كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 38

لتضاعف اعدادهم وقواهُمْ ، وما المقصود غيري ، فدعوني والقوم ، فإنَّ اللهَ ـ عزّوجلّ ـ يُعينُني ولا يُخليني من حُسني نظرهِ كعاداته في اسلافنا الطَّيبين.
فأمّا عسكره ففارقوه ، وأما أهله الادنون من أقربائه فأبوا !! وقالوا : لا نفارقك ويحلُّ بنا ما يحلُّ بك ، ويحزننا ما يحزنك ، ويصيبنا ما يصيبك ، وإنّا أقرب ما نكونُ إلى الله إذا كنا معك.
فقال لهم : فإنْ كُنتم قد وطنتم أنفسكم على ما وطَّنت نفسي عليه ، فاعلموا أنَّ الله إنّما يهبُ المنازل الشريفة لعباده (لصبرهم) باحتمال المكارة ، وأنَّ الله وإنْ كان خَصَّني مع مَنْ مضى مِنْ أهلي الَّذينَ أنا آخرُهُم بقاءً في الدُّنيا من الكرامات بما يَسهل عليَّ معها احتمال الكريهات ، فإنَّ لكم شطرُ ذلك من كرامات الله تعالى ،واعلموا أن الدنيا حُلوها ومرها حُلمٌ (1) والانتباه في الاخرة ، والفائز من فاز فيها ، والشقيُّ مَنْ شقي فيها.
أولا اُحدثكم بأول أمرنا وأمركم معاشرَ أوليائنا ومحبينا ، والمعتصمينَ بنا ليسهل عليكم احتمال ما أنتم له معرضون (2)؟
قالوا بلى يا ابن رسول الله
قال : إنَّ الله تعالى لمّا خلقَ آدم ، وسوّاهُ وعلَّمَه أسماء كلَّ شيء وعرضهم على الملائكة ، جعل محمداً وعلياً وفاطمةَ والحسنَ والحسينَ (عليهم السلام) أشباحاً خمسةً في ظهرِ آدم ، وكانت أنوارُهم تُضيءُ في الافاق من السماوات والحُجب والجنان والكرسيّ والعرش ، فأمر الله تعالى الملائكة بالسجود لادم تعظيماً له ، إنَّه قد فضّله

(1) وفي أسرار الشهادة : واعلموا أن الدنيا حلوها مرّ ، ومرها حلو.
(2) وفي بحار الانوار : مقرّون
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 39

بأن جعله وعاء لتلك الأشباح التي قد عم أنوارها في الآفاق ، فسدوا إلا إبليس ابى أن يتواضع لجلال عظمة الله ، وأن يتواضع لأنوارنا أهل البيت ، وقد تواضعت لها الملائكة كلها واستكبر وترفع ، وكان باءبائه ذلك وتكبره من الكافرين (1).
ومن جملة البشارات التي بشر بها الحسين (عليه السلام) اصحابه عليهم السلام هو مارواه القطب الراوندي عن أبي سعيد سهل بن زياد ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبن فضيل ، عن سعد الجلاّب ، عن جابر ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قال الحسين بن علي (عليهما السلام) لاصحابه قبل أن يُقتل : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا بُنيَّ إنك ستساقُ إلى العراق ، وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيّين ، وهي أرضٌ تدعى ( عموراء ) وإنك تستشهد بها ، ويستشهد معك جماعةٌ من أصحابك لا يجدون ألم مس الحديد ، وتلا : « قُلْنَا يَا نَاْرُ كُونِي بَرْدَاً وَسَلآمَاً عَلَى إِبْرَاهِيْمَ »(2) تكونُ الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً فابشروا ، فو الله لئن قتلونا ، فإنَّا نرد على نبيّنا (3)

(1) تفسير الامام العسكري عليه السلام : ص 218 ـ 219 ، تاويل الايات : ج 1 ، ص 44 ، ح 18 ( باختصار ) ، بحار الانوار : ج11 ، ص 149 ، ج 45 ، ص 90 ـ 91 ، الدمعة الساكبة :ج4 ص270 ، أسرار الشهادة للدربندي : ج2 ، ص223 إلى قوله الشقي من شقي فيها.
(2) سوره الانبياء الاية : 69.
(3) الجرائح والخرائج للراوندي : ج2 ، ص848 ، بحار الانوار ج45 ، ص80 ، ح6 ، مدينة المعاجز للبحراني : ج3 ، ص504 ص245 الطبعة الحجرية.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 40

الحسين (عليه السلام) يعالج سيفه
ووصيته لاُخته زينب ( عليها السلام )

رويَّ عن عليِ بنِ الحسينِ بن علي عليه السلام قال : إني جالسٌ في تلكَ العشيّةِ التي قُتل أبي صَبيحتَها وَعمتي زينبُ عندِي تُمرضُني إذ اعتزلَ أبي بأصحابِه في خَباء له وَعندَه حُوَىّ مَولى (1) أبي ذر الغُفاري وَهو يُعالجُ سَيفَه (2) ويُصلِحُهُ وأبي يقولُ :

يَا دهرُ أفٍّ لكَ مِنْ خَليـلِ كَمْ لكَ بالاشراقِ وَالاصيلِ
مِنْ صَاحب أو طالب قَتيلِ وَالدهرُ لا يَقنعُ بالبديــلِ
وإنَّمَا الامرُ إلى الجليــلِ وَكلُّ حيٍّ سَالـكُ السبيـلِ
(1) هو : جون بن حوى مولى أبي ذر الغفاري ، كما في الزيارة الرجبية وزيارة الناحية ، وكذا في مقاتل الطالبيين ، وذكره الخوارزمي والطبري باسم حُوى ، وذكره الشيخ المفيد في الارشاد وابن شهراشوب في المناقب باسم جوين. وكان جون منضمَّاً إلى أهل البيت عليهم السلام بعد أبي ذر فكان مع الحسن عليه السلام ثم مع الحسين عليه السلام ، وصحبَه في سفره من المدينة إلى مكة ثم إلى العراق ، وفي كامل بهائي أنه كان بصيراً بمعالجة آلات الحرب واصلاح السلاح ، وقتل بين يدي الحسين عليه السلام ووقف عليه وقال : اللهم بيض وجهه وطيب ريحه واحشره مع الابرار ، وعرف بينه وبين محمد وآل محمد ، وروي عن الباقر عن علي بن الحسين عليهم السلام إنّ بني أسد الذين حضروا المعركة ليدفنوا القتلى وجدوا جوناً بعد أيّام تفوح منه رائحة المسك.
راجع : مقتل الحسين للخوارزمي : ج 1 ص 237 ، تاريخ الطبري : ج 4 ص 318 ، المناقب لابن شهراشوب : ج 4 ص 103 ، كامل بهائي : ج2 ، ص280 ، إبصار العين : ص 105 ، أنصار الحسين لشمس الدين : ص 80 ـ 81.
(2) وفي مقاتل الطالبيين : ص113 ، وهو يعالج سهاماً له ، وبين يديه جون الخ.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 41

قال : فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى فَهِمتُها ، فَعرَفتُ مَا أرادَ فَخنقَتني عَبرتي فرددّتُ دَمعي ولزمتُ السكون فَعلمتُ أنَ البلاءَ قد نزلَ ، فأمّا عمَّتي فإنها سَمِعت ما سمعتُ وهي امرأةٌ وَفي السماءِ الرقَّةُ والجزعُ فَلم تملك نفسَها أن وَثبت تَجرُّ ثوبَها وَإنها لحاسرةٌ حتى انتهت إليه فقالت : واثكلاه لَيتَ الموتَ أعدمني الحياة ، اليومَ ماتتْ فاطمةُ أمّي وعليٌّ أبي وحسنٌ أخي ، يا خليفةَ الماضي وثمال (1) الباقي (2).
قال : فَنظَر إليها الحسين (عليه السلام) فقال : يا أُخيّةُ لا يُذهبنَّ حلمَكِ الشيطانُ ، قالت : بأبي أنتَ وأمي يا أبا عبدالله استقتلتَ نَفسي فداكَ.
قالت أتُقتل نصبَ عيني جهرة ما الرأي فيَّ وما لديَّ خفيـرُ
فأجابها قلّ الفدا كثُــر العدى قَصُرَ المدى وسبيلنا محصور

فَردَّ غُصّتَهُ وَترقرقتْ عَيناهُ ، وَقالَ : لو تُركَ القطا(3) ليلاً لنام (4) ، قالت : يَاويلتي

(1) جاء في حديث أبي طالب (عليه السلام) يمدح ابن أخيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثِمالُ اليتامي عصمةٌ للارامل
الثمال : ككتاب ، الغياث والذي يقوم بامر قومه ، يقال : فلانٌ ثِمالُ قومه أي غِياثٌ لهم. مجمع البحرين للطريحي : ج5 ، ص332.
(2) وفي الارشاد : ياخليفةَ الماضين وثمالَ الباقين.
(3) القَطَا : ضرب من الحمام ذوات أطواق يُشبه الفاخته والقُماري ، وفي المثل أهدى من القطا ، قيل أنه يطلب الماءَ مسيرة عشرة أيام وأكثر من فراخها من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فترجع ، ولا تُخطيء صادرة ولا واردة. مجمع البحرين للطريحي : ج1 ، ص347.
(4) لو ترك القطا ليلاً لنام ، جاء في قصة هذا مثل : إنه نزل عمرو بن مامة على قوم مُراد ، فطوقوه ليلاً ، فأثاروا القطا من أماكنها ، فرأتها امرأته طائرة فنبّهت المرأةُ زوجها ، فقال : إنما هي القطا ، فقالت : لو تُرك القطا ليلاً لنام. يُضرب لمن حُمل على مكروه من غير إرادته وقيل : أول من قال : لو ترك القطا

=

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 42

أفتَغصِبُ نفسَكَ اغتصاباً ؟ فذلكَ أقرحُ لِقلبي وأشدُّ على نَفسي وَلطمَتْ وَجهَهَا وأهوتْ إلى جَيبِها وشقتهُ ، وَخرّت مَغشياً عليها.
فقام إليها الحسين (عليه السلام) فصبَّ على وَجهِهِا الماءَ ، وقال لها : يا أُخيَّة اتقّي اللهَ وَتعزّي بعزاءِ اللهِ واعلمي أنَّ أهل الارضِ يَموتون ، وأنَّ أهل السماءِ لا يبقونَ وأنَّ كلَ شيء هالكٌ إلا وجهَ اللهِ الذي خَلقَ الارضَ بقُدرتهِ ، وَيبعثَ الخلقَ فيعودونَ وَهو فردٌ وحدَه ، أبي خيرٌ مني ، وأمي خيرٌ مني ، وأخي خيرٌ مني ، وَلي وَلَهم ولكلِ مُسلم برسولِ اللهِ أسوةٌ.
قال : فعزّاها بهذا وَنحوهِ ، وقال لها : يا أُخيّة إني اُقسمُ عليكِ فأبرِّي قَسمي ، لا تشُقي عليَّ جَيباً ، وَلا تخمشي عليَّ وَجهاً ، وَلا تدعي عليَّ بالويلِ والثبورِ إذا أنا هلكت.
وفي رواية (1) ثم قال (عليه السلام) : يا اُختاه يا اُمّ كلثوم ، وأنتِ يا زينب ، وأنتِ يا فاطمة ، وأنتِ يا رباب ، إذا أنا قُتلت فلا تشققنَ عليَّ جيباً ، ولا تخمشن عليَّ وجهاً ، ولا تقلن هجراً.

=
ليلاً لنام ، حذام بنت الريان وذلك لما سار عاطس بن خلاج لقتال أبيها ليلاً فلما كانوا قريباً منه أثاروا القطا ، فمرت بأصحاب الريان فخرجت حذام إلى قومها فقالت :
الا يا قومنا ارتحلوا وسيروا فلو تُرك القطا ليلاً لنامـا
أي أن القطا لو تُرك ما طار هذه الساعة وقد أتاكم القوم ، فلم يلتفتوا إلى قولها ، وأخلدوا إلى المضاجع لمّا نالهم من التعب ، فقام دَيسم بن طارق وقال بصوت عال :
إذا قالت حذام فصدّقوها فإنَّ القولَ ما قالتْ حـذامِ
انظر : مجمع الامثال للميداني : ج 3 ، ص 82.
(1) اللهوف : ص36 ، مقتل الحسين للخوارزمي : ص238.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 43

اٌخت يـا زينب اُوصيــك وصايــا فاسمعي إنني في هــذه الارض مـُلاق مَصــرعي
فاصبري فالصبـرُ من خيم كــرامِ المتــرعِ كلُ حيّ سينحيــه عن الاحيــاء حيـــن
في جليلِ الخطبِ يا أختُ اصبري الصبر الجميل إن خيرَ الصبرِ ما كــان على الخطبِ الجليل
واتركي اللطمَ على الخــدِ وإعـلان العويــل ثم لا أكــره سَقيَ العينِ ورد الوجنتيـــن
واجمعي شملَ اليتامى بعد فقــدي وانظمــي واشبعي من جــاعَ منهم ثم اروي مَنْ ظُمي
واذكُــري انهــم في حفظهـم طُــل دمي ليتني من بينهم كالانــف بيـن الحاجبيــن

قال : ثم جاء بها حتى أجلسَها عندي ، وَخرجَ إلى أصحابهِ فأمرَهم أن يُقرِّبوا بعض بيوتهم مِن بعض ، وأن يُدخِلوا الاطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا هُم بين البُيوت ، إلا الوجه الذي يأتيهم منهُ عدوّهُم (1).

(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص318 ، نهاية الارب للنويري : ج20 ، ص436 ، الكامل في التاريخ لابن الاثير : ج4 ، ص58 ـ 59 ، مقتل الحسين للخوارزمي : ص237 ـ 238 ، الارشاد للمفيد : ص232 ، إعلام الورى للطبرسي : ص239 ـ 240 ، بحار الانوار : ج45 ، ص1 ـ 3 ، أسرار الشهادة للدربندي : ج2 ، ص224.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 44

من وصايا الامام الحسين (عليه السلام)

قيل ومن جملة وصاياه عليه السلام والتي استأثرت باهتمام بالغ عنده ، وتدل على مدى حرصه الشديد في نشر أحكام الدين والشرع المبين مع ما هو فيه ، هو وصيته عليه السلام لاُخته زينب ( عليها السلام ) بأخذ الاحكام من الامام علي بن الحسين (عليهما السلام) وإلقائها إلى الشيعة ستراً عليه.
فقد جاء عن علي بن أحمد بن مهزيار ، عن محمد بن جعفر الاسدي ، عن احمد بن إبراهيم ، قال : دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا ، اُخت أبي الحسن العسكري (عليهم السلام) في سنة اثنين وثمانين ( ومائتين ) بالمدينة ، فكلمتها من وراء الحجاب وسألتها عن دينها ؟ فَسمّت لي من تأتم به ، ثمَّ قالت : فلان بن الحسن (عليه السلام) فَسمتهُ.
فقلت لها : جعلني الله فداكِ معاينةً أو خبراً ؟ فقالت : خبراً عن أبي محمد عليه السلام كتب به إلى أمه ، فقلت لها : فأين المولود ؟ فقالت : مستور ، فقلت : فإلى مَنْ تفزع الشيعة ؟ فقالت : إلى الجدَّة أم أبي محمد (عليه السلام)
فقلت لها أقتدي بمَنْ وصيتُهُ إلى المرأة ؟!
فقالت : إقتداءً بالحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) ، إنَّ الحسينبن علي عليه السلام أوصى إلى اُخته زينب بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الظاهر ، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين من علم يُنسب إلى زينب بنت علي تَستّراً على علي بن الحسين (عليه السلام)(1)

(1) كمال الدين وإتمام النعمة للصدوق : ص501 ، بحار الانوار : ج 46 ، ص 19.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 45

وفي هذا المعنى يقول الفرطوسي ـ عليه الرحمه ـ :
وهو أوصى إلى العقيلة جهـراً ولزين العباد تحـت الخفــاء
فهي تعطي الاحكام للناس فتوىً بعد أخذ من زينـة الاوليــاء
كلُّ هذا ستراً عليــه وحفظاً لعليٍّ من أعيـُنِ الرُقبـاء (1)

ولهذا قيل : أنه كان لزينب ( عليها السلام ) نيابة خاصة عن الحسين (عليه السلام) وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتى بريء زين العابدين (عليه السلام) من مرضه (2)
الامام الحسين عليه السلام يتفقّد التلاع والعقبات
وكلامه مع نافع بن هلال

كان نافع ابن هلال (3) من أخص أصحاب الامام الحسين (عليه السلام) به ، وأكثرهم

(1) ملحمة أهل البيت (عليهم السلام) للفرطوسي : ج3 ، ص295.
(2) وفاة زينب الكبري للنقدي : ص 53.
(3) هو : نافع بن هلال بن نافع بن جمل بن سعد العشيرة بن مدحج المذحجي الجملي ، وفي زيارة الناحية ( البجلي ) ، وقد جاء في بعض الكتب هلال ابن نافع ، كان سيداً شريفاً سرياً شجاعاً ، وكان قارئاً كاتباً من حملة الحديث ، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وحضر معه حروبه الثلاث في العراق ، وخرج إلى الحسينعليه السلام فلقيه في الطريق ، وكان ذلك قبل مقتل مسلم ، وهو القائل للحسين بعد ما خطب خطبته التي يقول فيها : أما بعد فقد نزل من الامر ما قد ترون وأنَّ الدنيا قد تنكرت... الخ. ثم قام نافع

=

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 46

ملازمة له سيما في مضان الاغتيال ـ وقيل أنه كان حازماً بصيراً بالسياسة ـ فلما رأى الحسين (عليه السلام) خَرجَ في جَوفِ الليلِ إلى خارج الخيامِ يَتفقدُ التلاعَ (1) والعقباتِ (2)تبعَهُ نافعُ ، فسألَه الحسينُ عليه السلام عما أخرجَهُ قال : يَابنَ رسولِ اللهِ أفزعني خُروجُكَ إلى جِهةِ مُعسكر هذا الطاغي.
فقال الحسينُ (عليه السلام) : إني خرجتُ أتفَقدُ التلاعَ وَالروآبي (3) مخافةَ أن تكونَ مَكمَناً لِهجُومِ الخيل يِومَ تحملونَ ويَحملونَ ، ثُّم رجَع (عليه السلام) وَهو قَابضٌ على يدِ نافعَ ، وَيقولُ : هيَ هيَ واللهِ وَعدٌ لا خُلفَ فيه.
ثم قال لَه : ألا تَسلُك بَين هَذيَنِ الجبلَيِن في جَوفِ الليلِ وَتنجُو بنفسِك ؟ فَوقعَ نَافعُ على قَدميهِ يُقبلهُما ويقولُ : ثَكلتني أمي ، إن سَيفي بألف وَفرسي مثلُه ، فَو اللهِ الذي مَنَّ بِكَ عليَّ لا فارقتُكَ حتى يَكلا (4)عن فَري وجري.

=
فقال :... وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع نيته ، فلن يضر إلاّ نفسه والله مغن عنه ، فسر بنا راشداً معافي ، مُشرّقاً إن شئت ، وإن شئت مُغرّباً ، فوالله ما اشفقت من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربنا ، فانا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك ، ويُعدُ نافع ـ رضوان الله عليه ـ من المشاركين في جلب الماء مع العباس عليه السلام ، وقاتل قتالاً شديداً حتى اُسر ، وقتله شمر بن ذي الجوشن. وفيه يقول السماوي :
فأضحى خضيب الشيب من دم رأسه كسير يد ينقـاد للاســر عن يــد
وما وجدوه واهناً بعــد أســـره ولكن بسيمـا ذي براثــن ملبــد
راجع : إبصار العين : ص 86 ـ 89 ، أنصار الحسينلشمس الدين : ص 109.
(1) التلعة : جمعه تلعات وتِلاع وتِلَع ، وهي مجرى الماء من أعلى الوادي ، وهي أيضاً : ما ارتفع من الأرض وما انهبط منها فهي من الأضداد. المصباح المنير للفيومي : ص76 ، المنجد : ص63.
(2) العقبات : جمع عقبة ، وهي المرقى الصعب من الجبال. المنجد : ص518.
(3) مفردها : رابية ، وهي المكان المرتفع من الأرض.
(4) كَلَّ السيف : أصبح غير قاطع ، وكَلَّ الفرس : إذا تعب وأعيا.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 47

زينب ( عليها السلام ) تحدّث الحسين( عليه السلام )
في استعلامه نيّات أصحابه

ثُم دَخلَ الحسين ( عليه السلام ) خَيمةَ زينب ، وَوقفَ نافعٌ بإزاءِ الخيمةِ ينَتظرُه فَسمعَ زينبَ تقولُ لَهُ : هَل استعلمتَ مِنْ أصحابِكَ نياتِهم فإني أخشى أن يُسلموك عند الوثَبة.
فقال لها : واللهِ لقد بلوتُهم ، فما وجدتُ فيهم إلا الاشوسَ(1) الاقعسَ (2)يَستأنسونَ بالمنيةِ دوني استيناسَ الطفلِ إلى محالبِ أمه.
قال نافعُ : فلّما سمعتُ هذا منه بَكيتُ وأتيتُ حبيبَ بنَ مظاهر وَحكيتُ ما سمعتُ منه وَمن أُختهِ زينب.
قال حبيب : واللهِ لولا انتظارُ أمرهِ لعاجلتُهم بسيفي هذه الليلة.
قلت : إني خَلّفتُه عندَ أُختهِ وأظنُ النساءَ أفقنَ وَشاركنها في الحسرةِ فهل لكَ أن تجمعَ أصحابَك وَتواجهُوهُنَّ بِكلام يُطيّبُ قلوبَهُنَّ.
حبيب ( عليه السلام ) يخطب في الانصار
ويُطيّب خواطر النساء

فقام حبيب ونادى : يا أصحابَ الحميةِ وليوث الكريهةِ ، فتطالَعوا من مضاربهم

(1) الاشوس : الشديد.
(2) الاقعس : المنيع.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 48

كَالاسود الضاريةِ ، فقالَ لبني هاشم : ارجعوا إلى مقركم لا سهرتْ عُيونُكُمْ.
ثُّم التفتَ إلى أصحابه وحَكى لهم ما شَاهدَهُ وسمعَهُ نافعٌ ، فقالوا بأجمعِهِم : والله الذي مَنَّ عَلينا بهذا الموقفِ لولا انتظارُ أمره لعاجلناهم بسيوفِنا الساعة! فَطبْ نَفساً وَقرَّ عَيناً فجزاهُمْ خيراً.
وَقال : هَلموا معي لنواجه النسوةَ ونُطيبَ خَاطرَهُنَّ ، فجاءَ حبيبُ وَمعُه أصحابُه وَصاحَ : يا معشرَ حرائرِ رسولِ اللهِ هذه صوارمُ فتيانِكُمْ آلوا ألا يغمدوها إلا في رقابِ مَنْ يُريدُ السوء فيكُمْ ، وَهذهِ أسنة غلمانِكُمْ أقسَموا ألا يَركزوها إلا في صُدورِ مَنْ يُفرّق نَاديكم.
فَخرجن النساء إليهم ببكاء وعويل وَقلن أيها الطيبون حاموا عن بناتِ رسولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) وحرائرِ أمير المؤمنين ( عليه السلام ).
فضجّ القومُ بالبكاءِ حتى كأنَّ الارض تَميد بهم (1).
ولقد اجاد الصحيح اذ يقول في ذلك :
ووراءَ أروقة الخيام حكايـة اخرى ، تتيه طيوفها بجمال
فهنالك الاسدي يبدع صورة لفدائه حوريـةَ الاشكــال
ويحاول استنفار شيمة نخبة زرعوا الفلاة رجولة ومعالي
نادى بهم والمجد يشهد أنـه نادى بأعظم فاتحين رجـال
فاذا الفضاء مدجّج بصوارم واذا التراب ملغمٌ بعوالــي
ومشى بهم أسداً يقود وراءه نحو الخلود كتيبة الاشبـال

(1) مقتل الحسين للمقرم : ص 218 ـ 219 ، معالي السبطين : ج1 ، ص344 ـ 346 ، الدمعة الساكبة : ج4 ، ص273 ـ 274 ، بتفاوت.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 49

حتى إذا خدرُ العقيلـة أجهشت استارُه في مسمع الابطـال
القى السـلام فما تبقّت نبضة في قلبه لم ترتعشْ بجـلال
ومذ التقته مع الكآبـة زينـب مخنوقة من همّهـا بحبـال
قطع استدارة دمعة في خدهـا وأراق خاطرها من البلبـال
وتفجر الفرسان بالعهد الـذي ينساب حول رقابهـم بدلال
قرِّي فؤاداً يا عقيلة واحفظـي هذي الدموع فانهنَّ غوالـي
عهد زرعنا في السيوف بذوره وسقته ديمة جرحنا الهطـال

زينب ( عليها السلام ) تتفقّد
خيمة الحسين والعبّاس ( عليهما السلام )

روي عن فخر المخدّرات زينب ( عليها السلام ) قالت : لما كانت ليلة عاشوراء من المحرم خرجتُ من خيمتي لاتفقّد أخي الحسين ( عليه السلام ) وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة فوجدته جالساً وحده يُناجي ربّه ويتلو القرآن ، فقلت في نفسي : أفي مثل هذه الليلة يُترك أخي وحده ، والله لامضين إلى إخوتي وبني عمومتي واُعاتبهم بذلك ، فأتيت إلى خيمة العبّاس فسمعت منها همهمة ودمدمة ، فوقفت على ظهرها فنظرت فيها فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة وبينهم العباس بن أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) وهو جاث على رُكبتيه كالاسد على فريسته.

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 50

العباس يخطب في بني هاشم ويحرِّضهم على
القتال قبل الانصار

فخطب فيهم خطبة ما سمعتها إلاّ من الحسين ( عليه السلام ) مشتملة بالحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي ( صلى الله عليه وآله ).
ثم قال في آخر خطبته : يا إخوتي وبني إخوتي وبني عمومتي إذا كان الصباح فما تقولون ؟
فقالوا : الامر إليك يرجع ونحن لا نتعدى لك قولك.
فقال العبّاس ( عليه السلام ) : إن هؤلاء ، أعني الاصحاب قوم غرباء ، والحمل الثقيل لا يقوم إلاّ بأهله ، فإذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للموت ، لئلا يقول الناس قدّموا أصحابهم فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة ، فقامت بنو هاشم وسلّوا سيوفهم في وجه أخي العباس ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه !
قالت زينب ( عليها السلام ) : فلما رأيت كثرة اجتماعهم وشدّة عزمهم وإظهار شيمتهم سكن قلبي وفرحت ولكن خنقتني العبرة.
حبيب يحاور الانصار ويحرّضهم على القتال
قبل بني هاشم

فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين ( عليه السلام ) وأخبره بذلك فسمعت من خيمة

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 51

حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة ، فمضيت إليها ووقفت بظهرها ونظرت فيها فوجدت الاصحاب على نحو بني هاشم مجتمعين كالحلقة وبينهم حبيب بن مظاهر وهو يقول : يا أصحابي لِمَ جئتم إلى هذا المكان ، أوضحوا كلامكم رحمكم الله فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة ( عليها السلام )!
فقال لهم : لم طلقتم حلائلكم ؟ فقالوا : لذلك !
قال حبيب : فإذا كان في الصباح فما أنتم قائلون ؟
فقالوا : الرأي رأيك ولا نتعدى قولاً لك.
قال : فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للقتال ولا نرى هاشمياً مضرجاً بدمه وفينا عرق يضرب ، لئلا يقول الناس : قدَّموا ساداتهم للقتال وبخلوا عليهم بأنفسهم.
فهزَّوا سيوفهم ( في ) وجهه ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه.
زينب تتعجب من موقف بني هاشم والانصار

قالت زينب : ففرحتُ من ثباتهم ولكن خنقتني العبرة فانصرفت عنهم وأنا باكية ، وإذا بأخي الحسين ( عليه السلام ) قد عارضني فسكنت نفسي وتبسمت في وجهه ، فقال : أُخيّة. فقلت : لبيك يا أخي. فقال ( عليه السلام ) : يا أختاه منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك متبسمة أخبريني ما سبب تبسمك ؟
فقلت له : يا أخي رأيت من فعل بني هاشم والاصحاب كذا وكذا !!

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 52

فقال لي : يا أُختاه إعلمي أن هؤلاء أصحابي (1) من عالم الذرّ وبهم وعدني جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هل تحبين أن تنظري إلى ثبات إقدامِهم ؟
فقلت : نعم. فقال ( عليه السلام ) : عليك بظهر الخيمة.
الامام الحسين ( عليه السلام ) يخطب في أصحابه
ويكشف لهم عن أبصارهم

قالت زينب : فوقفت على ظهر الخيمة ، فنادى أخي الحسين ( عليه السلام ) : أين إخواني وبنو أعمامي ! فقامت بنو هاشم وتسابق منهم العباس وقال : لبيك لبيك ما تقول ؟
فقال الحسين( عليه السلام ) : أُريد أن أُجدد لكم عهداً ، فأتى أولاد الحسين وأولاد الحسن وأولاد علي وأولاد جعفر وأولاد عقيل ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا.

(1) قد جاء في الاحاديث الشريفة إن أصحاب الحسين( عليه السلام ) معروفون بأسمائهم من قبل واقعة الطف ، روى ابن شهراشوب قال : عُنّف ابن عباس على تركه الحسين( عليه السلام ) فقال إن أصحاب الحسين ( عليه السلام ) لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً ، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم ، وقال محمد بن الحنفية وإن أصحابه ( عليه السلام ) عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم. راجع : مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب : ج4 ، ص53 ، بحار الانوار : ج44 ، ص185.
وروى بن قولويه ـ عليه الرحمة ـ قال : حدثني الحسن عن أبيه عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن يعقوب بن شعيب عن حسين بن أبي العلاء قال : والذي رفع اليه العرش لقد حدثني أبوك بأصحاب الحسين( عليه السلام ) لا ينقصون رجلاً ولا يزيدون رجلاً ، تعتدي بهم هذه الاُمّة كما اعتدت بنو إسرائيل يوم السبت.. الخ ، كامل الزيارات لابن قولويه : ص73 ، وعنه بحار الانوار : ج45 ، ص 87.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 53

ثم نادى : أين حبيب بن مظاهر ، أين زهير ، أين هلال ، أين الاصحاب ، فأقبلوا وتسابق منهم حبيب بن مظاهر. وقال : لبيك يا أبا عبدالله ، فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا فخطب فيهم خطبة بليغة.
ثم قال : يا أصحابي ، اعلموا أن هؤلاء القوم ليس لهم قصد سوى قتلي وقتل من هو معي ، وأنا أخاف عليكم من القتل ، فأنتم في حلٍّ من بيعتي ومن أحب منكم الانصراف فلينصرف في سواد هذا الليل.
فعند ذلك قامت بنو هاشم وتكلّموا بما تكلموا ، وقام الاصحاب وأخذوا يتكلمون بمثل كلامهمفلما رأى الحسين ( عليه السلام ) حُسن إقدامهم وثبات أقدامِهم ، قال ( عليه السلام ) : إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى منازلكم في الجنة ، فكشف لهم الغطاء ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها ، والحور العين ينادين العجل العجل فإنا مشتاقات إليكم !
فقاموا بأجمعهم وسلوا سيوفهم ، وقالوا : يا أبا عبدالله أتأذن لنا أن نغير على القوم ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء.
فقال ( عليه السلام ) : اجلسوا رحمكم الله وجزاكم الله خيراً.
الامام الحسين (عليه السلام) يأذن لنساء الأنصار بالانصراف لئلا
تُسبى ومحاورة علي بن مظاهر مع زوجته

ثم قال : ومن كان في رحله امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد ، فقام علي بن مظاهر وقال : ولماذا يا سيدي ؟!

السابق السابق الفهرس التالي التالي