مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 134

ثم برز من بعده محمد بن عبدالله بن جعفر الطيار ، فقاتل حتى قتل عشرة أنفس ، ثم قتله عامر بن نهشل التميمي (1) .
ثم برز من بعده عون بن عبدالله بن جعفر ، فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه (2) .
ثم خرج من بعده القاسم بن الحسن (عليه السلام) وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم كان وجهه فلقة القمر ، فلما نظر الحسين (عليه السلام) إليه اعتنقه وجعلا يبكيان حتى غشى عليهما ، فلما أفاقا استأذن القاسم الحسين في البراز ، فأبى أن يأذن له ، فلم يزل الغلام يقبّل يديه ورجليه حتى أجازه ، فخرج ودموعه تسيل على خدّيه ، فكرّ على الجموع ، بالصارم اللموع ، وهو ينشد ويقول :
إن تنكروني فأنـا ابن الحسـن سبط النبيّ المصطفى والمؤتمن
هذا حسين كالأسيـر المرتهـن بين أناس لاسقوا صوب المزن

فقاتل قتالا يحيّر عقول أرباب العقول وصبر على احتساء كأس البلاء المهول ، حتى قتل على صغر سنه وشدّة عطشه خمسة وستين رجلا .
قال حميد بن مسلم : كنت في عسكر ابن سعد ، وكنت أنظر إلى هذا الغلام وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما ، ما أنسى أنها كانت اليسرى ، فقال عمر بن سعد الأزدي : والله لأشدّنّ عليه .

(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 26 ، وفيه : فحمل وهو يقول :
نشكو إلى الله من العدوان فِعال قوم في الردى عميان
قد تركـوا معالم القرآن وأظهروا الكفر مع الطغيان

وأشار إليه أبو مخنف في وقعة الطف : ص 247 ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص 95 ، والمفيد في الإرشاد : 2 : 107 .
(2) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 27 وفيه : فحمل وهو يقول :
إن تنكروني فأنا ابن جعفر شهيد صدق في الجنان أزهر
يطير فيها بجنان أخضـر كفـى بهذا شرفـا في معشر

فقاتل حتى قتل ، قيل : قتله عبدالله بن قطبة .
وانظر وقعة الطف لأبي مخنف : ص 246 ، وإرشاد المفيد : 2 : 107 ، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج : ص 95 وفيه : أمه زينب العقيلة بنت علي بن أبي طالب عليه السلام .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 135

فقلت له : سبحان الله ، وما تريد بذلك ؟ أما والله لو ضربني ما بسطت يدي إليه بسوء ، يكفيك هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه .
فقال : والله لأقتلنّه . فشدّ عليه ، فما ولي حتى ضرب رأسه بالسيف ، فوقع الغلام لوجهه وصاح : « يا عماه » . فجلى الحسين عنه كما يجلى الصقر ، ثم شدّ شدّة ليث مغضب ، فضرب عمرا قاتل القاسم بالسيف ، فاتّقاده بيده فأطنّها من المرفق ، فصاح صيحة هائلة ، فحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمرا من الحسين عليه السلام فوطأته الخيل حتى هلك لا رحمه الله تعالى .
قال حميد بن مسلم : فانجلت الغبرة وإذا بالحسين (عليه السلام) قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجله الأرض والحسين يقول : « بعدا لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة جدك وأبوك » .
ثم قال : « قد عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا يغني عنك شيئا ، هذا يوم والله كثر واتره وقلّ ناصره » . ثم حمله صلوات الله عليه على صدره .
قال حميد : كأني أنظر إلى رِجلي الغلام تخطان في الأرض وقد وضع صدره على صدره ، فقلت في نفسي : ما يريد أن يصنع به ؟ فجاء حتى وضعه بين القتلى من أهل بيته (1) .
ثم برز من بعده أخوه عبدالله بن الحسن عليه السلام فقاتل قتالا شديدا حتى قتل أربعة عشر رجلا ، ثم قتله هانئ بن ثبيت الحضرمي (2) .

(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 27 مع اختلافات لفظية .
ورواه أبو مخنف في وقعة الطف : ص 244 وعنه الطبري في تاريخه : 5 : 447 .
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 107 ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص 92 ، والسيد بن طاووس في الملهوف : ص 167 .
رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 28 وفيه : وهو يقول :
إن تنكروني فأنا ابن حيدرة ضرغام آجام وليث قسورة

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 136

ثم برز من بعده اخوه أبو بكر بن الحسن (عليه السلام) فقتله عقبة الغنوي (1) .
ثم برز من بعده علي بن الحسين ، وكان من أصبح الناس وجها ، وأحسنهم خلقا ، فاستأذن أباه في القتال فأذن له ، ثم نظر إليه الحسين نظرة آيس منه وأرخى (عليه السلام) عينيه على خدّيه وبكى ، ثم قال : « اللهم اشهد عليهم أنه قد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك خلقا وخُلقا ومنطقا وسمتا » (2) .
قال الراوي : فتقدم عليّ نحو القوم ونظر إلى صفوفهم فشدّ عليه بسيفه وهو

=
على الأعادي مثل ريح صرصرة أكيلكــم بالسيف كيل السندرة

وانظر وقعة الطف لأبي مخنف : ص 249 ، وتاريخ الطبري : 5 : 468 ، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج : ص 93 ، وذكروا أنّ قاتله حرملة بن كاهل الأسدي رماه بسهم فقتله .
(1) رواه أبو مخنف في وقعة الطف : ص 248 وفيه : ورمى عبدالله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسن بن علي بسهم فقتله . ومثله في تاريخ الطبري : 5 : 448 .
(2) قال الخوارزمي في المقتل 2 : 30 : فتقدم علي بن الحسين وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي ، وهو يومئذ ابن ثمان عشرة سنة ، فلما رآه الحسين رفع شيبته نحو السماء وقال : « اللهم أشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا وخُلقا ومنطقا برسولك محمد صلى الله عليه [ وآله و ] سلم ، كنا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه ، اللهم فامنعهم بركات الأرض وإن منعتهم ففرّقهم تفريقا ومزّقهم تمزيقا واجعلهم طرائق قددا ولا ترض الولاة عنهم أبدا ، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا ليقاتلونا ويقتلونا » .
ثم صاح الحسين بعمر بن سعد : « ما لك قطع الله رحمك ولا بارك لك في أمرك ، وسلّط عليك من يذبحك على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله » .
ثم رفع صوته وقرأ : «إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم »» [ 33 : آل عمران | 3 ] .
ثم حمل علي بن الحسين وهو يقول :
أنا علي بن الحسين بن علي نحن وبيـت الله أولى بالنبي
والله لا يحكم فينا ابن الدعي أطعنكم بالرمـح حتى ينثني
أضربكم بالسيف حتى يلتوي ضرب غلام هاشمـي علوي
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 137

يرتجز ويقول :
أنا علي بن الحسيــن بن علي من عصبــة جد أبيهـم النبي
والله لا يحكم فينا ابن الدعــي أطعنكم بالرمح حتـى ينثنــي
أضربكم بالسيف أحمي عن أبي ضرب غلام هاشمــي علوي

فلم يزل يقاتل حتى ضجّ الناس لكثرة من قتل منهم ، حتى روي أنه قتل على ماهو فيه من العطش مئتين وعشرين رجلا ، ثم رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة ، فقال : يا أبت ، العطش قد قتلني ، وثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربة من الماء سبيل أتقوّى بها على الأعداء ؟
فبكى الحسين (عليه السلام) وقال : « واغوثاه ، يا بُني قاتل قليلا فما أسرع أن تلقى جدك محمدا (صلى الله عليه وآله) فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبدا » .
ثم قال : « يعزّ على محمد وعليّ أن تدعوهما فلا يجيبوك ، وتستغيث بهما فلا يغيثوك ، يا بُني ، هات لسانك » .
فأخذ لسانه فمصّه ودفع إليه خاتمه وقال : « أمسكه في فيك وارجع إلى قتال عدوك » . فرجع إلى القتال وشدّ على الرجال وهو يقول :
الحرب قد بانت لها الحقائق وظهرت من بعدها المصادق
والله رب العرش لا نفارق جموعكـم أو تغمد البوارق

فلم يزل يقاتل حتى قتل تمام ثلاث مئة ، ثم ضربه مرة من منقذ العبدي على مفرق رأسه ضربة صرعته وتناوشه الناس بأسيافهم ، ثم إنه اعتنق فرسه فاحتمله الفرس إلى عسكر الأعداء فقطّعوه بأسيافهم إربا إربا ، فلما بلغت روحه التراقي نادى رافعا صوته : « يا أبتاه ، هذا جدي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبدا ، وهو يقول : العجل العجل ، فإنّ لك كأسا مذخورة حتى تشربها الساعة » .
فصاح الحسين (عليه السلام) وقال : « قتل الله قوما قتلوك ، ما أجرأهم على الرحمان وعلى انتهاك حرمة الرسول ، على الدنيا بعدك العفا » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 138

قال حميد بن مسلم : فكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة تنادي بالويل والثبور ، وتقول : واحبيباه ، يا ثمرة فؤاداه ، يا نور عيناه ، يا ابن أخاه . فسألت عنها ، قيل لي : هي زينب بنت علي ، وجاءت وانكبّت على جسد علي بن الحسين (عليه السلام) ، فجاء الحسين إليها وأخذ بيدها وردها إلى الفسطاط ، وأقبل (عليه السلام) بباقي فتيانه وقال : « احملوا أخاكم رحمكم الله » . فحملوه من مصرعه فجاءوا به حتى وضعوه عند الفسطاط (1) .
ثم خرج من بعده أبو بكر بن علي ، واسمه عبدالله ، فلم يزل يقاتل حتى قتله زحر بن بدر النخعي وعبدالله بن عقبة الغنوي (2) .
ثم برز من بعده عمر بن علي وحمل على زحر قاتل أخيه فقتله واستقبل القوم ، فلم يزل يقاتل حتى قُتل (3) .

(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 30 .
ورواه أبو مخنف في وقعة الطف : ص 241 وعنه أبوالفرج في مقاتل الطالبيين : ص 115 ، والمفيد في الإرشاد : 2 : 106 ، وابن طاوس في الملهوف : ص 166 .
وانظر الكامل لابن الأثير : 4 : 74 .
(2) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 28 وفيه : ثم تقدم إخوة الحسين عليه السلام عازمين على أن يقتلوا من دونه ، فأول من تقدم منهم أبو بكر بن علي واسمه عبدالله ، وأمه ليلى بنت مسعود بن خالد بن ربعي بن مسلم بن جندل بن نهشل بن دارم التيمية ، فبرز أبوبكر وهو يقول :
شيخي عليّ ذو الفخـار الأطـول من هاشم الصدق الكريم المفضل
هذا الحسين ابن النبــي المرسل نذود عنـه بالحســام الفيصل
تفديـه نفسـي من أخ مبجّــل يا ربّ فامنحنـي ثواب المجزل

فحمل عليه زحر بن قيس النخعي فقتله ، وقيل : بل رماه عبدالله بن عقبة الغنوي فقتله .
وانظر مقاتل الطالبيين لأبي الفرج : ص 91 .
(3) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 28 وفيه : ثم خرج من بعد أبي بكر بن علي أخوه عمر بن علي ، فحمل وهو يقول

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 139

ثم برز من بعده عثمان بن علي ، وحمل على القوم وهو يقول :
إني أنـا عثمان ذو المفاخر شيخي عليّ ذو الفعال الطاهر
وابـن عم للنبي الطاهــر أخي حسين خيرة الأخايــر
وسيــد الكبار والأصاغر بعد الرسول والوصي الناصر

فلم يزل يقاتل حتى رماه حرملة بن كاهل ، وقيل : خولّي بن يزيد ، على جبينه ، فسقط عن جواده ، واحتزّ رأسه رجل من أبان بن دارم(1) .
ثم برز من بعده أخوه جعفر بن علي ، فجاهد وأبلغ في الجهاد ورتّب قواعد الضرب والجلاد ، فرماه خولّي الأصبحي فسقط إلى الأرض فمات (2) ، فعندها

=
أضربكم ولا أرى فيكم زحـر ذاك الشقــي بالنبــي قد كفـر
يا زحر يا زحر تدان من عمر لعلك اليــوم تبــوء بسقــر
شر مكان في حريـق وسعـر فإنـك الجاحـد يا شر البشــر

ثم قصد قاتل أخيه فقتله ، وجعل يضرب بسيفه ضربا منكرا ويقول في حملاته :
خلّوا عداة الله خلّوا عن عمر خلوا عن الليث العبوس المكفهر
يضربكم بسيفـه ولا يفــر وليس يغــدو كالجنان المنحجر

ولم يزل يقاتل حتى قتل .
(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 29 .
ورواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص 89 وفيه : قتل عثمان بن علي وهو ابن إحدى وعشرين سنة ، وقال الضحاك المشرفي في الإسناد الأول الذي ذكرناه آنفا أن خولي بن يزيد رمى عثمان بن علي بسهم فأوهطه ، وشد عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله ، وأخذ رأسه .
وعثمان بن علي الذي روى عن علي أنه قال : «إنما سميته باسم أخي عثمان بن مضعون » .
(2) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 29 وفيه : ثم خرج من بعده أخوه جعفر بن علي وأمه أم البنين أيضا وهو يقول :
إني أنا جعفر ذو المعـالي نجل علي الخير ذو النوال
أحمي حسينا بالقنا العسّال وبالحسام الواضح الصقال

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 140

صاح الحسين (عليه السلام) : « صبرا يا بني عمومتي ، صبرا يا أهل بيتي ، فوالله لا رأيتم بعد هذا اليوم هوانا » (1) .
وروى النعماني في غيبته (2) ان الحسين لما راى مصارع فتيانه وأحبّته عزم على لقاء القوم بمهجته ونادى : « هل من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله ؟ [ هل من موحّد يخاف الله فينا ؟ ] (3) هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا ؟ هل من معين يرجو ما عند الله بإعانتنا » ؟
فارتفعت أصوات النساء بالعويل ، فتقدم الى باب الخيمة وقال لزينب : « ناوليني ولدي الصغير حتى أودّعه » .فأخذه فأومأ إليه ليقبّله ، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه ، فقال الحسين (عليه السلام) لزينب : « خذيه » ، ثم تلقّى الدم بكفيه ، فلما امتلأتا رمى بالدم إلى نحو السماء ثم قال : « هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله » .
قال الباقر (عليه السلام) : « فلم يسقط من ذلك الدم قطرة واحدة » (4) .
ثم إنه دنى من الخيمة ونادى : « يا سكينة ، يا فاطمة ، يا زينب ، يا أم كلثوم ، عليكنّ مني السلام » .
فنادته سكينة : استسلمت للموت يا أبت ؟
قال : « كيف لا يستسلم من لا ناصر له ولا معين » .
فقالت : يا أبت ، ردّنا إلى حرم جدّنا رسول الله .

=
ثم قاتل حتى قتل .
وانظر مقاتل الطالبيين لأبي الفرج : ص 88 .
(1) رواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 167 .
(2) ما عثرت على الحديث في غيبة النعماني ، وله مصادر كما سيأتي .
(3) من الملهوف .
(4) رواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 168 وفيه : « قطرة إلى الأرض » .
ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 32 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 141

فقال : « هيهات ، لو ترك القطا لنام » .
فتصارخن النساء ، فسكتهنّ (1) ، ثم خرج ونادى : « قرّبن إليّ فرسي واسردنّ عليّ سلاحي » . فقرّبن إليه فرسه فركب ووقف قبالة القوم وسيفه مصلت في يده آيسا من الحياة عازما على الموت وهو يقول :
أنا ابن عليّ الطهر من آل هاشــم كفانــي بهذا مفخـرا حين أفخر
وجدّي رسول الله أكـرم من مشـى ونحن سراج الله في الأرض نزهر
وفاطم أمـي مـن سلالــة أحمـد وعمّي يدعـى ذو الجناحيـن جعفر
وفنيا كتــاب الله أنـزل صادقـا وفينا الهدى والوحي بالخيـر يذكر
ونحـن أمـان الله للخلــق كلهم نسـرّ بهذا فـي الأنـام ونجهــر
ونحن ولاة الحوض نسقي محبنـا بكأس رسـول الله ما ليس ينكــر
وشيعتنـا في النـاس أكـرم شيعة ومبغضنـا يوم القيــامة يخسـر

قال : ثم إنه عليه السلام دعا الناس الى البراز ، فلم يزل يقتل كل من دنا منه من عيون الرجال حتى قتل منهم مقتلة عظيمة ، ثم حمل على الميمنة وهو يقول :
الموت خير من ركوب العـار والعار أولى (2) من دخول النار

فقتل منهم ما شاء الله ، ثم حمل على الميسرة وهو ينشد ويقول :
أنــا الحسيــن بن علي آليــت أن لا أنــثنــي
أحمـي عيــالات أبــي أمضي على دين النبــي (3)

قال الراوي : واشتدّ العطش بالحسين ، فركب المسناة (4) يريد الفرات وأخوه

(1) إلى هنا رواه المجلسي في البحار : 45 : 47 عن بعض الكتب ولم يذكر اسمه .
(2) في الهامش عن نسخة : « خير » .
(3) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 32 و 33 ، والإربلي في كشف الغمة : 2 : 231 مع اختلافات لفظية ، والمجلسي في البحار : 45 : 48 ـ 49 بدون اسناد إلى كتاب معين مع اختلافات في الألفاظ .
(4) المسناه : تراب عال يحجز بين النهر والأرض الزراعية . ( تاج العروس : 10 : 185 « سنى » ) .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 142

العباس معه ، فاعترضه خيل ابن سعد لعنه الله واقتطعوا عنه أخاه العباس ، فكمن له زيد بن ورقاء وحكيم بن الطفيل فقتلاه ، فلما قتل العباس بكى الحسين بكاءا شديدا ونادى : « الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي » (1) .
وفي ذلك يقول الشاعر :
اليوم آل إلـى التفــرّق جمعنـا اليــوم حلّ من البنـود نظامها
اليوم سار عن الكتائــب كبشهـا اليوم بان عن اليميــن حسامها
وتسهّدت أخـرى فعــزّ منامها اليوم نامت أعيـن بك لــم تنـم
أشقيق روحـي هل تراك علمت إذ غودرت وانثالـت عليك لئامهـا
إن خلت طبقت السماء على الثرى أو دكدكت فوق الربـى أعلامها
لكن أهان الخطـب عندي أنّنــي بك لاحق أمر قضى علامهــا

قال حميد بن مسلم : فوالله ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده وأنصاره وأصحابه أربط جأشا منه ، وإنه كانت الرجال تشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، ولقد كان ـ صلوات الله عليه ـ يحمل فيهم فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر ، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول : « لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » (2) .

(1) رواه ابن طاوس في الملهوف : ص 170 .
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 109 .
(2) رواه ابن طاوس في الملهوف : ص 170 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 143

ثم إنه لم يزل يقاتلهم حتى حالوا بينه وبين رحله ، فصاح بهم : « ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحرارا في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون » .
قال : فناداه الشمر لعنه الله : ما تقول يا ابن فاطمة ؟
فقال (عليه السلام) : « أقول أنا الذي أقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيّا » .
فقال له الشمر : لك ذلك يا ابن فاطمة . ثم صاح شمر : اليكم عن حرم الرجل واقصدوه في نفسه ، فلعمري لهو كفؤ كريم .
قال : فقصدوه القوم فجعل يحمل فيهم وهو مع ذلك يطلب شربة من الماء فلا يجدها ، فلما اشتد به العطش حمل بفرسه على الفرات ، وكان عليه عمرو بن الحجاج والأعور السلمي مع أربعة آلاف رجل ، فكشفهم عن الفرات ، واقتحم الفرس المورد (1) .
فلما أحسّ الفرس ببرد الماء أولغ برأسه ليشرب فناداها الحسين (عليه السلام) : « أنت عطشان وأنا عطشان ، والله لا ذقت الماء حتى تشرب » .فلما سمع الفرس كلام الحسين رفع رأسه ولم يشرب كأنه فهم الكلام ، فقال له الحسين (عليه السلام) : « إشرب فأنّا أشرب » . فمدّ الحسين (عليه السلام) يده وغرف غرفة من الماء فناداه فارس من القوم : يا أبا عبدالله ، تتلذّذ بشرب الماء وقد هتك حرمك ؟! فنفض الماء من يده وحمل على القوم وكشفهم عن الخيمة ، فإذا هي سالمة (2) .
قال : فجعل الحسين (عليه السلام) يطلب الماء والشمر لعنه الله يقول : لا تذوقه أو ترد

=
ورواه أبو مخنف في وقعة الطف : ص 252 ، والمفيد في الإرشاد : 2 : 11 .
(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 33 ، وابن طاوس في الملهوف: 171 ، وأبو مخنف في وقعة الطف : 252 .
(2) ورواه ابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 65 « في آياته بعد وفاته » عن أبي مخنف ، عن الجلودي .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 144

النار !
فقال له رجل منهم : ألا ترى يا حسين إلى ماء الفرات يلوح كأنه بطون الحيّات ، والله لا تذوق منه قطرة أو تموت عطشا !
فقال الحسين (عليه السلام) : « اللهم أمته عطشا » .
قال : والله لقد كان ذلك الرجل يقول : اسقوني ماء فيؤتى له بعسّ من الماء لو شرب منه خمسة لكفاهم ، فيشرب حتى يثغر (1) ثم يقول : اسقوني قتلني العطش ! فلم يزل كذلك حتى مات لا رحمه الله (2) .
قال : ثم رماه حرملة بن كاهل فوقع السهم في جبهته ، فسالت الدماء على وجهه ولحيته ، فانتزع السهم وهو يقول : « اللهم إنك ترى ما يصنع بي هؤلاء العصاة ، اللهم فاحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحدا ، ولا تغفر لهم أبدا » .
ثم حمل عليهم في أمرّ ساعة من ساعات الدنيا فجعل لا يلحق بأحد منهم إلا اختطف رأسه بسيفه عن جسده ، والسهام تأخذه من كل مكان ، وهو يلتقيها بصدره ونحره ويقول : « يا أمّة السوء ، بئسما خلفتم محمدا في عترته ، أما إنكم لن تقتلوا بعدي عبدا من عباد الله فتهابوا قتله بل يهون عليكم قتلكم إياي ذلك ، وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة » .
قال : ثم إنه لم يزل يقاتل حتى أصابه ـ كما نقل ـ ألف وتسع مئة جراحة ، وكانت السهام في جلده كالشوك في جلد القنفذ ، وروي أنها كانت كلها في مقدمه ، فوقف يستريح إذ أتاه حجر فوقع في جبهته ، فأخذ الثوب ليمسح عن وجهه فأتاه سهم محدود مسموم له ثلاث شعب فوقع السهم في صدره ، وقيل : في قلبه ، فقال (عليه السلام) : « بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله (صلى الله عليه وآله) » . ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : « إلهي ، إنك تعلم أنهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن بنت نبيّ

(1) الثغرة : الثلمة . وفي مقاتل الطالبيين : « حتى خرج من فيه » .
(2) ورواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص 117 مع اختلاف .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 145

غيره » .
ثم أخذ السهم فأخرجه من قفاه ، فانبعث الدم كأنه ميزاب ، فوضع يده على الجرح ، فلما امتلأت رمى به إلى السماء فما رجع من ذلك الدم قطرة ، وما عرفت الحمرة في السماء حتى رمى الحسين (عليه السلام) بدمه ، ثم وضع يده ثانية فلما امتلأت لطخ بها رأسه ولحيته وقال : « هكذا ألقى الله وأنا مخضب بدمي مغصوب عليّ حقي وأقول : يا جداه ، قتلني فلان وفلان » .
ثم ضعف عن القتال ، وكلما أتاه رجل انصرف عنه كراهية أن يلقى الله بدمه حتى أتاه رجل من كنده يقال له « مالك بن النسر » لعنه الله ، فشتم الحسين (عليه السلام) وضربه بالسيف على رأسه الشريف فقطع البرنس ووصل السيف إلى فرقه فامتلأ البرنس دما ، فقال له الحسين (عليه السلام) : « لا أكلت بها ولا شربت ، وحشرك الله مع الظالمين » . ثم رمى البرنس عن رأسه واستدعا بخرقة وشد بها رأسه ، ولبس قلنسوة واعتمّ عليها (1) .
قال : ثم انهم لبثوا هنيئة ثم داروا عليه وأحاطوا به ، فخرج عبدالله بن الحسن (عليه السلام) وهو غلام لم يراهق ، فخرج من عند النساء يشتدّ حتى وقف إلى جنب الحسين (عليه السلام) ، فلحقته زينب لتحبسه ، فقال الحسين (عليه السلام) لها : « احبسيه يا أختاه » . فأبى وامتنع امتناعا شديدا وقال : لا والله لا أفارق عمي الحسين . فأهوى أبجر بن كعب ـ وقيل : حرملة الأسدي ـ إلى الحسين بالسيف فاتقاها الغلام وقال : ويلك يا ابن الخبيثة ، أتقتل عمي ؟ وتلقّى السيف بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلقة ، فنادى الغلام : يا عماه . فأخذه الحسين (عليه السلام) وضمه إلى صدره وقال : « يا ابن أخي ، اصبر على ما نزل بك ، فإنه بعين عناية الله ، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين » .

(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 34 ـ 35 مع اختلاف في بعض الألفاظ .
وروى قسما منه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 172 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 146

قيل : ورماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه في حجر عمه (1) .
ثم إن الشمر لعنه الله حمل على فسطاط الحسين (عليه السلام) فطعنه بالرمح ثم قال : عليَّ بالنار لأحرقه على من فيه .
فقال له الحسين (عليه السلام) : « أنت الداعي بالنار لتحرق بيتي على أهلي ، أحرقك الله بالنار » . فجاء شبث بن ربعي فوبّخه ، فاستحيى وانصرف (2) .
قال : فنادى الحسين (عليه السلام) وقال : « ابعثوا لي ثوبا لا يرغب فيه أحد أجعله تحت ثيابي لئلا أجرّد منه » . فأتي له بثوب فردها وقال : « ذلك لباس من ضربت عليه الذلة » . ثم إنه أخذ ثوبا خلقا فجعله تحت ثيابه ، فلما قتل جردوه منه .
ثم استدعى بسراويل من حبرة فمزّقها لئلا يسلبونها ، فلما قتل جردوه منها (3) .
قال : فأعيا عن القتال وكف عن الجدال ، فنادى شمر لعنه الله : ما وقوفكم ؟ وما تنتظرون بالرجل ؟ احملوا عليه ثكلتكم امهاتكم .
فرماه الحصين بن تميم في فيه ، وأبو أيوب الغنوي في حلقه ، وطعنه صالح بن وهب المزنى في خاصرته طعنة سقط بها عن فرسه على خده الأيمن ، ثم قام صلوات الله عليه (4) .
قال الراوي : فلما سقط الحسين (عليه السلام) خرجت زينب بنت علي (عليه السلام) من الفسطاط وهي تنادي : « وا أخاه ، وا سيداه ، ليت الموت أعدمني الحياة ، وليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل ، يا عمر بن سعد ، أيقتل أبو عبدالله وأنت تنظر إليه » ؟!

(1) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 173 .
(2) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : 3 : 173 .
(3) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 174 .
(4) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 35 ، والسيد ابن طاوس في الملهوف : ص 174 ـ 175 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 147

قال : ودموع عمر تسيل على خديه ولحيته وهو يصرف وجهه عنها (1) .
قال حميد بن مسلم : كأني أنظر إلى الحسين (عليه السلام) وهو قائم وعليه جبة خزّ وقد تحاماه الناس ، فنادى شمر : ويلكم ، اقتلوه ، ثكلتكم أمهاتكم » .
فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى فأهوى إليه الحسين بسيفه فبرا حبل عاتقة وخرّ صريعا ، فأومأ إليه آخر بسيف وضربه على كتفه الشريف ضربة كبا منها على وجهه ، فطعنه سنان النخعي في ترقوته ثم انتزع الرمح وطعنه ثانية في فؤاده ورماه بسهم في نحره فسقط وجلس قاعدا .
فقال عمر بن سعد لعنه الله لرجل عن يمينه : ويحك ، انزل إلى الحسين فأرِحه ، فقد قطع نياط قلوبنا بأنينه .
فابتدر خولّي ليحتز رأسه فأرعد . قيل : فجاء سنان والشمر لعنه الله والحسين بآخر رمق يلوك لسانه من شدة الظمأ ، فرفسه الشمر لعنه الله برجله وقال : يا ابن أبي تراب ، ألست تزعم أن أباك على حوض النبي يسقي من أحبّه ، فاصبر حتى تأخذ الماء من يده .
وروى هلال بن نافع قال : كنت حاضرا يوم الطف إذ صرخ صارخ : أبشر أيها الأمير ، فهذا الشمر قد قتل الحسين .
قال هلال : فخرجت لأنظر إليه فوقفت عليه وهو يجود بنفسه ، فوالله ما رأيت قتيلا مضمّخا بدمه أحسن منه ولا أنور وجها ، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيبته عن الفكرة في قتلته ، فسمعته في تلك الحالة يستسقي ماء ، فقال له رجل : لا تذوق الماء أو ترد الحامية فتشرب من حميمها ! فسمعته يقول : « أنا أرد الحامية ؟! إنا لله وإنا إليه راجعون ، بل أرد على جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وأشرب من كأسه من ماء غير آسن ، وأشكو إليه ما صنعتموه بي وما ارتكبتموه مني » .
قال : فغضبوا حتى كأن الله لم يجعل في قلوبهم من الرحمة شيئا .

(1) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 35 مع اختلافات لفظية .
وروى قسم الأول منه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 175 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي