كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 54

فقال(عليه السلام) : إن نسائي تُسبى بعد قتلي وأخاف على نسائكم من السبي ، فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته فقامت زوجته إجلالاً له فاستقبلته وتبسمت في وجهه. فقال لها : دعيني والتبسّم !!
فقالت : يا ابن مظاهر إني سمعت غريب فاطمة (عليهما السلام) خطب فيكم وسمعت في آخرها همهمة ودمدمةً فما علمت ما يقول ؟
قال : يا هذه إن الحسين(عليه السلام) قال لنا : ألا ومن كان في رحله امرأة فليذهب بها إلى بني عمها لاني غداً اُقتل ونسائي تُسبى.
فقالت : وما أنت صانع ؟ قال : قومي حتى أُلحقكِ ببني عمك بني أسد ، فقامت ونطحت رأسها في عمود الخيمة وقالت : والله ما أنصفتني يا بن مظاهر أيسرك أن تُسبى بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا آمنة من السبي ؟ أيسرك أن تُسلب زينب إزارها من رأسها وأنا أتستر بإزاري ؟ أيسرك أن تذهب من بنات الزهراء أقراطها وأنا أتزين بقرطي ؟ أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويسودّ وجهي عند فاطمة الزهراء (عليها السلام) أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء.
فرجع علي بن مظاهر إلى الحسين (عليه السلام) وهو يبكي ، فقال له الحسين(عليه السلام) : ما يبكيك ؟ فقال : سيدي أبتْ الاسدية إلاّ مواساتكم ، فبكى الحسين (عليه السلام) وقال : جُزيتم منّا خيراً (1).
قال الشاعر :
رجال تواصوا حيث طابت أصولهم وأنفسهم بالصبر حتى قضوا صبرا

(1) معالي السبطين للحائري : ج1 ، ص340 ـ 342.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 55

حماة حموا خــدرا أبي الله هتكـه فعظّمه شأنــاً وشرّفــهُ قــدرا
فأصبح نهبــاً للمغاويــر بعدهم ومنه بنات المصطفى أُبرزت حسرى

وقال آخر :
السابقون إلى المكـــارم والعلـى والحائـزون غداً حياض الكـوثـــر
لو لا صوارمهــم ووقع نبالهــم لم تسمــع الاذان صوتَ مكبــر(1)

الاعداء يطوفون حول
خيام الحسين(عليه السلام)

هذا وقد أمر عمر بن سعد حرساً بقيادة عزَرَةَ بن قيس الاحمسي بحراسة الحسين(عليه السلام) وأصحابه ، فاخذوا يطوفون حول البيوت والفسطاط خوفاً من أن يفوت الحسين(عليه السلام) من قبضتهم ، أو يلتحق بمعسكره أحدٌ من الناس (2)
الامام الحسين(عليه السلام) يأمر أصحابه
بحفر الخندق وتنظيم الخيم

قال الراوي : وكان الحسين(عليه السلام) أتى بقصب وحطب إلى مكان مِنْ ورائهم مُنخفض ، كأنَه ساقية فَحفروه ، في ساعة مِنْ الليلِ فَجعلُوه كَالخَندَقِ ، ثمْ ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب ، وَقالوا : إذا عَدوا علينا فقاتلُونا ألقينا فيه النار كيلا نُؤتى مِنْ

(1) نفثة المصدور للقمي : ص 629.
(2) الحسين وأصحابه للقزويني : ج1 ،ص255 ،حياة الامام الحسين للقرشي : ج3 ، ص178.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 56

وَرائنا وَقاتلونا القومُ مِنْ وَجه واحد ، ففعلوا وكانَ لهم نافعاً (1).
وقال الدينوري : وأمر الحسين(عليه السلام) أصحابه أن يضمّوا مضاربهم بعضهم من بعض ، ويكونوا أمام البيوت ، وأن يحفروا من وراء البيوت أخدُوداً ، وأن يضرموا فيه حطباً وقصباً كثيراً ، لئلا يُأتوا من أدبار البيوت فيدخلوها (2).
وجاء في البداية والنهاية : وجعلوا البيوت بما فيها من الحرم وراء ظهورهم ، وقد أمر الحسين(عليه السلام) من الليل فحفروا وراء بيوتهم خندقاً ، وقذفوا فيه حطباً وخشباً وقصباً ، ثم أُضرمت فيه النار لئلا يَخلص أحد إلى بيوتهم من ورائها (3)
وفي الارشاد ، إن الحسين(عليه السلام) خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يُقرّب بعضُهم بيوتَهم من بعض ، وأن يُدخلوا الاطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا بين البيوت فيستقبلون القوم من وجه واحد ، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم (4).
الحكمة من ضم الخيم والمضارب

وقيل إنّه عمل ذلك لعلمه ـ صلوات الله عليه ـ بما كان يضمرُه عمر بن سعد مع رؤساءِ عسكره ليلةَ العاشر ، فقد اتفقت آراؤُهم على أن يهجموا دفعةً واحدةً

(1) تاريخ الطبري : ج 4 ، ص320.
(2) الاخبار الطوال للدينوري : ص 256.
(3) البداية والنهاية لابن كثير : ج4 ، ص178.
(4) الارشاد للمفيد : ص232 ، إعلام الورى للطبرسي : ص240.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 57

على الحسين (عليه السلام) وأصحابه على المخيم ، فيقتلون الرجال ويسبون النساء في ساعة واحدة ، ولذا قال الشيخ المفيد ـ عليه الرحمة ـ : وأقبل القوم يجولون حول بيوت الحسين(عليه السلام) فيرون الخندق في ظهورهم ، والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان اُلقيَ فيه (1) ، ولم يكن لهم طريق إلا من وجه واحد ، فغضبوا بأجمعهم (2).
ويؤيد هذا ماجاء في الانساب : واقتتلوا نصف النهار أشد قتال وأبرحه ، وجعلوا لا يقدرون على إتيانهم إلا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقاربها ، ولمكان النار التي أوقدوها خلفهم ، وأمر عمر بتخريق أبنيتهم وبيوتهم فأخذوا يُخرّقونها برماحهم وسيوفهم (3).
وماجاء في الكامل أيضاً : فلمّا رأى ذلك عمر أرسل رجالاً يُقوّضونها عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم ، فكان النفر من أصحاب الحسين(عليه السلام) الثلاثة والاربعة يتخلّلون البيوت ، فيقتلون الرجل وهو يُقوّض وينهب ويرمونه من قريب أو يعقرونه ، فأمر بها عمر بن سعد فأحرقت.
فقال لهم الحسين(عليه السلام) دعوهم فليحرقوها فأنّهم إذا حرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها فكان كذلك (4).
وقد جاء في بعض الكتب أن بيوتَهم وخيمهم وفساطيطهم كانت مائة

(1) الارشاد للمفيد : ص233.
(2) معالي السبطين للحائري : ص347 (بتصرف).
(3) أنساب الاشراف للبلاذري : ج3 ، ص194.
(4) الكامل في التاريخ لابن الاثير : ج4 ، ص69.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 58

وسبعين ، السبعون للحسين(عليه السلام) وسائر بني هاشم ، والمائة للانصاروالاصحاب (1)والله أعلم بحقائق الامور.
الامام الحسين(عليه السلام)
يرى جدّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) في السَّحَر

روي إن الحسين(عليه السلام) لمّا كانَ وَقتُ السَّحَر خَفقَ برأسهِ خفقةً ثُمَّ استيقظَ فقال : أتعلمونَ ما رأيتُ في منامي السّاعةَ ؟ فقالوا : وَما الذي رأيتَ يا بنَ رسولِ الله ؟
فقال : رأيتُ كأنّ كلاباً قد شدَّت عَليَّ لتنهَشني (2) وَفيها كَلبٌ أبقع رأيتُهُ أشدَّها عَليَّ وَأظنُّ أنّ الذي يَتولّى قَتلي رجلٌ أبرص (3) مِن بين هؤلاءِ القومِ ، ثم إنّي رأيتُ بعدَ ذلك جَدي رسول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَمعَهُ جماعةٌ مِنْ أصحابِه وهو يقولُ لي : يَا بُنَّي أنت شهيدُ آلِ محمّد ، وَقد استبشرَ بكَ أهلُ السماوات وأهل الصفيحِ (4) الاعلى فليكن إفطارُكَ عندي الليلة عَجِّل وَلا تُؤخر!فَهذا مَلكٌ قد نزلَ مِنَ السماءِ ليأخذَ دَمَكَ في قارورة خضراء ، فهذا ما رأيتُ وَقد أزف الامرُ ، واقترَبَ الرحيّلُ مَنْ هَذه الدنيا لا شَكّ في ذلك(5).

(1) الامام الحسين وأصحابه للقزويني : ج1 ، ص258.
(2) وفي الفتوح : تُناشبني.
(3) وفي الفتوح : رجل أبقع وأبرص.
(4) الصفيح أو الصَّفْح : من أسماء السماء ، ومنه ملائكة الصَفْح الاعلى ، أي ملائكة السماء العليا. مجمع البحرين للطريحي : ج2 ، ص386.
(5) بحار الانوار : ج45 ، ص3 ، العوالم : ج17 ، ص247 ، الفتوح لابن الاعثم : ج5 ، ص111 ، مقتل الحسين للخوارزمي : ج1 ص251.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 59

الاعداء يسمعون تلاوة الحسين
(عليه السلام) وكلام برير معهم(1)

روى الضحاك (2)بن عبدالله المشرقي قال : فلّما أمسى حسينٌ(عليه السلام) وأصحابُه

(1) هو : بُرير بن خُضير الهمداني المشرقي ، وبنو مشرق بطن من همدان ، كان شيخاً تابعياً ناسكاً قارئاً للقرآن من شيوخ القراء ، ومن أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيين ، وهو القائل للحسين(عليه السلام) لما خطب في أصحابه في الخطبة التي يقول فيها : أما بعد فإن الدنيا تغيّرت...الخ. ثم قام برير فقال : والله يابن رسول الله لقد من الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، تقطع فيك أعضاؤنا حتى يكون جدك يوم القيامة بين أيدينا شفيعاً لنا ، فلا أفلح قوم ضيعوا ابن بنت نبيهم ، وويلٌ لهم ماذا يلقون به الله ، وأُف لهم يوم ينادون بالويل والثبور في نار جهنم ، قُتل بين يدي الحسين(عليه السلام) وأبلى بلاءً حسناً.
راجع : إبصارالعين للسماوي : ص70 ، أنصارالحسين لشمس الدين : ص 76 ـ 77.
(2)هو : الضحّاك بن عبدالله المشرقي ، كان قد أعطى الحسين(عليه السلام) عهداً أن يقاتل معه ما كان قتاله معه نافعاً ، فإذا لم يجد مقاتلاً معه كان في حل من الانصراف ، قال الضحاك : لما رأيت أصحاب الحسين قد أصيبوا وقد خَلُص إليه وإلى أهل بيته ولم يبق معه غير سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي وبشير بن عمرو الحضرمي قلت له : يا ابن رسول الله قد علمت ما كان بيني وبينك ، قلت لك : أقاتل عنك ما رأيتُ مقاتلاً فإذا لم أر مقاتلاً فأنا في حلٍّ من الانصراف ، فقلت لي نعم ، فقال : صدقت وكيف لك بالنجاء إن قدرت على ذلك فأنت في حلٍّ ، قال : فأقبلت إلى فرسي وقد كنت حيث رأيت خيل أصحابنا تُعقر أقبلت بها حتى أدخلتها فسطاطاً لاصحابنا بين البيوت ، وأقبلت اُقاتل معهم راجلاً فقتلت يومئذ بين يدي الحسين رجلين وقطعت يد آخر ، وقال لي الحسين يومئذ مراراً : لا تشلل ، لا يقطع الله يدك جزاك الله خيراً عن أهل بيت نبيك (صلى الله عليه وآله) فلما أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط …الخ.
راجع : تاريخ الطبري : ج 4 ، ص 339 ، أنصار الحسين لشمس الدين : ص 64.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 60

قاموا الليلَ كلَّه يُصلونَ ويستغفرون ويَدعونَ ويتضرعون ، قال : فتمرُ بنا خيلٌ لَهم تَحرِسُنا ، وإنّ حسيناً(عليه السلام) لَيقرأ : «ولا يَحسبنَّ الذين كَفرُوا أنّما نُملي لهم خَيراً لانفُسِهم إنما نُملي لهُم ليِزدادُوا إثماً ولهم عذابٌ مُهين • ما كان الله ليذرَ المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يَميزَ الخبيثَ مِنَ الطيّب »(1).
فسمِعَها رَجلٌ مِنْ تلكَ الخيلِ التي كانت تحرسُنا ، فقال : نَحنُ وَربِّ الكعبةِ الطيبونَ مُيزنا منِكُمْ ، قال : فَعرفتُه ، فقلتُ لبِرُير بنِ خُضَير : تدري من هذا ؟ قال : لا ، قلتُ : هذا أبو حَرْب السبيعي عبدالله بن شهر وكان مضحاكاً بطلاً ، وكانَ شريفاً شجاعاً فاتكاً ، وكان سعيدٌ بن قيس ربَّما حَبسُه في جناية ، فقال له بُريرُ بنُ خضير : يا فاسق أنت يَجعلكَ اللهُ في الطيبينَ ، فقال له : من أنت ؟
قال : أنا بريرُ بنِ خضير ، قال : إنّا لله ، عزّ عليَّ هلكتَ والله هَلكت والله يا بريرُ ، قال : يا أبا حرب هل لك أن تتوب إلى اللهِ من ذنوبك العظام ، فوالله إنا لنحنُ الطيبونَ ولكنَّكُمْ لانتُم الخبيثونَ ، قال : وأنا على ذلك من الشاهدين ، قلتُ : ويحك أفلا ينفعُكَ معرِفتُكَ ، قال : جُعلتُ فِداكَ فمَن يُنادمُ يزيدُ بنِ عذرة الغفري من عنز بنِ وائلة ، قال : هاهو ذا معي ، قال : قَبّحَ اللهُ رأيَك على كلِ حال أنت سفيه ، قال : ثم انصرفَ عنا ، وكانَ الذي يحرسُنا بالليلِ في الخيلِ عَزْرةُ بنِ قيس الاحمسي وكانَ على الخيل (2).
وقد رويت هذه الحادثة بصورة اُخرى كما عن ابن الاعثم الكوفي

(1) سورة آل عمران الاية : 178 ـ 179.
(2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص419 ـ 420 ، البداية والنهاية لابن كثير : ج4 ، ص177 ـ 178 ، الارشاد للمفيد : ص232 ـ 233 ، بحار الانوار : ج45 ، ص3 ـ 4.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 61

والخوارزمي ، قالا : وجاء شمر بن ذي الجوشن في نصف اليل يتجسس ومعه جماعة من أصحابه حتي قارب معسكر الحسين(عليه السلام) فسمعه يتلو قوله تعالي :«ولا يَحسبنَّ الذين كفرُوا أنما نُملي لهُم خيرٌ لانفُسهم إنَّما نُملي لهُم ليِزدادُوا إثماً ولهُم عذابٌ مُهين • ماكان اللهُ ليذرَ المؤمنينَ على ما أنتُم عليه حتى يَميزَ الخبيثَ مِنَ الطَّيبَ» الاية(1).
فصاح رجل من أصحاب شمر : نحن وربّ الكعبة الطيبون ، وأنتم الخبيثون وقد مُيزّنا منكم ، فقطع برير بن خضير الهمداني صلاته ، ثم نادى : يا فاسق ، يا فاجر! يا عدوا الله ، يابن البوال على عقبيه ، أمثلُك يكون من الطيبين !؟ والحسين ابن رسول الله من الخبيثين ، والله ما أنت إلا بهيمة لا تعقل ما تأتي وما تذر ،فابشر يا عدو الله بالخزي يوم القيامة والعذاب الاليم ، فصاح شمر : إن الله قاتلك وقاتل صاحبك عن قريب.
فقال برير أبالموت تخوفني ؟! والله إن الموت مع ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحب اليَّ من الحياة معكم ، والله لا نالت شفاعةُ محمد (صلى الله عليه وآله) قوماً أراقوا دماء ذريته وأهل بيته !
فجاء إليه رجل من أصحابه وقال : يا برير إن أبا عبدالله يقول لك : ارجع إلى موضعك ولا تُخاطب القوم ، فلعمري لئِن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء ، فلقد نصحت وأبلغت في النصح والدعاء (2).

(1) سوره آل عمران : الايه 178 ـ 179.
(2) الفتوح لابن الاعثم الكوفي :ج5 ،ص110 ـ 111 ،مقتل الحسين للخوارزمي :ج1 ،ص251.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 62

عبادة الحسين (عليه السلام)
وأصحابه

وَبات الحسين(عليه السلام) وأصحابُه ـ ليلةَ عاشوراء ـ وَلهم دويٌّ كَدويِّ النحلِ ، مَا بَينَ راكع وساجد ، وقائم وقاعد ، فَعبرَ عليهم مِنْ عسكرِ عُمر بنِ سَعد اثنانِ وَثلاثونَ رَجلاً ، وَكذا كانت سجيةُ الحسينِ(عليه السلام) في كَثرةِ صَلاتِه وَكمالِ صِفاته (1).
فكان ـ صلوات الله عليه ـ كما وصفه ابنه إمامنا المهدي(عليه السلام) : كنت للرسول ولداً ، وللقرآن سنداً ، وللاُمة عضُداً ، وفي الطاعة مجتهداً ، حافضاً للعهد والميثاق ، ناكباً عن سبيل الفُسّاق ، تتأوّه تأوّه المجهود ، طويلَ الرّكوعِ والسّجود ، زاهداً في الدنيا زهدَ الرَّاحل عنها ، ناظراً إليها بعين المستوحشين منها (2).
وقيل للامام علي بن الحسين (عليهما السلام) : ما أقلَّ ولد أبيك ؟
فقال(عليه السلام) : العجب كيف ولدت له ، وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ، فمتى كان يتفرغ للنساء !! وحجّ خمسة وعشرين حجة راجلاً (3).
وروي عن الامام علي بن الحسين (عليهما السلام) : أنّه في الليلة التي قُتل أبوه في غدها ، قال(عليه السلام) :إن أباه قام الليل كلَّه يصلّي ، ويستغفر الله ويدعو ويتضرع ، وقام أصحابه كذلك يدعون ويصلّون ويستغفرون (4).

(1) اللهوف لابن طاووس : ص41.
(2) بحار الانوار : ج 98 ، ص 239 ، نفس المهموم للقمي : ص 233.
(3) العقد الفريد للاندلسي : ج3 ، ص169 ، و ج4 ، ص384 ، دار الكتاب العربي و ج3 ، ص114 ـ 115 ، و ج5 ، ص133 نشر دار الكتب العلمية ، تاريخ اليعقوبي : ج2 ،ص247.
(4) إعلام الوري : ص240 ، الارشاد للمفيد : ص232 ، بحار الانوار : ج45 ، ص3.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 63

وقيل : أنه ما نام في هذه الليلة الحسين (عليه السلام) ولا أحد من أصحابه وأعوانه إلى الصبح ، وكذلك النسوة والصبيان وأهل البيت كلّهم يدعون ، ويوادعون بعضهم بعضاً (1).
قال السيد الامين ـ عليه الرحمة ـ :
باتــوا وبات إمامهم ما بينهم ولهم دوي حولـه ونحيــب
من راكع أَو ساجد أو قـاريء أو مَنْ يُناجي رَبَّهُ وَينيبُ (2)

وقال أيضاً ـ عليه الرحمة ـ :
باتَ الحسين ُ وصَحبُه مِنْ حولهِ وَلَهم دويُّ النحل لمّا باتــوا
من رُكّع وَسطَ الظلامِ وسُجّـد للهِ مِنهم تَكثـرُ الدعـــواتُ
وتراءت الحورُالحسانُ وزُينت لقدومِهم بنعيمِهـا الجنّــاتُ
وَبدا الصباحُ وَلم تنمْ عينٌ لَهمْ كلاّ وَلا نَابتْهُمُ غَفــواتُ (3)

عبادةُ أبي الفضل العباس
(عليه السلام)

وكان العباس(عليه السلام) في العبادة وكَثرة الصلاة والسجود بمرتبة عظيمة ، قال الصدوق ـ عليه الرحمه ـ في ثواب الاعمال : كان يُبصَرُ بين عينيه أثَر السجود (4) ،

(1) الامام الحسين(عليه السلام) وأصحابه للقزويني : ج 1 ، ص262.
(2) الدر النضيد للسيد الامين : ص 23.
(3) نفس المصدر : ص 73.
(4) ثواب الاعمال للصدوق : ص259.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 64

لكن وأي عبادة أزكى وأفضل من نصرة ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحماية بنات الزهراء ، وسقي ذراري رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قيل : إن أصحاب الحسين(عليه السلام) باتوا ليلة العاشر من المحرم ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد ، لكن خُصص العباس(عليه السلام) من بينهم بحفظ بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته ، كان راكباً جواده متقلداً سيفه آخذاً رمحه يطوف حول الخيم ، لانه آخر ليلة أراد أن يوفي ماكان عليه ويرفع الوحشة عن قلوب الهاشميات حتى يَجدنَ طيب الكرى ، وقد أحاطت بهن الاعداء !
وكانت عيون الفاطميات به قريرة ، وعيون الاعداء منه باكية ساهرة ، لانهم خائفون مرعوبون من أبي الفضل(عليه السلام) وما تنام أعينهم خوفاً من بأسه وسطوته ونكال وقعته ، وانقلب الامر ليلة الحادي عشر ، قرت عيون العسكر ، وبكت وسهرت عيون الفاطميات ، ولنعم ما قيل :
اليوم نامت أعينٌ بك لم تنمْ وتسهدت أخرى فعزّ منامُنها(1)

وقال الفرطوسي ـ عليه الرحمة ـ :
وبنو هاشم نطــاقُ عيــون مستدير على خيام النســاءِ
وأبو الفضل فارسُ الجمع ترنو مقلتاهُ لمقلة الحــوراءِ (2)

ويقول السيد مدين الموسوي :
نامت عيونُ القوم أجمعُها وعُيونهم مشبوحةُ النظـرِ
لله ترمقهُ ويـرمقُهـــا كِبراً وهم يعلون في كبـرِ

(1) معالي السبطين للحائري : ج 1 ، ص 443.
(2) ملحمة أهل البيت للفرطوسي : ج 3 ، ص 292.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 65

عبادةُ العقيلة زينب
(عليها السلام)

كانت زينب (عليها السلام) في عبادتها ثانية أمّها الزهراء (عليها السلام) وكانت تقضي عامّة لياليها بالتهجد وتلاوة القرآن.
قال بعض ذوي الفضل : إنها ـ صلوات الله عليها ـ ما تركت تهجّدها لله تعالى طول دهرها ، حتى ليلة الحادي عشر من المحرم.
قال : وروى عن زين العابدين(عليه السلام) أنه قال : رأيتها تلك الليلة تصلي من جلوس !
وعن الفاضل القائيني البيرجندي ، عن بعض المقاتل المعتبرة ، عن مولانا السجاد(عليه السلام) أنه قال : إن عمتي زينب (عليها السلام) مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا إلى الشام ما تركت نوافلها الليلية.
وعن الفاضل المذكور ، إن الحسين (عليه السلام) لمّا ودّع أخته زينب ( عليها السلام ) وداعه الاخير قال لها : يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل.
وفي مثير الاحزان (1) للعلامة الشيخ شريف الجواهري قدس سره : قالت فاطمة بنت الحسين (عليهما السلام) وأما عمتي زينب (عليها السلام) فإنها لم تزل قائمة في تلك الليلة أي العاشرة من المحرم في محرابها تستغيث إلى ربها ، فما هدأت لنا عين ، ولا سكنت لنا رنّة (1).

(1) مثير الاحزان للجواهري : ص 56.
(2) زينب الكبرى للنقدي : ص 81 ـ 82.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 66

يقول العلامة النقدي عليه الرحمة :
ربيبة عصمة طُهّرت وطابت وفاقت في الصّفات وفي الفعالِ
فكانت كالائمـة في هُداهــا وإنقاذ الانـام من الضــلالِ
وكان جهادُها بالقول أمضـى من البيض الصوارم والنصالِ
وكانت في المُصلّى إذ تُناجي وتدعو الله بالدمـع المُــذالِ
ملائكة السماء على دُعاهــا تُؤمن في خضوع وابتهــالِ
روت عن أمها الزهرا علوماً بها وصلت إلى حدّ الكمــالِ
مقاماً لم تكن تحتــاج فيـه الى تعليـم علـم أو ســؤالِ
ونالت رتبة في الفخر عنهـا تأخرت الاواخــر والاوالـي
فلو لا أمها الزهـراء سادت نساءَ العالمينَ بلا جـدالِ (1)

الامام الحسين(عليه السلام) يطلي بالنورة
وبرير يهازل عبدالرحمن

وروي عن أبي صالح الحنفيِّ عن غلام لعبد الرحمن بن عبدربه الانصاري (2) ،

(1) زينب الكبري للنقدي : ص 173.
(2) هو : عبد الرحمن بن عبد ربه الانصاري الخزرجي ، أحد الشخصيات البارزة ، وكان صحابياً ومن مخلصي أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو أحد الصحابة الذين شهدوا لامير المؤمنين بالولاية ، لما نشدهم في الرحبة بحديث الغدير : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وقيل إن أمير المؤمنين هو الذي علّم

=

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 67

قال : كنت مع مولاي فلما حضر الناس وأقبلوا إلى الحسين(عليه السلام) أمر الحسين بفسطاط فضرب ثم أمر بمسك (1) فميث (2) في جفنة (3) عظيمة أو صفحة ، قال : ثم دخل الحسين(عليه السلام) ذلك الفسطاط فتطلى بالنورة ، قال : ومولاي عبد الرحمن بن عبدربه وبُرير بن خضير الهمداني على باب الفسطاط تحتكّ مناكبهما ، فازدحما أيهما يطّلي على أثره فجعل برير يهازل عبد الرحمن !
فقال له عبدالرحمن : دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل ! فقال له برير : والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً، ولكن والله إني لمستبشر بما نحن لاقون ، والله إن بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم ولوددت أنهم قد مالوا علينا بأسيافهم !
قال : فلما فرغ الحسين(عليه السلام) دخلنا فاطّلينا (4)(5).

=
عبدالرحمن القرآن وربّاه ، وكان عبدالرحمن أحد الذين أخذوا البيعة للحسين (عليه السلام) في الكوفة ، وجاء مع الحسين فيمن جاء من مكة ، وقُتل عبدالرحمن في الحملة الاُولى.
راجع : إبصار العين : ص 93 ، أنصار الحسين لشمس الدين : ص 97.
(1) روي عن يسار بن عبد الحكم قال : أنتُهب عسكر الحسين (عليه السلام) فوجد فيه طيب ، فما تطيبت به امرأة إلا برصت. العقد الفريد : ج4 ،ص 384 دار الكتاب العربي ، و ج5 ، ص133 ، دار الكتب العلمية.
(2) موث : ماث موثاً وموثاناً ، الشيء بالشيء خلطه به ، والشيء في الماء أذابه فيه ، المنجد : ص 779.
(3) الجَفْنَة : القصعة الكبيرة.
(4) قد اُختلف في وقوع هذه الحادثة ليلاً ، وقد رواها أبو مخنف في اليوم التاسع ، قال الفاضل القزويني : ويظهر من ابن نما أيضاً أن ذلك كان في غداة يوم عاشوراء ، وهو بعيد جداً ، وأبعد منه أن ذلك كان في ليلة تاسوعاء ، صرح بذلك في الناسخ ، وقد ذكر جملة من وقائع ليلة عاشوراء في ليلة تاسوعاء ، وهو اشتباه في اشتباه. والاكثر ـ على ما صرحوا به ـ أنه كان في ليلة عاشوراء وهو الاصح نقلاً واعتباراً. الامام الحسينوأصحابه للقزويني : ج1 ، ص259.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 68

وجاء في البداية : فعدل الحسين(عليه السلام) إلى خيمة قد نُصبت فاغتسل فيها وانطلى بالنورة وتَطيّب بمسك كثير ، ودخلَ بعدَهُ بعضُ الامراء ففعلوا كما فعل ، فقال بعضهم لبعض : ما هذا في هذه الساعة ؟! فقال بعضهم : دعنا منك ، والله ما هذه بساعة باطل ! فقال يزيد بن حصين : والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً ، ولكن والله إني لمستبشر بما نحن لا قون ، والله ما بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء القوم فيقتلوننا (1).
استبشار الأنصار بالشهادة

ولقد مزح حبيب ابن مظاهر الاسدي ، فقال له يزيد بن خضير الهمداني ، وكان يقال له سيد القرآء : ياأخي ليس هذه بساعة ضحك ! قال : فأيُّ موضع أحقُّ من هذا بالسرور ، والله ماهو إلا أن يميل علينا هذه الطُّغام بسيوفهم فنعانق الحور العين (2).
هكذا كان أصحاب الحسين(عليه السلام) مستأنسين بالمنيّة غير مكترثين بما يجري عليهم فقد روي أن نافع بن هلال البجلي ـ رضي الله تعالى عنه ـ قضى شَطرَ ليله في كتابة اسمه على سهام نبله ، إمعاناً في طلب المثوبة والاجر ، وإمعاناً في السخرية

(1) البداية والنهاية لابن كثير : ج4 ، ص178.
(2) إختيار معرفت الرجال للطوسي : ج1 ، ص293 ، بحار الانوار : ج45 ، ص93.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 69

من الخطر ، وإمعاناً في الترحيب بالموت(1)
وقد أجاد السيد مدين الموسوي إذ يقول :
ما هزهم عصفٌ ولا رعشت أعطـافهم في داهم الخطـرِ
يتمايلون وليس من طــرب ويسامـرون وليس من سمرِ
إلا مع البيـض التي رقصـت بأكفهم كمطـالـع الزهــرِ
يتلون سر الموت في سـور لم يتلها أحد مـع الســورِ
ويرتّلون الجــرح في وله فكأنه لحـنٌ علـى وتــرِ
خفّوا لداعي الموت يسبقهـم عزمٌ تحدى جانة الصـخـرِ
مُذ بان جنب الله مقعدهــم ورأوه ملَ الروح والبصـرِ

الامام الحسين (عليه السلام)
يرسل ابنه عليّاً(عليه السلام) لسقاية الماء

روي عن الامام الصادق(عليه السلام) في الامالي : ثم إن الحسين(عليه السلام) أمر بحفيرة فحفرت حول عسكره شبه الخندق وأمر فحُشيت حطباً ، وأرسل علياً ابنه(عليه السلام) في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ليستقوا الماء وهم على وجل شديد وأنشأ الحسين(عليه السلام) يقول :
يا دهر اُفٍ لك من خليــل كم لك في الاشراق والاصيل
من طالب وصاحب قتيــل والدهرُ لا يقنعُ بالبديـــل

(1) أبناء الرسول في كربلاء ، خالد محمد خالد : ص 119 ، الدوافع الذاتية لانصار الحسين ، محمد عابدين : ص 231.

السابق السابق الفهرس التالي التالي