ، ولم يسمعوا قولي ، فما لهم غير قتلي سبيل ، ولا بدّ أن تروني على الثّرى جديلاً ، ولكن أوصيكنّ بتقوى الله ربّ البريه والصبر على البلية وكظم نزول الرزيّة ، وبهذا أوعد جدّكم ولا خلف لما أوعد ، ودّعتكم إلهي الفرد الصمد ، ثم تباكينا ساعة والإمامعليه السلام) يقول :« وَما ظلمُونا ولكنْ كانُوا أنفسَهُم يَظلمُون»(1)(2)

(1) سورة البقرة : الأية 57.
(2) الدمعة الساكبة : ج4 ،ص 271 ـ 272 ، أسرار الشهادة للدربندي : ج 2 ، ص 222 ـ 223 ، الأيقاد : ص 93 ـ 94.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 32

الامام الحسين(عليه السلام)
يُخبر أصحابَه بالشهادة

روى عن أبي حمزة الثمالي ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام يقول : لمّا كان اليوم الذي اُستشهد فيه أبي عليه السلام) جمعَ اهله واصحابه في ليلة ذلك اليوم ، فقال لهم : ياأهلي وشيعتي اتخذوا هذا الليل جملاً لكم وانجو بإنفسكم ، فليس المطلوب غيري ، ولو قتلوني ما فكروا فيكم ، فانجوا رحمكم الله ، فأنتم في حلٍّ وسعة من بيعتي وعهدي الذي عاهدتموني
فقال إخوته وأهله وأنصاره بلسان واحد : والله يا سيدنا يا أبا عبدالله ، لا خذلناك ابدا ، والله لا قال الناس : تركوا إمامهم وكبيرهم وسيدهم وحده حتى قُتل ، ونبلو بيننا وبين الله عُذراً ولا نخليك أو نُقتل دونك !!
فقال لهم : ياقوم إني في غَد اُقتلُ وتُقتَلون كُلكُم معي ولا يَبقى مِنكم واحدٌ فقالوا : الحمدُ للهِ الذي أكرمَنا بنصرِكَ وشرّفَنَا بالقتل معك ، أولا ترضى أن نكون معكَ في درجتِكَ يا ابن رَسولِ اللهِ ؟
فقال (عليه السلام) جزاكم الله خيراً ! ودعا لهم بخير ، ـ فأصبح وقُتل وقُتلوا معه اجمعون ـ .
فقال له القاسم بن الحسن (عليه السلام) : وأنا فيمن يُقتل ؟ فأشفق عليه ، فقال له : يا بُني كيف الموت عندك ؟ قال : يا عم فيك أحلى مِنَ العسل ، فقال : إي واللهِ فداك عَمُكَ ، إنك لاحد من يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاء عظيم ، ويُقتل ابني عبدالله.

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 33

فقال : يا عم ويصلون إلى النساء حتى يُقتل عبدالله وهو رضيع ؟ فقال : فداك عمك ( يُقتل ابني عبدالله إذا جفت روحه عطشاً وصرت إلى خيمنا فطلبتُ له ماءً ولبناً فلا أجد قط فأقول : ناولوني ابني لاُشربه مِنْ فيَّ )(1)، فيأتوني به فيضعونه على يديَّ فأحمله لاُدنيه من فيَّ فيرميه فاسق بسهم فينحره وهو يناغي فيفيض دمه في كفي فأرفعه إلى السماء وأقول : اللهم صبراً واحتساباً فيك ، فتعجلني الاسنة منهم ، والنار تسعر في الخندق الذي في ظهر الخيم ، فأكرُّ عليهم في أمرّ أوقات في الدنيا ، فيكونُ ما يُريد الله ، فبكى وبكينا وارتفع البكاءُ والصُراخ من ذراري رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الخيم.
ويسألني زهير بن القين وحبيب بن مظاهر عن علي ، فيقولون : يا سيدّنا فسيدّنا علي ؟ فيشيرون اليَّ ماذا يكون من حاله ؟
ـ فيقول مستعبراً ـ : ما كان الله ليقطع نسلي من الدنيا ، فكيف يصلون إليه وهو أبُ ثمانية أئمة(2)
وفتية من بني عدنان ما نظـرت عين الغــزالة أعلى منهمُ حسبـا
اكفُهم يخصبُ المرعى الجديب بها وفي وجوههم تستمطــر السُحبـا
أكرم بهـم من مصاليت وليـدهمُ بغير ضرب الصلى بالبيض ما طربا

(1) كان في العبارة تصحيف وما بين القوسين هو ما أثبته صاحب معالي السبطين كما لا يخفى.
(2) مدينة المعاجز للبحراني : ج4 ، ص 214 ، ح295 ، و ص 286 ، ط ـ قديم ، وروى هذه الرواية بإسناده إلى أبي حمزة ، ابن حمدان الحضيني في الهداية الكبرى : ص 43 ( مخطوط ) ، معالي السبطين للحائري : ج 1 ، ص 343 ـ 344 ، نفس المهموم للقميّ : ص343 ـ 344.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 34

الامام الحسين(عليه السلام)
يُري أصحابَه منازلهم في الجنة

وروي أنَّ الحسين (عليه السلام) كشفَ لاصحابه عن أبصارهم فرأوا ما حباهمُ اللهُ من نعيم ، وعرَّفَهم منازلَهم فيها ، وليس ذلك في القدرةِ الالهيةِ بعزيز ولا في تصرفاتِ الامام بغريب ، فإنَّ سحرةَ فرعون لمّا آمنوا بموسى (عليه السلام) وأراد فرعون قتْلَهم أراهم النبيُ موسى عليه السلام) منازلَهم في الجنة (1).
قال شاعر اهل البيت الفرطوسي ـ عليه الرحمة ـ :
وأراهم وقد رأى الصدقَ منهم في الموالاة بعد كشف الغطاءِ
مالهم من منازل قد اُعــدت في جنان الخلود يوم الجـزاءِ
ولعمري وليـس ذا بعسيــر أو غريب من سيد الشّهــداءِ
فلقد أطلـعَ الكليــمُ عليهــا منهم كـلَّ ساحـر بجــلاءِ
حينما آمنـوا بما جـاءَ فيـه عندَ إبطال سحرِهم والريـاءِ
بعد خوف من آلِ فرعونَ مرد لهم منـذر بسـوءِ البــلاءِ
فـأراهم منـازلَ الخيرِ زلفىً وثواباً في جنـةِ الاتقيــاءِ
لازدياد الـيقين بـالحق فـيهم بعد دحض للشك والافتــراءِ
وثَباتاً منهم على الدين فيمــا شاهدوه من عالم الارتقاءِ(2)

وروي عن سعد بن عبدالله ، عن احمد بن محمد ابن عيسى ، عن الاهوازي ،

(1) أخبار الزمان للمسعودي : ص274 ، مقتل الحسين للمقرم : ص215.
(2) ملحة أهل البيت للفرطوسي : ج 3 ، ص 291.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 35

عن النضر بن سويد ، عن عاصم بن حميد ، عن ابي حمزة الثمالي ، قال : علي بن الحسين (عليه السلام) كنت مع أبي في الليلة التي قُتل في صبيحتها فقال (عليه السلام) لاصحابه هذا الليل فاتّخذوه جملاً فإنَّ القوم إنما يريدونني ، ولو قتلوني لم يلتفتوا اليكم ، وانتم في حل وسعة.
فقالوا : والله لا يكون هذا ابداً ! قال : إنكم تُقتلون غداً ( كُلّكُم ) ولا يفلت منكم رجُل ، قالوا الحمد لله الذي شرفّنا بالقتل معك ثم دعا ، وقال لهم : ارفعوا رؤوسَكم وانظروا ، فَجعلوا يَنظرون إلى مواضعِهم ومنازلِهم من الجنة ، وَهو يقولُ لهم : هذا منزِلُكَ يا فلان ، وهذا قصرُك يافلان ، وهذه درجتك يافلان ، فكان الرجلُ يَستقبلُ الرّماحَ والسيوفَ بصدرِه وَوجهِه، ليصلَ إلى مَنزِلِه مِنَ الجنة (1).
وَفي حديثِ أبي جعفر الباقر (عليه السلام) إن الحسين(عليه السلام) قال لاصحابهِ : ابشروا بالجنةِ فواللهِ إنّا نَمكثُ مَا شاء اللهُ بعدَ مَا يجري عَلينا ، ثم يُخرجُنا اللهُ وإياكم حتى يَظهر قَائمُنا فَينتقمَ من الظالمينَ ، وأنا وأنتم نُشاهِدهم في السلاسل والاغلال وأنواع العذاب !!
فَقيلَ له : مَنْ قائمُكُم يا ابن رسولِ الله؟
قال : السابع مِن وِلدِ ابني محمد بن علي ِّ الباقر ، وهو الحجةُ ابنُ الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي ابني، وهو الذي يَغيبُ مدةً طويلةً ثم يظهرُ وَيملاُ الارضَ قسطاً وَعدلاً كما مُلئت ظلماً وَجوراً(2).

(1) الخرائج والجرائح للراوندي : ج2 ، ص 847 ـ 848 ، بحار الانوار : ج 4 ، ص 298 ، أسرار الشهادة للدربندي : ج 2 ، ص 221.
(2) مقتل الحسين للمقرم : ص215.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 36

وروى الصدوق ـ عليه الرحمة ـ في علة إقدام أصحاب الحسين(عليه السلام)على القتل ، قال : حدثنا محمد بن ابراهيم بن اسحاق (رضي الله عنه) قال : حدثنا عبدالعزيز بن يحيى الجلودي قال حدثنا محمد بن زكريا الجوهري قال : حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قلت له : أخبرني عن أصحابِ الحسين(عليه السلام) وإقدامِهم على الموتِ ، فقال : إنَّهم كُشفَ لَهم الغطاء حتى رَأوا منازلَهم من الجنةِ ، فكانَ الرجلُ منهم يَقدمُ على القتلِ لِيُبادرَ إلى حَوراءَ يُعانِقُها وإلى مكانِه مِن الجنة (1)
وجاء في زيارة الناحية المقدسة : أشْهدُ لَقدْ كَشفَ اللهُ لكمُ الغِطاء ، وَمَهّد لكُمُ الوطاء ، وأجزل لكم العطاء ، وكُنْتُمْ عن الحقِّ غَيرَ بطاء ، وأنتُم لنا فُرطاء ، ونحنُ لكُم خُلطاءُ في دارِ البقاء ، والسلام عليكُمْ ورحمةُ اللهِ وبركاته (2)
ولقد أجاد من قال فيهم ( صلى الله عليه وآله ) :
وذووا المروة والوفا أنصـارُه لهم على الجيش اللئامِ زئيـرُ
طهرت نفوسهم لطيب اُصولها فعناصرٌ طابت لهم وحجـورُ
فتمثّلت لهم القصورُ وما بهِـم لولا تمثّلت القصورُ قصـورُ
ما شاقَهم للموت إلاّ دَعْــوَة الرحمن لا ولدانُها والحورُ

وقال الاخر :

(1) علل الشرائع : ح 1، ص 229 ، ب 163 ، ح 1، بحار الانوار : ج44 ، ص 297 ، مدينة المعاجز : ج4 ص214.
(2) الاقبال لابن طاووس : ج3 ،ص 80 ، بحار الانوار : ج 98 ، ص 273 ـ 274.
(3) نفثة المصدور للشيخ عباس القمي : ص629.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 37

وفتية من رجال الله قد صبـروا على الجلاد وعانوا كلَّ محـذورِ
حتّى تراءت لهم عـدن بزينتهـا مآتماً كُنَّ عُرس الخُرَّد الحورِ(1)

وقال آخرٌ أيضاً :
وبيتوه وقد ضـاق الفسيــحُ بـه منهم على موعد من دونه العطـلُ
حتى إذا الحرب فيهم من غد كشفت عن ساقها وذكى من وقد ما شعلُ
تبـادرت فتيـةٌ من دونه غــررٌ شمّ العرانين ما مالوا ولا نكلـوا
كأنّما يجتنــى حلـواً لانفسهــم دون المنون من العسّالـة العسـلُ
تراءت الحور في أعلى القصور لهم كشفاً فهان عليهم فيه ما بذلـوا

الامام الحسين(عليه السلام)
يعظ أصحابه ويبشّرهم

جاء في تفسير الامام العسكري (عليه السلام) في قوله عزوجل : «وإذْ قُلْنا للملائكةِ اسجدُوا لادمَ فسجدُوا إلا إبليسَ أبى واستكبرَ وكانَ مِنَ الكافرين »(1)
قال (عليه السلام) : ولمّا امتحن الحسين (عليه السلام) ومن معه بالعسكر الذين قتلوه ،وحملوا رأسه قال لعسكره : أنتم من بيعتي في حل فالحقوا بعشائركُم ومواليكم.
وقال : لاهل بيته قد جعلتكم في حلٍّ من مفارقتي ، فإنَّكمْ لا تُطيقونهم

(1) أدب الطف للسيد جواد شبر : ج 6 ، ص 261.
(2) الدمعة الساكبة : ج 4 ، ص 278.
(3) سورة البقرة : الآية 34.

السابق السابق الفهرس التالي التالي