المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة74

حجة على رجحان هذه المآتم ، واستحبابها شرعاً ، فإنّ أقوال أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام وأفعالهم وتقريرهم ، حجة بالغة لوجوب عصمتهم بحكم العقل والنقل ، كما هو مقرّر في مظانه من كتب المتكلّمين من أصحابنا ، والتفصيل في كتابنا «سبيل المؤمنين»(1) .
على انّ الاقتداء بهم في هذه المآتم وغيرها لا يتوقّف ـ عند الخصم ـ على عصمتهم ، بل يكفينا فيه ما اتّفقت عليه الكلمة من إمامتهم في الفتوى ، وانّهم في أنفسهم لا يقصرون عن الفقهاء الأربعة ، والثوري ، والأوزاعي ، وأضرابهم علماً ولا عملاً .
وانت تعلم انّ هذه المآتم لو ثبتت عن أبي حنيفة ، أو صاحبيه أبي يوسف والشيباني مثلا ، لاستبق الخصم إليها ، وعكف أيّام حياته عليها ، فلما ينكرها علينا ، ويندّد بها بعد ثبوتها عن أئمة أهل البيت يا منصفون ؟!
أتراه يرى في أئمة الثقلين أمرا يقتضي الإعراض عنهم ، أو يجد فيهم شيئا يستوجب الانكار على الأخذ بمذهبهم ، أو انّ هناك أدلّة خاصة تقتصر الإمامة في الفتوى على أئمة خصومنا ولا نبيح الرجوع إلى غيرهم .
كلا ، انّ واقع الأمر وحقيقة الحال بالعكس .
هذا حديث الثقلين(2) المجمع على صحّته واستفاضته ، قد أنزل العترة منزلة الكتاب ، وجعلها قدوة لاولي الالباب ، فراجعه في باب فضائل عليّ من صحيح

(1) أقول : كتاب «سبيل المؤمنين» ـ في الإمامة ـ من كتب العلّامة شرف الدين رحمه الله المهمّة ، وكان من ضمن الكتب المحترقة عندما أحرق الفرنسيون مكتبته العامرة في صور .
(2) تقدّمت تخريجاته .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة75

مسلم أو في الجمع بين الصحيحين ، أو الجمع بين الصحاح الستّة ، أو في حديث أبي سعيد الخدري من مسند أحمد بن حنبل ، أو خصائص علي للإمام النسائي ، أو في تفسيري الثعلبي والبيهقي ، أو في حلية الحافظ الأصفهاني ، أو كتب الحاكم والطبراني ، وغيرها من كتب الحديث .
وأنا أورده لك بلفظ الترمذي(1) بحذف الإسناد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّي تارك فيكم ما أن تمسّكتم به لن تضلّوا ، الثقلين أحدهما أعظم من الآخر ؛ كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما .
وقد زاد الطبراني : فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فانّهم أعلم منكم .
قلت : لا يخفى أنّ تعليق عدم الضلال على التمسّك بهما ، يقتضي بحكم

(1) قال رحمه الله : قال ابن حجر ـ بعد نقله عن الترمذي ـ في أثناء تفسيره للآية الثانية من الآية التي أوردها في الفصل الأول من الباب الحادي عشر من صواعقه ما هذا لفظه : ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك طرقا كثيرة وردت عن نيّف وعشرين صحابيّاً .
قال : ومرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه ، وفي بعض تلك الطرق انّه قال : ذلك في حجّة الوداع بعرفة .
وفي اخرى : انّه قاله بالمدينة في مرضه ، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه .
وفي اخرى : انّه قال ذلك في غدير خم .
وفي اخرى : انّه قاله لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف .
قال : ولا تنافي ؛ إذ لا مانع من انّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة . انظر : الصواعق المحرقة : 152 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة76

المفهوم ثبوت الضلال لمن تخلّى عن أحدهما ، وناهيك به في وجوب اتباع العترة والانقطاع في الدين إليها ، وإلى القرآن العزيز .
على انّ اقترانهم بالكتاب (وهو معصوم) وجعلهم في وجوب التمسّك بهم مثله دليل قاطع على حجّية أقوالهم وأفعالهم ، وانّ الرجوع في الدين إلى خلافهم ليس الا كترك القرآن ، والرجوع إلى كتاب يخالف أحكامه ، ولا تنس دلالة قوله صلى الله عليه وآله : «ولن يفترقا» ، على عدم خلو الزمان ممّن يفرغ منهم عن القرآن ، والقرآن يفرغ عنه .(1)
ثم انّ قوله : فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فانّهم أعلم منكم ـ نصّ صريح فيما قلناه كما لا يخفى ـ ، وكم لهذا الحديث من نظير في الدلالة على وجوب الاقتداء بالعترة الطاهرة ، أو المنع من مخالفتها نستلفت الباحثين إلى ما أخرجناه من ذلك من مبحث العصمة من (سبيل
المؤمنين) وحسبك منه ما أخرجه الحاكم بسند صحّحه على شرط البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال من جملة حديث «وأهل بيتي أمان لاُمّتي» من الاختلاف : فإذا خالفتها قبيلة من العرب (في بعض أحكام الدين) اختلفوا (في فتاويهم) فصاروا حزب ابليس .

(1) قال رحمه الله : ومثله : قوله صلى الله عليه وآله وسلم : في كل خلف من امّتي عدول من أهل بيتي ، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عز وجل ، فانظروا مَن توفدون .
أخرجه الملأ ، كما في تفسير الآية الرابعة من الآيات التي أوردها ابن حجر في الفصل الأول من الباب الحادي عشر من صواعقه ، وفي هذا المعنى صحاح متواترة من طريق العترة الطاهرة ، بل هو من ضروريات مذهبهم عليهم السلام : انظر : الصواعق المحرقة : 236 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة77

أليس هذا نصّاً في وجوب اتّباعهم ، وحرمة مخالفتهم ، وهل في لغة العرب أو غيرها عبارة أبلغ منه في انذار مخالفيهم ؟
وأخرج أحمد بن حنبل وغيره بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قال : النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت ذهبوا ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهبت ذهب أهل الأرض .
وفي رواية : فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعدون .
وفي هذا المعنى صحاح متظافرة من طريق العترة الطاهرة ومتى كانوا أماناً لأهل الأرض ، فكيف يستبدل بهم ، وأنّى يعدل عنهم .
وجاء من طرق عديدة يقوّي بعضها بعضاً (كذا قال ابن حجر)(1) أنّه صلى الله عليه وآله قال : إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا .
قال ابن حجر : وفي رواية مسلم : ومن تخلّف عنها غرق .
قال : وفي رواية : هلك . وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل ، من دخله غفر له .
قال : وفي رواية : غفر له الذنوب .
ولا يخفى انّ المراد من تمثيلهم بسفينة نوح ، انّما هو الزام الامّة باتباع طريقهم ، والتمسّك بالعروة الوثقى من ولايتهم ، وليس المراد من النجاة بذلك الا رضوان الله عز وجل والجنّة ، كما انّ المراد بغرق المتخلفين عنهم أو هلاكهم إنّما هو

(1) الصواعق المحرقة : 151 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة78

سخط الله سبحانه والنار .
والمراد من تمثيلهم بباب حطّة انّما هو بعض الامّة على التواضع لله عز وجل بالاقتداء بهم والاستسلام لأوامرهم ونواهيهم ، وهذا كلّه ظاهر كما ترى .
قال ابن حجر ـ بعد إيراد هذه الأحاديث في تفسير الآية السابعة من الآيات التي أوردها في الفصل الأول من الباب الحادي عشر من الصواعق ـ ما هذا لفظه :
ووجه تشبيههم بالسفينة ـ فيما مرّ ـ أنّ من أحبّهم وعظّمهم ، شكراً لنعمة مشرفهم صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخذ بهدى علمائهم ، نجا من ظلمة المخالفات ، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان .
إلى أن قال : وبباب حطّة ـ يعني ووجه تشبيههم بباب حطّة ـ انّ الله تعالى جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب اريحاء أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة ، وجعل لهذه الامة مودّة أهل البيت سبباً لها .(1) إلى آخر كلامه .
ولو أردنا استيفاء ما جاء من صحاح الستّة في وجوب اتباع أئمة أهل البيت ، والانقطاع الدين إليهم عن العالمين لطال المقام ، وخرجنا عن موضوع هذه المقدّمة وحاصله : أنّ مآتمنا بما فيها من الجلوس بعنوان الحزن على مصائب أهل البيت ، والانفاق عنهمه في وجوه البر ، وتلاوة رثائهم ومناقبهم ، والبكاء رحمة لهم ، سيرة قطعية قد استمّرت عليها أئمّة الهدى من أهل البيت ، وأمروا بها

(1) الصواعق المحرقة : 152 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة79

أولياءهم على مرّ الليالي والأيام فورثناها منهم ، وثابرنا عليها عملاً بما هو المأثور عنهم ، فكيف والحال هذه ـ تنكرونها علينا ، وتقولون فيها ما تقولون ؟ والله يعلم انّها ليست كما تظنّون .
دع بكاء الأنبياء والأوصياء ، ودع عنك ما كان من ملائكة السماء ، وقل لي هل جهلت نوح الجن في طبقاتها(1) ، ورثاء الطير في وكناتها(2) ، وبكاء الوحش في فلواتها(3) ، ورسيس حيتان البحر في غمراتها(4) ؟ وهل نسيت الشمس وكسوفها ، والنجوم وخسوفها ، والأرض وزلزالها(5) ، وتلك الفجائع وأهوالها ؟ أم هل ذهلت عن الأحجار ودمائها ،
والأشجار وبكائها ، والآفاق وغبرتها ، والسماء وحمرتها ، وقارورة امّ سلمة وحصياتها(6) وتلك الساعة وآياتها ؟

(1) انظر : الطبقات الكبرى 1 : 23 ، العرائس الواضحة : 190 ، إسعاف الراغبين : 217 ، ينابيع المودّة 1 : 330 ، كفاية الطالب : 290 ، المعجم الكبير 3 : 127 ، مجمع الزوائد 9 : 196 ، إحقاق الحقّ 11 : 567 ـ 568 .
(2) انظر : مقتل الحسين 2 : 91 ، الكامل في التاريخ 3 : 296 ، الخصائص الكبرى 2 : 126 ، مجمع الزوائد 9 : 196 ، تاريخ الخلفاء : 81 ، إحقاق الحق 11 : 490 .
(3) انظر : مقتل الحسين 2 : 91 ، الكامل في التاريخ 3 : 296 ، الخصائص الكبرى 2 : 126 ، مجمع الزوائد 9 : 196 ، تاريخ الخلفاء : 81 ، إحقاق الحق 11 : 490 .
(4) انظر : تاريخ دمشق ـ ترجمة الامام الحسين ـ 4 : 339 ، مقتل الحسين 2 : 90 ، سير اعلام النبلاء 3 : 311 ، المحاسن والمساوئ : 62 ، تاريخ الخلفاء : 80 ، إحقاق الحق 11 : 467 .
(5) انظر : المصادر السابقة .
(6) قال :(رحمه الله) اشرنا بهذا إلى ما رواه الملأ في سيرته ، وابن احمد في زيادة المسند ، كما في الصواعق عن امّ سلمة ، قالت ـ من حديث ـ : ثمّ ناولني كفّا من تراب أحمر وقال : انّ هذا من تربة الأرض التي يقتل بها (ولدي) فمتى صار دماً فاعلمي انّه قد قتل، قالت : فوضعته في قارورة ، وكنت أقول : انّ يوماً يتحول فيه دماً ليوم عظيم .
وفي رواية اخرى ـ كما في الصواعق أيضا ـ : انّ جبرئيل جاء بحصيات فجعلهن النبي =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة80

ألم يرو الملأ عن ام سلمة (كما في الصواعق(1) وغيرها(2)) انّها قالت : سمعت نوح الجن على الحسين .
وروى ابن سعد ـ كما في الصواعق أيضاً ـ : انّها بكت حينئذ حتى غشي عليها .
وأخرج أبو نعيم الحافظ في الدلائل عنها ـ كما نقله السيوطي ـ قالت : سمعت الجن تبكي على الحسين وتنوح عليه .(3)
وأخرج ثعلب في أماليه (كما في تاريخ الخلفاء ايضا) عن أبي جناب الكلبي(4) قال : أتيت كربلاء ، فقلت لرجل من أشراف العرب بها : أخبرني بما بلغني

= صلى الله عليه وآله في قارورة ، قالت امّ سلمة : فلمّا كانت ليلة قتل الحسين سمعت قائلاً يقول :
أيّها القاتلـون جهلا حسيناً ابشروا بالعـذاب والتذليل
قد لعنتم على لسان ابن داو د وموسى وحامل الانجيل
قالت : فبكيت وفتحت القارورة ، فإذا الحصيات قد جرت دماً .
أقول : وانظر أيضا حديث امّ سلمة في : المعجم الكبير 3 : 130 ، ذخائر العقبى : 150 ، تاريخ الإسلام 2 : 249 ، أسماء الرجال 2 : 141 ، سير أعلام النبلاء 3 : 214 ، آكام المرجان : 147 ، نظم الدرر : 217 ، الإصابة 1 : 334 ، مجمع الزوائد 9 : 199 ، البداية والنهاية 6 : 231 ، تاريخ الخلفاء : 80 ، وسيلة المآل : 107 ، مفتاح النجا : 144 ، ينابيع المودّة : 320 ، الشرف المؤبّد : 68 ، كفاية الطالب : 294 ، التذكرة : 279 ، المختصر من المقتبس : 263 ، تاج العروس 3 : 196 .
(1) قال رحمه الله : كلّ ما ننقله هنا عن الصواعق موجود في أثناء كلامه في الحديث الثلاثين من الأحاديث التي أوردها في الفصل الثالث من الباب الحادي عشر .
(2) البداية والنهاية 6 : 231 ، مجمع الزوائد 9 : 199 ، كفاية الطالب : 294 .
(3) دلائل النبوة 2 : 556 ، تاريخ الخلفاء : 80 .
(4) في الأصل : أبو خباب الكلبي ، وما أثبتناه هوالصحيح ، وهو : يحيى بن أبي حيّة الكوفي ، =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة81

انّكم تسمعون من نوح الجنّ ؟ فقال : ما تلقى أحداً(1) الاأخبرك أنّه سمع ذلك . قلت : فأخبرني بما سمعت أنت ؟
قال : سمعتهم يقولون :
مسح الرسول جبينه فله بريق في الخـدود
أبواه من عَليا قريـ ـش وجدّه خير الجدود(2)

وأخرج أبو نعيم الحافظ (في كتـاب دلائل النبوة) عن نضرة الأزدية قالت : لمّا قتل الحسيـن بن علي أمطرت السماء دماً ، فأصبحنا وحبابنا وجرارنا مملـوءة دماً .(3)
قال ابن حجر ـ بعد إيراده في الصواعق ـ : وكذا روي في أحاديث غير هذه .(4)
قال : وممّا ظهر يوم قتله من الآيات أيضا : انّ السماء إسودّت إسوداداً عظيماً حتى رؤيت النجوم نهاراً .

= حدّث عن أبيه والشعبي وأبي اسحاق السبيعي وغيرهم ، روى عن عبد الرحمن المحاربي وغيره . انظر : لسان الميزان 6 : 789 ، الإكمال 2 : 134 .
(1) في المصدر : ما تلقى حرّا ولا عبداً .
(2) مجالس ثعلب 2 : 339 ، تاريخ الخلفاء : 81 ، الملهوف :226 .
أقول : وقد نسب البيهقي في (المحاسن والمساوئ 1 : 49) هذه الأبيات إلى الشاعر كعب بن زهير ، والظاهر انّه كعب بن زهير الصحابي ، ولم أجد الأبيات المنسوبة إليه في غير هذا الكتاب ، فإن صحّت هذه النسبة ، فهي ممّا كتمت في أيام الامويّين والعباسيّين .
(3) دلائل النبوة 2 : 553 ، المناقب لابن شهراشوب 4 : 54 ، العوالم 17 : 466 ح 1 ، بحار الأنوار 45 : 215 ح 38 ..
(4) الصواعق المحرقة : 194 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة82

قال : ولم يرفع حجر الاوجد تحته دم عبيط .(1)
وأخرج أبو الشيخ ـ كما في الصواعق أيضاً ـ : انّ السماء احمرّت لقتله عليه السلام وانكسفت الشمس حتى بدت الكواكب نصف النهار وظنّ الناس انّ القيامة قد قامت .
قال : ولم يرفع حجر في الشام(2) الارؤي تحته دم عبيط .
وأخرج عثمان بن أبي شيبة ـ كما في الصواعق وغيرها ـ انّ الشمس مكثت بعد قتله عليه السلام سبعة ايّام ترى على الحيطان كأنّهاملاحف معصفرة(3) من شدّة حمرتها وضربت الكواكب بعضها بعضاً .(4)
قال في الصواعق : ونقل ابن الجوزي عن ابن سيرين : انّ الدنيا أظلمت ثلاثة أيّام ثم ظهرت الحمرة في السماء .(5)
قال : وقال أبو سعيد : ما رفع حجر من الدنيا الا وتحته دم الثياب حتى

(1) الصواعق المحرقة : 116 و192 ، تذكرة الخواص : 284 ، نظم درر السمطين : 220 ، كفاية الطالب : 295 ، الإتحاف بحبّ الأشراف : 12 .
(2) الشام ـ بالهمزة ـ ويجوز أن لا يهمز ، فيكون جمع شامة ، سمّيت بذلك لكثرة قراها وتداني بعضها من بعض فشبّهت بالشامات ، حدّها من الفرات إلى العريش المتاخم للديار المصرية ، وعرضها من جَبَلَي طي من نحو القبلة إلى بحر الروم ، وبها من امّهات المدن حلب ، ومنبج وحماة وحمص ودمشق والبيت المقدّس والمعرة وفي الساحل أنطاكية وطرابلس .
انظر : معجم البلدان 3 : 311 ـ 315 .
(3) المعصفرة : التي اصطبغت باللون الأصفر . «المنجد في اللغة : 509» .
(4) المعجم الكبير : 146 ، مجمع الزوائد 9 : 179 ، سير أعلام النبلاء 3 : 210 ، تاريخ الخلفاء : 80 ، إحقاق الحق 11 : 465 ـ 466 .
(5) الصواعق المحرقة : 116 و192 ، تذكرة الخواص : 284 ، تاريخ الاسلام 2 : 349 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة83

تقطّعت .
قال : وأخرج الثعلبي : انّ السماء بكت وبكاؤها حمرتها .
وقال غيره : احمرّت آفاق السماء ستّة أشهر بعد قتله ، ثم لا زالت الحمرة ترى بعد ذلك .
وانّ ابن سيرين قال : اُخبرنا انّ الحمرة التي مع الشفق لم تكن قبل قتل الحسين عليه السلام .
قال : وذكر ابن سعد : انّ هذه الحمرة لم تر في السماء قبل قتله .(1)
إلى آخر ما هو مذكور في كتب السنّة ، ممّا يدلّك على انقلاب الكون بمقتله عليه السلام ، وانّه قد بكته السماء ، وصخور الأرض دماً .
ولو فرض خصمنا جاهلاً بما في تلك الكتب ممّا سمعت بعضه ، فهل يجهل ما قام به ابن نباتة(2) خطيبا على أعواده ، وتركه سنة لخطباء المسلمين في

(1) الصواعق المحرقة : 116 و193 ـ 195 ، تذكرة الخواص :283 .
وللاطلاع انظر : المعجم الكبير : 145 ، نظم درر السمطين : 220 ، الاتحاف بحب الأشراف : 12 ذخائر العقبى : 145 ، الكامل في التاريخ 3 : 296 ، الأنس الجليل : 252 ، وسيلة المآل : 98 ، تفسير القرآن لابن كثير 9 : 162 ، تهذيب التهذيب 2 : 353 ، كفاية الطالب : 296 ، تاريخ دمشق 4 : 339 ، تاريخ الاسلام 2 : 348 ، سير أعلام النبلاء 3 : 212 ، مقتل الحسين 2 : 89 و90 ، العقد الفريد 2 : 220 ، الخصائص الكبرى 2 : 126 ، مجمع الزوائد 9 : 196 ، تاريخ الخلفاء : 80 ، مفتاح النجا «مخطوط» ، نور الأبصار : 123 ، إسعاف الراغبين : 215 .
(2) هو أبو القاسم الأصبغ بن نباتة المجاشعي التميمي الحنظلي ، من خاصّة أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ومن شرطة الخميس ، عمّر بعد علي عليه السلام طويلاً ، وتوفّي بعد المائة ، والظاهر انّه أوّل من كتب مقتل سيد الشهداء عليه السلام . انظر : الفهرست 37 ـ 38 رقم 108 ، الذريعة 22 : 23 ـ 24 رقم 5838 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة84

الجمعة الثانية من المحرم في كل سنة ، وإليك ما اشتملت عليه تلك الخطبة ـ بعين لفظه ـ :
[أيّها الناس إن شهركم هذا استشهد فيه الحسين بن علي بن أبي طالب فنال بذلك أعلى المفاخر والمراتب ، وكان ذلك في أرض يقال لها كربلاء ، أحلّ الله بقاتله كلّ كرب وبلاء ...] .
[و] قال : بكت لموته الأرض والسماوات ، وأمطرت دماً ، وأظلمت الأفلاك من الكسوف ، واشتدّ سواد السماء ودام ذلك ثلاثة أيّام ، والكواكب في أفلاكها تتهافت ، وعظمت الأهوال حتى ظنّ ان القيامة قد قامت .
[ثم] قال : كيف لا وهو ابن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام وسبط سيّد الخلائق دنيا وآخرة ، وكان عليه الصلاة والسلام من حبّه في الحسين ، يقبّل شفتيه ، ويحمله كثيراً على كتفيه ، فكيف لو رآه ملقى على جنبيه ، شديد العطش والماء بين يديه ، وأطفاله يصيحون بالبكاء عليه ؟ لصاح عليه الصلاة والسلام ، وخرّ مغشياً عليه .
[ثم] قال : فتأسّفوا رحمكم الله على هذا السبط السعيد الشهيد ، وتسلّموا بما أصابه عمّا سلف لكم من موت الأحرار والعبيد ، واتّقوا الله حقّ تقواه .
قال : وفي الحديث : إذا حشر الناس في عرصات القيامة ، نادى مناد من وراء حجب العرش :
يا أهل الموقف ، غضّوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت محمد ، فتجوز وعليها ثوب مخضوب بدم الحسين ، وتتعلّق بساق العرش ، وتقول : أنت الجبّار العدل ، اقض بيني وبين من قتل ابني ، فيقضي الله بينها وبينه .

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة85

ثم تقول : اللهم شفّعني فيمن بكى على مصيبتي ، فيشفّعها الله تعالى فيهم(1) ... إلى آخر كلامه .
فهل ـ بعد ذلك كلّه ـ تقول : إنّ البكاء على مصائب أهل البيت بدعة ، وهب انّك لا ترجو شفاعة الزهراء ، ولا تبكي لبكاء الأنبياء والأوصياء ، فابك لبكاء الشمس والقمر ، ولا يكن قلبك أقسى من الحجر ، إبك لبكاء عمر بن سعد(2) ، أو عمرو بن الحجّاج (3) والأخنس بن يزيد(4) ، ويزيد بن معاوية(5) ، أو خولي(6) ،

(1) المناقب لابن المغازلي : 355 ح 404 ، فرائد السمطين 2 : 265 ، أمالي المفيد : 84 .
(2) عمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهري المدني ، سيّره عبيد الله بن زياد على أربعة آلاف لقتال الديلم ، وكتب له عهده على الري ، ثم لمّا علم ابن زياد بمسير الحسين عليه السلام من مكّة متّجهاً إلى الكوفة كتب إلى عمر بن سعد أن يعود بمن معه ، فعاد ، فولاه قتال الحسين عليه السلام ، فاستعفاه ، فهدّه وذكّره ولاية الري ، فأطاع ، بعث المختار من قتل عمر بن سعد حين قيامه فقتل . انظر : الطبقات 5 : 125 ، الأعلام 5 : 47 .
(3) عمرو بن الحجّاج الزبيدي ؛ وقيل : عمر . انظر : الارشاد للمفيد : 38 .
(4) وفي بعض المصادر : أخنس بن مرتد ، وأخنس بن مرثد ، وهو ابن علقمة الحضرمي ، من العشرة الذين داسوا الحسين عليه السلام بحوافر خيلوهم ، حتى رضّوا ظهره وصدره ، وهو من أولاد الزنا .
(5) يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، ثاني ملوك الدولة الاموية في الشام ، ولد بالماطرون ونشأ في دمشق وولي الخلافة بعد وفاة أبيه سنة 60 هـ ولم يبايعه جماعة وعلى رأسهم الحسين عليه السلام لفسقه وفجوره ولهوه ولعبه ، خلع أهل المدينة طاعته سنة 63 هـ . فأرسل إليهم مسلم بن عقبة وأمره أن يستبيحها ثلاثة أيام وأن يبايع أهلها على أنّهم عبيد ليزيد ، ففعل بها مسلم الأفاعيل القبيحة ، وقتل فيها كثيراً من الصحابة والتابعين ، مات يزيد سنة 64 هـ .
انظر : تاريخ الخميس 2 : 300 ، تاريخ ابن الأثير 4 : 49 ، جمهرة الأنساب : 103 .
(6) هو خولي بن يزيد الأصبحي ، من أشقياء الكوفة ومبغضي أهل البيت عليهم السلام ، بعد سقوط الإمام الحسين عليه السلام على الأرض تقدّم ليحتزّ رأسه . وذهب هو وحميد بن مسلم الأزدي بالرأس إلى ابن زياد لكن الوقت كان متأخرّاً وباب القصر مغلقاً فاضطر إلى =

السابق السابق الفهرس التالي التالي