منهاج البكاء في فجائع كربلاء 93

المصرع السادس

وهو مصرع الإمام أبي عبد الله
(عليه السلام) أيضا

تفكّروا يا شيعة أبي تراب وأولاده الميامين الأنجاب ، فيما قدم عليه أنصار إمامكم الحسين (عليه السلام) ، وما لاقوه من الأذى والآلام ، فقد رابحوا الله بالأعمار ، وتاجروه في أسواق الإختبار ، وصرفوا أعناق قلوبهم إلى ظلّ وصاله ، وعطفوا أجياد شوقهم إلى حمى إفضاله ، وسرّحوا طرف طرفهم في ميدان بديع جماله ، وأصغوا بأسماعهم إلى نغمات تذكاره ، وفتحوا أقفال خزائن قلوبهم إلى حفظ جواهر أسراره ، وخلعوا أثواب بقائهم إذ عرفوها مبعّدة لهم عن جواره ، وقرعوا أبواب لقائهم إذ وجدوها أول مراحل قربه ومزاره ، فازوا من متاجرته بأعظم الأرباح حيث قد باعوا عليه نفائس الأرواح .
جزى الله قوما أحسنوا الصبر والبلا مقيم وداعـي الخطب يدعو ويخطب
بحيث حسين والرماح شواخــص إليــه وألحــاظ الأسنّــة ترقب
وفرسان صدق من لؤيّ بن غالـب يؤمّ بهـا يبغــي المغالــب أغلب
أخو الفضل لا اللاجي إلى طود عزه يضــام ولا الراجـي لديـه يخيّب
سروا خابطي الظلماء في طلب العلا إلى أن بدى منها الخفــي المحجّب
بكلّ محيّــا منهم ينجلـي الدجـى كـأن كلّ عضو منه في الليل كوكب
إذا الصارم الهنـدي خلا طريقــه وحــاد عن القصد السنان المدرب
مضى ابن عليّ حيث لا نفس ماجـد تهــمّ ولا قلـب من الحـزم بعرب
وخوّفه بالموت قــوم متــى دروا بأن حسينــا من لقى الموت يرهب
وقامت تصـادي دونــه هاشميـة تحـنّ إلــى وصل المنايا وتطرب
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 94

روي في كتاب دلائل الإمامة مرفوعا إلى محمد بن وكيع قال : إنه لما عزم الحسين (عليه السلام) على الخروج من مكة إلى العراق قام خطيبا فقال : « الحمد لله ، ما شاء الله ، ولا قوة إلا بالله ، وصلى الله على رسول الله ، خُطّ الموت على ابن آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير مصرع أنا لاقيه (1) ، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا ، فيملأن مني أكراشا جوفا ، وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خط بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، فيوفينا أجر الصابرين (2) ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته ، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرّ بهم عينه ، وينجز بهم وعده ، من كان فينا باذلا مهجته ، وموطنا على لقاء الله نفسه ، فليرحل فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى » (3) .
وروى الكليني في كتاب الرسائل عن حمزة بن حمران ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : ذكرنا خروج الحسين (عليه السلام) وتخلّف ابن الحنفيّة عنه ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : « يا حمزة ، إني سأحدّثك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا ، إن الحسين بن علي (عليهما السلام) لما انفصل (4) متوجها دعا بقرطاس وكتب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى بني هاشم ، أما بعد ، فإنه من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلف لم يبلغ الفتح ، والسلام » (5) .

(1) في المصدر : « وخيّر لي مصرع أنا لاقيه » .
(2) في الملهوف وكشف الغمة : « ويوفينا أجور الصابرين » .
(3) لم أعثر على كلامه عليه السلام في دلائل الإمامة .
ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 126 ، والإربلي في كشف الغمة : 2 : 241 في عنوان « كلامه وفصاحته عليه السلام » نقلا عن مطالب السؤول لابن طلحة . وعن المجلسي في البحار : 44 : 366 .
(4) في نسخة من الملهوف : « لما فصل » .
(5) ورواه ابن طاوس في الملهوف : ص 129 عن كتاب الرسائل للكليني ، كما في هامش الملهوف .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 95

وروي أن الحسين (عليه السلام) لما وصل زبالة (1) أتاه خبر مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، فعرّف بذلك جماعة ممن معه ، وأخرج لهم كتابا فقرأه عليهم وقال : « بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ، فقد أتانا خبر فضيع : قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبدالله بن يقطر ، وقد خذلتنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف ، من غير حرج ، ليس عليه ذمام » .
فتفرّق عنه أهل الأطماع والإرتياب ، وبقي معه أهله وخيار الأصحاب .
قال : وارتجّ الموضع بالبكاء لقتل مسلم ، وسالت عليه دموع كل مسلم .
ثم إن الحسين (عليه السلام) سار قاصدا لما دعاه الله إليه فلقيه الفرزدق فسلّم عليه وقال : يا ابن رسول الله ، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم وشيعته . فاستعبر الحسين عليه السلام) باكيا وقال) : « رحم الله مسلما » (2) .
ولله در من قال :
يا سائق الحرة الوجنــاء أنحلهــا طيّ السرى وطواها الأيــن والوصب
وجناء ما ألفــت يومـا مباركهـا ولا انثنت عنـد تعريــس لها الركب
علامة بضروب السير أقربها منهـا إلــى رائـهــا التقريـب والجنب
تؤتى جوانبهــا تأبــى مباركهـا حبّ الســرى وكـأنّ الراحـة التعب
عُج بي إذا جئت غربي الحمى وبدت منــه لمقلتــك الأعـلام والقبــب
وحيّ عنّي الألى أقمارهــم طلعت من طيبة ولدي كـرب البــلا غربوا
فأعجب بهم كيف حلّـوا كربلا وقـد كانت بهـم تكشـف الغمّـات والكرب
فأين تلك البـدور التمّ لا غربــوا وأيـن تلك البحــور الفعم لا نضبوا
قوم لهم شرف العليـاء من مضــر والمــرء يؤخـذ في تحديـده النسب

(1) زبالة : منزل بطريق مكة من الكوفة . ( معجم البلدان : 3 : 129 ) .
(2) ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 75 مع اختلاف .
ورواه السيد في الملهوف : ص 134.
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 96

فلله درهّم من رجال بذلوا نفائس النفوس ، وعرّضوا للصوارم الأعناق والرؤوس ، وتسنّموا في اليوم العبوس ، كل طمرة شموس ، وناطحوا في موقف الأذى والبؤس كلّ شمردل (1) حموس ، أخمدوا بجلادهم يوم داحس والبسوس ، وغادروا بحدادهم القرم الطموس تحت الجنادل مرموس .
روي في الكتاب المذكور أن الحسين (عليه السلام) لما وصل على مرحلتين من الكوفة ، فإذا بالحر بن يزيد الرياحي في ألف فارس ، فقال له الحسين (عليه السلام) : « ألنا أم علينا » ؟
فقال : « بل عليك يا أبا عبدالله » .
فقال الحسين (عليه السلام) : « لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » . وترداد القول بينهما حتى قال الحسين : « أيها الناس ، فإنكم إن تتقوا الله ربكم ، وتعرفوا الحق لأهله ، يكون أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت نبيكم أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم بحقّ ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أبيتم إلا الكراهة لنا والجهل بحقنا وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به رسلكم ، انصرفت عنكم » .
فسكتوا كلهم ولم يردّوا عليه جوابا ، فقال لأصحابه : « قوموا فاركبوا »فركبوا وانتظر حتى ركّب نساؤه ، فقال لأصحابه : « انصرفوا » . فحال القوم بينهم وبين الإنصراف ، فقال الحسين (عليه السلام) للحرّ : « ثكلتك أمّك ، ما تريد » ؟
فقال له الحرّ : أما والله لو غيرك من العرب يقولها وهو على مثل هذا الحال ما تركت ذكر أمه والثكل كائنا ما كان ، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما نقدر عليه .
فقال الحسين (عليه السلام) : « ما تريد إذا » ؟
قال : أريد أمضي بك إلى الأمير عبيدالله بن زياد .

(1) الشمردل : الصبي الجلد ، وقالوا : جمل شمردل وناقة شمردلة ، لقوة سيرها . ( المعجم الوسيط ) .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 97

فقال الحسين (عليه السلام) : « إذا والله لا أتّبعك » .
فقال الحرّ : إذا والله لا أدعك .
فكثر الكلام بينهما ، فقال له الحر : إني لم اُؤمر بقتالك ، وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت يا ابن رسول الله فخذ طريقا لا يدخلك الكوفة ولا يوصلك إلى المدينة لأعتذر أنا إلى ابن زياد بأنك خالفتني في الطريق ، فلعل الله أن يرزقني العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك .
فتياسر الحسين (عليه السلام) حتى وصل الى عذيب الهجانات والحرّ يسايره مع أصحابه وهو يقول له : يا حسين ، أذكّرك الله في نفسك ، فإني اشهد لئن قاتلت لتقتلنّ .
فقال له الحسين (عليه السلام) : أفبالموت تخوّفني ؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخوّفه ابن عمه [ فقال له : أين تذهب ؟ فإنك مقتول . فقال :
سامضي وما بالموت عار على الفتى إذا مــا نـوى حقا وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحيـن بنفســه وفارق مثبورا يغش ويرغما ](1)(2) .

ولله در من قال من الرجال :
عشية أضحى الشرك مرتفع الذرى وولّت بشمــل الدين عنقاء مغرب
تراع الوغى منهم بكـلّ شمــردل نديمـاه فيهـا سمهــريّ ومقضب
بكلّ فتى للطعن في حــرّ وجهـه مراح وللضــرب المرعبل ملعب

(1) ما بين المعقوفين من تاريخ الطبري .
(2) ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 79 و 80 مع مغايرات لفظية .
ورواه الخوارزمي في المقتل : ص 231 ـ 233 في الفصل الحادي العشر ، والطبرسي في إعلام الورى : ص 229 ـ 230 ، وابن طاوس في الملهوف : ص 137 .
وانظر كشف الغمّة للإربلي : ج 2 ص 258 ، وإعلام الورى : ص 230 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 98

بكل نقـي الخدّ لولا خطــى القنـا ترى الشمس من معنـاه تبدو وتغرب
كثير حيـا لولا وقاحــة رُمحــه لحــقّ بـه للعــارفيـن التشبب
كأنّ الحداد البيض تخضب بالدمــا لعينيه ثغــر بارد الظلــم أشنب
كأنّ القنى العسّـال وهــي شوارع قدود تُثنّـى فـي المــراح وتلعب
كـأنّ صليــل المُرهفـات لسمعـه غوانـي تغنّـي بالصـبــا وتشبّب
كأنّ ظلام النقــع صُبـح مســرّة لديه ويوم السلــم إن هـاج غيهب
كأن المنايـا السـود يطلـع بُينهــا أخو البدر معشـوق الجمـال محجّب
كأنّ ركـام النـقــع من فوق رأسه أرائـك تُبنـى للوصــال وتضرب
كأنّ الضبا فيهــا نجــوم مضيئة ويومهم من ثائــر النقــع مقطب
كأن صدور البيض من ضربها الطلا أخو صبـوة مضني الفــؤاد معذّب
كـأنّ أطاريــف الأسنـة تكتسـي دما طـرف صبّ أحمر الدمع صيّب

وروي أن الحسين (عليه السلام) مضى حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به ، وإذا هو بفسطاط مضروب ، فقال : « لمن هذا » ؟ فقيل : لعبيدالله بن الحر الجعفي ، قال : « ادعوه إليّ » .
فلما أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي (عليهما السلام) يدعوك . فقال له عبيد الله : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهية أن يدخلها الحسين (عليه السلام) وأنا فيها ، وما أريد أن أراه ولا يراني !
فأتاه الرسول فأخبره ، فقام الحسين (عليه السلام) فجاءه حتى دخل عليه وسلم وجلس ، ثم دعاه إلى الخروج معه ، فأعاد عليه عبيد الله تلك المقالة واستقاله مما دعاه إليه ، فقال له الحسين (عليه السلام) : « فإن لم تكن تنصرنا فاتّق الله ولا تكن ممن يقاتلنا ، فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لم ينصرنا إلا هلك » .
فقال له : أما هذا فلا يكون أبدا إن شاء الله . ثم قام الحسين (عليه السلام) من عنده حتى

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 99

دخل رحله (1) .
ولما كان في آخر الليل أمر مناديه بالاستسقاء من الماء ، ثم أمر بالرحيل ، فارتحل من قصر بني مقاتل ، فلما أصبح نزل بهم وصلى الغداة ، ثم عجّل الركوب وأخذ يتياسر بأصحابه فعارضه الحرّ وأصحابه ، ومنعوه من المسير ، فقال : « ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق » ؟ فقال الحر : بلى ، ولكن كتاب الأمير عبيدالله وصل إليّ يأمرني بالتضييق عليك ، وهذا رسوله وقد أمره أن لا يفارقني حتى أنفذ أمره فيكم .
فنظر يزيد بن مهاجر الكندي إلى رسول ابن زياد ـ لعنه الله ـ فعرفه ، فقال له : ثكلتك أمك ، ماذا جئت فيه ؟ فقال : أطعت إمامي ووفيت ببيعتي .
فقال له : بل عصيت ربك وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، وكسبت العار والنار ، فبئس الإمام إمامك ، قال الله تعالى : «وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا يُنصرون »(2) ، فإمامك منهم .
فأخذهم الحر بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا كلاء ، فقال له الحسين (عليه السلام) : « ويحك ، دعنا ننزل هذه القرية » ، يعني نينوى أو الغاضريات .
فقال له الحر : لا والله لا استطيع إلى ذلك من سبيل ، هذا رجل قد بُعث عليّ عينا .
فقال زهير بن القين للحسين (عليه السلام) : والله لا ترون شيئا بعد الآن إلا كان أشد مما ترون الآن ، يا ابن رسول الله ، إن قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من قتال من يأتي من بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا طاقة لنا به .
فقال له الحسين : « ما كنت لأبدأهم بالقتال » . ثم نزل (3) .

(1) ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 81 ، وعنه المجلسي في البحار : 44 : 379 .
ورواه الخوارزمي في المقتل : ص 277 في الفصل 11 مع إضافات .
(2) سورة القصص : 28 : 41 .
(3) ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 82 ـ 84 مع مغايرات لفظية ، وعنه في البحار : 44 : 380 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 100

وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر النبي فصلى عليه ثم قال : «إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإن الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش المرعى ، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ؟ وإلى الباطل لا ينهى عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا ، فأنا لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما » .
فقال زهير بن القين : نعم قد سمعنا ، هدانا الله بك يا ابن رسول الله ، فنحن مقاتلوا مقاتلك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا ذلك على النهوض معك .
فقام هلال بن نافع البجلي فقال : والله ما كرهنا لقاء ربنا ، وإنا لعلى نياتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ، ونعادي من عاداك .
قال : وقام بُرير بن خضير فقال : يا ابن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا لنقاتل معك وتقطّع أعضاؤنا بين يديك ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة .
ثم إن الحسين (عليه السلام) ركب وأراد المسير والحر يمانعه حتى ورد كربلاء ، وكان ذلك يوم الثاني من المحرم ، فلما وصلها سأل عن اسم المكان فقال له : كربلاء .
فقال : « انزلوا ، هاهنا والله محطّ رحالنا وسفك دمائنا ، هاهنا والله محل قبورنا ، هاهنا والله تُسبى حريمنا ، بهذا وعدني(1)جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) » . ونزل الحر معه في ساعة واحدة (2) .

ورواه الخوارزمي في المقتل : ص 234 في الفصل 11 .
(1) في النسخة : « أوعدني » ، وفي الملهوف : « حدثني » .
(2) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 138 مع اختلافات لفظية .
وروى قسما منه الطبري في تاريخه : 5 : 403 ـ 404 ، والطبراني في المعجم الكبير : 3 : 114 ـ 115 | 2842 ، ومن طريقه ابن عساكر في ترجمة الحسين عليه السلام : ( 271 ) والخوارزمي في مقتل الحسين (عليه السلام) : 2 : 4 ـ 5 ، وأبو نعيم في حلية الأولياء : 2 : 39 ، والسيد أبوطالب في تيسير المطالب : ص 91 باب 6 ، ويحيى بن الحسين الشجري في أماليه : 1 :

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 101

وكفــاك لو لم تدر إلا كربــلا يوم ابن حيــدر والسيوف عواد
أيـام قاد الخيل توسـع شاؤهــا من تحت كــل شمردل مغـوار
هاجوا إلى الحرب العــوان كأنما تبدو لهــم عذراء ذات خمــار
يمشون في ظلّ السيوف تبختـرا مشي التــريف معاقـر العقّــار
وتناهبت أجسادهم بيض الضبــا فمسربـل بــدم الوتيــن وعار
وانصاع نحو الجيش نجل الضيغم الكــرار مثل الضيغم الكــرار
يوفي على الغمرات لا يلــوي به فقد الظهيــر وقلـة الأنصــار
لليــوم من أنــواره وقد انكفت بنهــاره الهبـوات خيــر نهار

فيا نفس سيلى من المحاجر سيل الأنهار ، ويا لهبات الأحزان كنّي في الضمائر بالاستعار ، فقد دارت على مراكن الشرف الدوائر من بدع الأقدار ، وحلّت ببيت الفخر أمّ الفواقر فأخلت من أربابه الديار ، فلا تسمع في محانى تلك المحاظر نغمات الأسحار ، ولا تشمّ من تلك الوجوه الزواهر حارسا ولا سمار ، فعلى مثل مصاب سادات الأعاصر فلمتكدّر الأعصار ، أو لا تكونون كمن خيّم هذا الرزء العاقر في مرابع سلوانه والاصطبار ، وحطّم بكلاكل الداء المخاير منه كلا الاستثبار (1) ، فرثاه بما استتر في السرائر من المراثي والأشعار ، ولله درّه من راث وشاعر قد طاب منه التجار .

=
161 ، وابن بنت منيع كما عنه في ذخائر العقبى : ص 149 ـ 150 .
وأورده ابن عبدالبرّ في العقد الفريد : 4 : 348 ، والقاضي النعمان في شرح الأخبار : 3 : 150 | 1088 ، والحلواني في نزهة الناظر : 87 ـ 88 ، وورّام بن أبي فراس في مجموعته : 2 : 98 ط النجف ، والذهبي في السير : 3 : 310 ، والحسن بن شعبة في تحف العقول : ص 245 ، والآبي في نثر الدر : 1 : 337 ، والإربلي في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من كشف الغمة : 2 : 244 في عنوان : « الثامن : في ذكر شيء من كلامه عليه السلام » .
(1) من بعد قوله : « الداء » إلى هنا غير واضح في النسخة ، وما أثبتناه هو ظاهر رسم الخط .
منهاج البكاء في فجائع كربلاء 102

المصرع السابع

من مصارع ابي عبدالله الحسين
(عليه السلام)

طنّبوا أبنية الأحزان في فلوات القلوب ، وأقيموا أعمدة الأشجان بين الجوانح والجنوب ، وجافوا الأبدان عن نواعم مراقد الإطمئنان ، فقد دها الإسلام خطب خطير ، وحلّ ببيت سيد الأنام رزء لايوجد له نظير ، خطب ألبس أرباب الفضل والشرف ثياب الوجد والأسف ، وطوّق أجياد الفخار أطواق الذلّ والصغار ، وأقرّ سوامي الكمال والرتب حضيض الوبال والتعب ، وأردى كماة مضامير العرفان بسيوف البغي والعدوان ، وأسمى رؤوس رؤساء الملل سوامي ذبّل الأسل ، وقطّر زواكي أجسام المناصب والمذاهب على تلعات الوهاد والسباسب ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولله در من قال من الأبدال :
وركب سروا والليل جمّ خطوبــه وما اليوم بالمأمــون ان سائر سارا
حدثت بهم نحو العلى محض عزمـة تفيـد الضيا نورا وتقري الحصا نارا
حجازية لا الثابت الأصـل ثابتــا لديهـا ولا السيــار ان تعـد سيارا
يريد بهــا المجـد الموئـل أبلـج قليـل عراه الجفــن أبيض مغوارا
معيد وغى تنشـى به البيـض والقنا من الضــرب أنهارا وللطعن آبارا
له سبق العليـاء في كــل غــارة وإن بعد الشاءُون في السبق مضمارا
كأني بــه والحرب تذكي ضرامها وأبنـاؤهـا بالحتف طائرهم طــارا
تحفّ به الأعداء من كــلّ وجهـة فمـا قلّ عن حزم وقد قل أنصــارا
يلاقي المنايـا كالحــات وجوههـا طليــق المحيّـا باسم الثغر مسعارا
على مقبــل لم تلفه الحرب مدبـرا فمـا انفكّ كـرارا وما فكّ كــرارا
كأنّ من الحرب العــوان لعـينــه مخضّبـة الأطـراف هيفاء منظارا

روي في كتاب تذكرة الأئمة أنه لما بلغ عبيدالله بن زياد وصول الحسين (عليه السلام)

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 103

لكربلاء ، وحلوله بمركز الكرب والبلاء ، نفذ الجيوش لقتاله ، وسرح العساكر لنزاله ، وكان جملة العساكر التي جاءت لحربه ، وعرضت مهجها لشديد كرّه وضربه ، مئة وأربعة وعشرين ألفا ، وقيل أقلّ وقيل أكثر ، وأصح ما وجدناه منها ما ذكرناه ، وكانوا ثمانين ألف فارس وأربعة وأربعين ألف راجل ، فأول ذلك اثنان وعشرون ألفا من أهل الكوفة ، والمؤمّر عليهم الشمر بن ذي الجوشن الضبابي وقثم بن كلاب العمري وشبث بن ربعي ويزيد بن ركاب ومحمد بن الأشعث وأبوالأشرس والضحاك بن قيس وسعد بن عبدالله وراهب بن قيس وحبيب بن جماز صاحب راية الضلال وقيس بن فاكه ونوفل بن فهر وأسد بن مغيرة وسعد بن أرطأة ، ومعهم من أهل الحرف مثل خبّاز ونجّار وحدّاد وطبّاخ ورؤساء المحال ، وجملتهم ثمانية آلاف ، وهم شاكرية وكندة وخزيمة وأهل مسجد بني زهرة وسوق الليل وسوق الساعات وسوق البراثين ، وثلاثة وثلاثون ألفا من أهل البوادي وقبائل الكوفة مثل عبادة وربيعة وسكون وحمير وكندة ودارم ومطعون وجشعم ومدحج ويربوع وخزاعة وكلب ، ومن المدائن والبصرة سبعة آلاف نفر والعميد عليهم زيد بن اللحم وسعد بن جريح وقمير بن قيس وعلوان بن وردان ووردان بن ثابت وبشير بن سعدان وحماد بن عثمان وعثمان بن فهد ، ومن أهل الشام ثلاثون ألفا وعميدهم ربيعة بن سوادة وسواد بن نحرس وقيس بن زعّال وصخر بن طعيم ، ومن الخوارج اثنا عشر ألفا وعميدهم غسّان بن ثابت وحمل بن نافع وحكم بن عقبة الزهري وزياد بن حرقوس البجلي ، وألفان من الموصل وتكريت والأنبار ، وعشرة آلاف من الأكراد ، والأمير على كل العسكر عمر بن سعد ، وابنه حفص وزيره ، وأبو الحتوف ناظر العسكر ، وعميد عيون الجيش أبو الأشرس السلمي ، وجونة بن جونة كان جاسوسا ، والمؤمر على الحرّاثين أبو أيوب الغنوي ، ونقيب الجيش الشمر لعنه الله وتحت يديه أربعة آلاف نفر ، وتفصيل مراتب من ذكرناهم غير الشمر وعمر بن سعد وابنه كما سيأتي .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 104

وذلك أن يزيد بن ركاب عميد ألفي راجل ، وشبث بن ربعي عميد أربعة آلاف ، وقثم رئيس ألفي راجل ، ووردان غلام ابن سعد أمير جميع الرجالة ، وإسحاق بن الأشعث ضابط الغنائم ، وعروة بن قيس الأحمسي أمير ألفي راجل ، وقرة بن قيس عميد ألفي راجل ، وابن أبي جويرية المزني أمير ألفي فارس ، وحكيم بن الطفيل عميد أربعة آلاف فارس ، وعامر بن الطفيل عميد ألفي راجل ، وحمدان بن مالك عميد ألفي فارس ، وسنان كتاب العسكر ، وأبوالحتوف مشرّف الحرب ، وزياد بن قادر وشبلي بن يزيد مؤذن العسكر ، وخُوّلي بن يزيد الأصبحي صاحب الراية العظمى ، وحرملة بن كاهل حامل راية الرجّالة ، ومنقذ بن مرة العبدي وزيد بن ورقاء سعاة العسكر ، وحجار بن الأحجار ؟ ورافع بن مالك ـ وقيل : الأعور السلمي ـ عميدان على العسكر الذي على الفرات ، وابن حوشب أمير النبّالة ، وعمر بن صبيح الصيداوي عميد الحجارة ، ومحمد بن الأشعث أميرالأمراء ، وأخوه قيس عميد ألفي فارس ، ألا لعنة الله على الظالمين (1) .
ولله در من قال :
وتبدت شوارع الخيـل والسّمر وفرسانهــا يـرفّ لـواهــا
تتداعا ثــارات بدر ولمــا يكفها كبــد حمـزة وكلاهــا
فدعا صحبه ، هلمّــوا فقـد اسمـع داعي المنون نفسي رداها
كنت عرضتكم لمحبوب أمـر أن تـروا فيــه غبطة وارتفاها
فإذا الأمر عكس ما قد رجونـا محنة فاجئت [ ظ ] وأخرى ولاها
فأجاب الجميع عن صدق نفس أجمعت أمرهــا وحازت هداها
لا ومعنـىً به تقدست ذاتــا وجلال بـه تعاليــت جاهــا

(1) تذكرة الأئمة لمحمد باقر اللاهيجي : ص 87 مع مغايرات كثيرة .
والكتاب باللغة الفارسية .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 105

لانخلّيك أو نخلّي الأعـادي تتخلى رؤوسهـا عن طلاها
أو تنال السيوف منا غذاهـا وتروّي الرمـاح منا ظماها

وروي أن عمر بن سعد لعنه الله لما خيّم بتلك الجنود الكثيرة ، وحطّ على مرابع الطف بهاتيك الجموع الغفيرة ، وكان ذلك لست ليال خلون من المحرم ، فلما نزل بعث إلى الحسين (عليه السلام) رسولا يقال له كثير بن عبدالله الشعبي ، وكان فارسا لا يرد وجهه شيء ، فقال : إذهب إلى الحسين واسأله ما الذي جاء به ؟
فقال كثير : والله إن شئت لأفتكنّ به !
فقال عمر : ما أريد أن تفتك به ، ولكن سله عن ذلك .
فأقبل كثير إلى الحسين (عليه السلام) ، فلما رآه أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين (عليه السلام) : قد جاءك يا ابا عبدالله شرّ أهل الأرض وأجرأهم على إهراق الدماء .
فقام إليه فقال له : ضع سيفك . قال : لا ولا كرامة ، إنما أنا رسول ، إن سمعتم كلامي بلغتكم إياه ، وإن أبيتم انصرفت عنكم .
فقال له أبو ثمامة : إني آخذ بقائم سيفك ثم تكلم .
قال : لا والله ولا تمسّه .
قال : إذا أخبرني بما جئت به وأنا أبلّغه عنك ولا أدعك تدنو منه أبدا ، فإنك فاجر فاسق .
فانصرف إلى ابن سعد وأخبره بذلك ، فدعا عمر بن سعد قرّة بن قيس الحنظلي فقال له : ويحك ، الق حسينا وقل له : ما جاء بك ، وما يريد ؟
فأتاه قرة ، فلما رآه الحسين (عليه السلام) قال : « أتعرفون هذا المقبل » ؟
فقال له حبيب بن مظاهر : هذا رجل من بني حنظلة تميم ، وهو ابن اختنا ، وقد كنت أعرفه بحسن الرأي وما كنت أراه يشهد هذا المشهد !
فجاء فسلم على الحسين وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه ، فقال له الحسين : « كتب إليّ أهل هذا المصر أن اقدم علينا ، فأما إذا كرهتموني فأنا منصرف عنكم » .
فقال حبيب بن مظاهر : ويحك يا قرّة ، أين تذهب إلى القوم الكافرين ، انصر

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 106

هذا الرجل الذي أيدك الله بآبائه .
فقال له قرّة : أرجع إلى صاحبي جواب رسالته وأرى رأيي .
فانصرف إلى ابن سعد وأخبره ، فقال عمر بن سعد لعنه الله : أسأل الله أن يعافيني من حربه .
قال : وكتب إلى عبيدالله بن زياد : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عن ما أقدمه وما ذا يريد ، فقال : « كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم يسألوني القدوم ففعلت ، فأما إذا كرهتموني وبدا لهم غير الذي أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم » .
فلما ورد الكتاب إلى عبيدالله بن زياد قال :
الآن قد علقت به مخالبنــا يرجو النجاة ولات حين مناص

وكتب إلى عمر بن سعد : أما بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا فيه ، والسلام (1) .
وروي أن الحسين (عليه السلام) لما رأى حرص القوم على تعجيل قتاله ، وقلة انتفاعهم بمواعظ مقاله ، قال لأخيه العباس : « إن استطعت أن تصرف عنا القوم هذا اليوم فافعل ، لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة ، فإنه يعلم أني أحب الصلاة له والتلاوة لكتابه » .
قال : فسألهم العباس ذلك ، فتوقّف عمر بن سعد لعنه الله ، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي : والله لو أنهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم آل محمد ! فأجابوهم إلى ذلك .
قال : وجلس الحسين (عليه السلام) في خباه ، فرقد ثم استيقظ وقال لزينب : « يا أختاه ، إني رأيت الساعة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي عليا وأمي فاطمة وأخي

(1) رواه الطبري في تاريخه : ج 5 ص 410 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي