مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 4

مَصَارِعْ الشُهَدْاءِ ومَقَاتِلِ السُعَدَاءِ


تأليف
الشيخ سلمان بن عبدالله آل عصفور

تحقيق
الشيخ علي آل كوثر
مجمع إحياء الثقافة الإسلامية
(21)


مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 5

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه وأشرف بريّته محمد وآله الطيبين الطاهرين .
وبعد فهذه مقدمة وجيزة حول الكتاب والمؤلف واُسلوب التحقيق .

ـ 1 ـ
الكتاب

قال المصنف في المقدمة بعد كلام له :
« إن الشوق قد قيّد أقدامي ، والحبّ قد ملك زمامي ، والولي قد قادني ، والبرّ قد ساقني ، إلى اقتحام مضمار لست من فرسانه ، وولوج عرين ما كنت من أقرانه ، والدخول في جملة قوم أنا أقلّ منهم ، طمعا منّي في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : من تشبّه بقوم فهو منهم ،... وذلك لما رأيت جملة من الشيعة المؤمنين ، وجمهور الهداة في الدين ، مكبين على إقامة فنون العزاء ، على مصاب سيد الشهداء ، والأئمة الأتقياء السعداء .
غير أنّ أكثر مصنّفيهم من العرب ، وجلّ مؤلّفيهم من ذوي الرتب ، قد سلكوا في نظم كتب المراثي نهجا واضحا ، ونهجوا مسلكا ملحوبا لائحا ، وأما علماء العجم وفضلاؤهم من أصحاب العلم ، فتفرّقوا في التصنيف ، واختلفوا في التأليف ، فمنهم من أطال في المراثي إطنابه ، حتى غدى كتابه مثل ديوان الصبابة ، فألجأه ضيق المأخذ وطول المساحة ، إلى الركون لكلمات المؤرّخين ، وخرافات السالفين ، ومنهم من ضيق رحيب مضماره لشدة اختصاره ، وكلاهما لم يصب سهمه الغرض ، ولا قام بما إليه نهض .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 6

لكن لما كان مطلبهم الأقصى ، التقرب لأولئك الكرماء ، والوقوف على أرباب العطاء ، صوّبت آراءهم في منهجهم ، وشكرتهم على بذل مهجتهم ، ولكلّ ضيف قرى ، ولكلّ عمل كرى .
فهناك دار في قلبي ، وارتسم بلوح لبّي ، جمع كتاب وجيز ، يزري بعسجد نظمه سبائك الذهب الابريز ، وأن اُسمّيه بـ « مصارع الشهداء ، ومقاتل السعداء » جاعلا لكل معصوم مقتلا ، مبتدئا بالنبي المصطفى ، مثنّيا بفاطمة الزهراء ، خاتما بصاحب العصر والزمان ، وخليفة ربّنا الملك الديّان ، في هذه الأزمان ... » .
وقد ذكر هذا الكتاب الشيخ آغا بزرك الطهراني في موسوعته القيّمة : « الذريعة إلى تصانيف الشيعة » : ج 21 ص 98 وقال :
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء في وفيات الأئمة عليهم السلام في قرب عشرة آلاف بيت .
هذا والكتاب يستعرض حياة وشهادة كلّ من رسول الله صلى الله عليه وآله وفاطمة البتول وعليّ المرتضى وسيّدي شباب أهل الجنّة وزين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري والحجة المهدي عليهم أفضل صلوات المصلين ، مع ذكر نبذة من أحوالهم وفضائلهم باُسلوب أدبي لطيف من سجع وشعر في أوله وآخره .
وقد تم تأليف الكتاب عام 1251 من الهجرة النبوية كما ورد في آخر النسخة ، والنسخة التي اعتمدنا عليها هي مصوّرة من نسخة مكتبة أحد علماء البحرين ـ حفظه الله تعالى وأيّده بتأييداته ـ كتبها نعمة الله بن جواد الحسيني الكاظمي في سنة 1264 من نسخة المؤلف كما يبدوا .
وقد جاء في الصفحة الاُولى بخطّ المصنف وخاتمة هكذا :
هو الله المالك ، هو في حيازة مصنفه كثير الجرم والقصور ، وراجي ربّه الغفور في يوم البعث والنشور ، سلمان بن عبدالله بن حسين آل عصفور ، في 7 شوال سنة 1265 . سلمان .
ثم كتب أسفله بخط آخر :

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 7

هذا الرباعي لسلمان بن عبدالله آل عصفور :
هذا وطن السرور فاقطع سفرك واسرح برياضة وسرّح نظرك
فيــه نفـرٌ لا يألـف الهمّ بهم يا نفس بتذكارهم اقض وطرك

وجاء في ص 238 في آخر الكتاب :
معرفة أعمار الأئمة الطاهرين عليهم أفضل صلوات المصلين على جهة التعميه !.
حسـن من وحسيــن نح لـه وابنه زن وكذاك البـاقــر
جعفر سِه ثم موســى نِهْ لـه مثلــه سنّا علــيّ الطاهر
وجوادٌ كِــهْ له وابــنٌ لـه مِبْ وربع العام منه قاصــر
حسـن كِـحْ وأبـو الكـلّ لـه مثل سنّ المصطفى سِج ظاهر

وقد كتب الأعداد تحت الأسماء بين السطور هكذا :
47 ، 58 ، 57 ، 58 ، 65 ، 55 ، 55 ، 25 ، 42 ، 28 ، 63 .
وقد اعتمد المصنف في كتابه هذا على مجموعة من المصادر نذكرها حسب حروف المعجم : الإحتجاج للطبرسي ، والأربعين لـ ... ، والإرشاد للمفيد ، والإكمال والأمالي للصدوق ، وأيضا الأمالي لـ ... ، والأنوار لـ... ، وتذكرة الأئمة لـ... ، وتفسير القمّي ، وثواب الأعمال للصدوق ، والخرائج للراوندي ، ودلائل الإمامة للطبري ، ورسائل الكليني ، وروضة الكافي للكليني ، والعلل والعيون للصدوق ، وعيون المعجزات ، وفقه الرضا لوالد الصدوق ، والكافي للكليني ، وتاريخ الطبري ، وكشف الغمة للإربلي ، والمجالس لـ... ، ومجمع البيان للطبرسي ، والمشارق للبُرسي ، والمصباح للكفعمي ، ومطالب السؤول لمحمد بن طلحة الشافعي ، ومعالم العترة النبوية للجنابذي ، والملهوف لابن طاوس ، والمناقب لابن شهر آشوب ، ونجب المناقب لحسين بن جبير ، والنصوص لـ... ، والمعجزات والنوادر لـ...

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 8

ـ 2 ـ
المؤلف

قال الرازي في كاتبه المنيف : « الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة » : ج 2 ص 603 :
« الشيخ سلمان بن الشيخ عبدالله بن الشيخ حسين العصفوري البحراني ، عالم فاضل .
كان من فضلاء هذا البيت الأعلام وفقهائه الكاملين ، نزل شيراز ، وكان من الراجع فيها ، له عدّة تصانيف ، منها : «مصارع الشهداء ومقاتل السعداء » ، وكتاب « الرزايا » وكتاب « وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام) » المطبوع وغير ذلك .
توفي بعد سنة 1261 هـ التي توفي فيها عمه الشيخ حسن » .
وقال أيضا في « الذريعة إلى تصانيف الشيعة » : ج 21 98 : « مصارع الشهداء ومقاتل السعداء ... للشيخ سلمان بن عبدالله بن الشيخ حسين آل عصفور البحراني المتوفى بعد 1261 في بلدة شيراز » .
أقول : ومن توقيع المصنّف على هذا الكتاب وكتابته وخطّه عليه يعرف أنه كان حيا سنة 1265 في شوال حيث تملّك هذه النسخة ودخلت في حيازته .
وله من الكتب غير هذا الكتاب :
1 ـ الرزايا .
قال في الذريعة : 10 : 239 | 763 : مقتل في حجم منتخب الطريحي ... رأيته عند الشيخ خلف آل عصفور البوشهري المتوفى سنة 1353 .
2 ـ وفاة أميرالمؤمنين .
طبع سنة 1436 كما في الذريعة : ج 25 ص 117 .
والمؤلف ينتمي إلى اُسرة آل عصفور ، وهي اُسرة مشهورة خرج منها علماء كان لهم دور في الحياة العلمية والإجتماعية لمنطقة الخليج الفارسي .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 9

وأما مسقط رأس المصنف أعني بلاد البحرين والأحساء والقطيف وما والاها ، فقد اعتنقت الإسلام رغبة وطوعا منذ القرن الأول الهجري وفي حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأقامت ثاني صلاة جمعة بعد صلاة الجمعة في المدينة المنورة ، ومسجدها في جواثى هو ثالث مساجد الإسلام ، وكان غالبية سكّانها آنذاك من عشيرة عبد القيس التي ورد عنها في الحديث النبوي الشريف : « اللهم اغفر لعبد القيس » ، وقد كان لهذه البلاد عبد القيس وربيعة دور ريادي في نشر الإسلام والتمسك بالقرآن وأهل البيت بدءا من حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى يومنا هذا .
وبرز منها في القرن الأول أعلام جهابذة مثل زيد بن صوحان العبدي وصعصعة بن صوحان العبدي وحكيم بن جبلة العبدي وغيرهم ، وكان لهؤلاء مواقف مشرفة في مواجهة الناكثين والقاسطين والمارقين ، ورثى أميرالمؤمنين شهداءهم في وقعة البصرة بعد ما غدر بهم الناكثون ، بقوله :
يا لهفتيّــاه على ربيعة ربيعة السامعة المطيعة
نبئتها كانت بها الوقيعة

وفي القرن الثاني كان منها محدثين وشعراء مثل سفيان بن مصعب ويحيى بن بلال وغيرهما حتى قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في سفيان : « علموا أولادكم شعر العبدي ، فإنه على دين الله » .
وفي كتاب أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين للشيخ علي البلادي البحراني : ص 45 نقلا عن كشكول الشيخ بهاء الدين العاملي وغيره أنّ والده العالم الفقيه الشيخ حسين بن عبد الصمد كان في مكة المشرّفة قاصدا الجوار فيها إلى أن يموت ، وأنّه رأى في المنام أنّ القيامة قد قامت وجاء الأمر من الله تعالى بأن ترفع أرض البحرين وما فيها إلى الجنة ، فلما رأى هذه الرؤيا رجع عن مكة وجاء إلى البحرين ، فكان مشتغلا بالتدريس والتصنيف والعبادة والتأليف في قرية المصلّى إلى أن توفّي بها سنة 984 .
وعلى أيّة حال فهذه البلاد كانت ولا تزال من القلاع الحصينة في الدفاع عن

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 10

حياض الإسلام والقرآن وأهل البيت ، ولهم دور مشرف في التاريخ الإسلامي رغم تسلّط الأجلاف في بعض الأزمنة عليهم وكتبهم ، وحرمانهم من أبسط حقوقهم .
وما مؤلّفنا هذا إلا نموذجا واحدا عن أولئك الأبطال الذين شيّدوا معالم العزّ والفخر ، وأقاموا كيان المجد والعبوديّة لله تعالى والتمسّك بالقرآن وأهل البيت (عليهم السلام) .

ـ 3 ـ
اُسلوب التحقيق

تم الإعتماد على نسخة خطيّة واحدة كانت بحَوزة المصنّف وعليها توقيعه كما تقدّم عند البحث عن الكتاب ، وحاولت جهد الإمكان تخريج الأحاديث المذكورة في الكتاب ، وبقي من الاُمور التي ينبغي أن تحقّق من هذا الكتاب القصائد والأبيات التي ذكرها المصنف في ثنايا كتابه هذا ولم يذكر قائلها ولا مصدرها ، وأملي من القرّاء الكرام وخاصة خطباء المنبر الحسيني وأهل الأدب أن يساعدوني في تخريج هذه الأبيات وذكر مصادرها حتى يُتلافى هذا النقص في طبعات لاحقة .
هذا ، والحمد لله أولا وآخرا .

وقد طبع الكتاب على نفقة المؤمنة الصالحة خيريّة محمد جزاها الله خير الجزاء وحشرها الله مع محمد وآله الأطهار .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 11

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أظهر شعار آل محمد كَنارٍ على علم ، ورفع منار فضلهم على رغم من نصب لهم وظلم ، وكثّر شيعتهم بعد قلّة العَدد ، وأعزّ ذلّتهم بعد ضعف العُدَد .
وكانوا فيما مضى من السنين والشهور ، وسلف من الأعوام والدهور ، كهلال اليقين في ليل الشك الأظلم ، أو كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأدهم ، قد عصفت بهم رياح الفتن ، ودارت عليهم رحى الإزراء والمحن ، فتخلّلوا غمار الناس ، واستتروا من الأرجاس في رثّ اللباس ، وتدرّعوا مدارع التقيّة خشية من طغاة بني أمية ، وتجلببوا بجلابيب الإختفاء خوفا من بني العباس الطلقاء ، إمتثالا لأمر أئمّتهم الأنجاب ، وعملا بما ورد في السنة والكتاب .
ومع ذلك فالأرض حمراء من دمائهم المسفوكة ، والسجون مشحونة بأجسام أبنائهم وبناتهم المهتوكة ، حتى أدّى بهم الحال العبوس ، إلى أن صارت مقاصر أبدانهم الحبوس ، وغدت منابر علمائهم شواهق المصالب في الشموس .
فلم ينههم ذلك الحال الشديد عن التمسك بعروة الله الوثقى ، ولا منعهم ذلك القتل والتشريد عن سلوك طريق أئمّتهم المثلى ، فما يرحوا كذلك وعلى ذلك إلى أن أسفر الحقّ عن محيّاه ، ونادى الصدق يا بشراه ، فكسر قرن الضلال ، ونكّس علم

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 12

ذوي الجهل والنكال ، بظهور دولة بني حمدان إلى ساحة الظهور ، وبروز مستور شخص الإيمان بساطع النور ، فلله درّهم من ملوك عدل أحيوا دوارس مرابع آل الرسول ، وبذلوا الأموال في تشييد مباني أرباب المعقول والمنقول ، وكشفوا أسجاف الذلّ والتهوين عن محجّبات سرائر المؤمنين ، وأقاموا أعلاما لتلك القبور الطاهرة يهتدي بها التايه عن سواء الطريق ، وجعلوا لهاتيك المشاهد الزاهرة سمات تشير إلى الإذعان والتصديق ، ونصبوا أعمدة المآتم على أولئك الأعاظم ، ووضعوا قوانين المراثي على السادة الأكارم .
فغدر الدهر بعد أن وفى ، وأساء بعد أن أحسن لأرباب الوفا ، فانقرضت هذه الدولة الشريفة ، وكسفت شمس هذه السلطنة المنيفة ، وقامت الفتن على سوقها ، ودنت نفوس المؤمنين من سَوقها ، فما زالوا في كدّ وتعب مادام دولة بني أيوب في حلب ، والأراتقة في الشام والصقلب ، فتوطّأ كلّ جلف منهم سروج سبق الرياسة ، وتوطّد صدور محافل الملك والسياسة ، فعاد بدر المؤمنين إلى المحاق ، ورجع لجينهم إلى الاحتراق ، وغدت أعلام المؤمنين منكوسة ، وعلماء الموحدين في ربوات التحكم مرموسة .
حتى افترّ ثغر الجلال عن نظيم الايمان ، وتنفّس فجر الكمال بنسيم اللطف والإحسان ، فلبست فتاة الشرك حلل التوحيد ، ورفلت خود التجسيم في غلائل التجريد ، وذهبت حسيكة النفاق ، واعوجت ألوية الجور والشقاق ، وصوّت مؤذّنوا الهداية في مساجد الوفا بحيّ على حبّ آل المصطفى ، وقامت الخطباء على ذروات منابر اليقين ، وصدعت البلغاء بتحرير فضائل الصدّقين ، وذلك في زمن السلطنة العليّة والدولة الصفوية عطّر الله مراقدهم بطيب الغفران ، ونوّر ملاحدهم بأنوار الإيمان .
وما زال أمر الشيعة يستحكم وأركان الشريعة تحكم ، وأعلام الإسلام تنشر ، وألوية الظلام تُكسر ، حتى شيّدت في جميع البقاع للشيعة مساجد ، وثنّيت لعلمائهم في صدور الدسوت المساند والوسائد .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 13

وقد اختص من بين السلاطين بنصرة الميامين ، وتفرّد من بين الملوك والخواقين بتأييد شريعة سيد المرسلين قطب الدائرة ودائرة القطب ، قلب المحبوب وحبيب القلب ، حسام الإيمان ومظهر الأديان ، عين الدهر بالإجماع ، وإنسان عين النبيّ المطاع ، إكليل التاج ودرّة الإكليل ، المفتخر برقم اسمه وجه التسجيل ، والمبتهج برسم نافذ حكمه مفرّق التعظيم والتبجيل ، السلطان بن السلطان الشاه إسماعيل ، واتصل ذلك إلى زمان الحري بالإمكان كريم خان ، فاشتد عضد الشيعة وصارت حوز[تـ]هم منيعة ، وعاد قول علمائهم هو المركون إليه ، والحق يعلو ولا يُعلى عليه .
وحين استولت على الفرس ملوك القاجار ، وأدخلوا مملكة الأعاجم تحت قبضة الإقتدار ، توجّوا الدين المحمدي بتيجان الظهور ، وأركبوا طالبيه سبق السرور ، سيما في عهد السلطان الأعظم والشاه الأفخم ، غرّة جباه سلاطين العرب والعجم ، مالك رقاب ملوك الترك والديلم ، شمس فلك الشرف والكرم ، بدر سماء العدل والشيم ، جمال التُخوت ، وجلال الدساكر والدسوت ، حامي حوزة الملك والسلطان ، بلوامع البواتر وذوابل الخرصان (1) ، العامل في كلّ زمان ، بقول العلي الديّان ، في محكم القرآن : « إن الله يأمر بالعدل والإحسان »(2) ، صاحب الجيش الجرار ، وصارم الجزّار ، فتحعلي شاه قاجار ، فهناك دوّنت الدواوين والكتب ، ورصعت بلآلي المراثي والخطب ، وكلّلت عقود الإنشاء بفرائد العقيان ، وبيعت جواهر الشعر بنفائس الأثمان ، فما تسمع في شهر عاشوراء وصفر ط بكلّ ناد ومحضر ، إلا وصوت منشد يقرّح الأكباد ، ونشيج باك يقطّع بحنينه نياط الفؤاد ، وأكثر الشيعة في هذين الشهرين يشتغلون بأنفسهم بالمآتم ، وينفقون من مالهم الجلّ المتعاظم .
وكان السلطان المذكور ؛ إذا هلّ عاشور اعتزل التخت والتاج ، وخلع ملابس

(1) الخِرص : الجمل الشديد الضليع ، والجمع أخراص وخِرصان . ( المعجم الوسيط ) .
(2) سورة النحل : 16 : 90 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 14

المسرة والإبتهاج ، وتدرّع مدارع الكآبة والأسى ، وطلّق أبكار السلوة والعزا .
ولقد تواترت عنه النقول ؛ من العارفين به من ذوي العقول ، أنه في مدة هذه الشهور لايجوّز معانقة بيض النحور ، وله في رثاء سيد الشهداء شعر كمل رقّة ومعنى ، وكم له من مزايا تشهد له بحلول الصدور ، وصفات يجب أن ترقم بالنور على جباه الحور ، فما برح آخذا بأزمّة التوفيق ، سالكا مسالك الهداية والتحقيق ، فيا لها مرتبة تقاصر عنها أرباب الدول ، وانحسر عن إدراكها الملوك الأول .
إلى أن دعاه داعي الكرامة إلى مواطن البشرى والسلامة ، فأجاب داعي الله ، وانتقل إلى جوار الله ؛ بعد أن جعل الأمر من بعده لأشرف نسله وولده ، وأذلّ له المعاطس ، وذلّل له الشوامس ، علما منه بأهليّته للمنصب السامي ، ومعرفة منه باستحقاقه للجاه المتسامي .
فقام الشبل مقام الأسد ، وفي الفرع ما في الأصل وأزود ، فماست بطلعته الأيام في مطارف السرور ، وابتسمت ثغور رياض الآكام عن أشنب الزّهور ، ورجعت بدولته السنيّة كهول الدهر شبابا ، وعادت بيمن سلطنته شوارد البشر بواسما بعد أن ولّت غضابا ، وفرشت نمارق العدالة على البسيط ، ونقشت درانيك الايالة بفنون التطريز والتنميط ، فللأمان على رؤوس الأنام ظلّ ممدود ، فترى في جميع المراتع الشياه والأسود ، قد ميّز قسطاس الفراسة بين الناقص والراجح ، وفرّق نبراس السياسة بين الفاسد والصالح ، فانقادت الجبابرة لأحكامه ، ووضعت القياصرة جباهها خشية من صليل حسامه ، وتطوّقت الملوك بجوامع الطاعة ، وتقلّبت السلاطين في بحار الإنقياد بحدّ الإستطاعة ، وأظهرت الأرض أنواع بهجتها، وماست ومالت بهبوب مسرّتها ، فهنالك الناس على سُرُر الأمان رقود ، وفوق بساط الاطمئنان هجود ، وهو السلطان بالتحقيق ، والخاقان الذي هو بالملك حقيق ، قطب فلك الرفعة ، ونقطة دائرة العز والمنعة ، علم الدين المنشور ، سيف اليقين المشهور ، سنام الفرقة الطاهرة ، ومقلة الحق الباصرة ، ذي الطلعة الشمسيّة ، والمنزلة الفرقدية ، والأوامر السليمانيّة ، واللويّة ! الفتحية ، والآراء

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 15

الحكميّة ، والنفوس العرفانيّة ، والتدبيرات الفلسفية ، والهمم الإسكندرية ، والوزراء الطالوتية ، والجياد الرياحية ، والذوابل القعضبية ، والسيوف المشرفية ، درّة إكليل يافوخ الجلال ، يتيمة عقد جيد الإفضال ، رفرف الشرف ، وشرف التخت والرفرف ، بدر هالة التعظيم ، هالة قمر التفخيم ، واحد الذات وظل الواحد ، ماجد الصفاة وأثر صفات الماجد ، قاهر الملوك بالغلبة والسلطان ، فائق السلاطين في المرتبة وتواتر الأعوان ، الشاه الأعظم ، والسلطان الأفخم ، منبع عين الفخر والشيم ، سلطان العرب والعجم ، حضرت محمد شاه قاجار ؛ ثبّت الله بسيط دولته برواسي التأييد ، وأقرّ أركان سلطنته ببنيان الدوام والتخليد ، وسيّر في ركابه جهابذ الدهور ، وذلّل لجنابه شوامس الأمور بالنور ، المنبسط على الطور ، فظهر في زمانه قمر الشيعة من استتاره ، وأطلق أسد الشريعة من إساره ، وأخصبت بوجوده مواحل مرابع الإسلام ، واستظلّت بأفيئة دولته كافّة الأنام ، فترى مساجدهم محشودة بطوائف العباد ، مأنوسة بنغمات التلاوة والأوراد ، وقضاتهم يفتون حسب ما أمروا أئمّتهم وعلماءهم ، يتذاكرون ما ورد عنهم ، قد أرغموا بمفاخراتهم أنوف الأضداد ، وأفحموا ببليغ عبارات احتجاجهم النواصب الأوغاد ، قد أبدلهم الله خوفهم بالذّعة ، وعوّضهم عن ضيقهم بالسعة ، فوطئوا بأخمص الاقتدار هامات أعدائهم الفجّار ، وأذلّوا أنوف الناصبين ، وقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين .
وبعد ، فيقول أقلّ الخليقة ، بل لا شيء في الحقيقة ، ذو الجرم والقصور ، وراجي الفوز في النشور ، سلمان بن عبدالله آل عصفور عامله الله بفضله ، ووضع عنه أثقال عدله : إنّ الشوق قد قيّد أقدامي ، والحبّ قد ملك زمامي ، والوليّ قد قادني ، والبرّ قد أساقني إلى اقتحام مضمار لست من فرسانه ، وولوج عرين ما كنت من أقرانه ، والدخول في جملة قوم أنا أقلّ منهم ، طمعا مني في قوله صلى الله عليه وآله : « من تشبّه بقوم فهو منهم » (1) ، وإلا فأين الذرّ من الأطواد ، وأنّى للفسكل

(1) المعجم الأوسط للطبراني : 9 : 151 | 8323 ، مجمع الزوائد : 10 : 271 عن الطبراني ،
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 16

ورهان الجواد .
وذلك لما رأيت جملة الشيعة المؤمنين ، وجمهور الهداة في الدين ؛ مكبّين على إقامة فنون العزاء على مصاب سيد الشهداء والأئمة الأتقياء السعداء ، غير أن أكثر مصنّفيهم من العرب ، وجلّ مؤلفيهم من ذوي الرتب ؛ قد سلكوا في نظم كتب المراثي نهجا واضحا ، ونهجوا مسلكا ملحوبا لائحا .
وأما علماء العجم وفضلاؤهم من أصحاب القلم ، فتفرّقوا في التصنيف ، واختلفوا في التأليف ، فمنهم من أطال في المراثي إطنابه ، حتى غدا كتابه مثل ديوان الصبابة ، فألجأه ضيق المأخذ وطول المساحة إلى الركون لكلمات المؤرخين وخرافات السالفين ، ومنهم من ضيّق رحيب مضماره لشدة اختصاره ، وكلاهما لم يصب سهمه الغرض ، ولا قام بما إليه نهض .
لكن لما كان مطلبهم الأقصى التقرّب لأولئك الكرماء ، والوفود على أرباب العطاء ، صوّبت آراءهم في منهجهم ، وشكرتهم على بذل مهجتهم ، ولكلّ ضيف قرى ، ولكلّ عمل كرى .
فهناك دار في قلبي ، وارتسم بلوح لبّي ؛ جمع كتاب وجيز ، يزرى بعسجد نظمه سبائك الذهب الإبريز ، وأن أسميه بـ « مصارع الشهداء ومقاتل السعداء » ، جاعلا لكل معصوم مقتلا ، مبتدئا بالنبي المصطفى ، مثنيا بفاطمة الزهراء ، خاتما بصاحب العصر والزمان ، وخليفة ربّنا الملك الديّان في هذه الأزمان ، ومن الله أسأل التوفيق والهداية إلى واضح الطريق ، وأن يجعله أنفس زاده ليوم الحشر والمعاد ، إنه كريم منّان ، وشأنه الفضل والإحسان ، وهو حسبي ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير .

=
مسند الشهاب للقضاعي : 1 : 244 | 390 ، بإسنادهم عن حذيفة .
الغدير : 11 : 155 عن أبي داود وابن حبّان من طريق ابن عمر .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 17

المصرع الأول

وهو مصرع رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)

عباد الله الصالحين ، انظروا بعين المعتبرين ، وعوا بقلوب المتفكرين ، واصغوا بآذان الموعين ، وتيقّنوا بأفئدة المذعنين ، إن الله ربّ العالمين ؛ لما تمّت حكمته بإيجاد المخلوقين ، واقتضت مشيئته وجود المعدومين ، جعل لذلك عللا بالتعيين ، وأسبابا بالتبيين ، وصيّرها كالمادة له كما صرحت به البراهين ، إذ قد جاء في الحديث القدسي على لسان جبرائيل الأمين حيث قال ـ وهو أصدق القائلين ـ :
« لما أردت إيجاد خلقي وخلق عبادي ، خلقتها بتسعة أشياء : بالحب ، والإرادة ، والمشيئة ، والعلم ، والقدرة ، والقضاء ، والقدر ، والأجل ، والكتاب » . وقيل بعشرة وازداد الإذن فيها .
وجعل كلّ واحد من هذه الأسباب علة غائية في وجود الخلق ، وكل متقدم منها علة لوجود متأخّره ، فيكون الحبّ علة وجود العلل ، وبه وجد الوجود ، ووحّد المعبود ، وبه قامت السماء ، وسطحت الأرض على الماء ، الحبّ هو العقل الكلي وكلي العقل ، وهو الأغلوطة التي تاه في أودية معرفتها أولوالفضل ، الحبّ نبراس الهداية ، وقسطاس الدراية ، الحبّ لباس القلوب ، وجلاها من درن الشكوك والكروب ، به تداوى الأفئدة المكلومة ، وتفضّ الأسرار المختومة ، وهو الموصل إلى المحبوب ، والمجافى عن الذنوب ، بالحبّ صار جبرئيل أمينا ، وإسرافيل مكينا ، وعزرائيل قابضا ، وميكائيل فائضا ، وبه سكن آدم بحبوحة الجنان ، وبه خدّت خدّيه العينان ، بالحبّ سهلت خزون الطوفان على نوح ، واستعذب الأجاج ولن يبوح ، وبه سار في البحر العجاج على ألواح الساج ، بالحبّ صار

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 18

بطن نونة يونس معراجا ، واتخذ سبيله في البحر منهاجا ، بالحب نال إبراهيم خلّة الرحمان ، وبه برد عليه لهب النيران ، بالحب سعى موسى للجذوة ، ففاز بشرف النبوة ، وبه نودي من وادي طوى : «لا تخف إنني أنا الله الأعلى » ، بالحب كلّم بلا ترجمان ؛ ولا حجاب عن العيان ، وبه أضحى عيسى روحا ، ونفخ في الطين روحا ، وكفى الحبّ رفعة ما جاء في الذكر الحكيم والقرآن الكريم : « ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين »(1) .
وليس الحب ما ذهب إليه الأوهام من جهّال الأنام ؛ أنه التشبّب بالوجوه الحسان ، والأصغاء إلى أصوات رنّات العيدان ، أو أنّه شيء يحصل بالعزلة عن الناس ، أو [يـ]ـتيسّر بلبس رَثّ اللباس ، كلا وربّ الراقصات ومن برأ الذرّات .
إنما المراد بالعشق هو محمد بن عبدالله النبي الهاشمي ، والمعشوق هو الله جلّ وعلا ، والعاشق الحقيقي عليّ المرتضى ، فمحمّد الواسطة بين العاشق والمحبوب ، وهو العلّة في الوجود وطبيب القلوب ، فوجود محمد صلى الله عليه وآله سابق لوجود جميع المخلوقين ، وعلة لإيجاد المصوّرين ، حيث قد خوطب بـ : « لولاك لما خلقت الأفلاك » .
وكذلك ما روي عن أميرالمؤمنين وسيد المسلمين عليه السلام إذ قال : « أول ما خلق الله ربّ العالمين نور محمد سيد المرسلين ، وأشرف النبيين ، قبل خلق الماء والطين والعرش والكرسي والسماوات والأرضين والجنان والنيران واللوح والقلم وحوّى وآدم والحجب والبحار والنباتات والأشجار بثمانين ألف عام ، ثم قال له : يا عبدي أنت المراد وأنا المريد ، وأنت خيرتي من خلقي ، وعزّتي وجلالي لولاك ما خلقت الأفلاك ، فمن أحبّك أحببته ، ومن أبغضك أبغضته » (2) .

(1) سورة فصّلت : 41 : 11 .
(2) بحار الأنوار : ج 57 ص 198 باب حدوث العالم وبدء خلقه من كتاب السماء والعالم : ح

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 19

ولله درّ من قال بيان الحبّ :
خلعة العشق جمال العاشقيــن حُلية التقوى لأربــاب اليقيــن
مظهر العشق صراط المستقيـم غاية العشـق حُبــور ونعيــم
كلّ ذي عشق قريــن الافتخار قد زكا أصلا وفرعـا ونجــار
أوجه العشّـاق مشكــاة الهدى باطن العشّــاق كشّـاف الردى
قيل لي ما العشق يا حلف الهوى أفصح المرمـوز من سرّ الجـوى
قلت إنّ العشق يا ربّ السـؤال علة الأشيـا ومصداق الكمــال
قـال مما ذاتــه يا ذا الوداد ما اسمه عنـد مياميـن العبــاد
قلت معنى العشق ذات الهاشمي أحمد المختــار فخــر العالـم
قال ما المعشوق من ذا العاشـق قــل فإنّــي مستهــام وامق
قلت إنّ العاشـق المومى إليـه حيدر خير الثنا يُتلــى عليــه
وكذا المعشوق ربّي ذو الجلال من تردّى بالمعالــى والكمــال
إن معنى العشـق ذا يا ذا الفتى ما سوى ذا عندنــا لـن يُثبتـا
ليس معنى العشق يا ربّ الفطن صوت شاذٍ مطرب أو خمــر دن
أو بكاء فـي أساريــر الظلام أو نشيـدا من زخاريف الكــلام
لا ولا العشق اعتـزال العالمين والتواني في طريــق المتقيــن
منهج العشاق يُنهـي للرشــاد واعتزال النسك يُغري بالفســاد
يا نسيم الحبّ زائل عن حشـا مهجة المشتاق أسجـاف الغشــا

روي في كتاب ( مشارق الأنوار ) أنه ورد في الحديث القدسي عن الربّ العلي أنه قال : « عبدي ، أطعني أجعلك مثلي ، أنا حي لا أموت أجعلك حيا لا تموت ، أنا غني لا أفتقر أجعلك غنيا لا تفتقر ، أنا مهما أشاء يكن أجعلك مهما تشاء يكن » .

=
145 عن أبي الحسن البكرى استاذ الشهيد الثاني في كتاب الأنوار ، مع إضافات كثيرة واختلاف لفظي .

الفهرس التالي التالي