مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 107

الحسن (عليهم السلام) وهم يقولون : يا حسين ، إنك رائح إلينا عن قريب » .
فلطمت زينب على رأسها وصاحت ، فقال لها الحسين (عليه السلام) : « مهلا ، لا يشمت القوم بنا فيقولون جبن أبو عبدالله عن القتال » .
فلما جاء الليل جمع أصحابه ـ وكانوا نيفا وسبعين رجلا ـ فحمد الله وأثنى عليه وقال : « إني لا أعلم أصحابا أصلح منكم ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوفى من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني خيرا ، فهذا الليل قد غشيكم ، فاتخذوه سترا جميلا ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذروني وهؤلاء القوم فإنهم لا يريدون غيري » .
فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء عبدالله بن جعفر : « لم نفعل ذلك لنبقي بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبدا » ، بدأهم بهذا القول العباس بن علي وتبعته الجماعة .
قال : ثم نظر الحسين إلى بني عقيل وقال : « حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم ، اذهبوا فقد أذنت لكم » .
قال : فأجابوه وقالوا : « يا ابن رسول الله ، ما يقول الناس لنا وما نقول لهم إذا تركنا شيخنا وكبيرنا وابن بنت نبينا لم نرم معه بسهم ولم نطعن معه برمح ولم نضرب معه بسيف ، لا والله يا ابن رسول الله لا نفارقك أبدا ، ولكنا نقيك بأنفسنا حتى تقتل بين يديك ونرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك » .
ثم قام مسلم بن عوسجة فقال : « نحن نخلّيك هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك الأعداء ؟! لا والله لا يرانا هكذا أبدا حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح لقاتلـ[تـ]ـهم بالحجارة ولا أفارقك أو أموت معك » .
ثم قام سعيد بن عبدالله الحنفي وقال : « لا والله يا ابن رسول الله ، لا نخليك أبدا حتى يعلم الله أنا قد حفظنا وصية رسول الله فيك ، والله لو علمت أني أقتل فيك ثم أحيى ثم أحرق حيا ثم أذرى في الهواء يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقيى حمامي دونك » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 108

ثم قام زهير وقال : « والله يا ابن رسول الله ، وددت أن أقتل ثم أنشر حتى يفعل بي ذلك ألف مرة وأنّ الله يدفع بي عنك وعن هؤلاء الفتية من إخوانك وولدك وأهل بيتك » .
وتكلم جماعة من أصحابه بمثل هذا الكلام ونحوه ، فجزاهم الحسين خيرا وقال لهم : « ارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى منازلكم » . فرفعوا رؤوسهم وجعل يقول لهم : « هذا منزلك يا فلان ، وهذا منزلك يا فلان » ، فجعل الرجل منهم يستقبل الرماح والسيوف بنحره وصدره ليصل إلى مكانه من الجنة (1) .
ولله در من قال من الرجال الأبدال :
عشقوا الفنا للدفع لا عشقـوا العنا للنفع لكن أمضي المقدور
وتمثّلت لهم القصور وما بهم لولا تمثلت القصـور قصور
ما ساقهم للموت إلا دعوة الر حمن لا ولدانهــا والحـور

فطوبى لها من نفوس سلت [ عن ] هذه الدار فسالت على واردات اليعاسب ، وطلقت القرار فعانقت حداد القواضب ، وعشقت داني الجوار فهان عليها قدّ السباسب ، ومالت إلى الفخار فامتطت ظهور السلاهب ، قادها طيب النجار بأزمّة التجارب إلى مركز البوار لتفوز بالمطالب ، أو لا تكونون يا ذوي الأبصار والشيعة الأطايب كمن تذكّر أولئك الأقمار فغدى عن البشر عازب ، وتصور ماحل بالأكرمين الأبرار من الأرزاء والنوائب ، فرثاهم ببعض الأشعار وأقام عليهم النوادب ، وصلى الله على محمد وآله الأطايب .

(1) ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 417 ـ 420 مع اختلاف في بعض الألفاظ وتقديم وتأخير في الكلمات .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 109

المصرع الثامن

من مصارع أبي عبدالله
(عليه السلام)

تسنّموا صهوات صواهل الأحزان في مواقف المواساة ، وقوّموا واردات عواسل الأشجان في مراكز الموالاة ، وجرّدوا صوارم الدموع من أغمادها ، واتقوا بجنن الخشوع وهيج النار وضرام اتّقادها ، وعضّوا بأسنان الندم على نواجذ الحسرة ، وصبوا من الأماق العندم على فوات النصرة ، ومثّلوا أمامكم الحسين عليه السلام وقد أحاط به الكفرة اللئام مع قليل من أحبابه ، ونزر من شيعته واصحابه ، بعد أن ذادوه عن المناهل والموارد ، وضيّقوا عليه فسيح المصادر والموارد ، وأبادوا أنصاره ورجاله ، وقتلوا شبّانه وأطفاله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، «ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون»(1) «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون » (2) .
سل كربلا كم حوت منهم هلا دجى كأنهــا فلـك للأنجــم الزهــر
لم أنس حاميـة الإسلام منفــردا صفـر الأنامــل من حام ومنتصر
يرى قنا الدين من بعـد استقامتهـا مغمــوزة وعليـهـا صدع منكسر
فقام يجمع شملا غيــر مجتمـع منها ويجبــر كســرا غير منجبر
لم أنسه وهو خوّاض عجاجتهــا يشـق بالسيف منهــا سورة السور
كم طعنة تتلظّــى من أناملــه كالبـرق يقدح من عود الحيا النظر
وضربة تتجلــى من بوارقــه كالشمس طــالعـة من جانبي نهر

(1) سورة إبراهيم : 14 : 42 .
(2) سورة البقرة : 2 : 156 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 110

إذا انتضى بردة التشكيل عنه تجد لاهوت قدس تـردّى هيكل البشر

روي أنه لما كان اليوم العاشر من المحرم ـ وما أدراك ما اليوم العاشر ، يوم لا سؤدد إلا وانقضى ، وحسام للعلى إلا وفُلا ـ أمر الحسين (عليه السلام) بفسطاطه فضرب ، وأمر بجفنة فيها مسك ، كثير وجعل عندها نورة ، وجعل يطلي وبرير بن خضير الهمداني وعبدالرحمان الأنصاري واقفان بباب الفسطاط ليطليا بعده ، فجعل برير يضاحك عبدالرحمان ، فقال له عبدالرحمان : يا برير ، ما هذه بساعة ضحك ولا باطل !
فقال له برير : « لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل كهلا ولا شابا ، وإنما أفعل ذلك استبشارا لما نصير إليه ، والله ما هو إلا أن تميل القوم علينا بأسيافهم فنعانق الحور العين » . قال : فسرّه كلامه (1) .
ثم إن عمر بن سعد لعنه الله رتّب عسكره ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين ، فجعل ابنه حفصا على ميمنته ، وعمرو بن الحجاج على ميسرته ، وحميد بن مسلم على [الـ]جناح الأيمن ، والشمر على [الـ]جناح الأيسر ، ووقف هو في القلب ومعه صناديد الكوفة (2) .
ثم أمر النبالة أن تتقدم أمام القوم وأمرهم أن يرشقوا عسكر الحسين بالسهام ، فتقدم اثنا عشر ألف نبّال وأوتروا ، فأقبلت السهام كأنها قطر السماء فقال الحسين (عليه السلام) لأصحابه : « قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه ، فهذه السهام رسل القوم إليكم » (3) .
ثم إنه رفع يده إلى السماء وقال : « اللهم أنت ثقتي في كل شدة ، ورجائي في كل

(1) ورواه السيد بن طاووس في الملهوف : ص 154 مع اختلاف لفظي قليل ، وعنه في البحار 45 : 1 .
ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 423 .
(2) انظر إرشاد المفيد : 2 : 95 ، وتاريخ الطبري : 5 : 422 .
(3) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 158 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 111

كرب ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، [ إلهي ] كم من كرب يضعف عنه الفؤاد ، وتقل فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت به العدو ، أنزلته بك ، وشكوته إليك ، رغبة مني إليك عن من سواك ، ففرّجته وكشفته ، فأنت وليّ كلّ نعمة ، وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة » .
واقبل القوم يجولون حول بيت الحسين عليه السلام فيرون النار تتقد في الخندق في ظهر البيوت ، فنادى الشمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته : يا حسين ، ويا أصحاب حسين ، استعجلت بالنار قبل يوم القيامة .
فقال الحسين (عليه السلام) : « من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن » . ثم قال الحسين له : « يا ابن راعية المعزى ، أنت أولى بها صليّا » .
ورام مسلم بن عوسجة يرميه بسهمهم فمنعه الحسين (عليه السلام) من ذلك ، فقال له : « دعني أرميه ، فإنه الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارين وقد أمكن الله منه » .
فقال الحسين (عليه السلام) : « إني أكره أن أبدأهم بقتال » (1) .
ثم إنه (عليه السلام) صف أصحابه ورتبهم ميمنة وميسرة في مراتبهم ، فجعل ابنه علي بن الحسين في ميمنته ، وحبيب بن مظاهر في ميسرته ، وزهير في جناحه الأيمن ، ومسلم بن عوسجة في جناحه الأيسر ، ووقف هو في القلب ، وأعطى رايته أخاه العباس (2) .
ثم إنه تقدم قبالة القوم ونظر إلى صفوفهم كأنهم السيل ، فقال : « الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالا بعد حال ، فالمغرور من غرّته والشقيّ من فتنته ، فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها

(1) انظر الإرشاد : 2 : 96 ، وتاريخ الطبري : 5 : 423 .
(2) في الإرشاد للمفيد : 2 : 95 ، وتاريخ الطبري : 5 : 422 ، والمقتل للخوارزمي : 2 : 4 : « فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه ، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه ، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه ... » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 112

وتخيّب [ طمع ] (1) من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمر أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم وأحل بكم نقمته وأحرمكم (2) رحمته ، فنعم الرب ربنا وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول (محمد صلى الله عليه وآله) ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبا لكم ولما تريدون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبُعدا للقوم الظالمين
» .
فقال عمر بن سعد : كلموه فإنه ابن أبيه ، فوالله إن وقف فيكم موقفا بعد موقف لما انقطع ولما حصر . فكلموه (3) .
ولله در من قال :
يقول والسيف لـولا الله يمسكـه أبـى بأن لا يرى راس على بدن
ياجيرة الغدر إن أنكرتمـوا شرفي فـإن واعيــة الهيجـاء تعرفني
لا تفخروا بجنــود لا عداد لهـا إن الفخــار بغير السيف لم يكن
ومذ رقى منبر الهيجـا أسمعهــا مواعظا من فروض الطعن والسنن
لله موعظــة الخطّـي كم وقعت من آل سفيــان في قلب وفي أذن
كأنّ أسيافــه إذ تستهــلّ دمـا صفائــح البرق حلت عقدة المزن
لله حملته لــو صادفـت فلكــا لخـرّ هيكلــه الأعلى على الذقن
يفري الجسوم بعضب غير ذي ثقة على النفــوس ورمح غير مؤتمن

فعزيز على جده النبي الأواب ، وأبيه أبي تراب داحي الباب ، وأمه زكية الجناب ، بل عزيز على السنة والكتاب ، أن تثب عرج الضباع على الأسد المنّاع ، وتتحكّم الأجلاف الأجشاع في السيد المطاع ، وتنشب أظفارها طلس الذئاب في منحر ليث الغاب ، وتظفر جرب الكلاب بالهزبر المهاب ، وتهدى رؤوس

(1) من البحار .
(2) في البحار : « وجنّبكم » .
(3) ورواه المجلسي في البحار : 45 : 5 نقلا عن كتاب محمد بن أبي طالب .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 113

أولاد أبي تراب على موائد الحراب لابن مرجانة وابن آكلة الذباب ، وتهتك عن مصونات الأنجاب أسجاف الصون والحجاب ، أمر «تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا » (1) .
روي أن الحسين (عليه السلام) يوم الطف نادى : « يا شبث بن ربعي ، يا حجار بن أبجر ، يا قيس بن الأشعث ، يا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ أنه قد اينعت الثمار واخضرّ الجناب ، وإنما تقدم على جند لك مجنّدة » .
فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن أنزل على حكم بني عمك ، فإنهم ما يرونك إلا ما تحبّ .
فقال (عليه السلام) : « لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد » (2) .
ثنا عطفه عن حذر جان وقد خبا إلى الموت دامـي الصفحتين كليم
أخو الحرب أما جلده فممــزّق كليــم وأما عرضــه فسليــم

ثم إنه (عليه السلام) دعا بفرسه فركبه وتقدم إليهم فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا له حتى قال لهم : « ويلكم ، ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا منّي ، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من الراشدين ، ومن عصاني كان من الهالكين ، وكلّكم عاص لأمري ، غير مستمع قولي ، قد ملئت بطونكم من الحرام ، وطبع على قلوبكم ، ويلكم ألا تنصتون ، ألا تسمعون » ؟
فتلاوم أصحاب ابن سعد بينهم وقال بعضهم : انصتوا له ، فأنصتوا ، فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله ، وصلى على الملائكة والأنبياء (3)وأبلغ في المقال ، ثم قال : « تبا لكم أيتها الجماعة وترحا وبؤسا ، حين استصرختمونا والهين ،

(1) سورة مريم : الآية 90 .
(2) ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 98 ، وعنه في البحار : 45 : 7 .
ورواه الطبري في تاريخه 5 : 425 .
(3) في الملهوف : « والرسل » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 114

فأصرخناكم موجفين (1) ، شحذتم علينا سيفا كان في أيدينا ، وحششتم (2) علينا نارا أضرمناها على عدوكم وعدونا ، فأصبحتم ألبا (3) على أوليائكم ويدا لأعدائكم ، من غير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، ولا ذنب كان منا إليكم ، فمهلا لكم الويلات إذ كرهتمونا والسيف مشيم والجأش (4) طامن والرأي لما يستصف ، ولكنكم أسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدبا وتهافتمّ إليها كتهافت الفراش ، ثم نقضتموها سفها وضلة ، فبعدا وسحقا لطواغيت هذه الأمة ، وبقية الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومطفئ السنن ، ومخالفي الملل ، ومؤاخي المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ، وعصاة الايمان ، وملحقي العهرة بالنسب ، لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ، فهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون .
أجل والله الخذل فيكم معروف ، نبتت عليه أصولكم ، وتآزرت عليه عروقكم ، فكنتم أخبث شجرة للناظر ، وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على الظالمين الناكثين ، الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله عليهم كفيلا .
ألا وإن الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلّة والذلة ، وهيهات له منا الذلة ، أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طهرت ، وبطون طابت ، أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام .
ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وكثرة العدوّ وخذلة الناصر
» .
وتمثّل صلوات الله عليه بهذه الأبيات :
فإن نهزم فهزّامون قدما وإن نغلب فغيــر مغلّبينا
فما إن طبنا جبن ولكـن منايانــا ودولـة آخرينا

(1) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « مرجفين » .
(2) في الملهوف : « سللتم علينا سيفا لنا في ايمانكم وحششتم » .
(3) الألب : القوم يجتمعون على عداوة إنسان . ( المعجم الوسيط ) .
(4) الجأش : النفس أو القلب ، ويقال هو رابط الجأش ثابت عند الشدائد . ( المعجم الوسيط ) .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 115

إذا ما الموت رفّع عن أنـاس كلاكلــه أنــاخ بآخرينـا
فأفنى ذلكـم سروات قومــي كمــا أفنـى القرون الأولينا
ولــو بقي الكـرام إذا بقينا فلو خلد الملـوك إذا خلدنــا
فقل للشامتيـن بنــا أفيقـوا سيلقــى الشامتون كما لقينا

ثم قال (عليه السلام) لهم : « وأيم الله إنكم لا تلبثون بعدها إلا ريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم دوران الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ، عهد عهده إليّ جدّي ، « فأجمعوا أمركم وشركائكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون » (1) ، «إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابّة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربّي على صراط مستقيم » (2) .
اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسنين يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبّرة (3) ما منهم إلا قتله » .
ثم ضرب بيده الشريفة على لحيته وجعل يقول : « اشتد غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولدا ، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ، واشتد غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه ، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم .
أما والله لا أجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله وأنا مخضب بدمي مغصوب عليّ حقّي
» (4) .
ولله در من قال :
يوم سرى فيه ابن فاطم موقظا عزما يحك به مناط الأنجــم

(1) سورة يونس : 10 : 71 .
(2) سورة يونس : 10 : 71 .
(3) الصبر : عصارة شجرّ مرّ ، واحدته صَبرة ، ج صبور . ( المعجم الوسيط ) .
(4) ورواه السيد في الملهوف : ص 155 ـ 158 مع اختلافات لفظية كثيرة .
ورواه المجلسي في البحار : 45 : 8 نقلا عن المناقب لابن شهر آشوب .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 116

يرمى الطغاة بفيلــق من نفسـه جـمّ العديـد طويــل باع المغنم
وكتائب ترمــي الجبـال بمثلها بأســا وتزهـق من دويّ عرمرم
من كلّ شين اللبدتيــن كأنمــا عرفــت يداه السيف قبل المعصم
ومضيّــق عند الحفاض ! لثامه متطــلّــع عنه تطلــع أرقم
يغشى الوغــا متهلّــلا فكأنـه تحت العجاجــة غــرّة في أدهم
وشمردل عبـل المرافق لو سرى أنسـى السراة ربيعــة بن مكـدّم
حيّ من الأقران لـم يتسامــروا إلا بذكــر مثقــف ومطـهّــم
وإذا تنادوا آل غالب فـي الوغى نسفـوا متالــع يَذبــل فيلملـم
يقتادهم ضخم الدسيعــة أصيـد ثبت الجنــان بعيـد مهوى المخذم
بطل يرى الهندي أصدق صاحب ومخيّم الهيجـاء خيــر مخيّــم

فبخ بخ لهم فازوا بالوصال إذ بذلوا ما أراد المحبوب ، وتنعّموا ببديع الجمال حيث مالت منهم القلوب ، فكان متن السيوف الصقال صقال الخدود ، وكأنّ حطيم القنا العسّال في أكفّهم غداير الجعود ، كرعوا قرقف الحقيقة فثملوا بصهباء العرفان ، وسلكوا ملحوب الطريقة وقطعوا السهول والأحزان .
روي أن الحسين (عليه السلام) لما لقى العسكر نادى : « أما من مغيث يغيثنا لوجه الله ، أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله » .
فإذا الحر بن يزيد الرياحي قد أقبل إلى عمر بن سعد لعنه الله فقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟
فقال : إي والله ، قتالا ايسره أن تطير فيه الرؤوس وتطيح الأيدي .
قال : فمضى الحر ووقف موقفا من أصحابه وأخذه مثل الأفكل ، فقال له مهاجر بن أوس : والله إن أمرك لمريب ، ولو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة ؟ لما عدوتك ، فما هذا الذي أراه منك ؟!
فقال : والله إنّي أخيّر نفسي بين الجنة والنار ، فوالله لا أختار على الجنة شيئا ، ولو قطّعت وأحرقت .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 117

ثم ضرب فرسه واجتاز إلى عسكر الحسين (عليه السلام) ، واضعا يده على رأسه وهو يقول : اللهم إليك أتيت تائبا فتُب عليّ ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد أنبيائك .
فقال للحسين : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعتك في هذا المكان ، وما كنت أظنّ أنّ القوم يبلغون منك ما أرى ، وأنا تائب إلى الله ، فهل ترى لي من توبة يا أبا عبدالله ؟
فقال له الحسين (عليه السلام) : « نعم يتوب الله عليك » . ثم قال له : « انزل » .
فقال الحر : أنا لك فارسا خير مني لك راجلا ، أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري .
ثم قال : إذ كنت أول خارج خرج عليك ، فأذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك ، لعليّ أكون أول من يصافح جدك (صلى الله عليه وآله) وأباك عليا في عرصات القيامة .
فأذن له الحسين (عليه السلام) ، فتقدم الحر إلى عساكر الكوفة ، ثم نادى : يا أهل الكوفة ، لأمكم الهبل ، دعوتم هذا الرجل المؤمن حتى إذا أتاكم خرجتم لقتاله ومنعتموه الماء الذي تشربه الكلاب والخنازير ، لا سقاكم الله يوم الظمأ .
ثم إنه همز جواده ، وقوّم سنانه بين أذن حصانه وقاتل قتالا يسرّ الأحرار ، ويرضي الجبار ، وهو ينشد ويقول :
إني أنـا الحــرّ ومأوى الضيف أضرب فـي أعناقكـم بالسيــف
أضربكــم ولا أرى من حيــف عن خير من حلّ بأرض الخيف (1)

وروي أن الحر لما لحق بالحسين قال رجل من تميم يقال له يزيد بن سفيان : أما

(1) ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 99 مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وعنه البحار : 45 : 10 .
ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 428 ، وابن الأثير في الكامل : 4 : 64 ، والسيد ابن طاوس في الملهوف : 159 مع اختلافات لفظية .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 118

والله لو لحقت بالحر لأتبعته السنان . فبينما هو يقاتل وإن فرسه لمضروب على أذنه وحاجبيه والدماء تسيل منه ، فالتفت الحصين إلى يزيد وقال له : هذا الحر الذي كنت تتمناه .
قال : فخرج إليه ، فما لبث الحرّ أن قتل يزيد وقتل معه أربعين فارسا وثلاثين راجلا ، فعرقب فرسه فبقي راجلا ويقول :
إني أنا الحر ونجل الحر اشجع من ذي لبد هزبر
ولست بالجبان عند الكر لكننـي الوثّاب عند الفر

فلم يزل يجال الشجعان ، ويقطر الأقران ، ويبلي الأعذار ، في نصرة قرة عين المختار ، حتى قتل وانتقل إلى جوار الملك الغفار ، في دار القرار ، فلما قتل مشى إليه الحسين وجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول : « أنت حر كما سمّتك أمّك » .
ورثاه رجل من أصحاب الحسين (عليه السلام) بهذا الأبيات ، وقيل : عليّ بن الحسين (عليه السلام) :
فنعم الحر حر بنـي ريـاح صبور عند مشتبك الرماح
ونعم الحر إذ واسـا حسينـا فجـاد بنفسه عند الصباح
فأقرره إلهــي دار خلــد وزوّجه من الحور الملاح

واشترك في قتله أبو أيوب الغنوي ورجل من فرسان أهل الكوفة (1) .
فهنيئا للحر حيث فاز بفضيلة الإنتصار ، وجاد بنفسه بين بتّار وخطّار ، وعرض مهجته للتلف والبوار ، وخرج من رقّ الذلّ والصغار ، وتوّج هامته بتاج العزّ والفخار ، أوَ لا تكونون يا أرباب العقول والأبصار ، كمن تصور مصائب ساداته الأطهار ، وتذكّر نوائب أئمّته ذوي المراتب والأقدار ، فرثاهم بنفائس المراثي والأشعار ، وهو من الخلص الأبرار .

(1) ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 434 .
ورواه المجلسي في البحار : 45 : 14 نقلا عن محمد بن أبي طالب .
وروى القسم الأول منه مختصرا ابن الأثير في الكامل : 4 : 67 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 119

المصرع التاسع

من مصارع الحسين
(عليه السلام)

ضعوا أقدام التوكل في ركاب اليقين ، واثنوا أعنّة التأمل على قرابيس الحقيقة والتعيين ، وامتشقوا لوامع الثكل من أجفان الأسف والتهوين ، وأسرعوا وثبة الوجل واستحضروا نوائي الحنين ، وأغرخوا شكائم النياحة والزجل في مضامير الوصب والأنين ، وتصوروا أقدام الغطارفة الكمّل والأماجد الميامين ، على مشتبكات الوشيج الأسل والتثام كلّ باتر سنين وشاركوهم في المقام الأنبل والمسكن الأمين ، فلقد والله فازوا بغاية الأمل ، وجادوا بالنفيس الثمين ، تجرّعوا كاساة حرارة النكل فبردت غللهم من ضرام التوهين ، وصبروا على اقتحام لجج الخوف والوجل ، واطمأنّوا في القرار المكين ، ولله در من قال من الأبدال ولقد أجاد :
قوم كأولهم في الفضـل آخرهـم والفضل أن يتساوى البدء والعقب
فمنذر مصطفى بالوحـي منتجب ومرتضى مجتبى بالهدي منتخب
الواهبون لدى البأساء مـا وجدوا والطالبون بصدر الرمح ما طلبوا
والمدركــون إذا ما أزمة بخلت بصرفهـا وتخلت عندها الصحب
وكم لهم حين جد الخطب مـن قدم رست عُلا والجبال القود تضطرب
ولا كيومهـم فـي كربلاء وقــد جدّ البلا وارجحنّت عندهـا الكرب
وفتيــة وردوا ماء المنـون بها ورد المضاضة ظمآن الحشا سغب
من كل ابيض وضّاح الجبيـن له نوران من جانبيه الفضل والنسب
تجلو العفاة لهم تحت القنا غـررا تلاعب البيـض فيها والقنا السلب

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 120

أمة ! أميّة أن تعلـو لهـا شـرف ويصبـح الرأس مخدومـا له الذنب
ودون مـا يممّت هنـد وجارتهـا هنـد السيوف وحرب دونه الحرب
جاءت ليستعبد الحر اللئيــم وفي عود العلا عند عجم الضيم مضطرب
فشمّرت للوغــى فرسانهـا طربا وامتـاز بالسبك عن ما دونها الذهب

روي في كتاب « الملهوف على قتلى الطفوف » : أنه لما استشهد الحر رضي الله عنه برز من بعده برير بن خضير الهمداني ، فلما حاذ الحسين (عليه السلام) قال : السلام عليك يا ابن رسول الله ، أستودعك الله .
فأجابه الحسين : « وعليك السلام ، ونحن خلفك » وقرأ (عليه السلام) : «فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا » (1) .
ثم نادى برير : اقتربوا مني يا قتلة المؤمنين ، اقتربوا مني يا قتلة أولاد البدريين ، اقتربوا مني يا قتلة أولاد رسول رب العالمين وذريته الباقين .
وكان برير زاهدا عابدا ، وكان أقرأ أهل زمانه ، فحمل على القوم وهو يقول :
أنا بريــر وأبو خضيــر ليث يروع الأسد عن الزير
يعرف فينا الخير أهل الخير ذلك فعل الخيــر من برير

فلم يزل يقاتل حتى قتل عشرين فارسا وثلاثين راجلا ، فخرج إليه يزيد بن معقل واتفقا على المباهلة إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب منهما وأن يقتل المحقّ المبطل منهما ، فتلاقيا فقتله برير وقتل معه عدّة من الرجال ، فتكاثروا عليه فقتلوه رحمة الله عليه ، فلما قتل برير عظم ذلك على الحسين (عليه السلام) (2) .
قال : فخرج من بعده وهب بن حباب الكلبي ، فأحسن في الجلاد وبالغ في الجهاد ، وكانت امرأته ووالدته معه ، فقالت له أمه : جاهد بين يدي ابن بنت

(1) سورة الأحزاب : 33 : 23 .
(2) رواه السيد مختصرا في الملهوف : ص 160 .
ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 432 مع إضافات ، وابن الأثير في الكامل : 4 : 66 ، والمجلسي في البحار : 45 : 15 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي