= نعم ، انّ الحسين بمبلغ علمه وحسن سياسته بذل كمال جهده في افشاء ظلم بني اميّة واظهار عداوتهم لبني هاشم وسلك في ذلك كلّ طريق ، لما كان يعلم عداوة بني اميّة له ولبني هاشم ، ويعرف انّه بعد قتله يأسرون عياله وأطفاله ، وذلك يؤيّد مقصده ، ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين ـ سيّما العرب ـ كما وقع ذلك حملهم معه وجاء بهم إلى المدينة .
نعم ، انّ ظلم بني اميّة وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمد وصباياه أثّر في قلوب المسلمين تأثيراً عظيماً لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه ، ولقد أظهر في فعله هذا عقيدة بني اميّة في الاسلام وسلوكهم مع المسلمين سيّما ذراري نبيّهم ، لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر : أني أمضي إلى القتل ، ولما كانت أفكار المانعين محدودة ، وأنظارهم قاصرة لا يدركون مقاصد الحسين العالية لم يألوا جهدهم في منعه وآخر ما أجابهم به ان قال لهم : شاء الله ذلك ، وجدّي أمرني به ، فقالوا : ان كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال ؟ فقال : «انّ الله شاء أن يراهنّ سبايا» ولما كان بينهم رئيساً روحانياً لم يكن لهم بدّ عن السكوت .
وممّا يدلّ على انّه لم يكن له غرض الا ذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وامارة ولم يقدم على هذا الخطر من غير علم ودراية كما تصوّره بعض المؤرخين منّا أنّه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة على سبيل التسلية : «انّ بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة يبعث الله رجالاً يعرفون الحقّ من الباطل ، يزورون قبورنا ، ويبكون على مصابنا ، ويأخذون بثأرنا من أعدائنا . واولئك جماعة ينشرون دين الله وشريعة جدّي ، وأنا وجدّي نحبّهم وهم يحشرون معنا يوم القيامة» .
ولو تأمّل المتأمّل في كلام الحسين عليه السلام وحركاته يرى انّه لم يترك طريقاً من السياسة الاسلكه في إظهار شنائع بني اميّة وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه ، وهذا ممّا يدلّ على حسن سياسته وقوّة قلبه وتضحية نفسه في طريق الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره حتى انّه في آخر ساعات حياته عمل عملاً حيّر عقول الفلاسفة ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة ، والهموم المتراكمة ، وكثرة العطش والجراحات وهو قصّة الرضيع .
فلمّا كان يعلم أنّ بني اميّة لا يرحمون له صغيراً رفع طفله الصغير تعظيماً للمصيبة على يده أمام القوم ، وطلب منهم أن يأتوه شربة من الماء فلم يجيبوه الا بالسهم ، ويغلب على
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة
99
= الظنّ انّ غرض الحسين من هذا العمل تفهيم العالم بشدّة عداوة بني اميّة لبني هاشم وأنّها إلى أي درجة بلغت ، ولا يظن أحد انّ يزيد كان مجبوراً على تلك الاقدامات الفجيعة لأجل الدفاع عن نفسه ، لأنّ قتل الطفل الرضيع في ذلك الحال بتلك الكيفية ليس هو الاتوحّش وعداوة سبعية منافية لقواعد كلّ دين وشريعة ، ويمكن أن تكون هذه الفاجعة كافية في افتضاح بني اميّة ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونيّاتهم الفاسدة بين العالم سّيما المسلمين ، وأنّهم يخالفون الاسلام في حركاتهم ، بل يسعون بعصبية جاهلية إلى اضمحلال آل محمد وجعلهم أيدي سبأ .
ونظراً لتلك المقاصد العالية التي كانت في نظر الحسين مضافاً إلى وفور علمه وسياسته التي كان لا يشكّ فيها اثنان لم يرتكب أمراً يوجب مجبورية بني اميّة للدفاع حتى انّه مع ذلك النفوذ والاقتدار الذي كان له في ذلك العصر ، لم يسع في تسخير البلاد الاسلامية وضمّها إليه ، ولا هاجم ولاية من ولايات يزيد إلى أن حاصروه في وادٍ غير ذي زرع ، قبل أن تبدو منه أقل حركة عدائية ، أو تظهر منه ثورة ضد بني اميّة .
لم يقل الحسين يوماً : سأكون ملكاً أو سلطاناً ، وأصبح صاحب سلطة ، نعم ، كان يبثّ روح الثورة في المسلمين بنشره شنائع بني اميّة واضمحلال الدين أن دام ذلك الحال ، وكان يخبر بقتله ومظلوميته وهو مسرور ، ولما حوصر في تلك الأرض القفراء أظهر لهم من باب اتمام الحجة بأنّهم لو تركوه لرحل بعياله وأطفاله ، وخرج من سلطة يزيد ، ولقد كان لهذا الاظهار الدالّ على سلامة نفس الحسين في قلوب المسلمين غاية التأثير .
قتل قبل الحسين ظلماً وعدواناً كثير من الرؤساء الروحانيين وأرباب الديانات ، وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضدّ الأعداء ، كما وقع مكرّراً في بني إسرائيل وقصّة يحيى من أعظم الحوادث التأريخية ، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلى ذلك العهد ، ولكن واقعة الحسين فاقت الجميع . أقول : واتماماً للفائدة أكثر نذكر بعض عبارات المسيو ماربين الألماني والتي لم يذكرها المصنّف رحمه الله هنا :
وقال المسيو ماربين كذلك : الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف هو سبط محمد المتولد من ابنته وحبيبته فاطمة عليهم السلام ويمكننا القول بأنّه كان جامعاً للأخلاق والصفات المستحسنة عند العرب في ذلك الزمان ، ووارثاً للشجاعة من
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة
100
= أبيه ، وأعلم المسلمين باحكام دين جدّه ، وحاوياً بدرجة كاملة للجود الذي هو أحبّ الصفات ، وكان طلق اللسان ، فصيح البيان للغاية ، اتّفق المسلمون بلا مخالف على حسن العقيدة في الحسين حتى أنّ الطوائف التي تذمّ أباه وأخاه تمدحه وتثنى عليه ، وكتبهم مشحونة بذكر ملكاته الحسنة ، وسجاياه المستحسنة ، وكان غيوراً صادقاً غير هيّاب ، وانّ لغالب فرق المسلمين عقائد عظيمة في الحسين عليه السلام ، ولكن الذي نقدر أن نكتبه في كتابنا بكمال الطمأنينة ، وبلا خوف المعارضة هو أنّ تابعي علي عليه السلام يعتقدون في الحسين أكثر ممّا تقوله النصارى في المسيح عليه السلام ، فكما أنّنا نقول إنّ عيسى تحمّل هذه المصائب لتكفير السيئات ، هم يقولون ذلك في الحسين ، ويعدونه الشفيع المطلق يوم القيامة ، والشيء الذي لا يقبل الانكار أبداً .
إذا قلناه في الحسين هو انّه كان في عصره أوّل شخص سياسي ، ويمكن أن نقول أنّه لم يختر أحد من أرباب الديانات سياسة مؤثرة مثل سياستة ، ومع أنّ أباه عليّاً هو حكيم الإسلام ، وحكمياته وكليّاته الشخصية لم تكن بأقل ممّا هو لسائر حكماء العالم المعروفين ، لم يظهر منه مثل السياسة الحسينية .
ولأجل اثبات هذه المسألة يلزم الالتفات قليلاً إلى تاريخ العرب قبل الإسلام ، فنرى أنّها كانت قرابة بين بني هاشم وبني اميّة ؛ أي أنّهم بنو أعمام لأنّ أميّة وهاشم أنجال عبد مناف ، ومن قبل الإسلام كان بينهم نفور وكدورة بدرجة متناهية ، وحصل بينهم مراراً مجادلات وقتال ، وكان كلّ من الطرفين طالباً ثأر من الآخر ، وكان بنو هاشم وبنو اميّة أعزّاء محترمين في قريش ، ولهم السيادة ، بنو اميّة من جهة الغنى والرئاسة الدنيويّة ، وبنو هاشم من جهة العلم والرئاسة
الروحانية ، وفي بدء الاسلام ازدادت العداوة بين بني هاشم وبني اميّة إلى أن فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة ، وأدخل في طاعته وتحت أمره عموم قريش وبني اميّة ، وفي الواقع استولى على رئاسة العرب الدينيّة والدنيويّة ، فلأجل ذلك ارتفع قدر بني هاشم بين العرب واطاعتهم بنو اميّة ، وأضرم هذا التقدّم في الباطن نار الحسد لبني هاشم في صدور بني اميّة ، وكانوا على استعداد للإيقاع ببني هاشم حقداً عليهم .
فلمّا توفّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتّسع لهم المجال لذلك ، فسعوا أولاً أن لا يكون الخليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على اصول ولاية العهد ، بل على اصول
=
= وكان الحسين مع أنّه تحت نفوذ أخيه الحسن لم يطع بني اميّة ، ولم يظهر مخالفتهم وكان يقول علناً لا بدّ أن اقتل في سبيل الحق ، ولا استسلم للباطل ، وكان بنو اميّة في اضطراب منه ، وبقي هذا الاضطراب إلى أن مضى الحسن ومعاوية وجلس يزيد في مقام أبيه على اصول ولاية العهد ، وابطلت الخلافة بأكثرية الآراء من بعد علي عليه السلام ، ولكن بعد تعيينه لولاية العهد استحصل معاوية على صكّ بأخذ البيعة له من رؤساء القوم ، ورأى الحسين عليه السلام من جهة انّ حركات بني اميّة الذين كانت لهم السلطة المطلقة والرئاسة الروحانية الإسلامية قاربت أن تزعزع عقيدة المسلمين من دين جدّه ، ومن جهة اخرى كان يعلم انّه إذا أطاع يزيد أو لم يطعه ، فبنو اميّة نظراً لعدواتهم وبغضهم لبني هاشم لا يألون جهداً في محوهم ، وإذا دامت هذه الحال مدّة لا يبقى أثر لبني هاشم في عالم
الوجود ، فلهذا صمّم الحسين عليه السلام على القاء الثورة بين المسلمين ضد بني اميّة ، كما أنّه رأى من حين جلوس يزيد في مقام أبيه وجوب عدم طاعته ، ولم يخف مخالفته له .
(1) المهلوف : 100 ، الأخبار الطوال : 29 .
(2) أمالي الصدوق : 93 المجلس (30) .
(3) المهلوف : 129 ، كامل الزيارات : 75 ، بصائر الدرجات : 141 .
(4) ولها أسماء أخرى كثيرة منها : ام القرى ، والنساسة ، وأم رحم ، وهي بيت الله الحرام .
والمكّ : النقض والهلاك ، وسمّي البلد الحرام مكة لأنّها تنقض الذنوب وتنفيها ، أو تمكّ مَن قصدها بالظلم ، أي تهلكه . انظر : معجم البلدان 5 : 181 ـ 188 ، مجمع البحرين 5 : 289 .
(1) كانت مقبرة عامة للنصارى قبل الفتح الاسلامي ، وتقع في أراضي ناحية الحسينية قرب نينوى . انظر : تراث كربلاء : 19 .
(2) المهلوف : 126 ، مقتل الخوارزمي 1 : 186 .
(3) كذا في الأصل ، وفي الملهوف : وحضور الأجل ، وفي بعض المصادر : وحبوط الأجر .
(4) أي الملائكة .
قال الواقدي وزرارة بن خَلج : لقيناالحسين بن علي عليه السلام قبل أن يخرج إلى العراق ، بثلاثة ، فأخبرناه بضعف الناس بالكوفة ، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، فأومأ بيده نحو السماء ، ففتحت أبواب السماء ، فنزلت الملائكة عدداً لا يحصيهم الا الله عز وجل ، فقال عليه السلام : لولا تقارب الاشياء و.....
انظر الملهوف : 125 ـ 126 .
(5) الملهوف : 131 ، مقتل الخوارزمي 1 : 185 .
(1) المهلوف : 128 ، تاريخ الطبري 5 : 191 ، الكامل في التاريخ 4 : 7 .
(2) أبو بكر عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي ، بويع له الخلافة سنة 64 هـ عقيب موت يزيد بن معاوية ، فحكم مصر والحجاز واليمن وخراسان والعراق وأكثر الشام ، وجعل قاعدة ملكه المدينة ، وكانت له مع الأمويّين وقائع هائلة ، سار لمحاربته الحجاج الثقفي في أيام عبد الملك بن مروان ، فانتقل إلى مكة وعسكر الحجّاج في الطائل ، ونشبت بينهما حروب انتهت بمقتل ابن الزبير في مكة بعد أن خذله أصحابه وذلك سنة 73 هـ ، مدة خلافته 9 سنين .
انظر: تاريخ ابن الاثير 4: 135، تاريخ الطبري7 :202، تاريخ الخميس 301:2.
(3) الملهوف : 101 .
(4) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي ، صحابي ، ولد بأرض الحبشة لمّا هاجر أبواه إليها ، وهو أول من ولد بها من المسلمين ، كان كريماً يسمّى بحر الجود ، وللشعراء فيه مدائح ، وكان أحد الأمراء في جيش علي يوم صفين ، توفي بالمدينة سنة 80 هـ ؛ وقيل : غير ذلك . انظر : الاصابة ترجمة رقم 4582 ، فوات الوفيات 1 : 209 .
(1) تاريخ الطبري 5 : 191 ، تاريخ ابن الأثير 6 : 74 .
(2) تاريخ الطبري 5 : 231 ، المهلوف : 132 .
(3) وهو مقاتل بن حسان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم بن أيّوب الذي نسب إلى قصر مقاتل ، وكان يقال بعد : قصر ابن مقاتل ، ويقولون : قصر بني مقاتل . انظر : انساب الأشراف 4 : 515 .