مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 148

قال : فجلس الشمر على صدره وما زال يضرب بالسيف في نحره حتى احتزّ رأسه المكرم (1) .
وكان ذلك باليوم العاشر من شهر المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة بكربلاء .
ولله درّ من قال :
حتى إذا قرب المـدى وبـه طاف الردى وتقاصر العمر
أردوه منعفـرا يمـجّ دمــا منه الضبا والذبل السمــر
تطأ الخيول إهابـه ولهــا منه إذا هي أعرضت طمـر
ظــام يبــلّ أوام غلتـه ريا بفيض نجيعـه النحــر
بأبي القتيـل ومن بمصرعه ضعف الهدى وتضاعف الكفر
بأبــي الذي أكفانه نسجت من عثيــر وحنوطـه عفر
ومغســل بدم الوريـد فلا مــاء أعـدّ لـه ولا سـدر
بــدر هوى من أوجه فبكى لخمــود نور ضيائـه البدر
هوت النســور عليه عاكفة وبكاه عند طلوعــه النسـر
وبكت ملائكة السمــاء له حزنا ووجه الأرض مغبــر

فعلى الأطائب من آل بيت محمد فليبك الباكون ، وإياهم فليندب النادبون ، وليضجّ الضاجّون ، أين الحسن وأين الحسين ؟ وأين أبناء الحسين ؟ صالح بعد صالح ، وإمام بعد إمام ، أين الخيرة بعد الخيرة ؟ أين الشموس الطالعة ؟ أين الأقمار المضيئة ؟ أين الشهب الواضحة ؟ أين الأعلام اللائحة ؟ (2) أو لا تكونون يا إخواني كمن أورت هذه المصائب الفادحة في فؤاده نيران الأحزان الجائحة فأرسل شآبيب دموعه ، وطلّق أبكار نومه وهجوعه ، ورثاه بما صوّره الخاطر

(1) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 176 ـ 177 مع اختلافات لفظية .
(2) من قوله : « فعلى الأطائب » إلى هنا اقتباس من دعاء الندبة .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 149

وأسكب عليه دمعه القاطر ، ولله دره فيما حبّر وحرر ، وصلى الله على محمد وآله الغرر .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 150

المصرع الحادي عشر

وهو مصرع الإمام الهمام زين العابدين علي بن الحسين
(عليهما السلام)

اعلموا يا أهل العقول الصافية ، وذوي الآذان الواعية ، إن الله خلق ألف صنف من الخلق وكرّم بني آدم على سائر من خلق ، وأخدمهم الملائكة ، وسخّر لهم السماوات والأرض ، وفضّل الرجال على النساء (1) وأكرمهم بالإسلام ، وفضّل الإسلام على سائر الأديان ، وشرّفه بمحمد (صلى الله عليه وآله) ، وفضّل محمدا على جميع الأنبياء بوصيه علي ، وفضّله على سائر الأوصياء بعترته ، وجعل حبّهم كمال الدين وعين اليقين .
ثم إنه جعل الخلائق عشرة أجزاء ، منهم جزء واحد الإنس وتسعة شياطين ومردة ، وجعل الإنس خمسة وعشرين صنفا (2) ، فمن ذلك الروم والصقالبة والعبس والزنج والترك والعرعر والكتمان ، والكلّ كفّار ، وبقي جزء الإسلام وهو صنف واحد ، وقد افترق على ثلاث وسبعين فرقة اثنان وسبعون منها هالكة وهم أهل البدع والضلال ، وفرقة واحدة ناجية وهم أهل الصلاح ، وهي الفرقّة التي اتبعت منهج نبيّها بعده ، وهو المنهج الذي سلكه أهل بيته وعترته ، ولا شك أنكم هم ، فأنتم الطيبون ، والشيعة الأنجبون ، وأنتم الصالحون ، لأنكم اتبعتم طريق نبيّكم الواضح ، واهتديتم بعلم عترته اللائح ، فأبشروا فهم أدلائكم على الخير

(1) هذا حسب فهم المصنف ، قال الله تعالى : «ولا تتمنوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض ، فللرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله » : 32 | النساء : 4 ، فالتفضيل هو بحسب متطلّبات حاجة الخلق ، ولا يترتب عليه فضل عند الله ، بل كل نفس بما كسبت رهينة ، وأن ليس للإنسان ما سعى « ومن يعمل الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرا » : 124 | النساء : 4 .
(2) وهذا التصنيف أيضا غير صحيح ويأباه القرآن والرسول وأهل بيته .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 151

والسعادة ، وسبب وصولكم إلى محال القرب والسيادة ، وهم العروة الوثقى التي لا انفصام لها ، والكعبة الآمنة التي لا يخاف من دخلها ، ولله درّ من قال من الرجال الأبدال على الآل شعرا ، ولقد أجاد :
بني الوحي يتلى والمناقب يجتلـى وعز المساعـي أولا بعــد أول
من البيض مستامون في كل معرك من البيض مفتول الفراعين ممتلي
بني المصطفى الهادي وحسبك نسبة تفرّع من أسمى نبـيّ ومرســل
لهم كل مجد شامــل كـل رفعة لها كل حمد شاغل كــل محفل
سحائب إفضـال بدور فضائــل كواكـب إجلال بحــور تفضّل
غيوث ليـوث يَومَي السلم والوغى حياة ممــات للعـدوّ وللولــي
فأكنافهم خضــر الربى يوم فاقة وأسيافهم حمر الشبـا يوم معضل

روى محمد بن سنان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال سمعته يقول : « نحن جنب الله وصفوته خيرته ، ونحن مستودع مواريث الأنبياء ، نحن أمناء الله ، ونحن وجه الله وراية الهدى والعروة الوثقى ، وبنا فتح الله وبنا ختم ، ونحن الأولون ، ونحن الآخرون ، ونحن أحبار الدهر ونواميس العصر وسادة العباد وساسة البلاد والنهج القويم والصراط المستقيم ، ونحن عين الوجود وحجة المعبود ، لا يقبل الله عمل عامل جهل حقنا .
نحن قناديل النبوة ومصابيح الرسالة ، ونحن نور الأنوار وكلمة الجبار ، وراية

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 152

الحق التي من تبعها نجى ومن تأخّر عنها هوى ، نحن أئمة الدين وقادة الغر المحجّلين .
نحن معدن النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، والسراج لمن استضاء ، والسبيل لمن اهتدى ، والقادة إلى الجنة .
نحن الجسور والقناطر ، والسنام الأعظم ، بنا ينزل الغيث غيث الرحمة ويندفع عذاب النقمة .
نحن عين الوجود ، وترجمان وحي المعبود ، وميزان قسطع ، وقسطاس عدله .
نحن مصباح المشكاة التي فيها نور النور ، ونحن الكلمة الباقية إلى يوم الحشر المأخوذ لها الميثاق والولاية من الذرّ
» (1) .
وروي في كتاب الأمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : « نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ملك يقال له المحمود له أربعة وعشرون ألف جناح ، وأربعة وعشرون ألف وجه ، فقال : يا محمد ، بعثني رب العزة إليك وهو يأمرك أن تزوّج النور من النور .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : مَن مِن مَن ؟
قال : فاطمة من علي .
قال فلما ولّى الملك وإذا بين يديه : « لا إله إلا الله ، محد رسول الله ، علي ولي الله .
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : منذ كم كُتب هذا الخط ؟
قال : من قبل خلق آدم بثمانية وعشرين الف عام »
(2) .

(1) رواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص 50 مع اختلافات لفظية ، وعنه المجلسي في البحار : 26 : 259 ح 36 .
(2) ما عثرت على الحديث في أمالي الصدوق والمفيد والطوسي ، وفي الباب حديث الإمام الحسين عليه السلام ، رواه الخوارزمي في المناقب : ص 340 فصل 20 ح 360 ، وابن شاذان في مئة

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 153

وروي في الكتاب المذكور مرفوعا إلى رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] أنه قال : « ما بال قوم إذا ذكر إبراهيم وآل إبراهيم استبشروا ، وإذا ذكروا أهل بيتي وآلي اشمأزّت نفوسهم ؟! فوالذي نفس محمد بيده ، لو جاء أحدكم بأعمال الثقلين ولم يأت بولاية أهل بيتي لأدخله الله النار صاغرا وحشره في جهنم خاسرا » (1) .
والحديث طويل اقتصرنا منه على ما زبر ، ولله در من قال :
يا لقومي لعصبة عصت الله واضحى لها هواها إلهـا
عجبت من فعالها الكفر ليت الدين يوما بكفرها أبقاهـا
ودعاها إلى شقاها يزيــد ويلها ما أضلّها عن هداها

=
منقبة : 58 منقبة 15 ، والإربلي في كشف الغمة : 1 : 361 في تزويجه فاطمة عليها السلام .
وحديث الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ، رواه الكليني في الكافي : 1 : 460 ح 8 من باب مولد الزهراء عليها السلام ، والصدوق في أماليه : م 86 ح 19 ، وفي معاني الأخبار : ص 103 باب معنى تزويج النور من النور : ح 1 ، وفي الخصال : ص 640 ح 17 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 3 : 398 ، والفتال في روضة الواعظين : ص 146 في عنوان مجلس تزويج فاطمة عليها السلام .
وحديث أنس ، رواه ابن حمزة في الثاقب في المناقب : ص 288 باب 4 فصل 2 ، وابن المغازلي في المناقب : ص 344 ح 396 .
(1) رواه المفيد في أماليه : م 13 ح 8 عن الصادق عليه السلام ، والطوسي في أماليه : م 5 ح 43 عن علي بن الحسين عليهما السلام ، وفي المجلس 11 ح 66 عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله مع اختلافات .
ورواه القاضي النعمان في شرح الأخبار : 2 : 495 ح 880 ، والطبري في المسترشد : ص 415 ح 280 ، والعماد الطبري في بشارة المصطفى : ص 81 عن ابن الشيخ ، عن أبيه ، وفي ص 133 عن الشيخ الطوسي ، والمجلسي في بحار الأنوار : 23 : 221 ح 23 من الباب 11 من كتاب الإمامة عن كنز جامع الفوائد ، والاسترآبادي في تفسير الآية 33 من سورة آل عمران من تأويل الآيات ، كلهم عن الباقر عليه السلام .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 154

ثم مع ذاك ترتجــى أنها منه فيـا للرجــال ما أعماهــا
يا ابـن من شرّف البراق وفاق الكل والسبعة الطبــاق طواها
ورقى حيث لا مقــرّب يرقى لا ولا مرسل هنالــك فاهـا
قاب قوسين ذق معنـى فيــا لله معنـى مقــام أو أدناهـا
إن تمنّى العدى لك النقص بالقتل فقد كان فيــه عكس مُناهــا
حاولـت نيلهــا علاك فأعياها وأنى مـن الثريــا ثراهــا
فأتاحت لك السيوف فجــاءت لك تُهــدى من العلا أعلاهـا
أين من مجدك المنيع الأعـادي وبك الله في العبــاءة باهــا
مجدك الفاخــر الذي شيّدتـه آل عمرانهـا وأخت سباهــا

روي في كتاب محمد بن جرير الطبري أنه لما ورد سبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بن الخطاب بيع النساء وأن يجعل الرجال عبيدا ، فقال له أميرالمؤمنين (عليه السلام) : إن رسول الله قال : « أكرموا كريم كل قوم » .
فقال عمر وأنا سمعته يقول : « إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وإن خالفكم » .
فقال له أميرالمؤمنين (عليه السلام) : « إنّ هؤلاء قد القو إليكم السلم ورغبوا في

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 155

الإسلام ، ولابد أن يكون لهم فيه ذرية (1) ، وأنا أشهد الله وأشهدكم أني أعتقت نصيبي منهم لوجه الله تعالى » .
فقال جميع بني هاشم : قد وهبنا حقنا لك يا أميرالمؤمنين .
فقال (عليه السلام) : « اللهم اشهد أني قد وهبت ما وهب لي لوجه الله تعالى » .
فقال المهاجرون والأنصار : نحن قد وهبنا حقنا لك يا أخا رسول الله .
فقال : « اللهم اشهد أنهم قد وهبوا لي حقهم ، وأنا أشهدك أنّي أعتقتهم لوجهك » .
فقال له عمر : لِمَ نقضتَ عليّ عزمي في الأعاجم ؟ وما الذي رغّبك عني فيهم ؟ فأعاد عليه ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في إكرام الكرماء .
فقال عمر : قد وهبت لله ولك يا أبا الحسن ما يخصّني وسائر الذي لم يهبوه لك .
فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) « اللهم اشهد على ما قاله وعلى عتقي إياهم » .
فرغب جماعة من قريش في استنكاح النساء ، فقال أميرالمؤمنين : « هنّ لا يكرهن في ذلك ، ولكن يخترن ، فما اخترنه عمل به » .
فأشار جماعة إلى شهربانو بنت كسرى ، فخيّرت وخوطبت من وراء الحجاب والجمع حضور ، قيل لها : من تختارين من خطّابك ؟ وهل أنت ممن تريدين بعلا ؟ فسكتت .
فقال (عليه السلام) : « قد أرادت وبقي الاختيار » .
فقال عمر : وما أعلمك بإرادتها البعل .
فقال أميرالمؤمنين : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان إذا أتته كريمة قوم لا وليّ لها وقد خطبت ، يأمر أن يقال لها : أنت راضية بالبعل فإن استحيت وسكتت جعل صمتها إذنها وأمر بتزويجها ، وإن قالت لا ، لم تكره على ما تختاره » .
وإن شهربانو اُريت الخطاب فأومت بيدها واختارت الحسين بن علي ، فأعيد القول عليها في التخيير ثانية ، فأشارت بيدها إليه فقال : « هذا إن كنت مخيرة » ،

(1) في المصدر : « ولابد أن يكون لي منهم ذرية » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 156

وجعلت أميرالمؤمنين (عليه السلام) وليها ، فزوجها من الحسين (1) .

(1) رواه الطبري الصغير في دلائل الإمامة : ص 194 ح 111 | 1 في عنوان : « خبر أمه والسبب في تزويجها » قال : أخبرني أبو الحسين محمد بن هارون بن موسى قال : حدثني ابي قال : حدثنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن محمد بن مخزوم المقرئ مولى بني هاشم قال : حدثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد العامري التمار بالكوفة قال : حدثنا يحيى بن الحسن بن الفرات قال : حدثنا عمرو بن أبي المقدام ، عن سلمة بن كهيل ، عن المسيب بن نجبة قال : لما ورد سبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بن الخطاب بيع النساء ، وأن يجعل الرجال عبيدا للعرب ، وأن يرسم عليهم أن يحملوا العليل والضعيف والشيخ الكبير في الطواف على ظهورهم حول الكعبة ، فقال أميرالمؤمنين عليه السلام : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : « أكرموا كريم كل قوم » .
فقال عمر : قد سمعته يقول : « إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وإن خالفكم » .
فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام : « فمن أين لك أن تفعل بقوم كرماء ما ذكرت ؟ إنّ هؤلاء قوم قد ألقوا إليكم السلم ورغبوا في الإسلام والسلام ، ولابدّ من أن يكون لي منهم ذريّة ، وأنا أشهد الله وأشهدكم أنّي قداعتقت نصيبي منهم لوجه الله » .
فقال جمع بني هاشم : قد وهبنا حقّنا أيضا لك . فقال : « اللهم اشهد أنّي قد أعتقت جميع ما وهبونيه من نصيبهم لوجه الله » .
فقال المهاجرون والأنصار : قد وهبنا حقنا لك يا أخا رسول الله . فقال : « اللهم اشهد أنهم قد وهبوا حقهم وقبلته ، واشهد لي بأنّي قد اعتقتهم لوجهك » .
فقال عمر : لِمَ نقضتَ عليّ عزمي في الأعاجم ؟ وما الذي رغّبك عن رأيي فيهم ؟
فأعاد عليه ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله في إكرام الكرماء ، وما هم عليه من الرغبة في الإسلام ، فقال عمر : قد وهبت لله ولك يا أبا الحسن ما يخصّني وسائر ما لم يوهب لك .
فقال أميرالمؤمنين عليه السلام : « اللهم اشهد على ما قالوه وعلى عتقي إيّاهم ، فرغبت جماعة من قريش في أن يستنكحوا النساء ، فقال أميرالمؤمنين عليه السلام : « هؤلاء لايكرَهن على ذلك ولكن يخيّرن ، فما اخترنه عمل به » .
فأشار جماعة الناس إلى شهربانوية بنت كسرى ، فخيّرت وخوطبت من وراء حجاب والجمع حضور ، فقيل لها : من تختارين من خطّابك ؟ وهل أنت ممن تريدين بعلا ؟ فسكتت .
فقال أميرالمؤمنين عليه السلام : « قد أرادت وبقي الاختيار » .
فقال عمر : وما علمك بإرادتها البعل ؟

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 157

فيا إخواني ، ها هنا نكتة غريبة ، وضميمة عجيبة ، وذلك لأنه جرى في علم الله ربّ الأرباب بأن يخرج منها الأئمة الأنجاب ، باب الحكمة وفصل الخطاب ، وما ذلك إلا لجلالة قدرها وقدم شرفها وفخرها ، فيا لها من مرتبة تقاصرت عنها خواتين الجلال ، وانحسرت عن إدراكها مخدّرات الكمال ، فطوبى لشهربانو فلقد حازت الشرفين ، وفازت بالحسنين ، وسعدت بحمل الغطارفة الميامين ، وما ذاك إلا من التوفيق الرباني ، والفضل السبحاني ، «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم » (1) .
وإن غلاما بين كسـرى وهاشم لأكرم من نيطت عليه التمائم

=
فقال أميرالمؤمنين عليه السلام : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان إذا أتته كريمة قوم لا وليّ لها وقد خطبت أمر أن يقال لها : أنت راضية بالبعل ؟ فإن استحيت وسكتت جعل إذنها صُماتها وأمر بتزويجها ، وإن قالت : لا ، لم تكره على ما لا تختاره » .
وإن شهربانوية أريت الخطاب وأومأت بيدها وأشارت إلى الحسين بن علي ، فأعيد القول عليها في التخيير ، فأشارت بيدها وقالت بلغتها : « هذا إن كنت مخيرة » ، وجعلت أميرالمؤمنين عليه السلام وليها ، وتكلم حذيفة بالخطبة ، فقال أميرالمؤمنين عليه السلام : « ما اسمك » ؟
قالت : شاه زنان .
قال : « نه ، شاه زنان نيست مگر دختر محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي سيدة النساء ، أنت شهر بانويه وأختك مرواريد بنت كسرى » .
قالت : آرية .
وروي أن شهر بانوية وأختها مرواريد خيّرتا ، فاختارت شهربانوية الحسين عليه السلام ، ومرواريد الحسن عليه السلام .
ورواه عنه جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي في الدر النظيم : ص 579 .
ورواه الكليني في الكافي : 1 : 466 كتاب الحجة باب مولد علي بن الحسين عليهما السلام ، وعنه علي بن يوسف الحلي في العدد القوية : ص 57 .
(1) سورة الحديد : 57 : 21 ، والجمعة : 62 : 4 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 158

هو النور نور الله موضع سره وموضع ينبوع الإمامة عالم
بما كان في التكوين أو هو كائن من الله قد عدت إليه المكارم
فلولاه ساخت هذه الأرض بالورى ولولاه ما قرّت هناك العوالم

روي في كتاب المجالس أنّ مولد الإمام السجاد كان في يوم الخميس خامس شهر شعبان سنة ثلاث وثلاثين (1) .
وجرت له (عليه السلام) بعد مولده معاجز أبهرت عقول أولى الألباب ، وكلّت عن حصرها أقلام الكتاب ، وظهرت له مناقب ملأت الأصقاع ، وطبّقت الفجاج والبقاع ، وكم له مع ربه حالات انفرد بها ، وكم جرت له مناجاة فاز بفرضها وندبها ، فمن ذلك ما تناقله عنه الرواة وحدّث به جملة من الثقات أنه (عليه السلام) خرج ليلة من الليالي ، وكانت ليلة طخياء اشتدّ ظلامها ، واستوحشت آكامها ، فتعلّق بأستار الكعبة ، وجعل يناجي ربه :
يـا ذا المعالي عليك معتمدي طوبى لعبـد تكـون مولاه
طوبى لمـن بات خائفا وجلا يشكو إلى ذي الجلال بلواه
إذا خلا في الظــلام مبتهلا أكــرمه ربــه ولبّــاه

(1) ورواه الكليني في الكافي : 1 : 466 في كتاب الحجة باب مولد علي بن الحسين عليهما السلام ، وعلي بن يوسف الحلي في العدد القوية : ص 55 عن كتابي الدر والتذكرة ، وابن الخشاب في مواليد الأئمة ووفياتهم ( مجموعة نفيسة : ص 178 ) ، والمفيد في الإرشاد : 2 : 137 ، والإربلي في كشف الغمة : 2 : 285 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 159

فإذا بالنداء داخل الكعبة وقائلا يقول :
لبيــك لبيك أنت في كنفي وصوتك اليوم قد سمعناه
صوتك تشتــاقه ملائكتي وعــذرك اليوم قد قبلناه
فاسأل بلا دهشة ولا وجل ولا تخف إنني أنا الله (1)

وروي في الأمالي أنه (عليه السلام) إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه وأصابته رعدة ، ولقد انغمر في بحار العبادات حتى تحدّث بها عنه العبّاد ، وارتمس في لجّ الزهد حتى استحقرت زهدها لديه الزهّاد ، كما حكى طاووس الفقيه قال : كنت أطوف بالكعبة ليلة من الليالي ، فإذا شابّ ظريف الشمائل ، وعليه ذؤابتان ، وهو متعلق

(1) وروى نحوه ابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 76 في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام عن عيون المحاسن أنه ساير أنس بن مالك فأتى قبر خديجة فبكى ، ثم قال : « اذهب عني » ، قال أنس فاستخفيت عنه ، فلما طال وقوفه في الصلاة سمعته قائلا :
يا ربّ يا ربّ أنـت مولاه فــارحم عبيدا إليك ملجاه
يا ذا المعالي عليك معتمدي طوبى لمن كنت أنت مولاه
طوبى لمن كان خائفا أرقا يشكو إلى ذي الجلال بلواه
ومـا بــه علة ولا سقم أكثــر مــن حبّه لمولاه
إذا اشتكى بثّــه وغصّته أجابــه الله ثــم لبّـاه
إذا ابتلى بالظلام مبتهـلا أكرمه الله ثــم أدنـــاه

فنودي :
لبيك لبيك أنت فــي كنفـي وكــل ما قلت قد علمناه
صوتك تشتاقــه ملائكتـي فحسبك الصوت قد سمعناه
دعاك عندي يجول في حجبه فحسبك الستـر قد سفرناه
لو هبت الريح في جوانبــه خرّ صريعا لمــا تغشاه
سلني بلا رغبة ولا رهــب ولا حساب إني أنــا الله

ورواه عنه البحراني في العوالم : ص 68 في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ، والمجلسي في البحار : 44 : 193 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 160

بالكعبة وهو يقول : « نامت العيون وغارت النجوم ، وأنت الحي القيوم ، وغلّقت الملوك عليها أبوابها ، وطاف عليها حرّاسها ، وأبوابك مفتّحة للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعرصات القيامة » .
ثم بكى وقال : «عزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكّ ، ولا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرّض ، ولكن سوّلت لي نفسي ، وغلبني هواي ، وغرّني سترك المرخى عليّ ، فالآن من عذابك من يستنقذني ، وبحبل من أعتصم إن أنت قطعت حبلك عني ؟
فوا سوأتاه غدا من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفّين : جوزوا ، وللمثقلين : حطّوا ، أمع المخفّين أجوز أم مع المثقلين أحطّ ؟
ويلي ، كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم اتب ، أما آن لي أن أستحيي من ربي
» ؟!
ثم بكى وأنشأ يقول :
أتحرقني بالنار يا غايــة المنــى فأين رجائي ثـم أيــن مخافتــي
أتـيـت بأعمــال قبــاح ردّيـة فما في الـورى شخص جنى كجنايتي

ثم إنه بكى وقال : « سبحانك تُعصى كأنك لا ترى ، وتحلم كأنك لم تعص ، تتودّد إلى خلقك بحسن الصنع كأنّ بك حاجة إليهم ، وأنت يا سيّدي الغنيّ عن ذلك » .
ثم خرّ إلى الأرض ساجدا . قال : فدنوت منه ، وشلت رأسه ووضعته في حجري ، وبكيت حتى جرت دموعي على خدّه (عليه السلام) ، فاستوى جالسا فقال : « من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربي » ؟
فقلت : أنا طاووس يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ما هذا الجزع والفزع ، ونحن

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 161

يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون ، أبوك الحسين بن علي ، وأمك فاطمة الزهراء وجدك رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
قال : فالتفت إليّ وقال : « هيهات هيهات يا طاووس ، دع عنك حديث أبي وأمي وجدي ، خلق الله الجنة لمن أطاعه وخلق النار لمن عصاه ، أما سمعت قوله تعالى : «فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون»(1) » . (2)
وكم له من مكارم أخلاق جلبت النفوس إليها ، ومن عبادات ودعوات للملك الخلاق صغت العقول من ذوي العقول ولوّت أعضادها عليها ، كما روى عن أبي خالد الكابلي قال : لقيني يحيى ابن أمّ طويل رفع الله درجته ، وهو ابن داية زين العابدين (عليه السلام) ، فأخذ بيدي وقال : نمضى إلى سيدنا علي بن الحسين (عليه السلام) ، فصرت معه إليه ، فلما دخلنا عليه رأيته في بيت مفروش بالمعصفر مكلّس الحيطان وعليه ثياب مصبّغة ، فلم أطل عنده الجلوس لما رأيت عليه من الثياب ، فلما نهضت قال لي (عليه السلام) : « صر إليّ في غد إن شاء الله » .
فخرجت من عنده وقلت ليحيى : أدخلتني على رجل يلبس المصبّغات ؟! وعزمت أن لا أرجع إليه ، ثم إني فكّرت في أنّ رجوعي إليه لا يضرّ بي ، فصرت إليه في غد فوجدت الباب مفتوحا ولم أر أحدا ، فهممت بالرجوع فناداني من داخل الدار فظننت أنه يريد غيري ، فصاح بي : « يا كنكر ادخل » . وهذا اسم كانت أمي سمتني به لا يعرفه غيري وغيرها أحد ، فدخلت عليه فوجدته جالسا في بيت مطيّن على حصير من البردي وعليه قميص من الكرابيس وعنده يحيى ، فقال : « يا أبا خالد ، إني قريب عهد بعروس ، وإن الذي رأيته بالأمس من زيّ المرأة (3) ولم أرد مخالفتها » .

(1) سورة المؤمنون : 23 : 101 .
(2) رواه ابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 163 في زهده عليه السلام مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وزاد في آخره بعد ذكر الآية : « والله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح » .
(3) في عيون المعجزات : « من رأي المرأة » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 162

ثم قام وأخذ بيدي ويد يحيى ومضى بنا إلى بعض الغدران وقال : « بسم الله الرحمن الرحيم » ، ومشى على الماء ونحن ننظر إليه حتى رأينا كعبه يلوح على الماء فقلت : الله أكبر ، أنت الكلمة الكبرى ، والحجة العظمى ، صلوات الله عليك .
فالتفت إلينا وقال : « ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المدخل فينا مَن ليس منّا ، والمخرج منّا من هو منّا ، والقائل إن لهذين الصنفين في الإسلام نصيبا » (1) (2) .
وروي في كتاب المجالس أنه عليه السلام أقبلت إليه ظبية وشكت إليه أن الصياد أخذ ابنها وهي لم ترضعه ، فدعا عليه السلام بالصياد وأقسم عليه بردّ ابنها ، فلما رأته جمجمت دمعتها وجرت فوق وجنتها وقال : أشهد أنك من أهل بيت الرحمة ، وأنّ بني أمية من أهل بيت اللعنة والعذاب (3) .

(1) في عيون المعجزات : والقائل أنّ لهما في الإسلام نصيبا . أعني هذين .
(2) ورواه الشيخ حسين بن عبدالوهاب في عيون المعجزات : ص 76 ، وعنه المجلسي في البحار : 46 : 102 ح 92 من باب مكارم أخلاقه وعلمه عليه السلام .
(3) وقريبا منه رواه الصفار في بصائر الدرجات : ص 350 الباب 15 من الجزء 7 ح 10 قال : حدثنا الحسين بن علي ومحمد بن أحمد بن محمد بن الحسين ، عن محمد بن علي وعلي بن محمد الحنّاط ، عن محمد بن سكن ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر قال : بينا علي بن الحسين مع أصحابه إذ أقبل ظبية من الصحراء حتى قامت حذاه وصوّتت ، فقال بعض القوم : يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله ، ما تقول هذه الظبية ؟ قال : « يزعم أنّ فلانا القرشي أخذ خشفها بالأمس ، وإنها لم ترضعه من أمس شيئا » . فبعث إليه علي بن الحسين عليه السلام : « أرسل إليّ بالخشف » ، فلما رأت صوتت وضربت بيديها ثم أرضعته . قال : فوهبه علي بن الحسين عليه السلام لها وكلمها بكلام نحوا من كلامها ، وانطلقت في الخشف معها ، فقالوا : يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله ، ما الذي قال ؟ قال : « دعت الله لكم وجزاكم بخير » .
ورواه المفيد في الاختصاص : ص 299 في أنهم يعرفون منطق الحيوانات ، وعنهما المجلسي في البحار : 46 :240 ح 6 من باب معجزاته ومعالي أموره عليه السلام .
ورواه الراوندي في الخرائج والجرئح : 1 : 259 ح 4 من معجزاته عليه السلام ، والإربلي في كشف

=


السابق السابق الفهرس التالي التالي