مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 178

المصرع الثاني عشر

وهو مصرع الباقر
(عليه السلام)

اعلم يا طالب الإذعان والتصديق ، والراغب في الإرشاد إلى سواء الطريق ، أنه قد فوّق سهم التوفيق ، راميا للمرمى الدقيق عن قوس التحقيق ، واتسع المضيق ، وهدر الفتيق (1) ، وأنت راسب في غطمطم الضيق ، مرتطم في يمّ التعويق ، أما آن لك أن تفيق ، فما لي أراك كلما أراك دليل الإدراك بشراك ، وشراك من اشراك الأشراك ، تقهقرت إلى وراك ، فقد ومن سواك إرداك خبث الإدراك ، وما أدراك فلعلّك علّك نسيم الأزهار وغشاك ، أم غشاك عظيم الأنوار فأعشاك ، فوقعت من هناك في هاوية هواك ، فأين هذا من ذاك ، إنّ طريقك عكس قصدك ، وقدحُك ليس من زندك ، يا ويلك أتروم دخول الجنان بغير الإيمان ، وترجو الأمان من النيران بدون شفاعة صفوة آل عدنان ، أم تدّعي الموالاة بغير علامات ، أين بذل المهج في هواهم ، أين صرف الأعمار في عزاهم ، أم تقول ما بلغك مصابهم المهول ، ولا طرقك رزؤهم الثقيل ، بلى والله بلغك وتلاهيت ورأيته وتعاميت ، فما أحراك بما قيل : « من لم حرّكه الربيع وأزهاره ، والعود وأوتاره فقد فسد مزاجه وامتنع علاجه ، ولم ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع » ، ولله در من قال من الرجال الأبدال :
يا نفس لو أدركت حظا وافرا لنهاك عن فعل القبيح نهاك

(1) الفتيق : الفصيح الحادّ اللسان ، والصُبح المُشرق . ( المعجم الوسيط ) .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 179

وعرفت من أنشـأك من عدم إلى هذا الوجود وصانعــا سواك
وشكرت منته عليك وحسـن ما أولاك مـن نعمـائــه مولاك
أولاك حب محمــد ووصيــه ير الأنام فنعـم مــا أولاك
فهما لعمرك علّمــاك الدين في الدنيا وفي الأخرى همـا علماك
وهما أمانك يوم بعثك فــي غد وهما إذا انقطـع الرجاء رجاك
واذا الصحائف في القيامة نشرت ستروا عيوبك عند كشف غطاك
وإذا وقفت على الصراط تبـادرا وتقدّمـاك فلم تـزل قدمــاك

روى الشيخ في كتاب المصباح أن الباقر (عليه السلام) ولد في يوم الجمعة ثالث صفر سنة السابعة والخمسين (1) .
وهو أول علويّ تولد من الحسنين ، وذلك لأنه محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) ، وأمه فاطمة [ أمّ ] عبدالله بنت الحسن (عليه السلام) كما روي في المناقب إنه هاشمي تولد من هاشميين وعلويّ تولد من علويّين وفاطمي تولد من فاطميين (2) .

(1) ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص 259 ، والإربلي في كشف الغمة : 2 : 329 .
ورواه الكفعمي في الجدول من المصباح : ص 522 إلا أنّ فيه : ولد يوم الاثنين .
(2) ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص 259 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 225 في معالي أموره عليه السلام .
وانظر إرشاد المفيد : 2 : 158 ، والدر النظيم لجمال الدين الشامي : ص 603 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 180

وروي في كتاب العلل عن جابر بن يزيد الجعفي أنه سأله عمرو بن يزيد بن شمر فقال له : ياجابر ، لمَ سمّي الباقر باقرا ؟ قال : لأنه بقر العلم بقرا ، أي شقّه شقا وأظهره إظهارا ، لقد حدّثني جابر بن عبدالله الأنصاري أنه قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « يا جابر ، إنك ستبقى وستلقى (1) ولدي محمد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف في التوراة بالباقر (2) ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام » .
[ قال جابر : ] فبينما أنا في بعض سكك المدينة إذ لقيت غلاما لم أر مثله قطّ ، فقلت له : مَن أنت يا غلام ؟
فقال : [ أنا ] محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب » .
فقلت له : يا بُنيّ ، أقبل . فأقبل ، ثم قلت له : أدبر . فأدبر ، فرأيت شمائل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وربّ الكعبة ، فقلت له : يا بُني ، إذا أنت الباقر .
قال : « نعم » .
قلت له : يا مولاي ، إن رسول الله يقرؤك السلام .
فقال : « وعلى رسول الله السلام [ ما دامت السماوات والأرض ، ] وعليك يا جابر بما حملت السلام السلام » (3)(4) .
فرجع محمد بن علي إلى أبيه علي بن الحسين مذعورا فأخبره الخبر ،

(1) في المصدر : « ستبقي حتى تلقى » .
(2) في المصدر : « ستبقي حتى تلقى » .
(3) في المصدر : « بما بلّغت السلام » ، وليس فيه السلام الثاني .
(4) رواه الصدوق في علل الشرائع : 1 : 233 باب 168 العلة التي من أجلها سمي أبو جعفر محمد بن علي عليه السلام الباقر ، وزاد بعده : فقال له جابر : يا باقر ، يا باقر أنت الباقر حقا ، أنت الذي تبقر العلم بقرا . ثم كان جابر يأتيه فيجلس بين يديه فيعلمه وربما غلط جابر فيما يحدّث به عن رسول الله صلى الله عليه وآله فيرد عليه ويذكّره فيقبل ذلك منه ويرجع إلى قوله ، وكان يقول : يا باقر ، يا باقر ، يا باقر أشهد بالله أنك قد أوتيت الحكم صبيا .
ورواه أيضا في كمال الدين وتمام النعمة : ص 253 باب 23 ح 3 ، وعنه المجلسي في البحار : 46 : 225 ح 4 من باب مناقبه عليه السلام .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 181

فقال (عليه السلام) : « يا بُني ، فعلها جابر » ؟ قال : « نعم » .
وكان جابر بعد ذلك يأتي إليه طرفي النهار ، فكان أهل المدينة يقولون : وا عجبا لجابر ، يأتي إلى هذا الغلام طرفي النهار وهو آخر من بقي من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ! فلم يلبث أن مضى علي بن الحسين (عليهما السلام) فجعل محمد بن علي الباقر يأتي جابر كرامة لصحبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) .
فجلس (عليه السلام) يوما يحدّث الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال أهل المدينة : ما رأينا كهذا كذابا ! يحدّث الناس عن شيء لم يره ، فلما سمع ما يقولون حدثهم عن جابر ، فصدّقوه ، وكان والله يأتيه جابر فيتعلم منه (1) .

(1) ورواه الراوندي في الخرائج : 1 : 279 ح 12 قال : إن أبا عبدالله عليه السلام قال : إن جابر بن عبدالله رضي الله عنه كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وكان رجلا منقطعا إلينا أهل البيت ، وكان يقعد في مسجد الرسول معتجرا بعمامة ، وكان يقول : « يا باقر ، يا باقر » ، فكان أهل المدينة يقولون : جابر يهجر ، فكان يقول : لا والله لا أهجر ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : « إنك ستدرك رجلا مني اسمه اسمي وشمائله شمائلي ، يبقر العلم بقرا » ، فذلك الذي دعاني إلى ما أقول .
قال : فبينما جابر ذات يوم يتردد في بعض طرق المدينة إذ مر بمحمد بن علي عليهما السلام فلما نظر إليه قال : يا غلام ، أقبل . فأقبل ، ثم قال : أدبر . فأدبر ، فقال : شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله [ والذي نفس جابر بيده ] ، ما اسمك يا غلام ؟
فقال : أنا محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . فقبّل رأسه ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ، أبوك رسول الله يقرئك السلام . فقال : « وعلى رسول الله السلام » .
قال : ويقول لك ... ويقول لك ....
فرجع محمد إلى أبيه وهو ذعر ، فأخبر بالخبر ، فقال : يا بُنيّ ، قد فعلها جابر ؟ قال : نعم .
قال : يا بني ، الزم بيتك .
قال : فكان جابر يأتيه طرفي النهار ، فكان أهل المدينة يقولون : وا عجبا لجابر يأتي هذا الغلام طرفي النهار ، وهو آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ! فلم يلبث أن مضى علي بن الحسين ، فكان محمد بن علي عليهما السلام يأتيه على الكرامة لصحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله .

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 182

فلا غرو أن لاح صبح علمه الصادق ، وأجرى بحر فهمه الدافق ، فهو حجة الملك الخالق على كافة الخلائق ، وأمينه على الحقائق ، فويل للمنكر والمنافق .
فهل سيد قد شيّد الفخــر بيتــه يذلّ ويضحى السيد يرهبه العبـد
إذا سام منا الدهـر يومـا مذلــة فهيهات يأبــى ربنـا وله الحمد
وتأبى نفـوس طاهــرات وسادة مواضيهــم هام الكماة لها غمد
ليوث وغــى ظلّ الرماح مقيلها مغاوير طعم المـوت عندهم شهد
حماة عن الأشبــال يوم كريهـة بدور دجى سادوا الكهول وهم مرد
إذا افتخروا في الناس عزّ نظيرهم ملوك على أعتابهم يسجد الحمـد
أيادي عطاهم لا تطاول في النـدى وأيدي علاهم لا يطاق لهــا ردّ

=
قال : فجلس الباقر يحدثهم عن الله ، فقال أهل المدينة : ما رأينا أحدا قطّ أجرأ من ذا !
فلما رأى ما يقولون ، حدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال أهل المدينة : ما رأينا قط أحدا أكذب من هذا ، يحدّث عمن لم يره !
فلما رأى ما يقولون ، حدثهم عن جابر بن عبدالله ، فصدّقوه ، وكان والله جابر يأتيه فيتعلم منه .
ورواه عنه المجلسي في البحار : 46 : 225 ح 5 من باب مناقبه عليه السلام .
ورواه الكليني في الكافي : 1 : 469 ح 2 باب مولده عليه السلام ، والمفيد في الإختصاص : ص 62 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 212 في علمه عليه السلام ، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين : 1 : 206 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 183

مطاعيم للعافي مَطاعين في الوغى مُطاعين إن قالوا لهم حجج لــدّ
مفاتيح للداعــي مصابيح للهدى معاليم للساري بهـا يهتدي النجد
نزيلهــم حــرم منازلهم تقى منازلهــم أمن بها يبلـغ القصد
فضائلهم جلّت فواضلهــم جلت مذابحهم شهـد منائحهــم نـدّ

روي في تفسير علي بن إبراهيم عن إسماعيل بن أبان ، عن عمر بن عبدالله الثقفي قال : أخرج هشام بن عبدالملك لعنه الله أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) من المدينة معه إلى الشام ، وكان ينزل معه ، وكان يقعد مع الناس في مجالسهم ، فبينما هو قاعد وعنده جماعة من الناس يسألونه إذ نظر إلى النصارى يدخلون في جبل هناك ، فقال : « ما لهؤلاء القوم ؟ ألهم عيد اليوم » ؟
قالوا : لا يا ابن رسول الله ، ولكنهم ياتون عالما لهم في هذا الجبل في كل سنة في [ مثل ] هذا اليوم ليخرجونه فيسألونه (1) عما يريدون وعن ما يكون في عامهم .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : « أيكون له علم » ؟ (2)
قالوا : هو من أعلم الناس ، قد أدرك الحواريين من قوم عيسى .
فقال (عليه السلام) : « هلمّ نذهب إليه » (3) .
فقالوا : ذاك إليك يا ابن رسول الله .
قال : فقنّع أبو جعفر رأسه بثوبه ومضى هو أصحابه ، واختلطوا بالناس حتى أتوا الجبل ، فقعد أبو جعفر وسط النصارى هو وأصحابه ، فأخرج النصارى

(1) في المصدر : « فيخرجونه ويسألونه » .
(2) في المصدر : « قال أبو جعفر عليه السلام : وله علم » ؟
(3) في المصدر : « فقال عليه السلام لهم : نذهب إليه » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 184

بساطا ثم وضعوا الوسائد ، ثم دخلوا فأخرجوه ، ثم ربطوا عينيه ، فقلّب عينيه كأنهما عينا أفعى ، ثم قصد أبا جعفر (عليه السلام) فقال : أمِنّا أنت ، أم من الأمة المرحومة ؟
فقال أبو جعفر (عليه السلام) : « بل (1) من الأمة المرحومة » .
قال : أفِمن علمائهم أم أنت من جهالهم ؟
قال : « لست من جهالهم » .
قال النصراني : أسألك أو تسألني ؟
قال أبو جعفر (عليه السلام) : « سلني » .
فقال الراهب : يا معاشر النصارى ، رجل من أمة محمد يقول : سلني . إن هذا لعالم بالمسائل .
ثم قال : يا عبدالله ، أخبرني عن ساعة ما هي من الليل ولا من النهار ، أي ساعة هي ؟
قال أبو جعفر : « ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس » .
قال النصراني : إذا لم تكن من ساعات الليل ولا من ساعات النهار ، فمن أيّ الساعات هي ؟
فقال أبو جعفر : « من ساعات الجنة ، وفيها تفيق مرضانا » .
فقال النصراني : أصبت ، فأسألك أو تسألني ؟
فقال أبو جعفر (عليه السلام) : « سلني » .
قال : يا معاشر النصارى ، إن هذا المليّ من السمائل . ثم قال : أخبرني عن أهل الجنة ، كيف صاروا يأكلون ولا يتغوّطون ، أعطني مثله في الدنيا .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : « هو الجنين في بطن أمه يأكل مما تأكل أمه ولا يتغوّط » .
قال النصراني : أصبت .
قال : أما قلت : ما أنا من علمائهم ؟
قال أبو جعفر (عليه السلام) : « إنما قلت لك : ما أنا من جهّالهم » .

(1) كلمة « بل » ليست في المصدر .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 185

قال النصراني : فأسألك أو تسالني ؟
قال : « سلني » .
قال الراهب : يا معشر النصارى ، والله لأسألنّه مسألة يرتطم بها كما يرتطم الحمار في الوحل !
فقال له : « سل » .
فقال : أخبرني عن رجل دنا من امرأته فحملت منه بابنين معا في ساعة واحدة [ ووضعتهما في ساعة واحدة ] وماتا في ساعة واحدة ودفنا في ساعة واحدة في قبر واحد ، عاش أحدهما مئة وخمسين سنة وعاش الآخر منهما خمسين سنة ، [ من هما ] ؟!
قال أبو جعفر (عليه السلام) : « ذلك عزير وعزرة ، وكان حمل (1) أمهما كما وصفت ووضعهما كما ذكرت (2) ، وعاش عزير وعزرة ثلاثين سنة ، ثم أمات الله عزيرا مئة سنة وبقي عزرة حيا (3) ، ثم بعث الله عزيرا فعاش مع عزرة عشرين سنة ، [ وماتا جميعا في ساعة واحدة ] » .
قال النصراني : يا معاشر النصارى ، ما رأيت قطّ أعلم من هذا الرجل ، يا ويلكم أتسألوني (4) عن حرف واحد وهذا بالشام ؟! ردّوني إلى كهفي . فردّوه إلى كهفه ورجع النصارى إلى أبي جعفر (5) .

(1) في المصدر : « وكانت حملت » .
(2) في المصدر : « وكانت حملت » .
(3) في المصدر : « يحيى » .
(4) في المصدر : « لا تسألوني » .
(5) رواه القمي في تفسيره : 1 : 98 ذيل الآيات 15 ـ 18 من سورة آل عمران ، وما بين المعقوفات منه . ورواه عنه في البحار : 46 : 313 ح 2 من باب خروجه عليه السلام إلى الشام .
ورواه ـ مع إضافات كثيرة مفيدة ـ الطبري في دلائل الإمامة : ص 233 ح 162 | 26 قال : وروى الحسن بن معاذ الرضوي قال : حدثنا لوط بن يحيى الأزدي ، عن عمارة بن

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 186


=
زيد الواقدي قال : حج هشام بن عبدالملك بن مروان سنة من السنين وكان قد حجّ في تلك السنة محمد بن علي الباقر وابنه جعفر عليهم السلام ، فقال جعفر في بعض كلامه :
« الحمد لله الذي بعث محمدا بالحق نبيا وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه ، وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتبعنا ، والشقي من عادانا وخالفنا ، ومن الناس من يقول : إنه يتولانا وهو يوالي أعداءنا ومَن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربنا ولم يعمل به » .
قال أبو عبدالله جعفر بن محمد عليه السلام : فأخبر مسيلمة [ بن عبدالملك ] أخاه بما سمع فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة ، فأنفذ بريدا إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه ، فأشخصنا ، فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام ، ثم أذن لنا في اليوم الرابع ، فدخلنا فإذا هو قد قعد على سرير الملك وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم سماطين متسلّحين ، وقد نصل البرجاس حذاءه ، وأشياخ قومه يرمون .
فلما دخل أبي وأنا خلفه ما زال يستدنينا منه حتى حاذيناه وجلسنا قليلا ، فقال لأبي : يا أبا جعفر : لو رميت مع أشياخ قومك الغرض . وإنما أراد أن يهتك بأبي ، ظنا منه أنه يقصر ويخطئ ولا يصيب إذا رماه ، فيستشفي منه بذلك ، فقال له : إني قد كبرت عن الرمي ، فإن رأيت أن تعفيني .
فقال : وحق من أعزنا بدينه ونبيه محمد صلى الله عليه وآله لا أعفيك . ثم أومأ إلى شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك .
فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ، ثم تناول منه سهما فوضعه في كبد القوس ، ثم انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه ، ثم رمى فيه الثانية فشقّ فوق سهمه إلى نصله ، ثم تابع الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه ، فلم يتمالك أن قال : عجبت يا أبا جعفر ، وأنت أرمى العرب والعجم ! كلا زعمت أنك قد كبرت عن الرمي . ثم أدركته ندامة على ما قال .
وكان هشام لا يكنّي أحدا قبل أبي ولا بعده في خلافته ، فهمّ به وأطرق إطراقة يرتئي فيه رأيا ، وأبي واقف بحذائه مواجها له وأنا وراء أبي .
فلما طال وقوفنا بين يديه غضب أبي فهمّ به ، وكان أبي إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان يتبيّن للناظر الغضب في وجهه ، فلما نظر هشام ذلك من أبي قال له : يا محمد اصعد . فصعد أبي إلى سريره وأنا أتبعه ، فلما دنا من هشام قام إليه فاعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثم اعتنقني

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 187


=
وأقعدني عن يمين أبي ، ثم أقبل أبي بوجهه فقال له : يا محمد ، لا تزال العرب والعجم تسودها قريش مادام فيهم مثلك ، ولله درّك ، مَن علّمك هذا الرمي ؟ وقي كَم تعلمت ؟
فقال له أبي : قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه ، فتعاطيته أيام حداثتي ، ثم تركته ، فلما أراد أميرالمؤمنين منّي ذلك عدت إليه .
فقال له : ما رأيت مثل هذا الرمي قطّ مذ عقلت ، وما ظننت أنّ في العرب أحدا يرمي مثل هذا الرمي ، أين رمي جعفر من رميك ؟
فقال : إنا نحن نتوارث الكمال والتمام الذين أنزلهما الله على نبيه عليه السلام في قوله : «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا » [ المائدة : 5 : 3 ] ، والأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا .
قال : فلما سمع ذلك من أبي ، انقلبت عينه اليمنى فاحولّت واحمرّ وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثم أطرق هنيئة ، ثم رفع رأسه فقال لأبي : ألسنا بنو عبد مناف ؟ نسبنا ونسبكم واحد ؟
فقال أبي : نحن كذلك ، ولكنّ الله جلّ ثناؤه اختصّنا من مكنون سره وخالص علمه بما لم يختصّ أحدا به غيرنا .
فقال : أليس الله جل ثناؤه بعث محمدا صلى الله عليه وآله من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها ؟ من أين ورثتم ما ليس لغيركم ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة ؟ وذلك قول الله تبارك وتعالى « ولله ميراث السماوات والأرض » [ آل عمران : 3 : 180 والحديد : 57 : 10 ] إلى آخر الآية ، فمِن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبيّ ، ولا أنتم أنبياء ؟!
فقال : مِن قوله تعالى لنبيّه عليه السلام : «لا تحرك به لسانك لتعجل به » [ القيامة : 85 : 16 ] ، فالذي أبداه فهو للناس كافة ، والذي لم يحرك به لسانه أمر الله تعالى أن يخصّنا به من دون غيرنا ، فلذك كان يناجي أخاه عليا من دون أصحابه ، وأنزل الله بذلك قرآنا في قوله تعالى : «وتعيها أذنٌ واعية » [ الحاقة : 69 : 12 ] ، فقال رسول الله لأصحابه : سألت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي . فلذلك قال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالكوفة : « علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب » . خصّه به رسول الله صلى الله عليه وآله من مكنون علمه ما خصّه الله به ، فصار إلينا وتوارثناه من دون قومنا .
فقال له هشام : إن عليا كان يدّعي علم الغيب ، والله لم يطلع على غيبه أحدا ، فمن أين ادعى

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 188


=
ذلك ؟!
فقال أبي : إن الله جل ذكره أنزل على نبيه كتابا بيّن فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله : «ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبُشرى للمسلمين » ، [ النحل : 16 : 89 ] ، وفي قوله : «كل شيء أحصيناه في إمام مبين » [ يس : 36 : 12 ] ، وفي قوله : «ما فرّطنا في الكتاب من شيء » [ الأنعام : 6 : 38 ] ، وفي قوله : « وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين » [ النمل : 27 : 75 ] .
وأوحى الله تعالى إلى نبيه عليه السلام أن لا يُبقى في غيبه وسره ومكنون علمه شيئا إلا يناجي به عليا ، فأمره أن يؤلّف القرآن من بعده ، ويتولّى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه ، وقال لأصحابه : « حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي عليّ ، فإنه منّي وأنا منه ، له ما لي وعليه ما عليّ ، فهو قاضي دَيني ومنجز موعدي » .
ثم قال لأصحابه : « علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله » .
ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند عليّ عليه السلام ، ولذلك قال رسول الله لأصحابه : « أقضاكم علي » أي هو قاضيكم .
وقال عمر بن الخطاب : « لولا عليّ لهلك عمر » . أفيشهد له عمر ويجحد غيره ؟
فأطرق هشام طويلا ثم رفع رأسه فقال : سل حاجتك .
فقال : خلّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي .
فقال : قد آمن الله وحشتهم برجوعك إليهم ، ولا تقم أكثر من يومك .
فاعتنقه أبي ودعا له وودّعه ، وفعلت أنا كفعل أبي ، ثم نهض ونهضت معه ، وخرجنا إلى بابه وإذا ميدان ببابه ، وفي آخر الميدان أناس قعود عدد كثير ، قال أبي : مَن هؤلاء ؟ قال الحجّاب : هؤلاء القسّيسون والرهبان ، وهذا عالم لهم يقعد لهم في كل سنة يوما واحدا يستفتونه فيُفتيهم .
فلفّ أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه ، وفعلت أنا مثل فعل أبي ، فأقبل نحوهم حتى قعد عندهم ، وقعدت وراء أبي ، ورفع ذلك الخبر إلى هشام ، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي . فأقبل وأقبل عدد من المسلمين فأحاطوا بنا ، وأقبل عالم النصارى وقد شدّ حاجبيه بحريرة صفراء حتى توسّطنا ، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلّمين عليه ، فجاء إلى صدر المجلس فقعد فيه ، وأحاط به أصحابه وأبي وأنا بينهم ، فأدار نظره ثمّ قال لأبي : أمِنّا أم مِن هذه الأمة المرحومة ؟

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 189


=
فقال ابي : بل من هذه الأمة المرحومة .
فقال : أمِنْ علمائها أم من جهّالها ؟
فقال له أبي : لستُ من جهّالها .
فاضطرب اضطرابا شديدا ، ثم قال له : أسألك ؟ فقال له أبي : سَل .
فقال : من اين ادّعيتم أنّ أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون ؟ وما الدليل فيما تدّعونه من شاهد لا يجهل ؟
فقال له أبي : دليل ما ندّعي من شاهد لا يجهل ؛ الجنين في بطن أمه ، يطعم ولا يحدث .
قال : فاضطرب النصراني اضطرابا شديدا ثم قال : كلا زعمت أنك لست من علمائها ؟!
فقال له أبي : ولا من جهالها . وأصحاب هشام يسمعون ذلك .
فقال لأبي : أسألك عن مسألة أخرى . فقال له أبي : سل .
فقال : مِن أين ادّعيتم أنّ فاكهة الجنة أبداً غضّة طريّة موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة لا تنقطع ، وما الدليل فيما تدّعونه من شاهد لا يجهل ؟
فقال له أبي : دليل ما ندّعي أن ترابنا أبدا غضّ طريّ موجود غير معدوم عند جميع أهل الدنيا لا ينقطع .
فاضطرب النصراني اضطرابا شديدا ، ثم قال : كلا زعمت أنك لست من علمائها ؟ فقال له أبي : ولا من جهّالها .
فقال : أسألك عن مسألة . فقال له : سل .
قال : أخبرني عن ساعة من ساعات الدنيا ليست من ساعات الليل ولا من ساعات النهار
فقال له أبي : هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، يهدأ فيها المبتلى ، ويرقد فيها الساهر ، ويفيق المغمى عليه ، جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين ، وفي الآخرين للعاملين لها ، ودليلا واضحا وحجابا بالغا على الجاحدين المنكرين التاركين لها .
قال : فصاح النصراني صيحة ثم قال : بقيت مسألة واحدة ، والله لأسألنّك عنها ، ولاتهتدي إلى الجواب عنها أبدا ! فأسألك .
فقال له أبي : سل ، فإنك حانث في يمينك .
فقال : أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد ، وماتا في يوم واحد ، عمر أحدهما خمسون ومئة سنة والآخر خمسون سنة في دار الدنيا ؟!
فقال له أبي : ذلك عُزير وعزرة ، ولدا في يوم واحد ، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 190


=
عاما مرّ عزيز وهو راكب على حماره بقرية بأنطاكية وهي خاوية على عروشها ، فقال : أني يحيي هذه الله بعد موتها ؟ وقد كان الله اصطفاه وهداه ، فلما قال ذلك القول غضب الله عليه فأماته مئة عام سخطا عليه بما قال .
ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه ، فعاد إلى داره وعزرة أخوه لا يعرفه ، فاستضافه فأضافه ، وبعث إلى ولد عزرة وولد ولده وقد شاخوا وعزير شاب في سن ابن خمس وعشرين سنة ، فلم يزل عُزير يذكّر أخاه وولده وقد شاخوا ، وهم يذكرون ما يذكّرهم ويقولون : ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنون والشهور ، ويقول له عزرة وهو شيخ ابن مئة وخمس وعشرين سنة : ما رأيت شابا في سن خمس وعشرين سنة أعلم بما كان بيني وبين أخي عُزير أيام شبابي منك ! فمِن أهل السماء أنت ، أم من أهل الأرض ؟
فقال عُزير لأخيه عزرة : أنا عُزير ، سخط الله عليّ بقول قلته بعد أن اصطفاني وهداني ، فأماتني مئة سنة ثم بعثني لتزدادوا بذلك يقينا أنّ الله على كل شيء قدير ، وها هو حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده الله لي كما كان . فعندها أيقنوا ، فأعاشه الله بينهم خمسا وعشرين سنة ، ثم قبضه الله وأخاه في يوم واحد .
فنهض عالم النصارى عند ذلك قائما ، وقام النصارى على أرجلهم ، فقال لهم عالمهم : جئتموني بأعلم منّي وأقعدتموه معكم حتى يهتكني ويفضحني ، وأعلم المسلمين أنّ لهم مَن أحاط بعلومنا ، وعنده ما ليس عندنا ، لا والله لا أكلّمكم من رأسي كلمة ، ولا قعدت لكم إن عشت سنة .
فتفرقوا وأبي قاعد مكانه وأنا معه ، ورفع ذلك الخبر إلى هشام بن عبدالملك ، فلما تفرق الناس نهض أبي وانصرف إلى المنزل الذي كنا فيه ، فوافانا رسول هشام بالجائزة وأمرنا ننصرف إلى المدينة من ساعتنا ، ولا نحتبس لأن الناس ماجوا وخاضوا في ما جرى بين أبي وبين عالم النصارى .
فركبنا دوابّنا منصرفين وقد سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مدين على طريقنا إلى المدينة : إنّ ابني أبي تراب الساحرَين محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابين ـ بل هو الكذاب لعنه الله ـ فيما يظهران من الإسلام وردا عليّ ، فلما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسّيسين والرُهبان من كفار النصارى وتقرّبا إليهم بالنصرانية ، فكرهت أن أنكّل بهما لقرابتهما ، فإذا قرأت كتابي هذا فناد في الناس : برئت الذمة ممن يشاريهما أو يبايعهما أو يصافحهما أو يسلّم عليهما ، فإنهما قد ارتدّا عن الإسلام ، ورأى أميرالمؤمنين أن تقتلهما

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 191


=
ودوابّهما وغلمانهما ومَن معهما شرّ قتلة .
قال : فورد البريد إلى مدين ، فلما شارفنا مدينة مدين قدّم أبي غلمانه ليرتادوا له منزلا ويشتروا لدوابّنا علفا ولنا طعاما .
فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا وشتمونا ، وذكروا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وقالوا : لا نزول لكم عندنا ، ولا شراء ولا بيع يا كفار ، يا مشركين ، يا مرتدّين ، يا كذابين ، يا شر الخلائق أجمعين .
فوقف غلماننا على الباب حتى انتهينا إليهم ، فكلمهم أبي وليّن لهم القول وقال لهم : اتقوا الله ولا تغلطوا ، فلسنا كما بلغكم ، ولا نحن كما تقولون ، فاسمعونا . فأجابوه بمثل ما أجابوا الغلمان ، فقال لهم أبي : فهبنا كما تقولون ، افتحوا لنا الباب وشارونا وبايعونا كما تشارون وتبايعون اليهود والنصارى والمجوس .
فقالوا : أنتم أشرّ من اليهود والنصارى والمجوس ، لأن هؤلاء يؤدّون الجزية وأنتم لا تؤدّون .
فقال لهم أبي : افتحوا لنا الباب وانزلونا وخذوا منا الجزية كما تأخذون منهم .
فقالوا : لا نفتح ولا كرامة لكم حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعا نياعا ، وتموت دوابكم تحتكم . فوعظهم أبي فازدادوا عتوّا ونشوزا .
قال : فثنى أبي رجله عن سرجه ثم قال لي : مكانك يا جعفر ، لا تبرح . ثم صعد الجبل المطل على مدينة مدين ، وأهل مدين ينظرون إلى ما يصنع ، فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة وحده ثم وضع إصبعيه في أذُنيه ، ثم نادى بأعلى صوته : «وإلى مدين أخاهم شعيبا ـ إلى قوله عزوجل ـ : بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين »[ هود : 11 : 84 ـ 86 ] ، نحن والله بقية الله في أرضه .
فأمر الله تعالى ريحا سوداء مظلمة ، فهبّت واحتملت صوت أبي فطرحته في أسماع الرجال والنساء والصبيان ، فما بقي أحد من الرجال والنساء والصبيان إلا صعد السطوح وأبي مشرف عليهم .
وصعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السن ، فنظر إلى أبي على الجبل ، فنادى بأعلى صوته : اتقوا الله يا أهل مدين ، فإنه وقف الموقف الذي وقف فيه شُعيب عليه السلام حين دعا على قومه ، فإن أنتم لم تفتحوا له الباب ولم تنزلوه جاءكم من الله العذاب وأتى عليكم ، وقد أعذر من أنذر . ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا .

=


السابق السابق الفهرس التالي التالي