خصائص ألأئمة عليهم السلام 41

طرف من الاحتجاج للنص عليه ، عليه السلام

مما يدل على ذلك أن الشيعة جماعة كثيرة لا يحصرهم العدد ، ولا يشتمل عليهم بلد ، وقد طبقوا البلدان ، وملؤا الاقطار ، وساروا شرقا وغربا وانتشروا برا وبحرا ، على اختلاف أوطانهم ، وتباعد ديارهم ، وتفاوت هممهم ، وأهوائهم ، وتباين أقاويلهم وآرائهم ، وانتفاء الاسباب الموجبة للشك ، والوقوف في خبرهم ، وفيهم مع ذلك عدد كثير ، وجم غفير ، من أهل بيت النبي عليه السلام ، وذريه وأصحابه ومواليه ، ينقلون نقلا متصلا متواترا ان النبي صلى الله عليه وآله ، قد إستخلف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، على امته بعد وفاته ، ونص عليه ، وفرض طاعته في أمر الدين كله ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فعل ذلك ظاهرا مكشوفا ، فوجب قبول هذا الخبر علما ويقينا.
فإن قال قائل : إنهم إنما كثروا الآن ، وان اولهم كان قليلا ، وسلفهم كان يسيرا مغمورا ، قيل له : ما الفضل بينك وبين من احتج عليك بمثله من الملحدين ، وسائر المخالفين ؟ فقال : إن آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لا تصح لان عدد المسلمين الناقلين لها كان قليلا في الاول ، وإنما كثر الآن فلا تجد بينهما فصلا.

خصائص ألأئمة عليهم السلام 42

فصل فيما روي من الاشعار
في نص النبي على أمير المؤمنين عليهما الصلاة والسلام
في يوم الغدير

فمن ذلك ما رواه نقلة الآثار أن حسان بن ثابت الانصاري (1) إستأذن النبي عليه السلام ، يوم الغدير بعد فراغه من المقام أن يقول شعرا في ذلك ، فأذن له فأنشأ يقول :
ينـاديهم يوم الغدير نبيهم بخـم وأسمع بـالرسول مناديا
فقال : فمن مولاكم ووليكم فقالوا : ولم يبدوا هناك التعاديا
اِلهك مولانـا ، وانت ولينا ولم تر منـا في المقالة عاصيا
فقال له : قم يا علي فإنني رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمـن كنت مولاه فهذا وليه فكونوا له أنصار صدق مواليا
هنـاك دعا اللهم وال وليه وكن للذي عـادى عليا معاديا

فقال له النبي صلى الله عليه وآله : لا تزال يا حسان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك (2).
واتفق حملة الاخبار على نقل شعر قيس بن عبادة (3) وهو ينشده بين يدي

(1) ابو الوليد حسان بن ثابت بن المنذر المتوفى 54/55 عاش ستين سنة في الجاهلية وستين في الاسلام.
(2) الغدير 2/39 ـ 34.
(3) سيد الخزرج قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الانصاري مات في آخر خلافة معاوية وقيل سنة 59/60.
خصائص ألأئمة عليهم السلام 43

أمير المؤمنين عليه السلام ، بعد رجوعه من البصرة في قصيدته التي أولها :
قلت لما بغـى العـدو علينـا حسبنـا ربنـا ونـعم الوكيـل
حسـبنـا ربنـا الــذي فتح البصرة بالامس والحديث طويل

إلى أن بلغ فيها إلى قوله :
وعـلي إمـامـا وإمــام لسوانـا أتى بـه التنزيـل
يوم قال النبي من كنت مولاه فهـذا مولاه خطب جـليل
إنمـا قاله النبي على الامة حتـم ما فيه قال وقيل (1)

وهذان الشاعران (2) صحابيان شهدا بالامامة لامير المؤمنين عليه السلام شهادة من حضر هذا المشهد ، وعرف المصدر والمورد.
ثم هذا الكميت بن زيد الاسدي (3) وهو غير مشكوك في فصاحته ، ومعرفته بالعربية يقول :
ويوم الدوح دوح غدير خم أبـان له الولايـة لو اطيعا
ولكن الرجال تـبايعوهـا فلم أر مثلها خطرا منيعا (4)

وهذا السيد بن محمد بن الحميري (5) وليس بدون في الفصاحة ، ولا بمتأخر في البلاغة يقول من قصيدة :
قالوا لـه لو شئت أعلمتنا لى مـن الغايـة والـمفزعُ
فقـام في خم النبي الذي كان بمـا قيل لـه يصـدع
فقال مـأمورا وفـي كفه كفـه علـي لهـم تلـمـع
من كنـت مولاه فهذا له مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا


(1) الغدير 2/67.
(2) حسان بن ثابت ، وقيس بن سعد بن عبادة.
(3) ابو المستهل الكميت بن زيد بن خنيس الاسدي المقتول 126 من كبار شعراء العربية .
(4) ديوان الهاشميات/18.
(5) ابو هاشم اسماعيل بن محمد بن يزيد بن وداع الحميري الملقب بالسيد والمتوفي 173.
خصائص ألأئمة عليهم السلام 44

وعلى ذكر هذه الابيات فإني مورد حديثا طريفا سمعته في معناه وهو متعلق بها ... حكي أن زيد (1) بن موسى بن جعفر بن محمد عليهم السلام ، رأى رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام كأنه جالس مع أمير المؤمنين عليه السلام ، في موضع عال شبيه بالمسناة ، وعليها مراق ، فإذا منشد ينشد قصيدة السيد بن محمد الحميري هذه ، واولها :
لام عمرو باللوى مربع طامسة أعلامه بلقع (2)


(1) هذه الحكاية عن زيد غير معروفة بين أهل الاثر ، والمعروف ما ذكره المجلسي في البحار باب مدائح الصادق عليه السلام المجلد 47/328 بما لفظه : وجدت في تأليفات بعض أصحابنا أنه روي بإسناده عن سهل بن ذبيان قال : دخلت على الامام علي بن موسى الرضا عليهم السلام في بعض الايام قبل أن يدخل أحد من الناس فقال لي : مرحبا بك يا ابن ذبيان ، الساعة أراد رسولنا أن يأتيك لتحضر عندنا.
فقلت : لماذا يا ابن رسول الله ؟ فقال : لمنام رأيته البارحة وقد أزعجني وأقلقني ، فقلت : خيرا يكون إن شاء الله تعالى ، فقال يا ابن ذبيان : رأيت كأني نصب لي سلم فيه مائة مرقاة ، فصعدت إلى أعلاه : فقلت يا مولاي : اهنيك بطول العمر ، وربما تعيش مائة سنة لكل مرقاة سنة ، فقال عليه السلام : ما شاء الله كان. ثم قال : فلما صعدت رأيت كأني دخلت في قبة خضراء ، يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، ورأيت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا فيها ، وإلى يمينه وشماله غلامان حسنان ، يشرق النور من وجههما ، ورأيت إمراة بهية الخلقة ، وبين يديه شخصا بهي الخلقة جالسا عنده ، ورأيت رجلا واقفا وهو يقرأ : لام عمرو باللوى مربع .. فلما رآني النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : مرحبا بك يا ولدي يا علي بن موسى الرضا ، سلم على أبيك وأمك فاطمة ، وعلى أبويك الحسن ، والحسين عليهم السلام ، فسلمت ، قال : وسلم على شاعرنا ومادحنا السيد إسماعيل الحميري ، فسلمت وجلست ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : عد إلى ما كنا فيه ، فلما أنشده لام عمرو .. الخ بكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما قال : ووجهه كالشمس إذ تطلع ... بكى النبي ومن معه ، ولما بلغ إلى قوله : قالوا له لو شئت أعلمتنا .. قال : وأشار بيده إلى علي وقال : آلهي أنت الشاهد اني قد أعلمتهم أن الغاية والمفزع علي بن أبي طالب.
ولما فرغ من القصيدة إلتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلي ، وقال : يا علي بن موسى إحفظ هذه القصيدة ، ومر شيعتنا بحفظها ، واعلمهم أن من حفظها وأدمن قراءتها ضمنت له على الله الجنة ، قال الرضا عليه السلام : ولم يزل يكررها حتى حفظتها منه ، والقصيدة هذه ثم ذكرها برمتها.
هذا المنام جاء بكامله في كتاب مجالس المؤمنين 2/502. منتهى المقال/142. تنقيح المقال 1/142. أعيان الشيعة 13/170. الغدير 2/222. أخبار السيد الحميري/35. (2) الغدير 2/219. اخبار السيد الحميري/31. الاغاني 7/240. وقد شرح هذه العينية جمع من اعلام الطائفة كما خمسها جمع من العلماء والادباء.
خصائص ألأئمة عليهم السلام 45


حتى إنتهى إلى قوله :
قالوا له لو شئت أعلمتنا إلـى من الغـاية والمفزع

قال : فنظر رسول الله إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليهما ، وتبسم ثم قال : أولم أعلمهم ؟ أولم أعلمهم ؟ أولم أعلمهم ؟ ثلاثا ، ثم قال لزيد : إنك تعيش بعدد كل مرقاة رقيتها سنة واحدة ، قال : فعددت المراقي فكانت نيفا وتسعين مرقاة ، فعاش زيد نيفا وتسعين سنة.
وهو الملقب بزيد النار ، وانما سمي بذلك لانه لما غلب على البصرة أحرق نفرا من أهلها ، وأسواقا كثيرة منها (1).
وما اشد إستحساني لجواب كان بعض المتقدمين من الشيعة يجيب به من سأله عن قعود أمير المؤمنين عليه السلام ، وتركه طلب الامر ، ودعاء الناس إلى نفسه ، وهو أنه كان يقول : أمير المؤمنين عليه السلام كان في هذا الامر فريضة ، من فرائض الله تعالى أداها نبي الله صلى الله عليه وآله إلى قومه ، مثل الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج ، وليس على الفرائض أن تدعوهم إلى أنفسها ، وتحثهم على طلبها ، وإنما عليهم أن يجيبوها ، ويسارعوا إليها ، وكان أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الامر أعذر من هارون لان موسى عليه السلام لما ذهب إلى الميقات ، قال لهارون : « اخلفني في قومي واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين » (2). (2). فجعله رقيبا عليهم وزعيما لهم ، وأن نبي الله تعالى صلى الله عليه وآله نصب عليا عليه السلام لهذه الامة علما ، ودعاهم إليه وحضهم عليه ، فعلي عليه السلام في عذر من لزوم بيته ، وإرخاء ستره ، والناس في حرج حتى يخرجوه من مكمنه ، ويستثيروه من مربضه ، ويضعوه في الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله.

(1) تنقيح المقال 1/471. مقاتل الطالبيين/534. جمهرة انساب العرب/64. الاعلام 3/102.
(2) سورة الاعراف/142.
خصائص ألأئمة عليهم السلام 46

ومن أعلامه ودلائله عليه السلام

على الاختصار منها ، والاقتصار على بعضها ، فلو أني نشرت ما طويت منها لرماني الناس بيد واحدة عن قوس واحدة ، وكذلك أنا في أخبار سائر الائمة عليهم السلام.
روي إن أمير المؤمنين عليا ـ عليه السلام ـ كان جالسا في المسجد إذ دخل عليه رجلان فاختصما إليه ، وكان أحدهما من الخوارج ، فتوجه الحكم إلى الخارجي فحكم عليه أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال له الخارجي : والله ما حكمت بالسوية ولا عدلت في القضية ، وما قضيتك عند الله تعالى بمرضية ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام وأومأ إليه إخسأ عدو الله ، فاستحال كلبا أسود ، فقال من حضره : فوالله لقد رأينا ثيابه تطاير عنه في الهواء ، وجعل يبصبص لامير المؤمنين عليه السلام ، ودمعت عيناه في وجهه ، ورأينا أمير المؤمنين عليه السلام وقد رق فلحظ السماء ، وحرك شفتيه بكلام ، لم نسمعه فوالله لقد رأيناه وقد عاد إلى حال الانسانية ، وتراجعت ثيابه من الهواء ، حتى سقطت على كتفيه ، فرأيناه وقد خرج من المسجد ، وان رجليه لتضطربان.
فبهتنا ننظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال لنا : ما لكم تنظرون وتعجبون ؟ فقلنا يا أمير المؤمنين : كيف لا نتعجب وقد صنعت ما صنعت.
فقال : أما تعلمون أن آصف بن برخيا ، وصي سليمان بن داود عليهما السلام قد صنع ما هو قريب من هذا الامر فقص الله جل أسمه قصته حيث

خصائص ألأئمة عليهم السلام 47

يقول : « قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ{38} قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ{39} قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ{40} »(1).
فايما أكرم على الله نبيكم أم سليمان عليهما السلام ؟ فقالوا : بل نبينا عليه السلام أكرم يا أمير المؤمنين قال : فوصي نبيكم أكرم من وصي سليمان وإنما كان عند وصي سليمان عليهما السلام من إسم الله الاعظم حرف واحد ، فسأل الله جل إسمه فخسف له الارض ما بينه وبين سرير بلقيس فتناوله في أقل من طرف العين ، وعندنا من إسم الله الاعظم إثنان وسبعون حرفا ، وحرف عند الله تعالى إستأثر به دون خلقه. فقالوا له يا أمير المؤمنين : فإذا كان هذا عندك فما حاجتك إلى الانصار في قتال معاوية وغيره ، واستنفارك الناس إلى حربه ثانية ؟ فقال : بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ{26} لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ{27} (2) إنما أدعو هؤلاء القوم إلى قتاله لثبوت الحجة ، وكمال المحنة ، ولو أذن لي في إهلاكه لما تأخر ، لكن الله تعالى يمتحن خلقه بما شاء ، قالوا فنهضنا من حوله ونحن نعظم ما أتى به عليه السلام (3).

الحميري عن أحمد بن محمد ، عن جعفر بن محمد بن عبيد الله ، عن عبد الله بن ميمون ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عن آبائه عليهم السلام ، قال مر أمير المؤمنين عليه السلام في ناس من أصحابه بكربلاء فلما مر بها إغرورقت عيناه بالبكاء ، ثم قال : هذا مناخ ركابهم ، وهذا ملقى رحالهم ، وهاهنا تهراق دماؤهم ، طوبى لك من تربة عليها تهراق دماء الاحبة (4).

(1) سورة النمل/39.
(2) سورة الانبياء/ 26 ـ 27.
(3) البحار 35/429 ـ 436. باب في أنه عليه السلام عنده علم الكتاب. سفينة البحار 1/23. تفسير الصافي 4/67.
(4) وقعة صفين/142.
خصائص ألأئمة عليهم السلام 48

وباسناد عن الاصبغ بن نباته ، عن عبد الله بن عباس ، قال : كان رجل على عهد عمر بن الخطاب وله فلاء (1) بناحية اذربيجان قد إستصعبت عليه فمنعت جانبها ، فشكى إليه ما قدنا له وانه كان معاشه منها ، فقال له : إذهب فاستغث بالله عزوجل ، فقال الرجل : ما زال أدعوا وأبتهل إليه وكلما قربت منها حملت علي ، قال : فكتب له رقعة فيها من عمر أمير المؤمنين إلى مردة الجن والشياطين أن يذللوا هذه المواشي له ، قال : فأخذ الرجل الرقعة ومضى فاغتممت لذلك غما شديدا ، فلقيت أمير المؤمنين عليا عليه السلام فأخبرته بما كان ، فقال : والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ليعودن بالخيبة ، فهدأ ما بي ، وطالت علي سنتي ، وجعلت أرقب كل من جاء من أهل الجبال ، فإذا أنا بالرجل قد وافي وفي جبهته شجة (2) تكاد اليد تدخل فيها ، فلما رأيته بادرت إليه فقلت له : ما وراءك ؟ فقال : اني صرت إلى الموضع ورميت بالرقعة فحمل علي عداد منها فهالني أمرها فلم تكن لي قوة بها ، فجلست فرمحتني احدها في وجهي فقلت : أللهم إكفنيها .. فكلها يشتد علي ، ويريد قتلي ، فانصرفت عني ، فسقطت فجاء أخ لي فحملني ، ولست أعقل ، فلم أزل أتعالج حتى صلحت ، وهذا الاثر في وجهي فجئت لاعلمه يعني عمر.
فقلت له : صر إليه فاعلمه فلما صار إليه وعنده نفر فأخبره بما كان فزبره ، وقال له : كذبت لم تذهب بكتابي ، قال : فحلف الرجل بالله الذي لا إله الا هو ، وحق صاحب هذا القبر لقد فعل ما أمره به من حمل الكتاب. وأعلمه أنه قد ناله منها ما يرى ، قال : فزبره وأخرجه عنه. فمضيت معه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فتبسم ثم قال : ألم أقل لك ؟ ثم أقبل على الرجل فقال له : إذا انصرفت فصر إلى الموضع الذي هي فيه وقل : اللهم أني أتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة ، وأهل بيته الذين إخترتهم على علم على العالمين ، أللهم فذلل لي

(1) الفلا : المهر ، والفرس ـ وفي بعض الروايات : وله مواش.
(2) الشجة : وهي الكسر في الرأس خاصة.
خصائص ألأئمة عليهم السلام 49

صعوبتها ، وحزانتها ، واكفني شرها ، فانك الكافي ، المعافي ، والغالب القاهر.
فانصرف الرجل راجعا ، فلما كان من قابل قدم الرجل ومعه جملة قد حملها من أثمانها إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فصار إليه وأنا معه ، فقال : تخبرني أو أخبرك ؟ فقال الرجل بل : تخبرني يا أمير المؤمنين ، قال : كأنك صرت إليها ، فجاءتك ، ولاذت بك خاضعة ذليلة ، فأخذت بنواصيها واحدا بعد آخر فقال الرجل : صدقت يا أمير المؤمنين ، كأنك كنت معي ، فهذا كان ، فتفضل بقبول ما جئتك به.
فقال : امض راشدا بارك الله لك فيه. وبلغ الخبر عمر فغمه ذلك حتى تبين الغم في وجهه ، وانصرف الرجل وكان يحج كل سنة وقد أنمى الله ماله.
قال ، وقال أمير المؤمنين عليه السلام : كل من إستصعب عليه شيء من ماله أو أهله أو ولد أو أمر فرعون من الفراعنة ، فليبتهل بهذا الدعاء فإنه يكفى مما يخاف إن شاء الله تعالى ، وبه القوة (1).

وروي بإسناد أن أمير المؤمنين عليه السلام كان جالسا في مجلسه والناس مجتمعون عليه بالمدينة ، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، حتى وافى رجل من العرب فسلم عليه ، وقال : أنا رجل لي على رسول الله صلى الله عليه وآله وعد ، وقد سألت عن قاضي دينه ، ومنجز وعده ، بعد وفاته فأرشدت إليك. فهل الامر كما قيل لي ؟ فقال أمير المؤمنين : نعم أنا منجز وعده ، وقاضي دينه من بعده ، فما الذي وعدك به ؟ قال : مائة ناقة حمراء ، وقال لي : إذا أنا قبضت فأت قاضي ديني ، وخليفتي من بعدي ، فانه يدفعها إليك وما كذب صلى الله عليه وآله. فإن يكن ما ادعيته حقا فعجل علي بها ـ ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله خلفها ولا بعضها ـ فأطرق أمير المؤمنين عليه السلام مليا ، ثم قال يا حسن : قم فنهض إليه فقال له : إذهب فخذ قضيب رسول الله صلى الله عليه وآله الفلاني ، وصر إلى البقيع فأقرع به الصخرة الفلانية ثلاث قرعات ، وانظر ما يخرج منها

(1) مهج الدعوات/104.
خصائص ألأئمة عليهم السلام 50

فادفعه إلى هذا الرجل ، وقل له يكتم ما رأى.
فصار الحسن ـ عليه السلام ـ إلى الموضع ، والقضيب معه ، ففعل ما أمره ، فطلع من الصخرة رأس ناقة بزمامها ، فجذبه الحسن ـ عليه السلام ـ فظهرت الناقة ، ثم ما زال يتبعها ناقة ثم ناقة حتى إنقطع القطار على مائة ، ثم إنضمت الصخرة فدفع النوق إلى الرجل ، وأمره بالكتمان لما رأى. فقال الاعرابي : صدق رسول الله صلى الله عليه وآله ، وصدق أبوك عليه السلام ، هو قاضي دينه ، ومنجز وعده ، والامام من بعده ، رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد (1).
وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام لما أقبل من صفين ، مر في زهاء سبعين رجلا بأرض ليس فيها ماء ، فقالوا له : يا أمير المؤمنين ليس هاهنا ماء ، ونحن نخاف العطش ، قالوا : فمررنا براهب في ذلك الموضع فسألناه هل بقربك ماء فقال : ما من ماء دون الفرات ، فقلنا يا أمير المؤمنين العطش وليس قربنا ماء ، فقال : إن الله تعالى سيسقيكم ، فقام يمشي حتى وقف في مكان ودعا بمساح ، وأمر بذلك المكان ، فكنس ، فأجلى عن صخرة ، فلما انجلى عنها ، قال : إقلبوها مرمناها بكل مرام فلم نستطعها فلما أعيتنا دنا منها فأخذ بجانبها فدحا (2) بها فكأنها كرة ، فرمى بها ، فانجلت عن ماء لم ير أشد بياضا ، ولا أصفى ، ولا أعذب منه ، فتنادى الناس الماء ، فاغترفوا ، وسقوا ، وشربوا ، وجملوا ، ثم أخذ عليه السلام الصخرة فردها مكانها ، ثم تحمل الناس فسار غير بعيد ، فقال : أيكم يعرف مكان هذه العين ؟ فقالوا : كلنا يعرف مكانها ، قال : فانطلقوا حتى تنظروا.
فانطلق من شاء الله منا فدرنا حتى أعيينا فلم نقدر على شئ فأتينا الراهب

(1) حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لامير المؤمنين عليه السلام : أنت قاضي ديني ، ومنجز عدتي. مما أجمعت الائمة على صحته وتوثيقه وقد جاءت بأسانيد شتى صحيحة ، مسند أحمد بن حنبل 1/111 ، بسنده عن علي عليه السلام. الرياض النضرة 2/168. حلية الاولياء 10/211. كنز العمال 6/403. مجمع الزوائد 9/113 ، عن جابر بن عبد الله. فضائل الخمسة 3/57.
(2) دحا : دفع. رمى.
خصائص ألأئمة عليهم السلام 51

فقلنا له ويحك ألست زعمت أنه ليس قبلك ماء ، ولقد إستثرنا هاهنا ماء ، فشربنا واحتملنا ، قال : فوالله ما استثارها إلا نبي أو وصي نبي ، قلنا : فإن فينا وصي نبينا عليه السلام ، قال : فانطلقوا إليه فقولوا له : ماذا قال له النبي حين حضره الموت ؟ قال : فأتيناه فقلنا له إن هذا الراهب قال : كذا ، وكذا ، قال : فقولوا له إن خبرناك لتنزلن ولتسلمن ، فقلنا له فقال : نعم فأتينا أمير المؤمنين فقلنا قد حلف ليسلمن ، قال : فانطلقوا فاخبروه أن آخر ما قال النبي ، الصلاة ، الصلاة ، إن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان واضعا رأسه في حجري فلم يزل يقول : الصلاة ، الصلاة ، حتى قبض.
قال فقلنا له ذلك فأسلم (1). وفي ذلك يقول السيد بن محمد الحميري من قصيدته البائية المعروفة بالمذهبة :
ولقد سـرى فيمـا يسيـر بليـلة بعد العشاء مغامرا (2) فـي موكب
في موكب حتى أتى متبتلا في قائم ألـقى قواعـده بـقاع مجـدب (3)
فـدنا فصـاح به فـأشرف ماثلا كـالنسر فوق شظية من مرقب (4)
هل قرب قائمك الذي بـوأته (5) ماء يصاب فقال : مـا من مشرب
إلا بغـاية فرسـخين ومـن لنـا بالـماء بين نقـاوقي سبـسب (6)
فثنى الاعنة نحو وعث (7) فاجتلى بيضاء تبـرق كالـلجين المـذهب
قال : إقلبوهـا إنـكم إن تفعـلوا تـرووا ولا تـروون إن لـم تقلب


(1) مجمع الزوائد 9/293 عن أبي رافع. الارشاد/176. أعلام الورى/176.
(2)في اكثر الروايات هكذا : ( بعد العشاء بكربلا في موكب ).
(3) المتبتل : الراهب. القائم : الصومعة. القاعدة : الاساس. الجدار. الجدب : ضد الخصب.
(4) الماثل : المنتصب ، وشبه الراهب بالنسر لطول عمره. والشظية : قطعة من الجبل. المرقب : المكان العالي.
(5) بوأ : أقام ، حل.
(6) النقى : قطعة من الرمل ، تنقاد محدوبة. والقى : الصحراء الواسعة. والسبسب القفرة.
(7) الوعث : الرمل الذي لا يسلك فيه.
خصائص ألأئمة عليهم السلام 52

فاعصو صبوا في قلعها فتمنعت منهم تمنع صعبة لم تركب (1)
حتـى إذا أعيتهـم أهـوى لها كفـو متى ترد المغـالب تغلب
فكأنها كرة بـكف حـزور (2) عبل الذراع دحـابها في ملعب
فسقـاهم من تحتهـا متسلسـلا عذبا يـزيد على الالذ الاعذب
حتى إذا شربـوا جميعـا ردها ومضى فخلت مكانها لم يقرب
ذاك ابن فاطمة الوصي ومن يقل في فضله وفعـاله لا يكـذب

يعني فاطمة بنت أسد امه رضي الله عنها. وفي هذه القصيدة يذكر رد الشمس على أمير المؤمنين عليه السلام ، وسيرد ذكره فيما بعد بمشية الله ، وذلك قوله :
ردت عليه الشمس لما فاته وقت الصلاة وقد دنت للمغرب
حتى تبلج نورها في وقتها للعصر ثم هوت هوي الكوكب
وعليه قد حبست ببابل مرة اخرى وما حبست لخلق معرب
إلا لاحمـد أولـه ولحبسها ولردها تأويل أمر معجب (3)

وحدث أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : حدثنا محمد بن سليمان الاصبهاني ، قال : حدثني يونس ، عن أم حكيم بنت عمرو (4) قالت : خرجت ، وأنا أشتهي أن أسمع كلام علي بن أبي طالب عليه السلام ، فدنوت منه وفي الناس رقة ، وهو يخطب على المنبر ، حتى سمعت كلامه ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين إستغفر لخالد بن عرفطة ، فإنه قد مات بأرض تيماء (5) فلم يرد عليه ، فقال : الثانية

(1) إعصوصب إجتمع ، وتعاضد.
(2) الحزور : الغلام المترعرع.
(3) أعلام الورى/177. والقصيدة 112 بيتا شرحها السيد المرتضى علم الهدى وطبع بمصر عام 1313 وأول القصيدة قوله :
هلا وقفت على المكان المعشب بين الطويـلع فاللوى من كبكب
(4) ام حكيم بنت عمرو بن سفيان الخولية ... كانت من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام. جامع الرواة 2/455. تنقيح المقال 3/70. رجال الطوسي/66.
(5) تيماء : بليد في أطراف الشام ، بين الشام ووادي القرى على طريق حاج الشام ودمشق.
خصائص ألأئمة عليهم السلام 53

فلم يرد عليه ، ثم قال : الثالثة ، فالتفت إليه فقال : أيها الناعي خالد بن عرفطة كذبت ، والله ما مات ، ولا يموت حتى يدخل من هذا الباب ، يحمل راية ضلالة ، قالت : فرأيت خالد بن عرفطة (1) يحمل راية معاوية حتى نزل نخيلة وأدخلها من باب الفيل (2).

وبإسناد عن الاصبغ بن نباتة ، قال : كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام بصفين فبايعه تسعة وتسعون رجلا ثم قال : أين تمام المائة ؟ فقد عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله إنه يبايعني في هذا اليوم مائة رجل ، فقال فجاء رجل عليه قباء صوف متقلد سيفين ، فقال : هلم يدك ابايعك فقال : على ما تبايعني ؟ قال : على بذل مهجة نفسي دونك ، قال : ومن أنت ؟ قال : اويس القرني فبايعه ، فلم يزل يقاتل بين يديه حتى قتل فوجد في الرجالة مقتولا (3).

(1) خالد بن عرفطة بن أبرهة بن سنان الليثي توفي بالكوفة سنة 60/61 إستخلفه سعد بن أبي وقاص على الكوفة من قبل معاوية. أسد الغابة 2/87. الاصابة 1/409. الاستيعاب 1/413.
(2) أعلام الورى/175 وفيه : وهذا الخبر مستفيض في أهل العلم بالآثار من أهل الكوفة.
(3) سفينة البحار 1/53. رجال الطوسي/35. اعلام الورى/170. تأسيس الشيعة/357. جامع الرواة 1/110.
خصائص ألأئمة عليهم السلام 54

خبر ميثم التمار رضي الله عنه

وبإسناد مرفوع إلى إبن ميثم التمار ، قال : سمعت أبي يقول : دعاني أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يوما فقال لي يا ميثم كيف أنت إذا دعاك دعي بني امية عبيد الله بن زياد إلى البرائة مني ؟ قلت : إذا والله أصبر ، وذاك في الله قليل ، قال : يا ميثم إذا تكون معي في درجتي.
وكان ميثم يمر بعريف (1) قومه فيقول : يا فلان كأني بك قد دعاك دعي بني امية وابن دعيها فيطلبني منك ، فتقول هو بمكة ، فيقول : لا أدري ما تقول ، ولا بدلك أن تأتي به. فتخرج إلى القادسية فتقيم بها أياما ، فإذا قدمت عليك ذهبت بي إليه حتى يقتلني على باب دار عمرو بن حريث (2) ، فإذا كان اليوم الثالث إبتدر من منخري دم عبيط.
قال : وكان ميثم يمر في السبخة بنخلة فيضرب بيده عليها ، ويقول : يا نخلة ما غذيت إلا لي ، وكان يقول لعمرو بن حريث : إذا جاورتك فأحسن جواري ، فكان عمرو يرى أنه يشتري عنده دارا أو ضيعة له بجنب ضيعته فكان عمرو يقول : سأفعل ، فأرسل الطاغية عبيد الله بن زياد إلى غريف ميثم يطلبه منه فأخبره أنه بمكة فقال له : إن لم تأتني به لاقتلنك فأجله أجلا وخرج العريف إلى القادسية

(1) العريف : العالم بالشّئ. من يعرف أصحابه. القيم بأمر القوم.
(2) أبو سعيد عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان المخزومي القرشي مات بالكوفة سنة 85. ولي إمرة الكوفة لزياد ثم لابنه عبيد الله. الاصابة ت 5810. اسد الغابة 4/97. الكامل في التاريخ 2/249.

السابق السابق الفهرس التالي التالي