المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة124

حتى اختار الله له دار كرامته ، وقد تتبّع خصائصه المقدّسة قبل البعثة وبعدها ، فمثّلها أعلاماً لنبوّته ، وآيات بيّنات على صدق دعوته ، فكانت شؤونه بمجرّدها أدلّ على رسالته من سائر معجزاته الباهرة ، وآياته الظاهرة ، وقد أقام قدّس سرّه من أفعال النبي وأقواله صلى الله عليه وآله أدلّة محسوسة ، وبراهين ملموسة ، على طرز حديث ، واسلوب جديد ، يألفه فلاسفة العصر ولا يسعهم أن يقفوا أمامه الاموقف التسليم طوعاً أو كرهاً .
المجلد الثاني : في أحوال أمير المؤمنين ، وسيّدة نساء العالمين ، ومجتباهما أبي محمد السبط الأكبر سيّد شباب أهل الجنّة ، وقد اشتمل على سيرتهم ومناقبهم وفضائلهم ، وقد أوردها ـ أعلى الله مقامه ـ على وجه الاستدلال على عصمتهم وإمامتهم عليهم السلام .
المجلد الثالث : خاصّ بسيّد الشهداء أرواحنا له الفداء .
المجلد الرابع : في التسعة من أبنائه المعصومين عليهم السلام ، وقد اشتمل على ما لم يأت به أحد من الاستدلال على إمامة التسعة بمجرّد هديهم وسمتهم ، وأفعالهم وأقوالهم ، وقد أبرز أسراراً مكنونة ، وحكماً في افعالهم بالغة .
وتخلص في كلّ مجلس منن مجالس الأجزاء الأربعة إلى مصائب أهل البيت عليهم السلام الدالّة على جلالة قدرهم ، وعظيم صبرهم ، فأسفاً على فقد هذا الكتاب الذي لم يبق منه الامقدّمته المطبوعة كرسالة على حده ، وهي في بابها ممّا لا نظير له ، وقد أثبت فيها بالأدلّة الشرعية ، والفلسفة العقلية ، حسن المآتم الإمامية ، والمظاهرات الحسينية ، بما لم يسبق إليه ، ولا يلحق فيه .
وقد اُلتقطت من أفواه قرّاء المآتم بعض المجالس المحفوظة ، وهي غير مرتّبة ، ولا واقعة في مواقعها التي أوقعها فيها المؤلّف أعلى الله مقامه .

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة125

وجمعتها في حياته قدّس الله نفسه الزكية ، وقرأتها عليه من أوّلها حتى انتهائها ، فأقرّها ، وحبّذ عملي هذا وباركه .
وإنّا خسرنا ـ كما خسرت الامّة الاسلامية ـ قائداً حكيماً ، ومصلحاً عظيماً ، وبطلاً معلماً من أبطال الفكر والقلم ، والعلم والعمل ، والإصلاح والبناء ، تغمّده الله برحمته ورضوانه ، وأسكنه الفسيح من جنانه ، ولا حول ولا قوة الابالله العلي العظيم .
وكان أعلى الله مقامه قد ألقى نظرة على المقدّمة ، ورتّبها بعض الترتيب وحوّرها مجالس نثبتها كما هي بلا نقيصة ولا زيادة .

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة126




المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة127

مقدّمة الكتاب (1)

الأصل العملي يقتضي إباحة البكاء على مطلق الموتى من المؤمنين ، ورثائهم بالقريض ، وتلاوة مناقبهم ومصائبهم ، والجلوس حزناً عليهم ، والانفاق عنهم في وجوه البر ، ولا دليل على خلاف هذا الأصل ، بل السيرة القطعية ، والأدلّة اللفظية حاكمان بمقتضاه ، بل يستفاد من بعضها استحباب هذه الامور إذا كان الميّت من أهل المزايا والآثار النافعة ، وفقاً لقواعد المدينة ، وعملاً باُصول العمران ، لأنّ تمييز المصلحين يكون سبباً في تنشيط أمثالهم ، واداء حقوقهم يكون داعياً إلى كثرة الناسجين على منوالهم ، وتلاوة أخبارهم ترشد العالمين إلى اقتفاء آثارهم ، وذكرى ما أصاب الأئمة في سبيل مصالح الامّة ، تبعث فيها إلى روح الايمان والهدى، وتأخذ بأعناقها وقلوبها إليهم ، وإن طال العهد وبعد المدى .... وهنا مطالب خمسة :
الأول : في البكاء .
الثاني : في الرثاء .
الثالث : في تلاوة مناقب الميّت ومصائبه .
الرابع : في الجلوس حزناً عليه .
الخامس : في الانفاق عنه في وجوه البر .

(1) ذُكرت هذه المقدّمة بالتفصيل في «المقدّمة الزاهرة» التي تجدها في أوّل كتابنا هذا ، وقمنا هناك بذكر مصادر جميع الروايات التي وردت فيها ، ولذا سوف لا نعيد تخريج الروايات هنا الا تلك التي لم تذكر في «المقدّمة الزاهرة» . المحقّق .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة128

وهذه المطالب الخمسة هي كلّ ما تقوم به الشيعة في مجالسها الحسينية .
ونحن في هذه المقدّمة نثبت استحبابها شرعاً ، وإنّا مقتدون فيها باهل البيت العصمة ، ومعدن الهدى والرحمة ، وانّ الحكم فيها بين الرجال والنساء سوآء ، وانّ الفلسفة الصحيحة تقتضي رجحان هذه المآتم عقلاً ، وتفصيل ذلك كلّه في مجالس .

المجلس الأول : في البكاء

لا ريب في جواز البكاء على موتى المؤمنين ، بدليل فعل النبي صلى الله عليه وآله .
أمّا فعله فمتواتر في موارد عديدة :
أحدها : يوم مات عمّه وكافله أبو طالب .(1)
ثانيها : يوم استشهد عمّه الحمزة في اُحد .(2)

(1) قال رحمه الله : ... روي عن عليّ عليه السلام قال : لمّا مات أبو طالب أخبرت النبي صلى الله عليه وآله بموته ، فبكى وقال : اذهب فاغسله وكفّنه وواره ، غفر الله له ورحمه .
(2) قال رحمه الله : فعن ابن مسعود : ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله باكياً أشدّ من بكائه على حمزة ، وضعه في القبلة ، ثمّ وقف على جنازته وانتحب حتى نشق ـ أي شهق حتى بلغ الغشى ـ يقول : يا عمّ رسول الله ، يا حمزة ، يا أسد الله ، وأسد رسول الله ، يا حمزة ، يا فاعل الخيرات ، يا حمزة ، يا كاشف الكربات ، يا ذابّ عن وجه رسول الله ... إلى آخر نياحته وندبته ... (انظر : السيرة الحلبية 1 : 461 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 387) . وسائر من أرّخ مقتل حمزة في غزوة اُحد ، وترى ندبة النبي ونياحته هذه قد عدّد فيها =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة129

ثالثها : يوم استشهد ابن عمّه جعفر ، وزيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة في مؤتة .(1)
رابعها : يوم مات ولده ابراهيم إذ بكى عليه . فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله !
قال : يا بن عوف ، انّها رحمة(2) ثم اتبعها ـ يعني عبرة ـ باُخرى فقال صلى الله عليه وآله : انّ العين تدمع والقلب يحزن ، ولا نقول الاما يرضي ربّنا ، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون .
خامسها : يوم زار صلى الله عليه وآله قبر اُمّه آمنة ، فبكى وأبكى من

= محاسن عمّه بما يهيج الحزن واللوعة عليه .
وقال ابن عبد البر في ترجمة حمزة من الاستيعاب : لمّا رأى النبي صلى الله عليه وآله حمزة قتيلاً بكى ، فلما رأى ما مثّل به شهق .
وذكر المؤرّخون : انّ النبي صلى الله عليه وآله كان يومئذ إذا بكت صفيّة يبكي ، وإذا نشجت ينشج ، قالوا : وجعلت فاطمة تبكي ، فلمّا بكت بكى رسول الله .
وهذا الحديث حجّة من جهة جواز البكاء من جهة أنّه بكى صلى الله عليه وآله ، ومن جهة أنّه أقرّ صفيّة والزهراء على بكائهما ، على انّ مجرّد بكاء سيّدة النساء حجّة قاطعة .
(1) قال رحمه الله : ذكر ابن عبد البر في أحوال جعفر من استيعابه : أنّ النبي صلى الله عليه وآله بكى على جعفر وزيد وقال ـ يندبهما :ـ : أخواي ومؤنساي ومحدّثاي .
وأخرج البخاري في أبواب الجنائز من صحيحه : أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعى جعفراً وزيداً وابن رواحة وانّ عينيه لتذرفان .
(2) قال رحمه الله : أخرجه البخاري في باب قول النبي صلى الله عليه وآله : إنّا بك لمحزونون ، من أبواب الجنائز ... ولا يخفى ما في تسميتها رحمة من الدلالة على حسن البكاء ، وأراد بقوله : انّ العين تدمع ... إلى آخره : أن لا إثم بدمع العين وحزن القلب ، وانّما الاثم بقول ما يسخط الربّ ، كالاعتراض عليه عزّ وجل .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة130

حوله .(1)
سادسها : يوم ماتت احدى بناته صلى الله عليه وآله : إذ جلس على قبرها وعيناه تدمعان .
سابعها : يوم مات صبي لأحدى بناته إذ فاضت عيناه يومئذ ، فقال سعد : ما هذا يا رسول الله ؟
قال : هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، « وانّما يرحم الله من عباده الرحماء» .(2)
ثامنها : يوم اشتكى سعد بن عبادة فأتاه النبي صلى الله عليه وآله يعوده ومعه بعض أصحابه ، فوجده في غاشية أهله ، فقال صلى الله عليه وآله : قد قضى ؟
قالوا : لا يا رسول الله ، فبكى النبي صلى الله عليه وآله ، فلمّا رأى القوم

(1) قال رحمه الله : وهذا الحديث يشتمل على فعله وتقريره صلى الله عليه وآله ، فهو حجّة من جهتين .
أقول : روى الشيخ الطبرسي في اعلام الورى بأعلام الهدى بإسناده عن بريدة قال : انتهى النبي صلى الله عليه وآله إلى رسم قبر ، فجلس وجلس الناس حوله ، فجعل يحرّك رأسه كالمخاطب ، ثمّ بكى ، فقيل : ما يبكيك يا رسول الله ؟
قال : هذا قبر آمنة بنت وهب ، استأذنت ربّي في أن أزور قبرها فأذن لي فأدركتني رقّتها فكبيت ، فما رأيت ساعة أكثر باكياً من تلك الساعة .
فانظر ـ عزيزي القارئ ـ بكاء رسول الله صلى الله عليه وآله على اُمّه وإقامته المأتم عليها بعد عشرات من السنين ، حتى بكى وأبكى أصحابه ، وهي باعتقاد أهل السنّة كافرة ، لهذا روى مسلم هذا الحديث : استاذنت ربّي في أن استغفر لها ، فلم يأذن لي ؟!
انظر : اعلام الورى : 316 ، ارشاد الساري ـ الهامش ـ 4 : 325 ، كتاب الجنائز .
(2) قال رحمه الله : تأمّل في قوله صلى الله عليه وآله : هذه رحمة ، وقوله صلى الله عليه وآله : وانّما يرحم الله من عباده الرحماء ، يتّضح لك استحباب البكاء .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة131

بكاءه بكوا ، فقال صلى الله عليه وآله :
ان الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ... الحديث .(1)
والصحاح الدالة على بكائه على الموتى ممّا لا يكاد يحصى .
وأما قوله صلى الله عليه وآله وتقريره الدالان على جواز البكاء فمستفيضان ومواردهما كثيرة .
احدها : يوم استشهد جعفر الطيّار ، إذ جاءت النبي صلى الله عليه وآله امرأته أسماء بنت عميس فعزّاها ، ودخلت فاطمة عليها السلام وهي تبكي وتقول : واعماه .
فقال النبي صلى الله عليه وآله : على مثل جعفر فلتبك البواكي .(2)

ثانيها : يوم رجع رسول الله صلى الله عليه وآله من اُحد ، وجعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من رجالهن .
فقال ـ بعد أن أقرّهنّ على البكاء ـ : ولكن حمزة لا بواكي له ، ثمّ نام فانتبه وهن يبكين حمزة فهن إلى اليوم إذا بكين يندبن حمزة .(3)

(1) قال رحمه الله : وهذا الحديث حجّة من ثلاث جهات ؛ فعل النبي صلى الله عليه وآله وقوله وتقريره .
(2) قال رحمه الله : هذا الحديث مستفيض وطرقه صحيحة ، وقد ذكره ابن عبد البر في ترجمة جعفر من الاستيعاب ، وهو مشتمل على تقرير النبي صلى الله عليه وآله على البكاء وأمره به ، على أنّ مجرد بكاء الزهراء حجّة بالغة .
(3) قال رحمه الله : ولا تنس كلمة النبي صلى الله عليه وآله في طلب البكاء على حمزة وما فيها من الدلالة على الاستحباب ، وحسبك بها ، وبقوله : على مثل جعفر فلتبك البواكي دليلاً على ذلك ...
وأمّا ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم من انّ الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه . وفي =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة132

ثالثها : ثوم مات رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله حيث بكت عليها النساء فجعل عمر يضربهنّ بسوطه ـ مع انّ النبي صلى الله عليه وآله أقرّهنّ على البكاء ـ ، فقال صلى الله عليه وآله : دعهن يبكين .
ثم قال صلى الله عليه وآله : مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرحمة ... وقعد صلى الله عليه وآله على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي ،

= رواية : ببعض بكاء أهله عليه . وفي رواية : ببكاء الحيّ . وفي رواية : يعذب في قبره بما ينح عليه . وفي رواية : من يبك عليه يعذّب . فانّه خطأ من الرواي بحكم العقل والنقل .
قال الفاضل النووي ـ عند ذكر هذه الروايات في باب الميّت ـ ما هذا لفظه : هذه الروايات كلّها من رواية عمر بن الخطّاب وابنه عبد الله .
[قال :] وأنكرت عائشة عليهما ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه ، واحتجّت بقوله تعالى : «ولا تزر وازرة وزر اُخرى» إلى آخر كلامه .
وأنكر هذه الروايات أيضاً ابن عباس واحتجّ على خطأ راويها ، والتفصيل في الصحيحين وشروحهما ، وما زالت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض حتى أخرج الطبري في حوادث سنة 13 من تاريخه عند ذكر وفاة أبي بكر في الجزء الرابع من تاريخه بالإسناد إلى سعيد بن المسيب قال : لمّا توفّي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح ، فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها فنهاهنّ على البكاء على أبي بكر ، فأبين أن ينتهين ، وقال عمر لهشام بن الوليد : ادخل فأخرج إليّ ابنة أبي قحافة . فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر : انّي أحرج عليك بيتي . فقال عمر لهشام : ادخل فقد أذنت لك ، فدخل هشام وأخرج اُمّ فروة اُخت أبي بكر إلى عمر فعلاها بالدرّة ، فضربها ضربات ، فتفرّق النوح حين سمعوا ذلك .
قلت : كأنّه لم يعلم تقرير النبي صلى الله عليه وآله نساء الأنصار على البكاء على موتاهنّ ، ولم يبلغه قوله صلى الله عليه وآله : «لكن حمزة لا بواكي له» ، وقوله صلى الله عليه وآله : «على مثل جعفر فلتبك البواكي» ، وقوله صلى الله عليه وآله : «إنّما يرحم الله من عباده الرحماء» .
ولعله نسي نهي النبي صلى الله عليه وآله ايّاه عن ضرب البواكي يوم ماتت رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، ونسي نهيه إيّاه عن انتهارهن في مقام آخر .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة133

فجعل صلى الله عليه وآله يمسح دمعها بثوبه رحمة لها .
رابعها : يوم مرّت جنازة على رسول الله صلى الله عليه وآله ومعها بواكي فنهرهنّ عمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : دعهنّ يا عمر ، فانّ النفس مصابة والعين دامعة .
إلى غير ذلك ممّا لا يسعنا استيفاؤه ....
وقد بكي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ، إذ غيّب الله ولده . وقال : «وقال يا أسفا على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم»(1) حتى قيل : ما جفت عيناه من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً ، وما على وجه الأرض أكرم على الله تعالى منه .....
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله : أنه سأله جبرائيل عليه السلام : ما بلغ وجدُ يعقوب على يوسف .
قال : وجد سبعين ثكلى .
قال : فما كان له من الأجر ؟
قال : أجر مائة شهيد .
أقول : أي عاقل يرغب عن مذهبنا في البكاء : بعد ثبوته عن الأنبياء : «ومَن يرغب عن ملّة إبراهيم الا من سفه نفسه»(2) ، وقد استمرّت سيرة الائمة على الندب والعويل ، وأمروا أولياءهم بإقامة مآتم الحزن على الحسين جيلاً بعد جيل .
قال الصادق عليه السلام : إنّ علي بن الحسين عليهما السلام بكى على أبيه

(1) سورة يوسف : 84 .
(2) سورة البقرة : 130 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة134

مدّة حياته ، وما وضع بين يديه طعام الابكى ولا اوتي بشراب الابكى ، حتى قال له بعض مواليه : جعلت فداك يابن رسول الله ، إنّي أخاف أن تكون من الهالكين .
قال عليه السلام : «إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون»(1) .(2)
وفي رواية اخرى قال : ويحك انّ يعقوب عليه السلام كان له اثنا عشر ولداً فغيّب الله واحداً منهم فايبضّت عيناه من كثرة بكائه عليه ، واحدودب ظهره من الغمّ وابنه حيّ في الدنيا ، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمومتي وسبعة عشر(3) من أهل بيتي مقتولين حولي .
وكان إذا أخذنا إناء ليشرب بكى حتى يملأها دماً ؛ فقيل له في ذلك ، فقال : كيف لا أبكي وقد منع أبي الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش ...
وعن الصادق عليه السلام : البكّاؤون خمسة : آدم بكى على الجنّة ، ويعقوب بكى على يوسف ، ويوسف بكى على يعقوب ، وفاطمة بكت على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى قيل لها : آذيتنا بكثرة بكائك ، وعلي بن الحسين بكى على أبيه حتى لحق بربّه ، وما وضع بين يديه طعام الابكى ، وكان يقول : انّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك العبرة ....(4)
وقال الصادق عليه السلام : وكان جدّي علي بن الحسين عليهما السلام إذا ذكره ـ يعني الحسين بأبي واُمّي ـ بكى حتى يبكى لبكائه رحمة له من رآه [قال] : وانّ الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كلّ من في الهواء والسماء ،

(1) سورة يوسف : 86 .
(2 و4) كامل الزيارات : 107 ح 1 .
(3) انظر تعليقتنا حول عدد الشهداء من أهل البيت عليهم السلام في المقدّمة الزاهرة ص : 61 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة135

وما من باك يبكيه الا وقد وصل فاطمة وأسعدها ، ووصل رسول الله صلى الله عليه وآله وأدّى حقّنا .
وقال الرضا عليه السلام : إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه الظلم والقتال فاستحلّت فيه دماؤنا ، وهتكت فيه حرمتنا ، وسبيت فيه ذرارينا ونساؤنا ، واُضرمت النار في مضاربنا ، وانتهب ما فيها من ثقلنا ، ولم ترع لرسول الله صلى الله عليه وآله حرمة في أمرنا .
إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلّ عزيزنا ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، فانّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام .
ثمّ قال عليه السلام : كان أبي إذا دخل شهر المحرّم لا يرى فيه ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ...
وقال عليه السلام : من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة ، ومن ذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون ، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب .
وعن الريّان بن شبيب قال : دخلت على الرضا عليه السلام في أوّل يوم من المحرّم فقال لي : يا بن شبيب ، انّ المحرّم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه الظلم والقتال لحرمته ، فما عرفت هذه الامّة حرمة شهرها ، ولا حرمة نبيّها صلى الله عليه وآله ، إذ قتلوا في هذا الشهر ذرّيّته ، وسبوا نساءه ، وانتهبوا ثقله .
يا بن شبيب ، إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين عليه السلام ، فانّه ذُبح كما يُذبح الكبش ، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض من

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة136

شبيه ، ولقد بكت السماوات السبع لقتله ـ إلى أن قال : ـ
يا بن شبيب ، انّ سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى ، فاحزن لحزننا ، وافرح لفرحنا ، وعليك بولايتنا ....
وقال عليه السلام : من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة ، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه ، جعل الله عز وجل يوم القيامة يوم فرحه وسروره ، وقرّت بنا في الجنان عينه ...
وعن الباقر عليه السلام قال : كان أبي يقول : أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين عليه السلام دمعة حتى تسيل على خدّه ، صرف الله عن وجهه الأذى ، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار ...
وقال الصادق عليه السلام لفضيل بن يسار : أتجلسون وتتحدّثون ؟ قال : نعم ، جعلت فداك .
قال عليه السلام :
إن تلك المجالس أحبّها ، فأحيوا أمرنا ، فرحم الله من أحيا أمرنا .
يا فضيل ، من ذَكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ....
وعن أبي عمارة المنشد قال : ما ذكر الحسين عليه السلام عند أبي عبد الله الصادق عليه السلام في يوم قط فرؤى فيه مبتسماً إلى الليل .
قال : وكان أبو عبد الله عليه السلام يقول : الحسين عبرة كل مؤمن ....
وعن الصادق عليه السلام قال : قال الحسين عليه السلام : أنا قتيل العبرة ،

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة137

لا يذكرني مؤمن الااستعبر(1) .... جعلت فداك .
يا بن النبـيّ المصطفـى ووصيّه وأخا الزكي ابن البتول الزاكية
تبكيـك عينـي لا لأجـل مثوبة لكنمـا عينـي لأجلـك باكية
تبتـلّ منـكـم كربـلا بدم ولا تبتلّ منّي بالدموع الجـاريـة
أنست رزيّـتـكم رزايـانا التي سلفت وهوّنت الرزايـا الآتية
ولقد يعزّ علـى رسـول الله أن تسبى نساءه إلى يزيد الطاغية
ويرى حسينـاً وهـو قرّة عينه ورجاله لم تبـق منهـم باقية
وجسومهم تحت السنابك بالعرى ورؤوسهم فوق الرماح العالية
ويزيد يقرع ثغـره بقضيـبـه مترنّماً منـه الشماتـة بادية(2)

(1) قال رحمه الله : إلى غير ذلك من صحاح الأخبار المتواترة بمعناها عن الائمّة الأبرار ، وناهيك بها حجّة على رجحان المآتم الحسينيّة ، واستحبابها شرعاً ، فإنّ أقوال أئمّة الثقلين وأفعالم وتقريرهم ، حجّة لوجوب عصمتهم بحكم العقل والنقل ، كما هو مقرّر في مظانه من كتب المتكلّمين من أصحابنا .
وكنّا فصّلنا القول فيه في كتابنا الكبير «سبيل المؤمنين» ، على انّ الاقتداء بهم لا يتوقّف ـ عند الخصم ـ على عصمتهم ، بل كيفينا فيه ما اتّفقت عليه الكلمة من إمامتهم في الفتوى ، وانّهم في أنفسم لا يقصرون عن الفقهاء الأربعة وأضرابهم كالثوري ، والأوزاعي علماً ولا عملاً .
وأنت تعلم انّ هذه المآتم لو ثبتت عن أبي حنيفة ، أو صاحبيه أبي يوسف والشيباني ، لاستبق الخصم إليها ، وعكف أيّام حياته عليها ، فلِمَ ينكرها علينا ، ويندّد بها بعد ثبوتها عن أئمّة أهل البيت يا منصفون ؟!
(2) وهي للشيخ عبد الحسين الأعسم ، وهو ابن الشيخ محمد علي بن الحسين بن محمد الأعسم الزبيدي النجفي ، وفد في حدود 1177 وتوفي سنة 1247 هـ بالطاعون العام في النجف ، كان فقيهاً عالماً محقّقاً أديباً وشاعراً . انظر أدب الطف للسيد المجاهد جواد شبر 6 : 289 .
=
السابق السابق الفهرس التالي التالي