طنّبوا أبنية الأحزان في فلوات القلوب ، وأقيموا أعمدة الأشجان بين الجوانح والجنوب ، وجافوا الأبدان عن نواعم مراقد الإطمئنان ، فقد دها الإسلام خطب خطير ، وحلّ ببيت سيد الأنام رزء لايوجد له نظير ، خطب ألبس أرباب الفضل والشرف ثياب الوجد والأسف ، وطوّق أجياد الفخار أطواق الذلّ والصغار ، وأقرّ سوامي الكمال والرتب حضيض الوبال والتعب ، وأردى كماة مضامير العرفان بسيوف البغي والعدوان ، وأسمى رؤوس رؤساء الملل سوامي ذبّل الأسل ، وقطّر زواكي أجسام المناصب والمذاهب على تلعات الوهاد والسباسب ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولله در من قال من الأبدال :
روي في كتاب تذكرة الأئمة أنه لما بلغ عبيدالله بن زياد وصول الحسين (عليه السلام)
لكربلاء ، وحلوله بمركز الكرب والبلاء ، نفذ الجيوش لقتاله ، وسرح العساكر لنزاله ، وكان جملة العساكر التي جاءت لحربه ، وعرضت مهجها لشديد كرّه وضربه ، مئة وأربعة وعشرين ألفا ، وقيل أقلّ وقيل أكثر ، وأصح ما وجدناه منها ما ذكرناه ، وكانوا ثمانين ألف فارس وأربعة وأربعين ألف راجل ، فأول ذلك اثنان وعشرون ألفا من أهل الكوفة ، والمؤمّر عليهم الشمر بن ذي الجوشن الضبابي وقثم بن كلاب العمري وشبث بن ربعي ويزيد بن ركاب ومحمد بن الأشعث وأبوالأشرس والضحاك بن قيس وسعد بن عبدالله وراهب بن قيس وحبيب بن جماز صاحب راية الضلال وقيس بن فاكه ونوفل بن فهر وأسد بن مغيرة وسعد بن أرطأة ، ومعهم من أهل الحرف مثل خبّاز ونجّار وحدّاد وطبّاخ ورؤساء المحال ، وجملتهم ثمانية آلاف ، وهم شاكرية وكندة وخزيمة وأهل مسجد بني زهرة وسوق الليل وسوق الساعات وسوق البراثين ، وثلاثة وثلاثون ألفا من أهل البوادي وقبائل الكوفة مثل عبادة وربيعة وسكون وحمير وكندة ودارم ومطعون وجشعم ومدحج ويربوع وخزاعة وكلب ، ومن المدائن والبصرة سبعة آلاف نفر والعميد عليهم زيد بن اللحم وسعد بن جريح وقمير بن قيس وعلوان بن وردان ووردان بن ثابت وبشير بن سعدان وحماد بن عثمان وعثمان بن فهد ، ومن أهل الشام ثلاثون ألفا وعميدهم ربيعة بن سوادة وسواد بن نحرس وقيس بن زعّال وصخر بن طعيم ، ومن الخوارج اثنا عشر ألفا وعميدهم غسّان بن ثابت وحمل بن نافع وحكم بن عقبة الزهري وزياد بن حرقوس البجلي ، وألفان من الموصل وتكريت والأنبار ، وعشرة آلاف من الأكراد ، والأمير على كل العسكر عمر بن سعد ، وابنه حفص وزيره ، وأبو الحتوف ناظر العسكر ، وعميد عيون الجيش أبو الأشرس السلمي ، وجونة بن جونة كان جاسوسا ، والمؤمر على الحرّاثين أبو أيوب الغنوي ، ونقيب الجيش الشمر لعنه الله وتحت يديه أربعة آلاف نفر ، وتفصيل مراتب من ذكرناهم غير الشمر وعمر بن سعد وابنه كما سيأتي .
وذلك أن يزيد بن ركاب عميد ألفي راجل ، وشبث بن ربعي عميد أربعة آلاف ، وقثم رئيس ألفي راجل ، ووردان غلام ابن سعد أمير جميع الرجالة ، وإسحاق بن الأشعث ضابط الغنائم ، وعروة بن قيس الأحمسي أمير ألفي راجل ، وقرة بن قيس عميد ألفي راجل ، وابن أبي جويرية المزني أمير ألفي فارس ، وحكيم بن الطفيل عميد أربعة آلاف فارس ، وعامر بن الطفيل عميد ألفي راجل ، وحمدان بن مالك عميد ألفي فارس ، وسنان كتاب العسكر ، وأبوالحتوف مشرّف الحرب ، وزياد بن قادر وشبلي بن يزيد مؤذن العسكر ، وخُوّلي بن يزيد الأصبحي صاحب الراية العظمى ، وحرملة بن كاهل حامل راية الرجّالة ، ومنقذ بن مرة العبدي وزيد بن ورقاء سعاة العسكر ، وحجار بن الأحجار ؟ ورافع بن مالك ـ وقيل : الأعور السلمي ـ عميدان على العسكر الذي على الفرات ، وابن حوشب أمير النبّالة ، وعمر بن صبيح الصيداوي عميد الحجارة ، ومحمد بن الأشعث أميرالأمراء ، وأخوه قيس عميد ألفي فارس ، ألا لعنة الله على الظالمين (1) . ولله در من قال :
وروي أن عمر بن سعد لعنه الله لما خيّم بتلك الجنود الكثيرة ، وحطّ على مرابع الطف بهاتيك الجموع الغفيرة ، وكان ذلك لست ليال خلون من المحرم ، فلما نزل بعث إلى الحسين (عليه السلام) رسولا يقال له كثير بن عبدالله الشعبي ، وكان فارسا لا يرد وجهه شيء ، فقال : إذهب إلى الحسين واسأله ما الذي جاء به ؟ فقال كثير : والله إن شئت لأفتكنّ به ! فقال عمر : ما أريد أن تفتك به ، ولكن سله عن ذلك . فأقبل كثير إلى الحسين (عليه السلام) ، فلما رآه أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين (عليه السلام) : قد جاءك يا ابا عبدالله شرّ أهل الأرض وأجرأهم على إهراق الدماء . فقام إليه فقال له : ضع سيفك . قال : لا ولا كرامة ، إنما أنا رسول ، إن سمعتم كلامي بلغتكم إياه ، وإن أبيتم انصرفت عنكم . فقال له أبو ثمامة : إني آخذ بقائم سيفك ثم تكلم . قال : لا والله ولا تمسّه . قال : إذا أخبرني بما جئت به وأنا أبلّغه عنك ولا أدعك تدنو منه أبدا ، فإنك فاجر فاسق . فانصرف إلى ابن سعد وأخبره بذلك ، فدعا عمر بن سعد قرّة بن قيس الحنظلي فقال له : ويحك ، الق حسينا وقل له : ما جاء بك ، وما يريد ؟ فأتاه قرة ، فلما رآه الحسين (عليه السلام) قال : « أتعرفون هذا المقبل » ؟ فقال له حبيب بن مظاهر : هذا رجل من بني حنظلة تميم ، وهو ابن اختنا ، وقد كنت أعرفه بحسن الرأي وما كنت أراه يشهد هذا المشهد ! فجاء فسلم على الحسين وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه ، فقال له الحسين : « كتب إليّ أهل هذا المصر أن اقدم علينا ، فأما إذا كرهتموني فأنا منصرف عنكم » . فقال حبيب بن مظاهر : ويحك يا قرّة ، أين تذهب إلى القوم الكافرين ، انصر
هذا الرجل الذي أيدك الله بآبائه . فقال له قرّة : أرجع إلى صاحبي جواب رسالته وأرى رأيي . فانصرف إلى ابن سعد وأخبره ، فقال عمر بن سعد لعنه الله : أسأل الله أن يعافيني من حربه . قال : وكتب إلى عبيدالله بن زياد : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عن ما أقدمه وما ذا يريد ، فقال : « كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم يسألوني القدوم ففعلت ، فأما إذا كرهتموني وبدا لهم غير الذي أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم » . فلما ورد الكتاب إلى عبيدالله بن زياد قال :
وكتب إلى عمر بن سعد : أما بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا فيه ، والسلام (1) . وروي أن الحسين (عليه السلام) لما رأى حرص القوم على تعجيل قتاله ، وقلة انتفاعهم بمواعظ مقاله ، قال لأخيه العباس : « إن استطعت أن تصرف عنا القوم هذا اليوم فافعل ، لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة ، فإنه يعلم أني أحب الصلاة له والتلاوة لكتابه » . قال : فسألهم العباس ذلك ، فتوقّف عمر بن سعد لعنه الله ، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي : والله لو أنهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم آل محمد ! فأجابوهم إلى ذلك . قال : وجلس الحسين (عليه السلام) في خباه ، فرقد ثم استيقظ وقال لزينب : « يا أختاه ، إني رأيت الساعة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي عليا وأمي فاطمة وأخي
|