مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 20

وفيه : « إن لله عبادا أطاعوه فيما أراد ؛ فأطاعهم فيما أرادوه ، يقولون للشيء كن فيكون » ، وذلك لأنّ الكلّ عباد الله ، فإذا اختار الله عبدا ألبسه خلعة التفضيل وأذن له (1)في الممالك بالتصرف والتبجيل ، وجعل له الولاية المطلقة ، فصار عبدا لحضرته ، وخالصا لولايته ، ومولى لعباده وبريّته ، وواليا في مملكته ، فهو المتصرف الوالي بإذن الرب المتعالي .
فيا أيّها الطائر في جوّ التقليد ، والمحلّق في سماء التبليد ، لا يأوي إلى غدران الحكماء ، ولا يرتع في رياض العلماء ، ولا يثبت في قلبه حبّ ، ولا ينيب لمحجّبات (2) الكتب ، إلى متى أنت ، أنت بعيد عن النور ، محجوب عن السرور ، غافل عن أسرار سواد السطور ، مكبّ على النظر في المسطور ، أما أسمعك منادي الرحمان : « أفلا يتدبّرون القُرآن»(3) ، وحتى متى أنت كشارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشا ، ألم تر أنّ الله سبحانه خلق ألف ألف عالم مبدؤها نور الحضرة المحمدية ، وسرّها الولاية الإلهية ، وختامها الخلافة المهدويّة ونور العصمة الفاطميّة ، وذلك كلّه قاض عن الكلمة السبحانية ، وهي ألف غير معطوف كما قالوا ألف غيب معطوف ، لا وألف غير معطوف ، وألف عنده الوقوف ، وألف هو منتهى الألوف ، خلقها وهو غني عن خلقها ، وسلّمها إلى الوليّ الكامل ، والخليفة العادل ، لأنه وليه ومقامه الذي أقامه في خلقه مقامه ، والوليّ المطلق ، والمتصرّف العادل ، لا يسئل عمّا يفعل ، ولا يناقش فيما يعمل ، وكيف يسأل المؤيّد بالحكمة المخصوص بالعصمة ، الذي يريد الله ما يفعل ، لأنّ فعله الحق والعدل (4) .
ولله درّ من قال :
يا حبّذا مُتحاببين تواصلا دهرا وما أعتلقا بفحش أذيلا

(1) في المصدر : « ونادى له » .
(2) في المصدر : « ولا ينبت إلا في محجّبات » .
(3) سورة النساء : 4 : 82 .
(4) مشارق أنوار اليقين : ص 68 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 21

لا شيء أجمل من عفاف زانـه ورع ومن لبس العفــاف تجمّلا
طبعت سرائرنا على التقوى ومن طبعت سريرتـه على التقوى علا
أهواه لا لخيانـة حاشــا ومن أنهـى الكتـاب تلاوة أن يجهـلا
لي فيه مزدجــر بما أخلصته في المصطفى وأخيه من عقد الولا
فهما لعمرك علة الأشيــاء في أهل الحقيقـة إن عرفـت الأمثلا
الأولان الآخـران الباطنــان الظاهران الشاكــران لذي العلا
الزاهدان العابـدان الراكعــان الساجدان الشاهــدان على الملا
خُلقا وما خلق الوجود كلاهمــا نوران من نور العلــيّ تفصّلا
في علمه المخزون مجتمعان لـن يتفرّقـا أبــدا ولن يتحــوّلا
فاسأل عن النــور الذي تجدنّه في النور مسطورا وسائل من تلا
واسأل عن الكلمات لمـا أن بها حقــا تلـقّــى آدم فتقبــلا
ثم اجتبـاه فأودعــا في صلبه شرفــا لـه وتكرّمــا وتبجّلا

فاحمدوا يا إخواني ربكم الأجلّ حيث ألبسكم خلعة الوجود ، واشكروا يا خلاني نبيكم الأفضل ؛ إذ هو الفيّاض عليكم زلال الجود ، به ختم الله المرسلين ، وكان هو علّة وجود النبيين ، (صلى الله عليه وآله) حملة الكتاب ، والأدلاء على الخير والصواب ، الذين كانوا في الأجساد أشباحا ، وفي الأشباح أرواحا ، وفي الأرواح أنوارا ، وفي الأنوار أسرارا ، فهم الصفوة والصفاة ، والأصفياء والكلمات ، وإليهم الإشارة بقولهم : « لولانا ما عُرِف الله ، ولولاه ما عُرِفنا » .
روى في الكتاب المذكور (1) عن زياد بن المنذر، عن ليث بن سعد قال : قلت

(1) مشارق أنوار اليقين للبرسي : ص 71 مع اختلاف لفظي ، وزاد في آخره : ونجد في الكتب أنّ عترته خير البشر ، ولا تزال الناس في أمان من العذاب ما دامت عترته في الدنيا . فقال معاوية : يا أبا إسحاق : ومن عترته ؟ فقال : من ولد فاطمة . فعبس معاوية وجهه وعضّ على شفته وقام من مجلسه .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 22

لكعب الأحبار وهو عند معاوية : كيف تجدون صفة مولد النبي محمد صلى الله عليه وآله ؟ وهل وجدتم لعترته فضلا ؟ فالتفت كعب إلى معاوية لينظر كيف هو ، فأنطقه الله فقال : هات يا أبا إسحاق . فقال كعب : إنّي قرأت في سبعة وسبعين (1) كتابا نزلت من السماء ، وقرأت صحف دانيال ، ووجدت في الكل مولده ومولد عترته ، وأنّ اسمه لمعروف ولم يولد ، نُبِّئ فنزلت عليه الملائكة قطّ ما عدا عيسى وأحمد ، وما ضرب على آدميّة حجاب الجنة غير مريم وآمنة ، وكان من علامة حمله أن نادى مناد من السماء في ليلة حمله : ابشروا يا أهل السماء ، فقد حملت آمنة بأحمد ، وفي الأرض كذلك [ حتى في البحور ، وما بقي يومئذ في الأرض دابة تدبّ ولا طائر يطير إلا وعلم بمولده (صلى الله عليه وآله وسلم) ] ، ولقد بني في تلك الليلة في الجنة سبعون ألف قصر من ياقوتة حمراء وسبعون ألف قصر من لؤلؤة رطبة ، وسمّيت قصور الولادة ، وقيل للجنّة اهتزّي وتزيّني فإن في هذه الليلة ولد نبي أوليائك ، فضحكت يومئذ فهي ضاحكة إلى يوم القيامة ، وبلغنا أنّ حوتا من حيتان البحر يقال له طمسوسا وهو سيد الحيتان له سبعمئة ألف ذنب يمشي على ظهور سبعمئة ألف ثور ، الواحد أكبر من الدنيا ، لكل ثور سبعمئة الف قرن من زمرّد أخضر ، وقد اضطربت ليلة مولده فرحا ، ولولا أنّ الله ثبّتها لجعلت الأرض عاليها سافلها ، ولا بقي جبل إلا لقى صاحبه بالبشارة وهم يقولون : « لا إله إلا الله » ، ولقد خضعت الجبال لأبي قبيس كرامة لمحمد صلى الله عليه وآله ، ولقد ماست الأشجار أربعين يوما بأفنانها وأطيارها وأنهارها(2) ، ولقد نصب بين السماء والأرض سبعون عمودا من نور ، ولقد بشّر آدم بمولده فزاد في حسنه أضعافا (3) ، ولقد اضطرب الكوثر

(1) في المصدر : « في اثنين وسبعين » .
(2) في المصدر بدل « ولقد ماست ... وأنهارها » : ولقد قدست الأشجار أربعين يوما بأغناصها وأنهارها وثمارها فرحا بمولده .
(3) في المصدر بدل « ولقد ماست ... وأنهارها » : ولقد قدست الأشجار أربعين يوما بأغناصها وأنهارها وثمارها فرحا بمولده .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 23

حتى أسقط سبعين قصرا من الزمرد نثارا لمقدمه ، ولقد زمّ إبليس وكبّل وألقي في الحصر أربعين يوما ، ولقد سقطت الأصنام ، وسمعت قريش أصواتا من داخل الكعبة وقائلا يقول : « يا قريش ، قد جاءكم البشير النذير معه عمود الأبد والربح الأكبر ، وهو خاتم الأنبياء » .
وكذلك ما ورد في الكتاب المذكور (1) أنّ الملك سيف بن ذي يزن قال لعبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ : إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون أنّه يولد بتهامة غلام بين كتفيه علامة تكون له الإمامة ولولده إلى يوم القيامة ، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه .
وكان مولده (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة السابع عشر من شهر ربيع الأول عام الفيل ، وتوفّي أبوه وهو ابن شهرين ، وماتت أمه وهو ابن أربع سنين ، ومات عبدالمطلب وهو ابن ثمان سنين ، وكفّله عمّه أبوطالب ـ رضي الله عنه ـ .
فيا مدّعي الشرف قصّر خطاك وثقل حملك على مطاك ، ويا أيها الطالب لسموّ المكانة ، والخاطب لمحجّبات الصيانة ، والراقد على فرش الإفتخار ، والراغب في عناق أبكار الأقدار ، امدد بصرك ، وأحدّ نظرك ، فقد طلعت شمس الأسرار من مطالع العناية ، ولمع نور الأنوار من مشارق الهداية ، وأنّ الحي القيوم قد فضّل الحضرة المحمدية ، بأن جعل نورها هو الفيض الأول ، وجعل سائر الأنوار تشرق منها وتشعشع عنها ، وجعل لها السبق الأول ، ولها السبق على الكلّ والرفعة على الكلّ والإحاطة بالكلّ ، فما أحرى ذلك بقول الناصح والحبيب الصالح حيث قال :
نقّل فؤادك ما استطعت من الهوى ما الحبّ إلا للحبيب الأول

(1) مشارق أنوار اليقين : لص 74 مع اختلاف في بعض الألفاظ فقط .
ورواه الشيخ الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة : ج 1 ص 176 ح 32 باب 13 في خبر سيف بن ذي يزن ، مع إضافات كثيرة .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 24

صلى الله عليه صلاة تعمّ صلاة المصّلين ، وتفوق دعوات الداعين ، ما حنّت القلوب المفتونة به إليه ، وعطفت أعناق شوقها عليه .
لا تجل في صفات أحمد طرفا فهو الغايــة التي لـن تراها
قلّب الخافقين ظهـرا لبطـن فرأى ذات أحمـد فأجتباهــا
ليت شعري هـل ارتقى قمـم الأملاك أم طأطأت له فرقاها
بل لسرّ من عالم الغيب فيــه دون إدراك لحظـه أنهاهــا
ذاك ظل الاله لـو ان حوتـه أهل وادي جهنـم لحماهــا
وهو الآية المحيطـة بالكـون ففي عين كل شيء تراهــا
بشرت امّه به الرسـل طـرا طربا بأسمه فيـا بشراهــا
تلتـقى كـل ذروة بـرسـول ايّ فخر للرسل في ملتقاهـا

روى في كتاب الأحتجاج مرفوعا الى معمل بن راشد قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : «أتى يهودي الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقام بين يديه يحدّ النظر فيه (1) ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا يهودي ما حاجتك ؟ فقال اليهودي : جئت أسألك : أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلمه الله عزّ وجلّ ، وأنزل عليه التوراة والعصا ، وفلق له البحر ، وأضلّه بالغمام ؟ .
فقال له النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّه يكره للعبد أن يزكّي نفسه ، ولكنّي أقول : إن آدم (عليه السلام) لمّا أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال : اللهمّ إنّي أسألك بحق محمد وآل محمد لما غفرت لي ، فغفرها الله له ، وإنّ نوحا (عليه السلام) لمّا ركب يفي السفينة وخاف الغرق قال : اللهمّ إنّي أسألك بحقّ محمد وآل محمد لما نجّيتني(2)من الغرق ، فجّاه الله عزّ وجلّ ، وإنّ إبراهيم (عليه السلام) لمّا ألقي في النّار قال : اللهمّ إنّي أسألك بحقّ محمد وآل محمد لما أنجيتني منها . فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، وإنّ موسى (عليه السلام) لمّا ألقى

(1) في المصدر : « إليه » .
(2) في المصدر : « أنجيتني » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 25

عصاه فأوجس في نفسه خيفة قال : اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما آمنتني . قال الله جل جلاله : « لا تخف إنك أنت الأعلى » (1) .
يا يهودي ، لو أن موسى (عليه السلام) أدركن (2)ثم لم يؤمن بنبوّتي ، لم ينفعه إيمانه شيئا ، ولا نفعته النبوة .
يا يهودي ، ومن ذريتي المهدي ، إذا خرج نزل المسيح لنصرته ، فيقدّمه ويصلي خلفه» .
فصمت اليهودي كأنما ألقم حجرا .
وروي عن الصادق (عليه السلام) ، عن أبيه ، عن أبيه علي بن الحسين (عليهم السلام) أنه دخل عليه رجلان من قريش ، فقال : « ألا أحدّثكما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ » . قالا : بلى ، حدثنا عن أبي القاسم محمد (صلى الله عليه وآله) .
قال : سمعت أبي يقول : «لما كان قبل وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله )بثلاثة أيام نزل [ عليه ] جبرئيل (عليه السلام) فقال : يا أحمد ، إنّ الله أرسلني إليك إكراما وتفضيلا [ لك ] وخاصة ، يسألك عما هو أعلم به منك ، يقول : كيف تجدك يا محمد ؟
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : تجدني يا جبرئيل مغموما ، تجدني يا جبرئيل مكروبا .
فلما كان اليوم الثالث هبط جبرئيل ومعه ملك الموت (عليهما السلام) ، ومعهما ملك يقاله له : « إسماعيل » في الهواء في سبعين ألف ملك ، فسبقهم جبرئيل (عليه السلام) فقال : يا

(1) سورة طه : 20 : 68 .
(2) في المصدر : « إن موسى لو أدركني » .
() رواه الطبرسي في الباب 28 ـ ذكر استشفاع أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين في دعوى الأنبياء عليهم السلام من الاحتجاج : ج 1 ص 106 .
ورواه الصدوق في أماليه : المجلس 39 الحديث 4 ، والعلامة المجلسي في البحار : 26 : 319 ـ 320 .
واورده الفتّال في عنوان « مناقب آل محمد صلوات الله عليهم » من روضة الواعظين : ص 272 ، والسبزواري في الفصل 4 من جامع الأخبار : ص 44 ـ 45 ح 48 | 9 .
() في المصدر : « هبط ».
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 26

محمد ، إن الله أرسلني إليك إكراما وتفضيلا ، يسألك عما هو أعلم به منك ويقول : كيف يجدك يا محمد ؟
فقال (صلى الله عليه وآله) : تجدُني يا جبرئيل مغموما ، تجدُني يا جبرئيل مكروبا .
فاستأذن ملك الموت عليه ، فقال جبرئيل : يا محمد ، هذا ملك الموت يستأذن عليك ، ولم يستأذن [ على أحد قبلك ، لا يستأذن ] (1) على أحد بعدك ، فهل تأذن له ؟
فقال (صلى الله عليه وآله) : نعم .
فأذن جبرئيل إليه ، فأقبل حتى وقف بين يديه وقال : يا أحمد ، إن الله أرسلني إليك ، وأمرني أن أطيعك فيما تأمرني ، فإن أمرتني بقبض نفسك قبضتُها ، وإن كرهت تركتها .
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : أو تفعل ذلك يا ملك الموت ؟
قال : نعم ، بذلك أمِرتُ .
فقال جبرئيل (عليه السلام) : يا أحمد ، إنّ الله تبارك وتعالى قد اشتاق الى لقائك .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا ملك الموت ، امضِ لما اُمرتَ به .
فقال جبرئيل (عليه السلام) : هذا آخر هبوطي الأرض ، وإنما كنت أنت حاجتي من الدنيا (2) .
فلما أراد ملك الموت أن يقبض روحه قال له : « خفّف » . قال : خفّفت يا رسول الله ، ولكنّ النزع شديد .
قال : أو يكون لكل واحد من أمّتي مثل هذه الشدائد ؟
قال : وأضعاف هذا .
قال (صلى الله عليه وآله) : ضع على روحي الشدة حتى يكون عليهم أهون .

(1) من سائر المصادر .
(2) إلى هنا رواه الشيخ الصدوق في أماليه : المجلس 46 الحديث 11 مع اختلاف في بعض الألفاظ .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 27

بلغت الروح نحره وصبّ الماء على صدره ، فقال : هون عليّ سكرات الموت ، فلما حبس لسانه وغمّضت عيناه حرّك شفتيه ، ثم نظر إلى عليّ (عليه السلام) وهو جالس يبكي ورأس النبي صلى الله عليه وآله في حجره ، فهبط رأسه وجعل يوصيه بأشياء لا يفهمها بينهما إلا جبرئيل ، ثم وضع أذُنه على فمه وهو يقول : « أمّتي أمتي » .

وتوفي (صلى الله عليه وآله) في اليوم الثامن والعشرين من شهر صفر سنة [ أحد ] عشرة من الهجرة كما وردت به الروايات عن الأئمة الثقات (1) ، ولله درّ من قال :

الا طرق الناعي بليل فراعنــي وارقني لمـا استقــلّ مناديــا
فقلت له لمــا رأيت الذي أتــا : ألا انع رسول الله إن كنت ناعيـا
فحققت مـا أشفقت منه ولم أنــل وكــان خليلي عزّنــا وجماليا
فو الله ما أنســاك أحمد ما مشت بي العيس في أرض تجاوزن واديا
وكنت متى أهبط من الأرض تلعة أرى أثــرا منه جديدا وعافيــا
جرى رحيب الصـدر نهد مصـدر هو الموت مدعوّ عليه وداعيــا

فوا لهف نفسي على علّة الوجود ، وينبوع المكارم والجود ، ويا طول تأسّفي على شمس الهداية والسعود ، كيف حجبتها غيوم اللحود ، وعلى ودود الملك الودود ، كيف صعّر الحمام منه الخدود ، على الحبل الممدود ، بين العبيد والمعبود ، كيف ابتلته مواضى القضاء المنفود ، وعلى مقيم السنن والحدود ، وكريم الآباء

(1) رواه الشيخ في التهذيب : 6 : 2 في أول كتاب المزار ، وعنه المجلسي في البحار : 22 : 514 ، والطبرسي في إعلام الورى : ص 143 وعنه في البحار : 22 : 530 .
والمشهور أنه صلى الله عليه وآله توفّي سنة إحدى عشرة من الهجرة كما قال الشيخ الطوسي في مصباح المتهجّد : ص 890 ، والمجلسي في البحار : 22 : 514 ح 16 عن قصص الأنبياء ( مخطوط ) ، والمفيد في الإرشاد : ج 1 ص 189 .
قال المجلسي في البحار : 22 : 530 : بيان : لعلّ قوله سنة عشرة مبني على اعتبار سنة الهجرة من أول ربيع الأول حيث وقعت الهجرة فيه ، والذين قالوا سنة إحدى عشرة ينوه على المحرم ، وهو أشهر .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 28

والجدود ، كيف نهل من منهل الحين المورود ، فوا عجبا للجبال الشواهق لم تسنح بالهمود ، وللعيون كيف تنال سنة الهجود ، أما كان في هذا الحادث النكود ، والجائح الموقود سبب لاختلال نظام الوجود ، واصطلام نفس الوالد والمولود ، وعلى مثله فلتمزّق الكبود ، فضلا عن البرود ، وتجزأ نيط القلب الكمود عوضا من النواصي والجعود ، أو لا تكونون كمن طوق جيد صبره لهذه الرزية بعقود ، وطال له فيها القيام والقعود ، فرثاه بما سمحت به قريحته من الأبيات المزرية بلآلي العقود ، وهو من شيعته الباذلين فيه أقصى المجحود .

منهاج البكاء في فجائع كربلاء 29

المصرع الثاني

وهو مصرع فاطمة الزهراء
(صلوات الله عليها)

استنهضوا إخواني سبّق الصبابة وأجروها في ميادين المناخ ، وامتطوا كواهل عوامل الكآبة ، واهجروا كواعب الأفراح ، وأطفئوا وهج القلوب المذابة بالدمع السيّاح ، وواسوا كلوم الأفئدة المصابة بمراهم بذل الأرواح ، وتفكّروا فيما زعزع بيت النجابة منا لفادح المتاح ، فقد هزّ عليهم الدهر حرابه وأروى من دمائهم ظوامي الصفاح ، وألقى عليهم الزمان ركابه وأشفى منهم أولاد السفاح ، وترك جسومهم الطاهرة غنائمه ونهابه وأسمى رؤوسهم عوالي الرماح ، وضيّق عليهم فجاج البسيط ورحابه وشتتهم في البطاح ، فأول فادح قرعوا بابه ووردوا منه الأتراح ، وأول قادح أوتر نحوهم شهابه وناداهم لا براح ، ما جرى على الدرّة المنضّدة في عقود الكمال ، والقدوة المسدّدة من تطرّقات الضلال ، الإنسيّة الحوراء ، أمّ الأئمة النجباء ، فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها ، ولله درّ من قال من الميامين الأبدال :
ولقد وقفت على منازل من أهوى وفيض مدامعي غمـر
وسألتها لو أنهـا نطقــت أم كيف ينطق منــزل قفـر
يا دار هل لك بالاُولى رحلوا خبر وهل لمعالــم خبــر
أين البدور بدور سعدك يـا مغنى وأين الأنجـم الزهــر
أين الكفــاة ومن أكفّهــم في النائبات لمعسـر يُســر
أين الربوع المخصبـات إذا عفت السنون وأعـوز البشر
أين الغيــوث الهاطلات إذا بخل السحــاب وأفحم القطر
ذهبوا فمــا وأبيك بعدهـم للنــاس تبيـان ولا غــرّ

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 30

تلك المحاسن في القبور على مرّ الزمــان هوامـد دثـر
أبكي اشتياقــا كلما ذكـروا وأخو الغــرام يهيجه الذكر

روي (1) عن المفضّل بن عمر قال : قلت لأبي عبدالله عليه السلام : كيف كانت ولادة فاطمة (عليها السلام) ؟ قال : « نعم ، إنّ خديجة لما تزوج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) هجرتها نساء مكّة وكنّ لا يدخلن إليها ولا يسلّمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها ، فاستوحشت خديجة عند ذلك ، فلما حملت بفاطمة (عليها السلام) كانت فاطمة (عليها السلام) تحدّثها في بطنها وتصبّرها ، وكانت تكتم ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فدخل [ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ] يوما فسمع خديجة تحدّث فاطمة صلوات الله عليها ، فقال لها : يا خديجة ، من تُحدّثين ؟
قالت : الجنين الذي في بطني يحدّثني ويؤنسيني .
قال : يا خديجة ، هذا جبرئيل (عليه السلام) يبشرني أنها إبنتي وأنها النسلة الطاهرة الميمونة ، وأنّ الله سيجعل نسلي منها ، وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقطاع وحيه .
فلم تزل خديجة كذلك حتى حضرت ولادتها ، فوجّهت إلى نساء قريش ونساء بني هاشم أن تعالين لتليني مني ما تلي النساء من النساء ، فأرسلن إليها عصيتينا ولم تقبلي منا وتزوّجت محمدا يتيم أبي طالب فقيرا لا مال له ، فلسنا نجيء إليك ولا نلي من أمرك شيئا .


(1) ورواه الشيخ الصدوق في الأمالي : المجلس 87 ح 1 ، والطبري الإمامي في دلائل الإمامة : ص 76 ح 17 مع اختلاف في بعض الألفاظ .
وأورده ابن شهر آشوب في المناقب : 3 : 388 في عنوان : « فصل في معجزاته عليه السلام » ، وابن حمزة في الثاقب في المناقب : ص 285 في الباب الرابع ، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين : ص 143 ، والراوندي في الخرائج والجرائح : 2 : 524 .
ورواه مختصرا القندوزي الحنفي في ينابيع المودة : ص 198 في الباب 56 وقال : أخرجه الملا في سيرته .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 31

فاغتمّت خديجة لذلك ، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنّهنّ من نساء بني هاشم ، ففزعت منهنّ لما رأتهنّ ، فقالت إحداهنّ : لاتحزني يا خديجة ، فإنا رسل ربّك إليك ، ونحن أخواتك ، أنا سارة ، وهذه آسية بنت مزاحم ، وهي رفيقتك في الجنة ، وهذه مريم بنت عمران ، وهذه كلثم أخت موسى بن عمران ، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء .
فجلست واحدة عن يمينها والأخرى عن يسارها والثالثة من بين يديها والرابعة من خلفها ، فوضعت فاطمة (عليها السلام) طاهرة مطهرة
» .
وكانت ولادتها باليوم العشرين من جمادى الآخر قبل الهجرة بثمان سنين (1) .
وكانت (عليها السلام) تنمو في اليوم كما ينمو غيرها في الشهر ، وتنمو في الشهر كما ينمو غيرها في السنة .
فلا غرور فهي سماء النبوة وشمس الرسالة وقمر العصمة ودوحة الحكمة وجرثومة الشرف وبيت الفخار الأشرف .
بنت النبيّ التــي فـاقت عُلــىً وسمت شأنــا فمــا مثلهــا شمس ولا قمر
البـدر مـن خجــل يخفــى إذا طلعت والشمـس فــي أفقهــا بالغيم تعتجر
والغصن في الروض إن مرّت وإن خطرت يغضي حيـــاء وفـي الأوراق يستتر

روي (2) أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان ذات يوم من الأيام جالسا بإزاء المسجد الحرام إذ أتته جماعة من خواتين نساء قريش لابسين ثيابا من قباطّي مصر متلفّعين بأردية مذهّبة وهم في غبطة وفرح وسرور ، وقد سقاهم الدهر كأسا من الغرور ،

(1) انظر دلائل الإمامة للطبري : ص 79 ح 18 وص 134 ح 43 ، وفي المناقب لابن شهر آشوب : 3 : 405 في عنوان : « فصل في حليتها وتواريخها عليها السلام » ، والبحار : ج 43 ص 9 ح 16 .
(2) ورواه بنحو آخر الرواندي في الخرائج والجرائح : 2 : 538 في أعلام فاطمة البتول عليها السلام : ح 14 ، وعنه المجلسي في البحار : 43 : 30 ح 37 ، والبحراني في ترجمة فاطمة عليها السلام من العوالم : ص 219 باب 3 ح 2 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 32

فجعلن بتبخترن في خطواتهن ينظرن لميال قاماتهن حتى وصلن النبي (صلى الله عليه وآله) وسلّمن عليه وقلن : يا محمد ، إنك وإن كنت فينا في الملّة غريبا فأنت منّا في النسب قريب ، فلا تقطع حبل النسب منّا ، ولا تختار البعد عنّا .
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : « وما ذاك » ؟
قلن : إن عندنا عرسا وزفافا ، ونلتمس من حضرتك الشريفة وطلعتك المنيفة أن ترسل معنا خاتون القيامة وأصل الإمامة فاطمة (عليها السلام) لتزيّن مجلسنا وتنوّر محلّنا ، ويكون لمجمعنا الرونق والنظام ، ويحصل لعرسنا العز والإكرام . وقد أرادوا بذلك خجل الزهرا (عليها السلام) .
فأطرق رسول الله صلى الله عليه وآله رأسه مفكّرا وقال لهم : « نعم ما أشرتم ، غدا إن شاء الله أرسلها إليكم لتحوز ثواب زفافكم » .
فمضين النساء مسرعات ، وقام النبي (صلى الله عليه وآله) من وقته إلى ابنته وشجرة عترته وقال لها : « يا قطعة جسدي ويا فلذة كبدي ، اعلمي أنّ خواتين قريش ، وأهل المفاخرة والطيش ، قد طلبوا منّي حضورك مجلسهم ، والتمسوا وصولك عرسهم ، لتحضري وقت زفافهم ، ويحملوك على أكتافهم ، وقد أمرنا فاطر السماوات وبارئ النسمات بأن نقابل جفاء الأعداء بالصبر ، ونوازي أذاهم بالشكر » .
فأطرقت الزهراء (عليها السلام) رأسها ساعة إلى الأرض ثم قالت : « أنا أمة الجبار ، وخادمة لمحمد المختار ، فلا أستطيع التجاوز عن حكمكما ، ولا التعدّي عن أمركما ، يا أبتاه سوف أمتثل أمرك العالي وأعمل بحكمك المتعالي ، ولكن دهرنا غدّار ، يخون بأهل الشرف والمقدار .
يا أبتاه بأي حلّة أتزيّن ، وبأيّ حلية أحتشم بها وأتبيّن ؟ أألبس ردائي المرقّع المخرق ؟! أم قناعي العتيق الممزّق ؟!
يا أبتاه نسوة قريش متلونين بأفخر الملابس ، متّكئين على الأرائك في صدور المجالس ، فكيف بي إذا وصلت إليهم ، وجلست لديهم ، فكلّ منهم ينظرني بالطعن والتهكّم ، ويرمقني بالإستهزاء والتبسّم .
يا أبتاه إنّ هؤلاء كانوا لأمّي خديجة الكبرى خدّاما ، فكم قبّلوا أعتابها إجلالا وإكراما ، واليوم هم في الحلل اليمانية ، والأردية الأرجوانية .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 33

يا أبتاه إنّ نسوة قريش ما ينظرن إلا للزينة الدنيوية ، ويعمون عن الزينة الأخروية »
.
فقال (صلى الله عليه وآله) لها : « يا ابنتي ويا نور مقلتي ، لا تغتمّي لهذه الدنيا الدانية ، والمدة الفانية ، فإنّ ذا كله في معرض الزوال ، وما هي إلا كفيء نزّال ، يا بنية ، إن الفقر فخري والإعسار ذخري » .
فبينما هو كذلك إذ هبط الأمين جبرئيل عن الملك الجليل وقال : « يا محمد ، ربك يقرؤك السلام ، ويخصّك بالإكرام ، ويقول لك : أرسل ابنتك فاطمة تحضر زفافهم ، فإنّ الله سيظهر لها معجزات وكرامات ، وتفوز ببركة قدومها بعض النسوان بدولة الإسلام » .
فالتفت النبي إليها وأخبرها بما جاء به جبرئيل ، فقالت : «سمعا لما قال به ربّي الجليل » .
فقامت ولبست مقنعة الفقر ، وتردّت برداء العصمة ، وتوجّهت نحو النسوة فريدة ، ليس لها خادمة تخدمها ، ولا أمة تحشمها ، فأرسل الله لها فوجا من الحور العين ، فغيّبنها عن أعين الناظرين ، فلما وصلت مجلسهنّ ظهر منها نور شعشعاني ، أخذ بأبصارهنّ ، وحيّر أفكارهنّ ، فلما رأوها وقد أقبلت تمشي رويدا تسحب أذيال حلّة لم تر العيون مثلها ، وعلى رأسها تاج من الذهب مكلّل بالدرّ والجوهر ، وفي يديها أساوير من اللؤلؤ ، وفي رجليها خلاخل من الذهب الأحمر ، مرصّع بالفيروزج الأخضر ، ومعها وصائف كالنجوم الزاهرات ، حافّين بها من أربع الجهات ، رافعين أصواتهنّ بالتكبير والتهليل والتقديس للملك الجليل ، فلما دخلت المجلس تلجلجت ألسنتهنّ وحارت عقولهن وقالت بعضهن (1) لبعض : مَن هذه التي أرعبت قلوبنا وأدهشت عقولنا ؟ فمنهنّ من فرّت من المجلس لما أصابته من الغمّ ، ومنهن من حملته على السحر كما قيل لأبيها في القدم ، ومنهنّ من أسلمت على يد الزهرا ، وفازت بالسعادة الكبرى ، ثم قلن : يا بنت رسول الله ، مرينا بأمرك فإنا سامعون ومطيعون .
فوا حسرتاه على ذلّها بعد أبيها ، وظلمها بعد مربّيها ، ووالهفاه لاستهضامها ،

(1) هذا هو الصحيح ، وفي النسخة : « السنتهم ... عقولهم ... بعضهم » بضمير المذكر .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 34

وتواثب ظلاّمها ، فقد غصبوها تراثها ، وحازوا ميراثها ، وأوجعوا جبينها ، وأغضبوا ربّها ، وتركوها حزينة عليلة ، ومكروبة ذليلة ، ولله درّ من قال من الرجال الأبدال (1) :
يا ابنة الطاهر كــم تقرع بالظلم عصــاك غضب الله لخطب ليلــة الطــف عراك
كــم تعرّضت لأمـر تاقــه فانتهــراك وادّعيت النحلة المشهود فيهـا بالصكــاك
كيـف لـم تقطــع يد مدّ اليك ابن صهاك فـزوى الله عــن الجنة زنديقــا زواك
ونفـى عن بابه الواسع شيطانــا نفــاك يـا قبورا بالغرييــن من الطف سقــاك
كلّ محلول عرى المرزم محلوب السمــاك فإن استغنيت من سقيا حيــا عــزّ حياك
تحت بطن الأرض حمس نفسه فوق السماك وغريب الدار يلقى موطن الطعن العــراك
خاطبـا بالرمح أو تخضب أعراف المذاكي يخرس المــوت إذا سمّتــه أفواه البواكي
بأبي في قبضة الفجّار منهم كـلّ زاكــي

روي من طريق ورقة ، عن أَمَة فاطمة عليها السلام قالت : إنه لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) إفتجع له الصغير والكبير ، وكثر عليه البكاء ، وقلّ له العزاء ، وعظم رزؤه على الأقرباء ، والأصحاب والأولياء ، والأحباب والغرباء [ والأنساب ] ، فلم تلق إلا كلّ باك وباكية ، ونادب ونادبة .
فلم يكن في أهل الأرض أشدّ حزنا وأعظم بكاءا وانتحابا من مولاتي فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، وكان حزنها يتجدد ويزيد ، وبكاؤها يشتدّ ولا يبيد ، فجلست سبعة

(1) قطعات من هذه الأبيات توجد في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16 : 235 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي