المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة86

والسالب لحلي فاطمة بنت الحسين(1) عليه السلام ، إبك لبكاء العسكر بأجمعه ، فقد شهدت كتب السير بكائهم ، مع خبث امّهاتهم وآبائهم ، أيحسن منك ـ وأنت مسلم ـ أن يصاب رسول الله صلى الله عليه وآله بهذه الفجائع ، وتحل بساحته تلك القوارع ، ثم تتّخذها ظهرياً ، وتكون عندك نسياً ، ما هذا شأن أهل الوفاء ، ولا بهذا تكون المواساة لسيّدة الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم .
ثم انّ الانقلاب الهائل ، وتلك الأحوال المدهشة (من الخسوف والكسوف ورجفة الأرض ، وظلمة الأفق وتهافت النجوم ، وحمرة السماء وبكاء الصخر الأصم دماً ، لم تكن الا إظهاراً لغضب الله عز وجل ، وتنبيهاً على فظاعة الخطب ، وتسجيلاً لتلك النازلة في صفحات الأفق ، لئلا تنسى على مرّ الليالي والأيّام ، وفيها من بعث الناس على استشعار الحزن وادثار الكآبة ما لا يخفى على اولي الألباب .

= أخذ الرأس إلى داره واخفائه هناك .
كان له زوجتان ، لمّا علمت أحداهما بانّه قد أتى برأس الحسين إلى الدار غضبت عليه ولم تجتمع بعدها وأيّاه في فراش واحد .
بقي خولي في أيام المختار متخفّياً ، الاأنّ زوجته الاخرى واسمها عيوف بنت مالك دلّت عليه أصحاب المختار ، وكانت هذه المرأة قد غضبت عليه منذ أن جاء برأس الحسين ، فأخذوا خولي وقتلوه . انظر : بحار الأنوار 45 : 125 ، أعيان الشيعة 1 : 612 ، مستدركات علم الرجال 3 : 344 ، مقتل الحسين للمقرم : 391 .
(1) فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام ، تابعية من روايات الحديث ، روت عن جدّتها فاطمة مرسلاً وعن أبيها ، حملت إلى الشام مع اختها سكينة وعمّتها زينب وامّ كلثوم ؛ قيل : عادت إلى المدينة ، فتزوّجها ابن عمّها الحسن بن الحسن بن علي ، ومات عنها فتزوجها عبد الله بن عمرو بن عثمان ، ومات فأبت الزواج إلى أن توفّيت سنة 110 هـ . انظر : الطبقات 8 : 347 ، مقاتل الطالبيين : 119 و120 و202 ، الأعلام 5 : 130 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة87

فصل

علم الباحثون من مدقّقي الفلاسفة انّ في مآتمنا المختصّة بأهل البيت عليهم السلام أسراراً شريفة(1) تعود على الامّة بصلاح آخرتها ودنياها ، أنبهك إليها بذكر

(1) قال رحمه الله : نبهك الى بعضها ، حكيما الغربيين ، فيلسوفا المستشرقين : الدكتور (جوزف) الفرنساوي في كتابه : «الاسلام والمسلمون» ، والمسيو (ماربين) الألماني في كتابه «السياسة الاسلامية» ، وقد ترجمت جريدة (الحبل المتين) الفارسية في العدد (82) من اعداد سنة 17 [وقيل : في العدد (28) من السنة الثامنة بتاريخ 7 محرم سنة 1329 هـ ـ 1911 م] فصلين من ذينك الكتابين النفيسين يحتويان على أسرار شهادة الحسين وفلسفة مآتمه عليه السلام ، فكان لهما دوي في العالم الاسلامي وأخذا في الشرق دوراً مهمّاً ، وترجما بالتركية والهندية ، وعرّبهما سيدنا الشريف العلامة الباحث السيد صدر الدين الموسوي نجل الإمام الكبير حجّة الاسلام ، وآية الله في الأنام ، قدوتنا المولى السيد إسماعيل الصدر أبقاه الله ، فنشرت مجلة العلم أحد الفصلين ، ومجلة العرفان نشرت الآخر ، وإليك ما ذكره الدكتور (جوزف) تحت عنوان «الشيعة وترقياتها المحيّرة للعقول» قال في جملة كلام له طويل :
لم تكن هذه الفرقة (يعني الشيعة) ظاهرة في القرون الإسلامية الاولى كأختها ، ويمكن أن تنسب قلّتهم إلى سببين :
أحدهما : انّ الرئاسة والحكومة التي هي سبب ازدياد تابعي المذهب كانت من بدء الإسلام بيد الفرقة الثانية .
ثانيهما : انّه كان القتل والإغارة عليهم في كل زمان ومكان ، ولهذا حكم أحد أئمّتهم في أوائل القرن الثاني من الإسلام بالتقية واخفاء مذهب الشيعة ، حفظاً لنفوسهم وأموالهم ، فزادت في قوّتهم ، لأنّهم حيث لم يكونوا ظاهرين لم تنلهم أيدي أعدائهم القويّة بالقتل والغارة ، وأقاموا المآتم تحت الستار يبكون فيها على الحسين فأثّرت هذه المآتم في قلوب هذه الطائفة إلى حدّ انّه لم يمر عليها زمن كثير حتى بلغت الأوج في الترقّي ، ودخل في هذه =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة88


= الطائفة بعض الوزراء وكثير من الملوك والخلفاء ، فبعضهم أخفى ذلك تقيّة ، وبعضهم أظهره جهراً .
من بعد الأمير تيمور الكورگاني ورجوع سلطنة إيران قليلاً قليلاً إلى الصفوية ، اتّخذت فرقة الشيعة إيران مركزاً لها ، وبمقتضى تخمين بعض سائحي فرنسا أن الشيعة سدس أو سبع المسلمين ـ ونظراً إلى ترقّي هذه الطائفة في مدة قليلة بدون اجبار اصلاً يمكن القول بأنّه لا يمضى قرن أو قرنان حتى يزيد عددها على عدد سائر فرق المسملين ، والعلّة في ذلك ؛ هي إقامة هذه المآتم التي جعلت كل فرد من أفرادها داعية إلى مذهبه .
اليوم لا يوجد نقطة من نقاط العالم يكون فيها شخصان من الشيعة الا ويقيمان فيها المآتم ، ويبذلان المال والطعام . رأيت في بندر (مارسل) في الفندق شخصاً واحداً عربياً شيعياً من أهل البحرين يقيم المأتم منفرداً جالساً على الكرسي بيده الكتاب يقرأ ويبكي ، وكان قد أعدّ مائدة من الطعام ففرّقها على الفقراء !
هذه الطائفة تصرف في هذا السبيل الأموال على قسمين ، فبعضهم يبذلون في كلّ سنة من أموالهم خاصّة في هذا السبيل بقدر استطاعتهم ما يقدّر بالملايين من الفرنكات ، والبعض الآخر من أوقاف خصّصت لإقامة هذه المآتم ، وهذا المبلغ طائل جداً ، ويمكن القول بأنّ جميع فرق المسلمين منضمّة بعضها إلى بعض لا تبذل في سبيل مذهبها ما تبذله هذه الطائفة ، وموقوفات هذه الفرقة هي ضعف أوقاف سائر المسلمين أو ثلاثة أضعافها .
كل واحد من هذه الفرقة بلا استثناء سائر في طريق الدعوة إلى مذهبه ، وهذه النكتة مستورة عن جميع المسلمين حتى الشيعة أنفسهم ، فإنهم لا يتصوّرون هذه الفائدة من عملهم هذا ، بل قصدهم الثواب الاخروي ، ولكن بما أن كلّ عمل في هذا العالم لا بدّ أن يظهر له بطبيعته أثر ، فهذا العمل أيضاً يؤثر ثمرات للشيعة ، من المسلّم أن المذهب الذي دعاته من خمسين إلى ستّين مليوناً لا محالة يترقّى على التدريج ترقّياً لائقاً بهم ، حتى انّ الرؤساء الروحانية ، والملوك والوزراء لهذه الفرقة ليسوا بخارجين عن صفة الدعوة ، فقراء وضعفاء هذه الفرقة بما انّهم حصلوا ويحصلون على فوائد كلّية من هذا الطريق ، فهم يحافظون على إقامة هذه المآتم أكثر من كبرائها ؛ لأنّهم رأوا في هذا العمل ثواب الآخرة وأجر الدنيا ، فلهذا ترك جمع غفير من عرفاء هذه الفرقة أسباب معاشهم ، واشتغلوا بهذا العمل ، فهم يتحمّلون المشاقّ ليتمكّنوا من ذكر فضائل كبراء دينهم ، والمصائب التي أصابت أهل هذا البيت
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة89


= بأحسن وجه واقوى تقرير على رؤوس المنابر وفي المجالس العامّة .
وبسبب هذه المشاقّ التي اختارتها هذه الجماعة في هذا الفن تفوّقت خطباء هذه الفرقة على جميع الطوائف الإسلامية ، وحيث انّ تكرار المطلب الواحد يورث اشمئزاز القلوب لمذهبهم في هذ الطريقة على المنابر ، حتى آل الأمر إلى أن أصبح الأميّون من الشيعة أعرف في مسائل مذهبهم ممّن يقرأون ويفهمون من الفرق الإسلامية الاخرى من كثرة ما سمعوا من عرفائهم .
اليوم إذا نظرنا في كلّ نقطة من نقاط العالم من حيث العدد والنفوس نرى أن أليق المسلمين بالمعرفة والعلم والحرفة والثروة هي فرقة الشيعة ، دعوة هذه الفرقة غير محصورة في أهل مذهبهم أو في سائر الفرق الاسلامية ، بل أي قوم وضع أفراد هذه الطائفة أقدامهم بينهم يسرى في قلوب أهل تلك الملّة هذا الأثر .
إنّ العدد الكثير الذي يرى اليوم في بلاد الهند من الشيعة هو من تأثير إقامة هذه المآتم ، فرقة الشيعة حتى في زمان السلاطين الصفوية لم تسع في ترقّي مذهبها بقوّة السيف ، بل ترقّت هذا الترقّي المحيّر للعقول بقوّة الكلام الذي هو أشدّ تأثيراً من السيف ، ترقّت اليوم هذه الفرقة في إداء مراسمها المذهبية بدرجة جعلت ثلثي المسلمين يتّبعونها في حركاتها ، جمّ غفير من الهنود والفرس وسائر المذاهب أيضاً شاركوهم في أعمالهم ، وهذا أمر واضح انّه بعد مضي قرن تودّع هذه الاخيالات بطريق الإرث لأبناء تلك الطوائف ، فيسلّمون بها أو يعتقدون بذلك المذهب ، وحيث انّ فرقة الشيعة تعتقد أنّ جميع مطالبها مرتبطة بكبراء مذهبها ويطلبون المدد منهم في الحوائج والشدائد ، فسائر الفرق أيضاً التي تشاركهم في أفعالهم وأعمالهم تتأسّى بهم كثيراً ، فبمجرّد مصادفة قضاء حوائجهم تزداد عقيدتهم رسوخاً .
من هذه القرائن والأسباب يمكن ان يستدرك انّه لا يمر زمن قليل على هذه الفرقة حتى تتفوّق من حيث العدد على جميع الفرق الإسلامية ، كان أكثر هذه الفرقة إلى ما قبل قرن أو قرنين ما عدا إيران يعملون بالتقيّة في مذهبهم لقلّة العدد ، وعدم القدرة ، ومن الزمن الذي استولت فيه دول الغرب على الممالك الشرقية وأعطت الحريّة لجميع المذاهب ، تظاهرت هذه الفرقة بمراسم مذهبها في كلّ نقطة ، وهذه الحريّة أفادتهم بدرجة أنّها رفعت من مذهب
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة90


= الشيعة اسم التقيّة .
بمناسبة الأسباب التي ذكرت ، وقفت هذه الفرقة على مقتضيات العصر اكثر من سائر الفرق الاسلامية ، وأقدمت على كسب المعاش وتحصيل العلوم أكثر من الآخرين ، ومن هذه الوجهة فالرجال العاملون الذين يعيشون بكدّ اليمين يوجدون فيهم أكثر من سائر فرق المسلمين ، وحيث انّ الغالب عليهم العمل ، فالملازمون لهم وخدّامهم يصيرون بالطبع تابعين لهم ، وعلاوة على ذلك انّهم بواسطة الأعمال يحتاج الناس إليهم ، ومحبّتهم ومعاشرتهم لسائر الفرق موجبة لاختلاط الآخرين معهم عند مشاركتهم لهم في مجالسهم ومحافلهم ، وحينما يصغى المباشرون لهم إلى سماع اصول مذهبهم وأحاديثهم مرّة بعد مرّة لا محالة يألفون مشربهم ، وهذا هو عمل الدعاة ، والأثر الذي يترتّب على هذه الوضعية هو الأثر الذي توخّته عرفاء دول الغرب في ترقية دين المسيح مع بذل أموال تحيّر العقول .
من جملة الامور السياسية التي ألبستها روؤساء فرقة الشيعة لباس المذهب من عدّة قرون وصارت مورثة جداً لجلب قلوبهم وقلوب غيرهم ؛ هي اصول التمثيل باسم الشبيه والتعزية في مأتم الحسين ، التمثيل أدخلته حكماء الهند في عباداتها لعدّة أغراض خارجة عن موضوع بحثنا ، الاوربّيون بمقتضى السياسة ألبسوا التمثيل لباس التفرّج ، وأظهروا في محلات التفرّج العمومية لأنظار العامّ والخاصّ اموراً سياسية مهمّة لاستجلاب القلوب ، وقليلاً قليلاً أصابوا هدفين بسهم واحد ؛ تفريح الطبائع ، وجلب قلوب العامّة في الامور السياسية .
فرقة الشيعة حصلت من هذه النكتة على فائدة تامّة فألبست ذلك لباس المذهب ، فيستنبط أنّ فرقة الشيعة أخذت هذا العمل من الهنود ، وعلى كلّ حال فالتأثير الذي يلزم أن يحصل على قلوب العامّة والخاصّة في اقامة العزاء والشبيه قد حصل .
من جهة يذكرون في مجالس قراءة التعزية المتواصلة ، وعلى المنابر المصائب التي وردت على رؤساء دينهم ، والمظالم التي وردت على الحسين ، ومع تلك الأحاديث المشوّقة إلى البكاء على مصائب آل الرسول .
فتمثيل تلك المصائب للأنظار أيضاً له تاثير عظيم ويجعل العامّ والخاصّ من هذه الفرقة راسخ العقيدة فوق التصوّر ، وهذه النكات الدقيقة صارت سبباً في أنّه لم يسمع بأحد من هذه الفرقة من ابتداء ترقّي مذهب الشيعة انّه ترك دين الإسلام أو دخل في فرقة اسلامية اخرى .
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة91

بعضها وأوكل الباقي إلى فطنتك :
فمنها : انّها جامعة اسلاميّة ، ورابطة إمامية باسم النبي وآله صلى الله عليه وآله ينبعث عنها الاعتصام بحبل الله عز وجل ، والتمسّك بثقلي رسول الله صلى الله عليه وآله وفيها من اجتماع القلوب على اداء الرسالة بمودّة القربى ، وترادف

= هذه الفرقة تعمل الشبيه بأقسام مختلفة ، فتارة في مجالس مخصوصة ومقامات معينة ، وحيث انّه في أمثال هذه المجالس المخصوصة والمقامات المعينة يكون اشتراك الفرق الاخرى معهم أقلّ ، أوجدوا تمثيلاً بوضع خاص ، فعملوا الشبيه في الأزقّة والأسواق ، وداروا به بين جميع الفرق ، وبهذا السبب تتأثّر قلوب جميع الفرق منهم ومن غيرهم بذلك الأثر الذي يجب أن يحصل من التمثيل ، ولم يزل هذا العمل شيئاً فشيئاً يورث توجّه العام والخاص إليه ، حتى أنّ بعض الفرق الاسلامية الأخرى وبعض الهنود قلّدوا الشيعة فيه ، واشتركوا معهم في ذلك .
وعمل الشبيه في الهند أكثر رواجاً منه في جميع الممالك الاسلامية ، كما انّ سائر فرق الاسلام هناك أكثر اشتراكاً مع الشيعة في هذا العمل من سائر البلاد . ويظنّ أن اصول التمثيل وعمل الشبيه بين الشيعة قد جاءت من جهة سياسة السلاطين الصفويّة الذين كانوا أول سلسلة استولت على السلطنة بقوّة المذهب وروؤساء الشيعة الروحانيون شيئاً فشيئاً أيّدوا هذا العمل وأجازوه .
ومن جملة الامور التي صارت سبباً في ترقّي هذه الفرقة وشهرتها في كلّ مكان هو إرادة أنفسهم بالمرأى الحسن ، بمعنى أنّ هذه الطائفة بواسطة مجالس المأتم ، وعمل الشبيه ، واللطم والدوران ، وحمل الأعلام في مأتم الحسين ، جلبت إليها قلوب باقي الفرق بالجاه والاعتبار والقوة والشوكة ، لأنّه من المعلوم أنّ كل ّجمعية وجماعة تجلب إليها الأنظار وتوجّه إليها الخواطر إلى درجة ما .
مثلاً لو كان في مدينة عشرة آلاف نفس متفرّقين ، وكان في محل ألف نفس مجتمعين ، كانت شوكة الألف وعظمتهم في أنظار الخاصّ والعامّ أكثر من العشرة آلاف ، مضافاً إلى أنّه إذا اجتمع ألف نفس انضمّ إليهم من غيرهم بقدرهم بعضهم للتفرّج ، وبعضهم للصداقة والرفاقة ، وبعضهم لأغراض خاصّة ، وبهذا الانضمام تتضاعف قوة الألف وشوكتهم في الأنظار .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة92

العزائم على إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام ما ليس في غيرها .
وحسبك في رجحانها ما يتسنّى بها للحكيم من إلقاء المواعظ والنصائح ، وإيقاف المجتمعين على الشؤون الإسلامية ، والامور الإمامية ولو إجمالاً ، وبذلك يكون أمل العاملي(1) ، نفس أمل إخوانه في العراق وفارس والبحرين والهند وغيرها من بلاد الاسلام .
ولا تنس ما يتهيّأ للمجتمعين فيها من الاطّلاع على شؤونهم ، والبحث عن شؤون اخوانهم النائين عنهم ، وما يتيسّر لهم حينئذ من تبادل الآراء فيما يعود عليهم بالنفع ، ويجعلهم كالبنيان المرصوص ، يشدّ بعضه بعضاً ، أو كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضواً أنّت له سائر الأعضاء ، وبذلك يكونون مستقيمين في السير على خطة واحدة يسعون فيها وراء كلّ ما يرمون إليه .
ومنها : انّ هذه المآتم دعوة إلى الدين بأحسن صورة وألطف اسلوب ، بل هي أعلى صرخة للإسلام توقظ الغافل من سباته ، وتنبّه الجاهل من سكراته ، بما تشربه في قلوب المجتمعين ، وتنفثه في آذان المستمعين ، وتبثّه في العالم ، وتصوره قالباً لجميع بني آدم ، من أعلام الرسالة ، وآيات الاسلام ، وأدلّة
الدين ، وحجج المسلمين ، والسيرة النبويّة ، والخصائص العلوية ، ومصائب اهل البيت عليهم السلام في سبيل الله ، وصبرهم على الأذى في اعلاء كلمة الله .
فاولوا النظر والتحقيق يعلمون أنّ خطباء المآتم كلهم دعاة إلى الدين من حيث لم يقصدوا ذلك ، بل لا مبشّر بالإسلام على التحقيق سواهم ، وأنت تعلم أنّ الموظفين لهذا العمل الشريف لا يقصرون في انحاء البسيطة عن الألوف المؤلّفة ،

(1) نسبة إلى جبل عامل في لبنان موطن المصنّف رحمه الله .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة93

فلو بذل المسلمون شطر أموالهم ليوظفوا دعاة إلى دينهم بعد اولئك الخطباء ما تيسّر ذلك لهم ، ولو تيسّر من يستمع الدعوة على مرّ الدهور استماع الناس لما يُتلى في هذه المآتم بكلّ رغبة واقبال .
ومنها : ما قد أثبته العيان ، وشهد به الحس والوجدان من بثّ روح المعارف بسبب هذه المآتم ، ونشر أطراف من العلوم ببركتها ، إذ هي ـ بشرط كونها على اصولها ـ أرقى مدارس للعوام ، يستضيئون فيها بأنوار الحكم من جوامع الكلم ، ويلتقطون منها دور السير ، ويقفون بها على أنواع العبر ، ويتلقون فيها من الحديث والتفسير والفقه ما يلزمهم حمله ولا يسعهم جهله ، بل هي المدرسة الوحيدة للعوام في جميع بلاد الاسلام .
وقد تفنّن خطباؤها في ما يصدعون به أوّلاً على أعوادها ثم يتخلّصون منه إلى ذكر المصيبة وتلاوة الفاجعة ؛ فمنهم : من يشنف المسامع ويشرف الجوامع بالحكم النبويّة ، والمواعظ العلوية ، أو يتلو أوّلاً من كلام أئمّة أهل البيت عليهم السلام ما يقرّب المستمعين إلى الله ، ويأخذ بأعناقهم إلى تقواه .
ومنهم : من يتلو أوّلاً من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وتارخ أوصيائه عليهم السلام ما يبعث المستمعين على مودتهم ، ويضطرهم إلى بذل الجهد في طاعتهم .
ومنهم : من ينبّه الأفكار أوّلاً إلى فضل رسول الله صلى الله عليه وآله ومقام أوصيائه عليهم السلام بما يسرده من الأحاديث الصحيحة ، والآيات المحكمة الصريحة .
ومنهم : من يتلو أوّلاً الأحكام الشرعية والعقائد الدينية ما تعمّ به البلوى المكلّفين ولا مندوحة من معرفته لأحد من العالمين .

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة94

هذه سيرتهم المستمرة أيام حياتهم ، فهل ترى بجدك للعوام مدرسة تقوم مقامها في جسيم فوائدها وعظيم مقاصدها ؟ لا وسرّ الحكماء الذين بعثوا شيعتهم عليها وحكمة الأوصياء الذين أرشدوا أوليائهم إليها .
ومنها : الارتقاء في الخطابة ، والعروج إلى منتهى البراعة ، كما يشهد به الوجدان ، ولا نحتاج فيه إلى برهان .
ومنها : العزاء عن كل مصيبة ، والسلوة لكل فادحة ، إذ تهون الفجائع بذكر فجائعهم ، وتنسى القوارع بتلاوة قوارعهم ، كما قيل في رثائهم عليه السلام :
أنست رزيّتكم رزايا التي سلفت وهوّنت الرزايا الآتية

ومنها : انعاش أهل الفاقة ، واثلاج أكباد حرّى من أهل المسكنة على الدوام بما نفق في هذه المآتم من الأموال في سبيل الله عز وجل ، وما يبذل فيها لأهل المسغبة وغيرهم ، وأنت تعلم أنّه لا وسيلة لقراء تلك المآتم في التعيّش غالباً الا هذه الوظيفة ، وهم من الرجال والنساء ـ بقطع النظر عمّن يقومون بنفقته ، اُلوف مؤلّفة يعيشون ببركة أهل البيت عليهم السلام ويتنعّمون بيمن مآتمهم عليهم السلام .
ومنها : انّ المصلحة التي استشهد الحسين عليه السلام ـ بأبي واُمّي ـ في سبيلها ، وسفك دمه الزكي تلقاءها ، تستوجب استمرار هذه المآتم ، وتقتضي دوامها إلى يوم القيامة وبيان ذلك :
إنّ المنافقين حيث دفعوا أهل البيت عليهم السلام عن مقامهم ، وأزالوهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها ، ظهروا للناس بمظاهر النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأظهروا التأييد لدينه ، والخدمة لشريعته ، فوقع الإلتباس ، واغترّ

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة95

بهم أكثر الناس ، ولما ملكوا من الامّة أزمتها ، واستسلمت لهم برمّتها ، حرموا (والناس في سنّة عن سوء مقاصدهم) من حلال الله ما شاؤوا ، وحلّلوا من حرامه ما أرادوا ، وعاثوا في الدين وحكموا فيه القاسطين ، فسمّلوا أعين أولياء الله ، وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وصلبوهم على جذوع النخل ، ونفوهم عن عقر ديارهم حتى تفرقوا أيدي سبأ ، ولعنوا أمير المؤمنين عليه السلام وكنّوا به عن أخيه الصادق الأمين صلى الله عليه وآله .
فلو دامت تلك الأحوال ، وهم أولياء السلطة المطلقة ، والرئاسة الروحانية ، لما أبقوا للإسلام عيناً ولا أثراً ، لكن ثار الحسين عليه السلام فادياً دين الله عز وجل بنفسه وأحبائه حتى وردوا حياض المنايا ، ولسان حاله يقول :
إن كان دين محمد لم يستقم الا بقتلي يا سيوف خذيني

فاستنقذ الدين من أيدي الظالمين ، وانكشف الغطاء بوقوع تلك الرزايا عن نفاق القوم حتى تجلّت عداوتهم لله عز وجل ، وظهر انتقامهم من رسول الله صلى الله عليه وآله ، إذ لم يكتفوا بقتل الرجال من بنيه عطاشى والماء تعبث فيه خنازير البر وكلابه ، ولم يقنعوا بذبح الأطفال من أشباله أحياء وقد غارت أعينهم من شدّة العطش ، ولا اكتفوا باستئصال العترة الطاهرة ونجوم الأرض من شيبة الحمد حتى وطأوا جثثهم بسنابك الخيل ، وحملوا رؤوسهم على أطراف الأسنة ، وتركوا أشلائهم الموزعة عارية بالعراء ، مباحة لوحوش الأرض وطير السماء ، ثمّ أرزوا ودائع الرسالة وحرائر الوحي مسلبات ، وطافوا البلاد بهنّ سبايا كأنّهنّ من كوافر البربر ، حتى أدخلوهنّ تارة على ابن مرجانة ، واخرى على ابن آكل الأكباد ، وأوقفوهنّ على درج الجامع في دمشق حيث تباع جواري السبي .
فلم تبق بعدها وقفة من عداوتهم لله ، ولا ريبة بنفاقهم في دين الاسلام ،

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة96

وعلم حينئذ أهل البحث والتنقيب من اولي الألباب انّ هذه امور دبّرت بليل ، وانّها عن عهد السلف بها إلى خلفه ، وما كانت ارتجالاً من يزيد ـ وما المسبّب لو لم ينجح السبب ـ ثمّ لم تزل أنوار هذه الحقيقة تتجلّى لكلّ من نظر نظراً فلسفياً في فجائع الطفّ وخطوب أهل البيت عليهم السلام ، أو بَحَث بحث مدقّق عن أساس تلك القوارع ، وأسباب هاتيك الفظائع .
وقد علم أهل التدقيق من اولي البصائر أنّه ما كان لهذا الفاجر أن يرتكب من أهل البيت ما ارتكب ، لولا ما مهده سلفه من هدم سورهم ، واطفاء نورهم ، وحمله الناس على رقابهم ، وفعله الشنيع يوم بابهم .(1)
وتالله لولا ما بذله الحسين عليه السلام في سبيل إحياء الدين من نفسه الزكية ، ونفوس أحبّائه بتلك الكيفية ، لأمسى الاسلام خبراً من الأخبار السالفة (2) ،

(1) أقول : أخرج البلاذري في تاريخه قال : لمّا قتل الحسين بن علي بن أبي طالب ، كتب عبد الله بن عمر رسالة إلى يزيد بن معاوية جاء فيها : أمّا بعد ، فقد عظمت الرزية وجلّت المصيبة ، وحدث في الاسلام حدث عظيم ، ولا يوم كيوم قتل الحسين .
فكتب إليه يزيد :
أمّا بعد ، يا أحمق ! فإنّا جئنا إلى بيوت مجددة ، وفرش ممهّدة ، ووسائد منضدة ، فقاتلنا عنها ! فإن يكن الحق لنا فعن حقّنا قاتلنا ، وإن كان الحقّ لغيرنا فأبوك أوّل من سنّ هذا واستأثر بالحقّ على أهله .
(2) قال رحمه الله : كما شهد به العظماء من فلاسفة الغرب ، وإليك ما ذكره الميسو ماربين الألماني في كتابه «السياسة الإسلامية» بعين لفظ المعرّب قال من جملة كلام طويل : لا يشكّ صاحب الوجدان إذا دقّق النظر في أوضاع ذلك العصر وكيفية نجاح بني اميّة في مقاصدهم واستيلائهم على جميع طبقات الناس وتزلزل المسلمين انّ الحسين قد أحيا بقتله دين جده وقوانين الاسلام وان لم تقع تلك الواقعة ولم تظهر تلك الحسيّات الصادقة بين المسلمين لأجل قتل الحسين ، ولم يكن الاسلام على ما هو عليه الآن قطعاً بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانين حيث كان يومئذ حديث العهد ، عزم الحسين انجاح هذا المقصد واعلان =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة97


= الثورة ضد بني اميّة من يوم توفي والده ، فلما قام يزيد مقام معاوية خرج الحسين من المدينة وكان يظهر مقصده العالي ويبثّ روح الثورة في المراكز المهمة الاسلامية كمكّة والعراق واينما حلّ فازداد ـ نفرة قلوب المسلمين التي هي مقدّمة الثورة من بني أميّة ، ولم يكن يجهل يزيد مقاصد الحسين وكان يعلم انّ الثورة إذا اُعلنت في جهة والحسين قائدها مع تنفّر المسلمين عموماً من جومة بني اميّة وميل القلوب وتوجه الأنظار إلى الحسين عمّت جميع البلاد وفي ذلك زوال ملكهم وسلطانهم فعزم يزيد قبل كلّ شيء من يوم بويع على قتل الحسين .
ولقد كان هذا العزم أعظم خطا سياسي صدر من بني اميّة الذي جعلهم نسياً منسياً ولم يبق منهم أثر ولا خبر .
وأعظم دلالة على انّ الحسين أقدم على قتل نفسه ، ولم تكن في نظره سلطنة ولا رئاسة هو : أنّه مضافاً إلى ما كان عليه من العلم والسياسة والتجربة التي وقف عليه زمن أبيه وأخيه في قتال بني اميّة كان يعلم أنّه مع عدم تهيئة الأسباب له واقتدار يزيد لا يمكنه المقاومة والغلبة ، وكان يقول : من يوم توفي والده انّه يقتل ، وأعلن يوم خروجه من المدينة انّه يمضي إلى القتل وأظهر ذلك لأصحابه والذي اتّبعوه من باب اتمام الحجّة حتى يتفرّق الذين التفّوا حوله طمعاً بالدنيا ، وطالما كان يقول : «خير لي مصرع أنا ملاقيه» ، ولو لم يكن قصده ذلك ولم يكن عالما عامداً لجمع الجنود ولسعى في تكثير أصحابه وزيادة استعداده لا أن يفرق الذين كانوا معه ، ولكن لما لم يكن له قصد الاالقتل مقدّمة لذلك المقصد العالي واعلان الثورة المقدّسة ضد يزيد رأى انّ خير الوسائل إلى ذلك الوحدة والمظلومية فان أثّر هكذا مصائب أشد وأكثر في القلوب .
من الظاهر انّ الحسين مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين في ذلك الزمان لو كان يطلب قوّة واستعداداً لأمكنه أن يخرج إلى حرب يزيد جيشاً جرّاراً ، ولكنّه لو وضع ذلك لكان قتله في سبيل طلب السلطنة والامارة ، ولم يفز بالمظلوميّة التي انتجت تلك الثورة والعظيمة ، هذا هو الذي سبب أن لا يبقى معه أحداً ، الا الذين لا يمكن انفكاكهم عنه ، كأولاده وأخوانه وبني أخوته وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه ، حتى انّه أمر هؤلاء أيضاً بمفارقته ، ولكنّهم أبو عليه ذلك ، وهؤلاء أيضاً كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر ، وعظيم المنزلة ، وقتلهم معه ممّا يزيد في عظم المصيبة وأثر الواقعة .
=

السابق السابق الفهرس التالي التالي