المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة98


= نعم ، انّ الحسين بمبلغ علمه وحسن سياسته بذل كمال جهده في افشاء ظلم بني اميّة واظهار عداوتهم لبني هاشم وسلك في ذلك كلّ طريق ، لما كان يعلم عداوة بني اميّة له ولبني هاشم ، ويعرف انّه بعد قتله يأسرون عياله وأطفاله ، وذلك يؤيّد مقصده ، ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين ـ سيّما العرب ـ كما وقع ذلك حملهم معه وجاء بهم إلى المدينة .
نعم ، انّ ظلم بني اميّة وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمد وصباياه أثّر في قلوب المسلمين تأثيراً عظيماً لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه ، ولقد أظهر في فعله هذا عقيدة بني اميّة في الاسلام وسلوكهم مع المسلمين سيّما ذراري نبيّهم ، لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر : أني أمضي إلى القتل ، ولما كانت أفكار المانعين محدودة ، وأنظارهم قاصرة لا يدركون مقاصد الحسين العالية لم يألوا جهدهم في منعه وآخر ما أجابهم به ان قال لهم : شاء الله ذلك ، وجدّي أمرني به ، فقالوا : ان كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال ؟ فقال : «انّ الله شاء أن يراهنّ سبايا» ولما كان بينهم رئيساً روحانياً لم يكن لهم بدّ عن السكوت .
وممّا يدلّ على انّه لم يكن له غرض الا ذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وامارة ولم يقدم على هذا الخطر من غير علم ودراية كما تصوّره بعض المؤرخين منّا أنّه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة على سبيل التسلية : «انّ بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة يبعث الله رجالاً يعرفون الحقّ من الباطل ، يزورون قبورنا ، ويبكون على مصابنا ، ويأخذون بثأرنا من أعدائنا . واولئك جماعة ينشرون دين الله وشريعة جدّي ، وأنا وجدّي نحبّهم وهم يحشرون معنا يوم القيامة» .
ولو تأمّل المتأمّل في كلام الحسين عليه السلام وحركاته يرى انّه لم يترك طريقاً من السياسة الاسلكه في إظهار شنائع بني اميّة وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه ، وهذا ممّا يدلّ على حسن سياسته وقوّة قلبه وتضحية نفسه في طريق الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره حتى انّه في آخر ساعات حياته عمل عملاً حيّر عقول الفلاسفة ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة ، والهموم المتراكمة ، وكثرة العطش والجراحات وهو قصّة الرضيع .
فلمّا كان يعلم أنّ بني اميّة لا يرحمون له صغيراً رفع طفله الصغير تعظيماً للمصيبة على يده أمام القوم ، وطلب منهم أن يأتوه شربة من الماء فلم يجيبوه الا بالسهم ، ويغلب على =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة99


= الظنّ انّ غرض الحسين من هذا العمل تفهيم العالم بشدّة عداوة بني اميّة لبني هاشم وأنّها إلى أي درجة بلغت ، ولا يظن أحد انّ يزيد كان مجبوراً على تلك الاقدامات الفجيعة لأجل الدفاع عن نفسه ، لأنّ قتل الطفل الرضيع في ذلك الحال بتلك الكيفية ليس هو الاتوحّش وعداوة سبعية منافية لقواعد كلّ دين وشريعة ، ويمكن أن تكون هذه الفاجعة كافية في افتضاح بني اميّة ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونيّاتهم الفاسدة بين العالم سّيما المسلمين ، وأنّهم يخالفون الاسلام في حركاتهم ، بل يسعون بعصبية جاهلية إلى اضمحلال آل محمد وجعلهم أيدي سبأ .
ونظراً لتلك المقاصد العالية التي كانت في نظر الحسين مضافاً إلى وفور علمه وسياسته التي كان لا يشكّ فيها اثنان لم يرتكب أمراً يوجب مجبورية بني اميّة للدفاع حتى انّه مع ذلك النفوذ والاقتدار الذي كان له في ذلك العصر ، لم يسع في تسخير البلاد الاسلامية وضمّها إليه ، ولا هاجم ولاية من ولايات يزيد إلى أن حاصروه في وادٍ غير ذي زرع ، قبل أن تبدو منه أقل حركة عدائية ، أو تظهر منه ثورة ضد بني اميّة .
لم يقل الحسين يوماً : سأكون ملكاً أو سلطاناً ، وأصبح صاحب سلطة ، نعم ، كان يبثّ روح الثورة في المسلمين بنشره شنائع بني اميّة واضمحلال الدين أن دام ذلك الحال ، وكان يخبر بقتله ومظلوميته وهو مسرور ، ولما حوصر في تلك الأرض القفراء أظهر لهم من باب اتمام الحجة بأنّهم لو تركوه لرحل بعياله وأطفاله ، وخرج من سلطة يزيد ، ولقد كان لهذا الاظهار الدالّ على سلامة نفس الحسين في قلوب المسلمين غاية التأثير .
قتل قبل الحسين ظلماً وعدواناً كثير من الرؤساء الروحانيين وأرباب الديانات ، وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضدّ الأعداء ، كما وقع مكرّراً في بني إسرائيل وقصّة يحيى من أعظم الحوادث التأريخية ، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلى ذلك العهد ، ولكن واقعة الحسين فاقت الجميع .
أقول : واتماماً للفائدة أكثر نذكر بعض عبارات المسيو ماربين الألماني والتي لم يذكرها المصنّف رحمه الله هنا :
وقال المسيو ماربين كذلك : الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف هو سبط محمد المتولد من ابنته وحبيبته فاطمة عليهم السلام ويمكننا القول بأنّه كان جامعاً للأخلاق والصفات المستحسنة عند العرب في ذلك الزمان ، ووارثاً للشجاعة من =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة100


= أبيه ، وأعلم المسلمين باحكام دين جدّه ، وحاوياً بدرجة كاملة للجود الذي هو أحبّ الصفات ، وكان طلق اللسان ، فصيح البيان للغاية ، اتّفق المسلمون بلا مخالف على حسن العقيدة في الحسين حتى أنّ الطوائف التي تذمّ أباه وأخاه تمدحه وتثنى عليه ، وكتبهم مشحونة بذكر ملكاته الحسنة ، وسجاياه المستحسنة ، وكان غيوراً صادقاً غير هيّاب ، وانّ لغالب فرق المسلمين عقائد عظيمة في الحسين عليه السلام ، ولكن الذي نقدر أن نكتبه في كتابنا بكمال الطمأنينة ، وبلا خوف المعارضة هو أنّ تابعي علي عليه السلام يعتقدون في الحسين أكثر ممّا تقوله النصارى في المسيح عليه السلام ، فكما أنّنا نقول إنّ عيسى تحمّل هذه المصائب لتكفير السيئات ، هم يقولون ذلك في الحسين ، ويعدونه الشفيع المطلق يوم القيامة ، والشيء الذي لا يقبل الانكار أبداً .
إذا قلناه في الحسين هو انّه كان في عصره أوّل شخص سياسي ، ويمكن أن نقول أنّه لم يختر أحد من أرباب الديانات سياسة مؤثرة مثل سياستة ، ومع أنّ أباه عليّاً هو حكيم الإسلام ، وحكمياته وكليّاته الشخصية لم تكن بأقل ممّا هو لسائر حكماء العالم المعروفين ، لم يظهر منه مثل السياسة الحسينية .
ولأجل اثبات هذه المسألة يلزم الالتفات قليلاً إلى تاريخ العرب قبل الإسلام ، فنرى أنّها كانت قرابة بين بني هاشم وبني اميّة ؛ أي أنّهم بنو أعمام لأنّ أميّة وهاشم أنجال عبد مناف ، ومن قبل الإسلام كان بينهم نفور وكدورة بدرجة متناهية ، وحصل بينهم مراراً مجادلات وقتال ، وكان كلّ من الطرفين طالباً ثأر من الآخر ، وكان بنو هاشم وبنو اميّة أعزّاء محترمين في قريش ، ولهم السيادة ، بنو اميّة من جهة الغنى والرئاسة الدنيويّة ، وبنو هاشم من جهة العلم والرئاسة الروحانية ، وفي بدء الاسلام ازدادت العداوة بين بني هاشم وبني اميّة إلى أن فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة ، وأدخل في طاعته وتحت أمره عموم قريش وبني اميّة ، وفي الواقع استولى على رئاسة العرب الدينيّة والدنيويّة ، فلأجل ذلك ارتفع قدر بني هاشم بين العرب واطاعتهم بنو اميّة ، وأضرم هذا التقدّم في الباطن نار الحسد لبني هاشم في صدور بني اميّة ، وكانوا على استعداد للإيقاع ببني هاشم حقداً عليهم .
فلمّا توفّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتّسع لهم المجال لذلك ، فسعوا أولاً أن لا يكون الخليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على اصول ولاية العهد ، بل على اصول =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة101


= أكثرية الآراء ولم تدع شدّة مخالفة بني اميّة أن تكون أكثرية الآراء في الخلافة بجانب بني هاشم ، فهنا نال بنو اميّة مآربهم ، وتغلّبوا على بني هاشم .
وبسبب الخلافة تمكّن بنو اميّة من الحصول على مقام منيع ، فسهّلوا الطريق لمستقبلهم ، وكانوا يسعون في رفعة منزلتهم عند الخلفاء يوماً فيوماً ، وأصبحوا ركناً من أركان السلطنة الإسلامية حتى أصبح الخليفة الثالث منهم ، وأصبح بنو اميّة متفوّقين تفوّقاً مطلقاً في كل عمل ومكان ، ووطّدوا مقامهم للمستقبل ، ونظراً إلى تلك العداوة والثارات التي كانت لبني أميّة عند بني هاشم حسب عوائد العرب في ذلك الزمان كان إظهارهم لخلوص العقيدة والنيّة الصافية للإسلام أقلّ من سواهم ، وكانوا باطناً يرون من العار أن يتّبعوا ديناً يكون ختامه باسم بني هاشم ، ولكثرة المسلمين في ذلك الزمان كان بنو اميّة يسيرون وراء مقاصدهم تحت ظلّ هذا الدين ، ولم يعلنوا بمخالفته ، وتظاهرو بمتابعته ، ولمّا رأوا أنفسهم في المقامات العالية ، ووطّدوا مقامهم في الجاه والجلالة ، أظهروا تمرّدهم عن أحكام الإسلام حتى أنّهم كانوا في المحافل يستهزئون بدين جاء به بنو هاشم .
ولما رأى بنو هاشم انّ الأمر صار الى هذا ، واطّلعوا على نوايا بني اميّة لم يقعدوا عن العمل ، وأظهروا للناس أعمال الخليفة الثالث بأساليب عجيبة ، فأثاروا المسلمين عليه حتى آل الأمر إلى أن اشترك رؤساء طبقات المسلمين في قتله ، وبأكثرية الآراء اصبح عليّ الخليفة الرابع .
من بعد هذه الواقعة تأكّد بنو اميّة أنّها ستكون لبني هاشم السيادة والعظمة كما كانت لهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله . فلهذا قام معاوية الذي كان حاكماً لبلاد الشام من قبل الخلفاء السابقين ، وكان ذا إقتدار ودهاء ونظر بعيد ناشراً لواء العصيان على علي بدعوى انّ قتل عثمان كان بإشارة منه والقى الخلاف بين المسلمين وبتلك الطريقة التي كانت بين العرب قبل الإسلام شهر السيف بينهم .
ومعاوية وان لم يغلب عليّاً في هذه الحروب العديدة ، لكنّه لم يكن مغلوباً ، ولم يطل زمن تمرّد بني اميّة على رئاسة بني هاشم حتى قتلوا عليّاً عليه السلام وعندئذ تغلّب معاوية ، وصالحه الحسن الذي هو الأخ الأكبر للحسين وهو الخليفة الخامس ، وعادت الخلافة الى بني اميّة فكان معاوية من جهة يسعى في تقوية ملكه ، ومن جهة اخرى يسعى في اضمحلال بني هاشم ، ولم يفتر دقيقة واحدة عن محوهم .
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة102


وأضحى المسلمون امّه من الامم التالفة ، إذ لو بقي المنافقون على ما كانوا عليه من الظهور للعامّة بالنيابة عن رسول الله والنصح لدينه صلى الله عليه وآله ، وهم أولياء السلطة المطلقة والإرادة المقدّسة لغرسوا من شجرة النفاق ما أرادوا وبثّوا من روح الزندقة ما شاؤوا وفعلوا بالدين ما توجبه عداواتهم له وارتكبوا من الشريعة كلّ أمر يقتضيه نفاقهم .
وأمّا وشيبة الحسين عليه السلام المخضوبة بدمه الطاهر ، لولا ما تحمّله سلام الله عليه في سبيل الله ما قامت لأهل البيت عليهم السلام ـ وهم حجج الله ـ قائمة ، ولا عرفهم ـ وهم اولوا الأمر ـ ممّن تأخّر عنهم أحد ، لكنّه ـ بأبي وأمّي ـ فضح المنافقين ، وأسقطهم من أنظار العالمين ، واستلفت الأبصار مصيبته إلى سائر مصائب أهل البيت ، واضطر الناس بحلول هذه القارعة إلى البحث عن اساسها ، وحملهم على التنقيب عن أسبابها ، والفحص عن جذرها وبذرها واستنهض الهمم إلى حفظ مقام أهل البيت عليهم السلام ، وحرك الحميّة على الانتصار لهم ، لأنّ

= وكان الحسين مع أنّه تحت نفوذ أخيه الحسن لم يطع بني اميّة ، ولم يظهر مخالفتهم وكان يقول علناً لا بدّ أن اقتل في سبيل الحق ، ولا استسلم للباطل ، وكان بنو اميّة في اضطراب منه ، وبقي هذا الاضطراب إلى أن مضى الحسن ومعاوية وجلس يزيد في مقام أبيه على اصول ولاية العهد ، وابطلت الخلافة بأكثرية الآراء من بعد علي عليه السلام ، ولكن بعد تعيينه لولاية العهد استحصل معاوية على صكّ بأخذ البيعة له من رؤساء القوم ، ورأى الحسين عليه السلام من جهة انّ حركات بني اميّة الذين كانت لهم السلطة المطلقة والرئاسة الروحانية الإسلامية قاربت أن تزعزع عقيدة المسلمين من دين جدّه ، ومن جهة اخرى كان يعلم انّه إذا أطاع يزيد أو لم يطعه ، فبنو اميّة نظراً لعدواتهم وبغضهم لبني هاشم لا يألون جهداً في محوهم ، وإذا دامت هذه الحال مدّة لا يبقى أثر لبني هاشم في عالم الوجود ، فلهذا صمّم الحسين عليه السلام على القاء الثورة بين المسلمين ضد بني اميّة ، كما أنّه رأى من حين جلوس يزيد في مقام أبيه وجوب عدم طاعته ، ولم يخف مخالفته له .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة103

الطبيعة البشرية ، والجبلة الانسانية تنتصر للمظلومين وتنتقم بجهدها من الظالمين فاندفع المسلمون إلى موالاة أهل البيت عليهم السلام حتى كأنّهم قد دخلوا ـ بعد فاجعة الطف ـ في دور جديد ، وظهرت الروحانية الاسلامية بأجلى مظاهرها ، وسطع نور اهل البيت عليهم السلام بعد أن كان محجوباً بسحائب ظلم الظالمين ، وانتبه الناس إلى نصوص الكتاب والسنّة فيهم عليهم السلام ، فهدى الله بها من هدى لدينه ، وضلّ عنها من عمى عن سبيله .
وكان الحسين ـ بأبي وامّي ـ على يقين من ترتّب هذه الآثار الشريفة على قتله ، وانتهاب رحله ، وذبح أطفاله ، وسبي عياله ، بل لم يجد طريقاً لإرشاد الخلق إلى الأئمّة بالحقّ ، واستنقاذ الدين من أئمّة المنافقين ـ الذين خفي مكرهم ، وعلا في نفوس العامّة أمرهم ـ الاالاستسلام لتلك الرزايا ، والصبر على هاتيك البلايا ، وما قصد كربلاء الا لتحمّل ذلك البلاء عهد معهود عن أخيه ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الله عز وجل ، ويرشدك إلى ذلك ـ مضافاً إلى
أخبارنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة ـ دلائل أقواله ، وقرائن أفعاله ، فانّها نص فيما قلناه ، وحسبك منها جوابه لامّ سلمة إذ قالت له ـ كما في البحار وجلاء العيون وغيرهما ـ : يا بني لا تحزني بخروجك الى العراق فإنّي سمعت جدّك صلى الله عليه وآله يقول : يقتل ولدى الحسين بأرض يقال لها كربلاء .
فقال لها : يا امّاه وأنا والله أعلم ذلك ، وأنّي مقتول لا محالة ، وليس لي منه بدّ ، وقد شاء الله أن يراني مقتولاً ، ويرى حرمي مشرّدين وأطفالي مذبوحين(1) .
وجوابه لأخيه عمر إذ قال له حين امتنع من البيعة ليزيد : حدّثني أخوك أبو

(1) تاريخ الطبري 5 : 189 ، دار السلام للنوري 1 : 102 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة104

محمد ، عن ابيه ، ثم بكى حتى علا شهيقه ، فضمّه الحسين إليه وقال ـ كما في الملهوف وغيره ـ : حدّثك أنّي مقتول .
قال : حوشيت يا ابن رسول الله .
فقال : بحق أبيك بقتلي خبّرك ؟
قال : نعم ، فلو بايعت .
فقال عليه السلام : حدّثني أبي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بقتله وقتلي ، وانّ تربتي تكون بقرب تربته ، أتظنّ أنّك علمت ما لم أعلم ؟(1)
والرؤيا التي رآها في مسجد جدّه صلى الله عليه وآله حين ذهب ليودعه وقول النبي له فيها ـ كما في أمالي الصدوق وغيره ـ : بأبي أنت كأنّي أراك مرمّلاً بدمك بين عصابة من هذه الامّة ما لهم عند الله من خلاق(2) .
وكتابه إلى بني هاشم لما فصل من المدينة ، وقوله فيه ـ كما في الملهوف نقلاً عن رسائل ثقة الاسلام ـ : من لحق بي استشهد ، ومن تخلّف عنّي لم يبلـغ الفتـح(3) .
وخطبته ليلة خروجه من مكّة(4) ، وقوله فيها ـ كما في الملهوف وغيره ـ :

(1) المهلوف : 100 ، الأخبار الطوال : 29 .
(2) أمالي الصدوق : 93 المجلس (30) .
(3) المهلوف : 129 ، كامل الزيارات : 75 ، بصائر الدرجات : 141 .
(4) ولها أسماء أخرى كثيرة منها : ام القرى ، والنساسة ، وأم رحم ، وهي بيت الله الحرام .
والمكّ : النقض والهلاك ، وسمّي البلد الحرام مكة لأنّها تنقض الذنوب وتنفيها ، أو تمكّ مَن قصدها بالظلم ، أي تهلكه . انظر : معجم البلدان 5 : 181 ـ 188 ، مجمع البحرين 5 : 289 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة105

كأنّى بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس(1) وكربلاء(2) إلى أن قال : ـ ألا ومن كان باذلاً فينا وهجته ، موطئاً على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا فانّي راحل مصبحاً ان شاء الله تعالى .
وقوله ـ كما في الملهوف وغيره ـ : لولا تقارب الأشياء ، وهبوط الأجل(3) لقاتلتهم بهؤلاء(4) ، ولكنّي أعلم يقيناً أنّ من هناك مصرعي ومصرع أصحابي ، لا ينجو منهم الاولدي عليّ(5) .
وجوابه لأخيه محمد بن الحنفية إذ قال له ـ كما في الملهوف وغيره ـ : يا أخي ، ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟
قال : بلى ، ولكن أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله بعدما فارقتك ، فقال : يا حسين ، اُخرج ، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً .
فقال ابن الحنفية : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملك هذه النسوة وأنت تخرج على مثل هذا الحال ؟

(1) كانت مقبرة عامة للنصارى قبل الفتح الاسلامي ، وتقع في أراضي ناحية الحسينية قرب نينوى . انظر : تراث كربلاء : 19 .
(2) المهلوف : 126 ، مقتل الخوارزمي 1 : 186 .
(3) كذا في الأصل ، وفي الملهوف : وحضور الأجل ، وفي بعض المصادر : وحبوط الأجر .
(4) أي الملائكة .
قال الواقدي وزرارة بن خَلج : لقيناالحسين بن علي عليه السلام قبل أن يخرج إلى العراق ، بثلاثة ، فأخبرناه بضعف الناس بالكوفة ، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، فأومأ بيده نحو السماء ، ففتحت أبواب السماء ، فنزلت الملائكة عدداً لا يحصيهم الا الله عز وجل ، فقال عليه السلام : لولا تقارب الاشياء و.....
انظر الملهوف : 125 ـ 126 .
(5) الملهوف : 131 ، مقتل الخوارزمي 1 : 185 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة106

قال : فقال له : قد قال لي : إن شاء الله أن يراهنّ سبايا .(1)
وجوابه لابن عباس وابن الزبير(2) ، إذ أشارا عليه بالإمساك فقال لهما ـ كما في المهلوف وغيره ـ : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني بأمر ، وأنا ماض فيه .
فخرج ابن عبّاس وهو يقول : واحسيناه .(3)
وجوابه لعبد الله بن جعفر(4) ويحيى بن سعيد إذ حاولا منه الرجوع فأبى وقال لهما ـ كما في تاريخي ابن جرير ، وابن الأثير وغيرهما ـ : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام وأمرني ما أنا ماضٍ له .
وقوله ـ في كلام له مع ابن الزبير ـ : وأيم الله لو كنت في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم ، ووالله ليعتدن كما اعتدت اليهود

(1) المهلوف : 128 ، تاريخ الطبري 5 : 191 ، الكامل في التاريخ 4 : 7 .
(2) أبو بكر عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي ، بويع له الخلافة سنة 64 هـ عقيب موت يزيد بن معاوية ، فحكم مصر والحجاز واليمن وخراسان والعراق وأكثر الشام ، وجعل قاعدة ملكه المدينة ، وكانت له مع الأمويّين وقائع هائلة ، سار لمحاربته الحجاج الثقفي في أيام عبد الملك بن مروان ، فانتقل إلى مكة وعسكر الحجّاج في الطائل ، ونشبت بينهما حروب انتهت بمقتل ابن الزبير في مكة بعد أن خذله أصحابه وذلك سنة 73 هـ ، مدة خلافته 9 سنين .
انظر: تاريخ ابن الاثير 4: 135، تاريخ الطبري7 :202، تاريخ الخميس 301:2.
(3) الملهوف : 101 .
(4) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي ، صحابي ، ولد بأرض الحبشة لمّا هاجر أبواه إليها ، وهو أول من ولد بها من المسلمين ، كان كريماً يسمّى بحر الجود ، وللشعراء فيه مدائح ، وكان أحد الأمراء في جيش علي يوم صفين ، توفي بالمدينة سنة 80 هـ ؛ وقيل : غير ذلك . انظر : الاصابة ترجمة رقم 4582 ، فوات الوفيات 1 : 209 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة107

في السبت .(1)
وقوله في مقام آخر ـ كما في كامل ابن الأثير وغيره ـ : والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ من فرام المرأة (يعني من خرقة الحيض) .
وقوله لابي هرّة [الأزدي] ـ كما في تاريخ ابن جرير وغيره ـ : وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية .(2)
ورؤياه التي رآها لما ارتحل من قصر بني مقاتل(3) ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال حين انتبه : انّا لله وانّا إليه راجعون ، الحمد لله رب العالمين ـ مرّتين أو ثلاثاً ـ .
وقالوا : فاقبل عليه ابنه عليّ فقال : يا أبتاه ، جعلت فداك ممّا حمدت الله واسترجعت ؟
فقال : يا بني ، خفقت برأسي فعنّ لي فارس ، فقال : القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم ، فعلمت انّها انفسنا نعيت إلينا ، فقال : يا أبت لا أراك الله سوءاً ، ألسناعلى الحق ؟
قال : بلى ، والذي إليه مرجع العباد .
قال : إذاً لا نبالي نموت محقّين !

(1) تاريخ الطبري 5 : 191 ، تاريخ ابن الأثير 6 : 74 .
(2) تاريخ الطبري 5 : 231 ، المهلوف : 132 .
(3) وهو مقاتل بن حسان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم بن أيّوب الذي نسب إلى قصر مقاتل ، وكان يقال بعد : قصر ابن مقاتل ، ويقولون : قصر بني مقاتل . انظر : انساب الأشراف 4 : 515 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة108

فقال له : جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده .(1)
وقوله لمّا اُخبر بقتل قيس بن مسهّر الصيداوي(2) ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ : «فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً» .(3)
إلى غير ذلك من أقواله الصريحة بانّه كان على يقين ممّا انتهت إليه حاله ، وانّه ما خرج الا ليبذل في سبيل الله نفسه وجميع ما ملكته يده ، ويضحي في احياء دين الله أولاده واخوته ، وأبناء أخيه ، وبني عمومته وخاصّة أوليائه ، والعقائل الطاهرات من نسائه .
إذ لم ير السبط للدين الحنيف شفاً الا إذ دمه في نصره سفكا
وما سمعنـا عليـلاً لا علاج له الابنفـس مداويـه إذا هلكا


(1) أنساب الأشراف 5 : 290 .
(2) قيس بن مسهر أسدي من عدنان ، كان من شجعان الكوفة ومن وجهاء قبيلة بني اسد ، وأحد مبعوثي الكوفة إلى الإمام الحسين سار مع مسلم بن عقيل من مكّة إلى الكوفة ، وبعد مدّة حمل كتاب مسلم وسار به إلى الحسين بمكة يخبره بمبايعة أهل الكوفة له .
ولمّا وافى الامام الحسين الحاجز من بطن ذي الرمّة ، كتب كتاباً لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم اليهم ، ودفع الكتاب إلى البطل الفذ قيس بن مسهّر الصيداوي ، حتى انتهى إلى القادسية فاستولت عليه مفرزة من الشرطة اقيمت هناك وعلى رأسها الحصين بن نمير وهو من قادة جيش الكوفة ، وأسرع قيس إلى الكتاب فخرقه لئلا تطّلع الشرطة على ما فيه ، وأرسل مخفوراً إلى عبيد الله بن زياد ، الذي لم ينجح في الحصول على الأسماء الواردة الكتاب .
ولما تناهى خبر استشهاده إلى الحسين استعبر باكياً وقال : «اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً عندك ، واجمع بيننا وإيّاهم في مستقر رحمتك» . انظر : الارشاد للمفيد : 220 ، تاريخ الطبري 5 : 394 ـ 395 ، رجال الشيخ : 79 ، حياة الإمام الحسين 3 : 62 .
(3) تاريخ الطبري 5 : 488 ، اعلام الورى : 136 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة109

بقتلـه نـاح للاسلام طيب هدى فكلّما ذكرتـه المسلمـون ذكـا
وصان ستر الهدى عن كلّ خائنة ستر الفواطم يـوم الطف إذ هتكا
نفسي الفـداء لفـاد شرع والده بنفسـه وبأهـلـيـه وما ملكـا
قد آثر الدين أن يحيـى فقحمها حيث استقام القنا الخطي واشتبكا(1)

على انّ الامر الذي انتهت إليه حاله كان من الوضوح بمثابة لم تخف على أحد ، وقد نهاه عن ذلك الوجه (جهلاً بمقاصده السامية) كثير من الناس ، وأشفقوا عليه وأنذروه بلؤم بني اميّة وغدر أهل العراق .
فقال له أخوه محمد بن الحنفية ـ كما في الملهوف وغيره ـ : يا أخي ، إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفتُ أن يكون حالك كحال مَن مضى ، فإن رأيت أن تقيم فإنّك أعزّ من في الحرم وأمنعه .
[فقال : يا أخي قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم ، فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت .
فقال له ابن الحنفية :] فان خفتَ فسر إلى اليمن أوبعض نواحي البرّ ، فإنّك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك [أحد] .
فردّه الحسين عليه السلام برأفة ورفق ، وقال : أنظر فيما قلت .(2)
واتاه ابن عبّاس فقال : يا ابن عمّ ، قد ارجف الناس انّك سائر إلى العراق ، فبيّن لي ما أنت صانع ؟
قال : انّي قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين ان شاء الله تعالى .

(1) هذه الأبيات من قصيدة للشريف الفاضل السيد جعفر الحلّي يرثي بها جدّه عليه السلام .
(2) الملهوف : 128 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي