مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 121

رسول الله . فقال : أفعل يا أماه ولا أقصّر .
ثم إنه شدّ على قلب الجيش واقتحم المعمعة وهو يقول :
إن تنكروني فأنا ابن الكلــب سوف تروني إذ ترون ضربي
وحملـني وصولتي في الحرب أدرك ثـاري بعد ثار صحبي
ليس جهادي في الوغى باللعب وأدفــع الكرب أمام الكرب

فلم يزل يقاتل حتى قتل عشرين فارسا ، ثم رجع إلى أمه وامرأته فقال : يا أماه ، ارضيت عنّي بنصرتي للحسين ؟
فقالت له : والله ما أرضي عنك إلا أن أراك قتيلا بين يدي الحسين .
فقالت له امرأته : بالله لا تفجعني بنفسك .
فقالت له أمه : يا بنيّ ، اعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيك تنل شفاعته يوم القيامة .
فرجع فلم يزل يقاتل حتى قطعت يداه ، فلما رأته زوجته أخذت عمودا وأقبلت نحوه وهي تقول : قاتل يا وهب فداك أبي وأمي ، قاتل دون الطيبين ، قاتل دون حرم رسول ربّ العالمين .
فاقبل كي يردّها إلى النساء ، فأبت وقالت : لن أعود حتى أموت معك . فاستغاث زوجها بالحسين ، فأتاها الحسين (عليه السلام) وقال لها : « جزيتم من أهل بيت خيرا ، ارجعي رحمك الله » .
فقاتل بعلها حتى قتل ـ على ما نقل ـ من القوم خمسين رجلا ما بين فارس وراجل ، ثم قتل رحمه الله ، فجاءت إليه إمرأته وجعلت تمسح الدم عن وجهه ، فأمر عمر بن سعد غلاما له فضربها بعمود من حديد ، فشدخ راسها فماتت رحمة الله عليها ، وكانت أول امرأة قتلت في عسكر الحسين (عليه السلام) (1) .
ثم برز خالد بن عمر وقاتل قتال المشتاقين إلى لقاء رب العالمين ، ثم كرّ على

(1) رواه السيد في الملهوف : ص 161 مع إضافات .
ورواه المجلسي في البحار : 45 : 16 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 122

القوم كرة الليث الجريء وهو ينشد ويقول :
صبرا على الموت بني قحطان كيما تكونوا في رضى الرحمان
ذي المجد والعـزة والبرهـان وذي العلا والطـول والإحسان
يا أبتا قد صـرت للجنــان في قصر فضـل حسن البنيان

ولم يزل يحمل فيهم حتى قتل ، رحمة الله عليه (1) .
ثم برز من بعده عمر بن خالد الأزدي وقاتل قتال الأبطال وجدّل بسيفه الرجال وهو يقول :
إليك يا نفسي إلى الرحمـان وأبشـري بالروح والريحان
اليوم تجزين على الإحسـان ما كـان منك غابر الأزمان
ما خطّ في اللوح لدى الديان لا تجزعــي فكل حي فان

ثم قاتل حتى قتل رحمة الله عليه(2) .
وبرز من بعده سعد بن حنظلة التميمي ، فودّع الحسين عليه السلام وحمل على القوم وهو ينشد ويقول :
صبرا على الأسياف والأسنّة صبـرا عليهـا لدخول الجنة
وحور عين ناعمات هنّــة لمن يريد الفــوز لا بالظنّة

ثم اقتحم القلب وقاتل قتالا شديدا حتى قتل رحمة الله عليه (3) .
ثم برز من بعده مسلم بن عوسجة فبالغ في قتال الأعداء ، وصبر على أهوال البلاء ، وهو يرتجز يقول :
إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبـد من فرع قوم من ذرى بني أسد

(1) ورواه الخوارزمي في المقتل 2 : 14 .
(2) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 14 مع اختلاف قليل في بعض ألفاظ الأبيات ، وأضاف :
ما خط باللوح لدى الديّان فاليـوم زال ذاك بالغفـران
لا تجزعي فكل حيّ فان والصبر أحضى لك بالأمان

(3) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 14 مع إضافة بيت :
يا نفس للراحة فاطرحنّة وفي طلاب الخير فارغبنّه
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 123

فمن بغانا حائدا عن الرشد وكافرا بدين جبــار صمد

فقاتل حتى سقط عن فرسه إلى الأرض وبه رمق فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال له الحسين : « رحمك الله يا مسلم » . ثم قال (عليه السلام) : «فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا » (1) ، ودنا منه حبيب وقال : يعزّ عليّ مصرعك يا مسلم ، فأبشر بالجنة .
فقال له قولا ضعيفا : بشرّك الله بخير .
فقال له حبيب : لولا أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إليّ بجميع ما أهمّك .
فقال له مسلم : إني أوصيك بهذا خيرا ـ واشار بيده إلى الحسين (عليه السلام) ـ فقاتل دونه حتى تموت .
فقال له حبيب : لأنعمنّك عينا . ثم مات رحمه الله .
قال : وصاحت جاريته : يا سيّداه ، يا ابن عوسجاه . فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة . فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم أمهاتكم ، أما إنكم تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذلّون عزّكم ، أتفرحون بقتله ؟ ولقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين (2) .
ثم برز من بعده عمرو بن قرظة الأنصاري واستأذن الحسين (عليه السلام) ، فأذن له فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء ، وبالغ في خدمة سلطان السماء ، حتى قتل جمعا كثيرا من اللعناء ، وجمع بين سداد وتقى ، وكان لا يأتي إلى الحسين (عليه السلام) سهم إلا اتّقاه بصدره ، ولا سيف إلا تلقّاه بنحره ، فما وصل إلى الحسين سوء حتى أثخن

(1) سورة الأحزاب : 33 : 23 .
(2) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 15 مع اختلاف في بعض الألفاظ .
ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 435 ، وابن الأثير في الكامل : 4 : 68 ، والسيد في الملهوف : ص 161 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 124

بالجراح ، فالتفت إلى الحسين (عليه السلام) وقال : أوفيت يا ابن رسول الله ؟
قال : « نعم ، أنت أمامي في الجنة ، فاقرأ رسول الله مني السلام وأعلمه أني في الأثر » . ثم قاتل حتى قتل ، رحمة الله عليه (1) .
ثم تقدم جون مولى أبي ذر الغفاري ، وكان عبدا أسودا ، فقال له الحسين (عليه السلام) : « أنت في حلّ من بيعتي ، فإنما تبعتنا طلبا للعافية ، فلا تبتلي ببلائنا » .
فقال : يا ابن رسول الله ، أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم ؟! والله إن ريحي لنتن ، وحسبي للئيم ، ولوني لأسود ، فتنفّس عليّ بالجنة ، حتى يطيب ريحي ، ويشرف حسبي ، ويبيضّ وجهي ، والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود بدمائكم . فلم يزل كذلك حتى أذن له الحسين ، فبرز للقتال وهو يقول :
كيف ترى الفجار ضرب الأسود بالمشرفــي القاطــع المهند
بالسيف ذدنا عـن بنــي محمد أذبّ عنهــم بالسنـان واليـد
أرجو بذاك الفوز عنــد المورد من الإلـه الأحــد الموحــد
إذ لا شفيــع عنــده كأحمد

فقاتل حتى قتل (2) . فوقف عليه الحسين (عليه السلام) . وقال : اللهم بيّض وجهه ، وطيّب ريحه ، واحشره مع الأبرار ، وعرف بينه وبين محمد وآله الأطهار » (3) .

(1) ورواه السيد في الملهوف : ص 162 ، وعنه المجلسي في البحار : 45 : 22 .
ورواه ملخصا الخوارزمي في المقتل : 2 : 22 ، والطبري في تاريخه : 5 : 434 ، والسماوي في كتاب ابصار العين في أنصار الحسين : ص 92 .
(2) ورواه السيد في الملهوف : ص 163 ، والخوارزمي في المقتل : 2 : 19 ، والسماوي في إبصار العين في أنصار الحسين : ص 105 .
ورواه المجلسي في البحار : 45 : 22 نقلا عن محمد بن أبي طالب .
(3) ورواه السيد في الملهوف : ص 163 ، والخوارزمي في المقتل : 2 : 19 ، والسماوي في إبصار العين في أنصار الحسين : ص 105 .
ورواه المجلسي في البحار : 45 : 22 نقلا عن محمد بن أبي طالب .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 125

وروي عن الباقر (عليه السلام) ، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) : « أن الناس كانوا يحضرون المعركة ويدفنون القتلى ، فوجدوا جونا بعد عشرة أيام يفوح منه رائحة المسك والعنبر ، رضوان الله عليه » (1) .
قال : وبرز من بعده عمرو بن خالد الصيداوي (2)وقال للحسين (عليه السلام) : يا أبا عبدالله جعلت فداك ، قد هممت بأن ألحق بأصحابي وكرهت أن أتخلّف وأراك وحيدا من أهلك أو قتيلا .
فقال له الحسين : « تقدم فإنا لاحقون بك بعد ساعة » .
فتقدم وقاتل حتى قتل ، رحمة الله عليه (3) .
قال : وجاء حنظلة بن سعد الشامي (4) ووقف بين يدي الحسين (عليه السلام) يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره ، وأخذ ينادي : يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب « مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد » « يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد »(5)، يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم بعذاب منه وقد خاب من افترى (6) .
ثم التفت إليه الحسين (عليه السلام) وقال له : «يا ابن سعد رحمك الله ، إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم من الحق ونهضوا إليك يشتمونك وأصحابك ، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين » ؟

(1) ورواه السماوي في إبصار العين : ص 105 ، والمجلسي في البحار : 45 : 23 عن محمد بن أبي طالب .
(2) هذا هو الظاهر ، وفي النسخة : « خالد بن عمر الصيداوي » .
(3) رواه السيد في الملهوف : ص 164 ، وعنه المجلسي في البحار : 45 : 23 .
ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 24 ، والسماوي في إبصار العين : ص 66 .
ورواه مختصرا الطبري في تاريخه : 5 : 446 .
(4) في الإرشاد : 2 : 105 وتاريخ الطبري : 5 : 443 : « الشبامي » . وهم بطن من همدان .
(5) سورة الغافر : 40 : 30 ـ 32 .
(6) اقتباس من سورة طه : 20 : 61 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 126

فقال للحسين (عليه السلام) : أفلا نروح إلى ربنا ونلحق بإخواننا ؟
فقال : « بلى ، رح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى » .
فتقدم فقاتل قتال الأبطال وصبر على احتمال الشدائد والأهوال حتى قتل ، رحمة الله عليه (1) .
قال الراوي : وحضرت صلاة الظهر ، فأمر الحسين (عليه السلام) زهير بن القين وسعيد بن عبدالله الحنفي أن يتقدما أمامه بنصف من تخلف من رجاله ، ثم صلى بهم صلاة الخوف ، فوصل إلى الحسين سهم فوقاه سعيد بن عبدالله بنفسه ، فما زال لا يتخطّاه حتى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللهم العنهم لعن عاد وثمود ، اللهم أبلغ نبيك محمدا عني السلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإني أردت ثوابك في نصرة ذرية نبيك . ثم قضى نحبه ، رحمة الله عليه ، فوجد به ثلاثة عشر سهما سوى النبل بالأحجار والسيوف والرماح (2) .
ثم برز من بعده سويد بن عمرو بن أبي مطاع وتقدم أمام الحسين (عليه السلام) واستأذنه إلى الحرب ، فخرج فقاتل قتال الأسد الباسل ، وصبرعلى مصالات نار الخطب النازل ، حتى أثخن بالجراح وسقط بين القتلى ، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتى سمعهم يقولون : قتل الحسين ، فتحامل وأخرج سكّينا من خُفّه وجعل يقاتلهم بها حتى قتلوه ، رحمة الله عليه (3) .
قال : وخرج شابّ قتل أبوه في المعركة وكانت أمه معه ، فقالت له : اخرج يا بنيّ وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) . فخرج ، فقال الحسين (عليه السلام) : « هذا شابّ قتل أبوه ، ولعلّ أمه تكره خروجه » .

(1) ورواه السيد في الملهوف : ص 146 ، وعنه وعن المناقب المجلسي في البحار : 45 : 23 .
ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 24 مع اختلاف في الألفاظ ، والطبري في تاريخه : 5 : 443 ، والمفيد مختصرا في الإرشاد : 2 : 105 .
(2) رواه السيد في الملهوف : ص 165 .
ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 17 ، والطبري مختصرا في تاريخه : 5 : 441 .
(3) الملهوف : 165 ـ 166 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 127

فقال الشاب : أمي أمرتني بذلك ، فبرز وهو يقول :
حسين أميري ونعم الأميـر سرور فؤاد البشيـر النذير
علـيّ وفاطمـة والــداه فهل تعلمون لـه من نظير
له طلعة مثل شمس الضحى له غــرّة مثـل بدر منير

وقاتل حتى قتل ، واحتزوا رأسه ورموا به إلى نحو عسكر الحسين ، فأخذت أمه رأسه وقالت : أحسنت يا ولدي ، ويا سرور قلبي ، ويا قرة عيني . ثم رمت برأس ولدها فأصابت رجلا فقتله ، وأخذت عمودا وحملت عليهم وهي تقول :
أنا عجوز سيدي ضعيفة خاويــة باليـة نحيفـة
أضربكم بضربة عنيفة دون بني فاطمة الشريفـة

وضربت رجلين فقتلتهما ، فأمر الحسين بصرفها ودعا لها (1) .
قال : وبرز من بعده زهير بن القين وهو يرتجز ويقول :
أنا زهيــر وأنا ابن القيـن أذود بالسيف عـن الحسيــن
إن حسينــا أحد السبطيـن من عترة البرّ التقي الزّيــن
أضربكم ولا أرى من شيــن يا ليت نفسي قسّمت قسمين (2)

فقاتل قتالا يشيب الوليد ، ويرعب من هوله قلب الصنديد ، حتى قتل كما روي مئة وعشرين فارسا وستين راجلا ، فشدّ عليه كثير بن عبدالله ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه ، فقال الحسين (عليه السلام) حين صرع زهير : « لا أبعدك الله يا زهير ، ولعن الله قاتلك ، لعن الذين مسخوا قردة وخنازير » (3) .
ثم برز من بعده حبيب بن مظاهر الأسدي فشدّ شدّة السرحان وأدخل نفسه

(1) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 21 ـ 22 .
(2) زاد في المقتل للخوارزمي :
ذاك رسول الله غير المين أضربكم ولا أرى من شين

(3) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 20 .
وانظر وقعة الطف لأبي مخنف : ص 232 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 128

في حلق الطعان ، وهو ينشد مرتجزا ويقول :
أنا حبيب وأبي مظاهر وفارس قوم ونار تسعر
وأنتم عند العديـد أكثر ونحن أعلى حجة وأظهر
وأنتم عند الوفاء أغـدر ونحن أوفى منكم وأصبر

فلم يزل يقاتل حتى شد عليه رجل من تميم فطعنه ، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن نمير لعنه الله على رأسه بالسيف فوقع ونزل التميمي فاحتزّ رأسه (1) .

(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 18 .
وروى أبو مخنف في وقعة الطف : ص 230 ، وعنه الطبري في تاريخه : 5 : 439 وفيه : فلا يزال الرجل من أصحابه الحسين قد قتل ، فإذا قتل منهم الرجل والرجلان تبيّن فيهم ، وأولئك كثير لا يتبيّن فيهم ما يقتل منهم .
قال : فلما رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبدالله الصائدي قال للحسين : يا أبا عبدالله ، نفسي لك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله ، وأحبّ أن القى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها .
قال : فرفع الحسين رأسه ثم قال : « ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلين الذاكرين ، نعم هذا أوّل وقتها » . ثم قال : « سلوهم أن يكفّوا عنا حتى نصلّي » . فقال لهم الحصين بن تميم : إنها لا تقبل ! فقال له حبيب بن مظاهر : لا تقبل زعمت ! الصلاة من آل رسول الله صلى الله عليه وآله لا تقبل وتقبل منك يا حمار ؟!
قال : فحمل عليهم حصين بن تميم ، وخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف ، فشبّ ووقع عنه وحمله أصحابه فاستنقذوه ، وأخذ حبيب يقول :
أقسم لو كنّا لكم أعدادا أو شطركم ولّيتم الأكتادا
يا شرّ قوم حسبا وآدا

قال : وجعل يقول يومئذ :
أنـا حبيب وأبـي مظاهـر فارس هيجاء وحرب تسعر
أنتـم أعد عـدة وأكثــر ونحن أوفى منكم وأصبـر
ونحن أعلـى حجة وأظهـر حقا وأتقى منكــم وأعـذر

وقاتل قتالا شديدا ، فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله ، وكان يقال

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 129

ثم برز من بعده غلام تركي للحسين (عليه السلام) وكان قارئا للقرآن ، موحدا للعلي الديّان ، فبرز وهو ينشد ويقول :
البحر من طعني وضربي يصطلي والجو من سهمـي ونبلـي يمتلي
إذا حسامي في يمينـي ينجلــي ليشف قلـب الماجـد المبجّــل

فقتل جماعة منهم ثم خرّ صريعا ، فشدّ الحسين على قاتله وقال له : « قتلني الله إن لم أقتلك » . فضربه بالسيف على هامته أخرجه من شرايف صدره (1) ، ثم وقف على الغلام وبكى ، ووضع خدّه على خدّه ، ففتح الغلام عينيه فرأى الحسين (عليه السلام)

=
له : « بديل بن صُرَيم » من بني عُقفان ، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع ، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع ، ونزل إليه التميمي فاهتزّ رأسه ، فقال له الحصين : إني لشريكك في قتله . فقال الآخر : والله ما قتله غيري . فقال الحصين : أعطنيه أعلّقه في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أني شركت في قتله ، ثم خذه أنت بعد فامض به إلى عبيدالله بن زياد ، فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إياه .
قال : فأبى عليه ، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا ، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر فجال به في العسكر قد علّقه في عنق فرسه ، ثم دفعه بعد ذلك إليه ، فلما رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب فعلقه في لبان فرسه ، ثم أقبل به إلى ابن زياد في القصر ، فبصر به ابنه القاسم بن حبيب وهو يومئذ قد راهق ، فأقبل مع الفارس لا يفارقه كلما دخل القصر دخل معه ، وإذا خرج خرج معه ، فارتاب به فقال : ما لك يا بُنيّ تتبعني ؟ قال : لا شيء . قال بلى يا بُنيّ ، أخبرني . قال له : إن هذا الرأس الذي معك رأس أبي ، أفتعطينيه حتى أدفنه ؟ قال : يا بُنيّ ، لا يرضى الأمير أن يدفن وأنا أريد أن يصيبني الأمير على قتله ثوابا حسنا . قال له الغلام : لكنّ الله لا يثيبك على ذلك إلا أسوأ الثواب ، أما والله لقد قتلت خيرا منك . وبكى .
فمكث الغلام حتى إذا أدرك لم يكن له همة إلا اتّباع أثر قتل أبيه ليجد منه غِرّة فيقتله بأبيه ، فلما كان زمان مصعب بن الزبير وغزا مصعب باجُميرا ، دخل عسكر مصعب ، فإذا قاتل ابيه في فسطاطه ، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غِرّته فدخل عليه وهو قائل نصف النهار ، فضربه بسيفه حتى برد .
قال أبو مخنف : حدثني محمد بن قيس قال : لما قتل حبيب بن مظاهر هدّ ذلك حسينا وقال عند ذلك : « أحتسب نفسي وحماة أصحابي » .
(1) الشراسيف : أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن . ( لسان العرب )
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 130

فتبسم ثم صار إلى ربه (1) .
قال : وجعل أصحاب الحسين (عليه السلام) يتسارعون إلى القتل بين يديه ويبذلون الأرواح لديه ، ولله درّ من قال :
يبرزون الوجوه تحت ظلال الموت والموت منهـم يستظلّ
كرماء إذ الضبا غشيتهــم منعتهم أحسابهـم أن يولّــوا

فوا لهف نفسي لتلك الأقمار المنيرة على التراب ، كيف كسفتها مواضي السيوف والحراب ، ولتلك الأنوار الساطعة كيف طمست أشعتها أكف النصّاب ، وواحرّاه لهاتيك الأجسام الزاكيات ترضّ متونها سنابك العاديات ، والجثث الصاحيات تعفّرها فراعل (2) الفلوات ، وواكرباه لتلك الرؤوس القمرية تشال على اليعاسيب القعضبيّة ، ولتلك النفوس الشريفة تزهقها الأبدان الخبيثة ، فالأمر لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، أو لا تكونون يا أولى النهى ، كمن أورثه مصابهم الأرزا داء الوجد والأسى (3) ، فرثاهم بما أحرق الضمائر ، وأشجى ، وهو من بعض شيعتهم الأتقياء .

(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 24 .
(2) الفرعل : ولد الضبع ، والجمع : فراعل وفراعلة .
(3) الوجد والأسى : الحزن . ( المعجم الوسيط )
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 131

المصرع العاشر

من مصارع الحسين الشهيد الوحيد
(عليه السلام)

عباد الله الأبرار ، وشيعة حيدر الكرار ، اخلعوا حلل القرار ، وتجافوا عن نمارق البهجة والإصطبار ، فقد عصفت بمراسم الفخار ، زعازع حوادث الأقدار ، واجتثّت أصول المراتب والأقدار ، ذات عواصف وأغيار ، أخلت أواهل تلك الديار ، فلا حارس ولا سمّار ، تبكي عليهم الأوراد والأذكار ، وتندبهم الوحوش والأطيار ، دارت بهم رحى الفجار ، فغدوا عباديد بكل ديار ، ليس لقتيلهم مزار يزار ، ولا أسيرهم يفدى ولا يجار ، ولا ربائبهم تصان في الأستار ، بل هتكت بين الرامق والنظار ، يطاف بها المدن والأمصار ، على الأقتاب والأكوار ، ولله در من قال :
بلـغ المــرادي المــراد وأورد الحسن الرديّ وقضى الحسين شهيدا
غدروا به إذ جاءهم من بعـد مــا أسـدوا إليــه مواثقـا وعهــودا
قتلــوا به بدرا فأظلــم ليلهــم فغدوا قيامــا في الضلال قعــودا
وحموه أن يرد المبـاح وصيّــروا ظلمـا له ظامـي الرمــاح ورودا
فسمـت إليــه أماجـد عرفت به قصد الطريق فأدركــوا المقصودا
نفر حوت جل الثنــاء وتسنّمـت ذلــل المعـالــي والـدا ووليدا
من تلق منهم تلـق كهلا أو فتــى علـم الهــدى بحر الندى المورودا
وتبادرت طلق الأعنّــة لا تـرى الغمـرات إلا المايسـات الغيــدا
فكأنمـا قصد القنــا بنحورهــا درر يفصلهــا الطعــان عقـودا
واستنزلــوا دار البقــا فأحلهـم غرفاتهــا فغدى النزول صعــودا

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 132

فتظنّ عينك أنهم صرعى وهــم في خيـر دار فارهيــن رقودا
وأقــام معدوم النظير فريد بيت المجد معـدوم النصيــر فريدا
يلقى القفــار صواهلا ومناصلا ويرى النهار قصاطلا وبنــودا
ساموه أن يردوا الهوان أو المنيّة والمســوّد لا يكــون مسودا

روي في كتاب « الملهوف على قتلى الطفوف » أنه لما تفانى أصحاب الحسين عليه السلام ولم يبق معه إلا أهل بيته وهم ولد أميرالمؤمنين (عليه السلام) وولد جعفر وولد عقيل وولد الحسن السبط وولده (عليه السلام) ، اجتمعوا وجعل يودّع بعضهم بعضا وعزموا على الحرب ، فأول من برز منهم عبدالله بن مسلم بن عقيل ، وشدّ على القوم وهو يرتجز ويقول :
اليوم ألقى مسلمــا وهو أبي وفتيـة بادوا على ديـن النبي
ليسوا بقوم عـرفـوا بالكذب لكـن خيـار وكـرام النسب
من هاشم السادات أهل الحسب

فقاتل حتى قتل في ثلاث حملات ثمانية وتسعين فارسا ، ثم قتله عمر بن صبيح الصيداوي وأسد بن مالك (1) .
ثم برز من بعده محمد بن مسلم ، فقاتل حتى قتل ، وقاتله محمد بن علي الأزدي

(1) ما عثرت على مقتل أولاد عقيل في الملهوف المطبوعة عندي ، بل رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 26 .
وقال المفيد رحمه الله في الإرشاد : 2 : 107 : ثم رمى رجل من أصحاب عمر بن سعد يقال له « عمرو بن صبيح » عبدالله بن مسلم رحمه الله بسهم ، فوضع عبدالله يده على جبهته يتّقيه ، فأصاب السهم كفه ونفذ إلى جبهته فسمّر به ، فلم يستطع تحريكها ، ثم انتهى إليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله .
ومثله في الكامل لابن الأثير : 4 : 74 ، وتاريخ الطبري : 5 : 447 عن أبي مخنف ، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج : ص 98 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 133

ولقيط بن إياس الجهني (1) .
ثم برز من بعده جعفر بن عقيل ، وشدّ على القوم بسيفه وهو يرتجز ويقول :
أنا الغلام الأبطحي الطالبي من معشر في هاشم وغالب
ونحن حقا سادة الذوائـب هذا حسيـن أطيب الأطائب
من عترة البرّ التقيّ العاقب

فقتل تسعة عشر رجلا ، ثم قتله بشر بن سوط الهمداني (2) .
ثم برز من بعده أخوه عبدالرحمان بن عقيل ، فقتل سبعة عشر فارسا ، ثم قتله عثمان بن خالد الجهني (3) .
ثم برز من بعده أخوه عبدالله الأكبر بن عقيل ، فقتله عثمان بن مسلم (4) .
ثم برز عبدالله الأكبر بن عقيل ، فقتله عثمان بن خالد الجهني(5) .
ثم برز من بعده محمد بن أبي سعيد بن عقيل الأحول ، فقتله لقيط بن ياسر الجهني (6).

(1) ورواه أبوالفرج في مقاتل الطالبيين : ص 97 .
(2) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 26 ، ولم يذكر قاتله .
ورواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص 97 وقال : قتله عروة بن عبدالله الخثعمي .
(3) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 26 وفيه : فحمل وهو يقول :
أبي عقيل فاعرفوا مكاني من هاشـم وهاشـم إخوان
فينا حسين سيد الأقـران وسيد الشبـاب في الجنـان

ورواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص 96 وفيه : قتله عثمان بن خالد بن اسيد الجهني وبشير بن حوط القايضي .
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 107 .
(4) في الأصل « عبدالله الأكبر بن عقيل » كرر مرتين ، قاتِلُ أحدهما عثمان بن مسلم وقاتِل الثاني عثمان بن خالد الجهني . ولم أعثر على عبدالله بن الأكبر بن عقيل ، غير ما قتله عثمان بن خالد الجهني ، كما سيأتي . ولفظة الأكبر لم تكتب أولا بل استدركت فيما بين السطور .
(5) رواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص 97 .
(6) رواه أبو مخنف في وقعة الطف : ص 248 ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين : ص 98 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي